منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

فمثلا ، قد يكون ما ذكرناه في الأطروحة الثانية متعددا ، بحيث يصلح أن يكون عدة أطروحات : اثنتان أو أكثر ، كما قد تكون أطروحة الشريف الرضي متعذرة ، فمثلا ، لا يمكن القول : السورة التي ذكر فيها الممتحنة ، لأن هذا اللفظ غير موجود في السورة.

وكذلك ، قد يصعب تسمية السورة بألفاظها الأولى ، باعتبار اشتراك أكثر من سورة بنفس الألفاظ كسورتي الملك والفرقان ، وسورتي الكهف والأنعام ، وسورتي الجمعة والتغابن.

وعلى أي حال ، فقد أعطيت عناية خاصة في أول كل سورة ، للفحص عن التسمية بمثل هذه الأطروحات. وهذا مما أغفله الكثير ، بل الجميع.

ـ ١٢ ـ

ومما ينبغي الإلماع إليه ، أنني بطبعي لا أميل إلى الأخذ بروايات موارد النزول وأسبابه. فإنها جميعا ضعيفة السند وغير مؤكدة الصحة. بالرغم من بعض اهتمام بعض المؤلفين بها كالسيوطي وغيره.

وإنما المهم في نظري ، كما ينبغي أن يكون هو المهم في نظر الجميع : إن كل آية من آيات الكتاب الكريم تعد قاعدة عامة ومنهج حياة وأسلوب سلوك ، قابل للانطباق على جميع المستويات وعلى جميع المجتمعات. بل على جميع الأجيال بل كل الخلق أجمعين. فإن القرآن هو خلاصة القوانين والمعارف المطبقة فعلا في الكون والموجودة في أذهان الأولياء والراسخين في العلم.

وهذا واضح من جميع القرآن ، وظهور القرآن حجة ، غير أننا نستطيع بهذا الصدد الاستدلال بالأخبار (١) الدالة على أن القرآن يجري في الناس مجرى الشمس والقمر. وأنه لو نزل بقوم ومات أولئك القوم لمات القرآن. ولكنه حي لا يموت لأنه نازل من الحي الذي لا يموت.

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ، ص ٤٠٤.

٢١

ومرادي : أن أسباب النزول ونحوها ، لن تصلح في كتابنا هذا إلّا كأطروحة من عدة أطروحات ، يمكن أن تشكل جوابا على السؤال الرئيسي في أي مورد. وإما أن تكون هي الجواب الرئيسي أو أن تكون سببا لاختلاف ظهور القرآن ، فلا ، ما لم تقم عليها بنفسها حجة شرعية كافية.

ـ ١٣ ـ

لا شك أننا في المصحف نقرأ القراءة المشهورة للقرآن الكريم ، وهي قراءة حفص عن عاصم. ومن الواضح عند المسلمين أنها ليست القراءة الوحيدة ، أو التي يمكننا أن نعدّها هي الوحي المنزل نفسه. بل القراءات أكثر من ذلك بكثير. وقد أجاز مشهور علمائنا القراءة على طبق القراءات السبع بل العشر ، بل كل قراءة مشهورة في زمن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم.

إلّا أن نقطة الضعف المهمة في هذا الصدد ، هو أننا لا نستطيع أن نقيم دليلا معتبرا على انتساب القراءة إلى صاحبها في الأغلب ، فضلا عن انتسابها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

غير أن تعدد القراءات قد تشكل نقطة قوة في بحثنا هذا ، من حيث إن جملة منها تستلزم تغير المعنى. الأمر الذي ينتج اختلاف السياق القرآني ، أو حلّ مشكلة فعلية ناتجة عن قراءة أخرى أو عن القراءة المشهورة ، وهكذا.

غير أن هذه الحلول إنما تصلح كواحدة من أطروحات عديدة ، ومن الصعب أن تكون هي الأطروحة الأهم ، على أي حال ، باعتبار ضعف إسناد أكثرها كما أشرنا.

مضافا إلى نقطة أخرى يقل الالتفات إليها عادة ، وهي أن من استقرأ القراءات وطالع وجوهها واختلافاتها ، سيجد بوضوح أن الأعم والأغلب من القراء كانوا يقرءون القرآن بآرائهم ، حسب ما يخطر لهم من التطبيقات

٢٢

اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية ونحوها ، وليست غالبها برواية مسندة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وخاصة القراءات القليلة والشاذة.

إلى حد يمكن التعرف على مستوى القارئ من قراءته ، وفيها ما يدل على جهل القارئ وتدني ثقافته ، كما أن فيها ما يدل على علمه وتبحّره.

وحسب فهمي : إن ذلك الشخص الذي اختار قراءة حفص عن عاصم وجعلها مشهورة ، وهو شخص مجهول على أي حال ، لم يقصّر في أمره ، بل كان دقيق النظر ، باعتبار أن هذه القراءة بالرغم مما فيها من بعض النقاط ، تعد فعلا أفضل القراءات وأفصحها ، لو نظرناها بمنظار عام.

ومن هنا قلنا في عدة موارد في الفقه ، إن الأحوط فعلا اختيار هذه القراءة في الصلاة.

أولا : لفصاحتها.

ثانيا : لوجود دليل معتبر على انتسابها لصاحبها ، وهو الاستفاضة المتحققة جيلا بعد جيل.

ثالثا : لوجود الدليل المعتبر على إمضائها من قبل المعصومين (ع) باعتبار حجية الدليل القائم على وجودها في عصرهم سلام الله عليهم.

ولكننا ـ مع ذلك ـ يمكننا الاستفادة من سائر القراءات كأطروحات محتملة ، لدفع مشكلة أو لتغيير سياق أو لإيضاح معنى.

ـ ١٤ ـ

وهنا يحسن بنا أن نلتفت إلى كلمة ولو مختصرة ، عن أغراض السور وأهدافها ، فإنه قد يثار السؤال عما إذا كان لكل سورة على الإطلاق غرض معين. أو أن لبعضها ذلك أو لا يوجد لأي منها أي غرض. وإنما هي مجموعة أحاديث عن مجموعة معاني لا تربطها رابطة معينة.

إذ لا شك أن هناك غرضا عاما لنزول القرآن الكريم ككل. وقد نطق به

٢٣

القرآن في عدد من آياته كقوله تعالى (١)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). وقوله تعالى (٢) : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). وقوله تعالى (٣) : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً).

وإنما الكلام هنا عما إذا كان لكل سورة غرضها الخاص بها ، كجزء من الغرض العام للقرآن ، أو كتطبيق من تطبيقاته ، كما هي جزء منه. أم لا؟

وهذا الغرض واضح في بعض السور بلا شك ، كما في سورة الحمد والتوحيد والكافرون والواقعة ، وغيرها ، إلّا أنه تبقى كثير من السور الطوال وغيرها ، مما لا نفهم منها غرضا محددا.

فإن قلت : إن قوله تعالى (٤) : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، يدل على وجود أغراض للسور ، إذ بدونها يكون التفريط متحققا.

قلت : جوابه من جهتين :

أولا : إن ذلك يكفي فيه وجود الهدف لبعض السور دون جميعها.

ثانيا : إن الهدف من السورة قد يكون مختصا بأهله ، وغير مفهوم فهما عرفيا عاما ، الأمر الذي يغلق أمامنا طريقة استنتاجه.

فإن قلت : ألا يمكن أن تكون هداية الناس هي الهدف من كل سورة؟

قلنا : نعم ، فإن هذا هو هدف القرآن ككل ، وإنما السؤال عما إذا كانت هناك أهداف تفصيلية لكل سورة ، زائدا عن ذلك.

وعلى أي حال ، فلا يوجد دليل عقلي أو نقلي على وجود مثل هذه الأهداف لكل واحدة من السور. بل إن بعض الآيات تعرضت إلى معان

__________________

(١) الشعراء / ١٩٣.

(٢) الفرقان / ١.

(٣) النحل / ٨٩.

(٤) الأنعام / ٣٨.

٢٤

متباينة وأهداف متعددة ، كقوله تعالى (١) : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، فإذا كان ذلك في الآية الواحدة ، فوجوده في السورة أولى.

والمهم في كتابنا هذا ، هو محاولة تصيّد ذلك ، مهما أمكن. فإن كان للسورة هدف معروف فعلا ، ذكرناه ، وإلّا أمكن التعرض له كأطروحة ، أو حصر عدّة أهداف لسورة واحدة. كل ما في الأمر أنها أهداف محددة ، وليست مجملة ، وهكذا.

ولعل التدقيق في التعرف على معاني القرآن الكريم وتفاصيله يفتح لنا طريق الاهتداء فيما لم يكن معروفا من أهداف بعض السور بتوفيقه سبحانه.

ـ ١٥ ـ

وإذا سرنا في طريق فهم بحثنا هذا ، أمكننا التعرض إلى عدة أمور :

منها : إن فائدة الكلام إنما هو إيصال المعنى إلى السامع بأي قالب كان وبأي لفظ كان. فاختيار الألفاظ وصياغتها ستكون بطبيعة الحال اختيارية للمتكلم ، فله أن يختار من الألفاظ ما يشاء من دون أن ينطبق قانون الترجيح بلا مرجح. لأن هذا القانون منطبق على العلة القهرية لا على العلة الاختيارية. ومع وجود الاختيار فالترجيح بلا مرجح ممكن. لأن الاختيار والإرادة هو الذي يكون مرجحا ، كما ثبت في علم الكلام.

ومعه فلا يمكن السؤال بأن الله تعالى : لما ذا قال كذا ولم يقل كذا. لأنه سبحانه إنما يريد أن يوصل المعاني إلينا لا أكثر ، واختياره لهذه الألفاظ يوافق الحكمة والفصاحة والمصلحة التي هي في علمه.

وبذلك يندفع كثير من الأسئلة التي يمكن إثارتها عن التعبير القرآني. لأن جوابها أن الله تعالى أراد هذا التعبير اختيارا وليس لنا أن نناقش فيه.

__________________

(١) المائدة / ١.

٢٥

فمثلا : لمجرد الإيضاح ، ليس لنا أن نسأل أنه تعالى : لما ذا جعل آيات سورة البقرة طوالا وآيات سورة ق قصارا؟ أو أنه لما ذا جعل النسق في السورة الفلانية بالنون والأخرى بالقاف والأخرى بالميم؟ وهكذا. فإنها كلها أمور اختيارية غير قابلة للمناقشة.

ومنها : إن قصور اللغة يمكن أن يكون هو المسئول عن كثير من الظواهر الكلامية. في حين أن التوسع في اللغة هو الحاجة الضرورية لكثير من الأمور كالقوافي الشعرية والسجع ولزوم ما لا يلزم ، كما في لزوميات المعري ومقامات الحريري وغيرها. فإذا لم يوجد في صدد معين إلّا ثلاث كلمات أو أربع اضطر المتكلم إلى حصر حديثه في نطاق ضيق أو إلى تكرار العبارات نفسها لإتمام مقصوده. وهذا هو الذي أعنيه من قصور اللغة. وهو باب واسع قد لا يقتصر على هذا المجال.

ولعل هذا هو الذي يفسر لنا عددا من ظهور النسق القرآني ، أعني نهايات الآيات ، أو الرويّ وهو ما قبل النهاية. كتكرار لفظ الناس في سورة الناس ، والتكرار في سورة «ق» و «ص» وغيرهما. ومن ذلك تغير النسق في سورة مريم بمقدار ست آيات ونحو ذلك.

فإن قلت : ولكن الله قادر على كل شيء ، فهو قادر على أن يوجد كلمات كثيرة غير مكررة لحفظ النسق.

قلت : هذا وهم. فإن القدرة وإن كانت تامة ولا نهائية في ذات الله سبحانه ، لكنها تتعلق بالممكن والمقدور. أما المستحيلات فلا تتعلق بها القدرة ، كما هو المبرهن عليه في محله من علم الكلام ، لقصور الموضوع لا لقصور الفاعل.

ومن جملة قصور الموضوع ، قصور اللغة ، فإنها ليس فيها من الكلمات ما يكفي لأجل سد الحاجة. ولا يمكن اختيار الكلمات إلّا بالمقدار المناسب مع المجتمع وما يفهمه الناس ، ولا يمكن أن نتكلم بكلام غير مفهوم باعتبار إتمام السجع أو النسق أو الرويّ ، بطبيعة الحال.

٢٦

ـ ١٦ ـ

إننا لو تأملنا مخلوقات الله تعالى في هذا الكون ، وجدناه مشحونا بالذوق الجمالي سواء من الناحية البصرية أو السمعية أو اللمس أو الناحية العقلية أو النفسية أو غيرها. كشكل الورد وأجنحة الفراش وأصوات العصافير والجمال البشري. أو تناسق أوراق النبات وغير ذلك كثير.

ومن موارد وجود الذوق التكويني هو الذوق الفني والأدبي في القرآن الكريم. ولا ينبغي أن نقترح على الله أي شيء بهذا الصدد!! لأن أي تغيير فيه سيخل بهذا الذوق وسيخرج السياق القرآني عن هذا الجمال والهيبة والرصانة.

والتناسق بين نهايات الآيات له حصة من الذوق ، فلو كان الكلام منثورا تماما لما اتخذ سياقا من هذا القبيل. فنهايات الآي لها معنى خاص بها لا يمكن أن نسميه سجعا ، وإنما نسميه نسقا. لأن السجع فيه نقطتان للضعف لا تنطبقان على القرآن الكريم :

أولهما : إن سمعته غير جيدة بين الناس ، مثل قولهم : سجع كسجع الكهان ، ولا ينبغي أن ننسب إلى القرآن ما نكره.

ثانيهما : إن هناك فرقا بين السجع والنسق القرآني. فإن نهايات الآيات في كثير من الأحيان لا تنتهي بحرف واحد ، بل بأكثر من حرف ، كما قد يكون المتناسق فيها هو الروي وهو الحرف الأسبق على الأخير. في حين أن السجع مشروط فيه التماثل في الحرف الأخير ذاتا وصفة (أي حركة). كما في القوافي الشعرية تماما.

نعم ، انعدم من بعض السور ، ما يكون من قبيل السجع ، أو أنه متصف بصفته ، مصداقا لقوله تعالى (١) : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). كسورة الناس وعامة الآيات في سورة محمد وسورة قاف. إلّا أننا مع ذلك

__________________

(١) الأنعام / ٣٨.

٢٧

يمكننا أن نسميه تناسقا أو نسقا لا أن نسميه سجعا ، لأن كل سجع فهو نسق وليس كل نسق فهو سجع. فقد يكون في مثل هذه السور سجع ونسق في عين الوقت.

ـ ١٧ ـ

بقيت لنا كلمة في التعريف بالسياق ووحدة السياق. فإنه باب مهم من أبواب فهم اللغة عموما ، والقرآن الكريم خصوصا ، وقد استخدمناه في كثير من أبحاثنا هذه. فينبغي أن نحمل فكرة كافية عن حقيقته وعن نتائجه.

فإن السياق على قسمين : سياق المعنى وسياق اللفظ :

أما السياق المعنوي ، فهو يمثل الاتصال والتماثل في مقاصد المتكلم والمعاني التي يريد بيانها والإعراب عنها. فإذا شككنا في أي مقصود من مقاصده ، أمكن جعل المقاصد الأخرى دليلا عليه كقرينة متصلة عرفية وصحيحة ، وهذه هي قرينة وحدة السياق التي تستعمل عادة في الاستدلال الفقهي والأصولي.

فلو وردتنا في السنة الشريفة عدة أوامر في سياق واحد ، وكان بعضها أكيد الاستحباب ، وبعضها مشكوك الوجوب ، قلنا باستحبابه لأجل وحدة سياقه مع المستحب.

وأما السياق اللفظي ، فهو أمر آخر تماما ، وإن كان كل لفظ له معنى ، ومن هنا فكل سياق لفظي له سياق معنوي ، إلّا أن العمدة هنا اختلاف الجهة الملحوظة في السياق.

ومرادنا من السياق اللفظي تناسقه العرفي في الذوق واللغة ، بحيث لو زاد شيئا أو نقص ، لكان ذلك إخلالا به ، ومن ثم يكون ذلك قرينة كافية على عدم وجوده وعدم قصده من قبل المتكلم.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ

٢٨

النَّاسِ). بدون وجود الواو بينها. فلو وجد الواو اختل السياق اللفظي بكل تأكيد. ولعل أوضح منه اختلال السياق لو وجد الواو ، في البسملة وهكذا.

بينما نجد أمورا أخرى غير مخلة بالسياق لو تبدلت. ومن أمثلة ذلك ما لو تبدل الفاء بالواو في قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً). فإن الجمال اللفظي يبقى مستمرا بحسب ما ندرك من الذوق اللغوي العرفي. وهكذا.

وعلى أي حال ، فكلا الشكلين من السياق : اللفظي والمعنوي ، يمكن استعماله في أبحاثنا هذه ، وجعله قرينة على مختلف الأمور ، إلّا أن السياق اللفظي فيها أهم وألزم. كما كان السياق المعنوي في تلك العلوم ، أعني الفقه والأصول ، أهم وألزم.

ـ ١٨ ـ

ولا ينبغي لنا بهذا الصدد ، أن نهمل الحديث عن المصادر ، التي يمكن للقارئ الاعتماد عليها لو أراد التدقيق والتوسع أو الإضافات حول بحثنا هذا.

فإنه على العموم نجد التفاسير العامة للقرآن مفيدة في هذا الصدد أكيدا ، أيا كان مذهبها ومهما كان اتجاهها. وهي فيما أعلم على ثلاثة اتجاهات :

الاتجاه الأول : التفسير الباطني للقرآن الكريم. وهي صادرة عادة أو غالبا من مشايخ الصوفية كابن عربي وغيره.

الاتجاه الثاني : التفسير بالحديث ، بمعنى تورع المؤلف عن إبداء رأيه. والاقتصار في التفسير على سرد السنة الشريفة المختصة بإيضاح هذه الآية أو تلك ، كتفسير البرهان للبحراني.

الاتجاه الثالث : التفسير بالرأي المعتبر ، أو محاولة الفهم من ظواهر

٢٩

وسياقات القرآن الكريم نفسه. وهي عامة التفاسير لدى الفريقين. ونعتمد منها على الخصوص تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي. وإن كانت كلها مفيدة.

وكذلك يفيد في هذا الصدد : كتب إعراب القرآن الكريم وهي عديدة ، يحضرني منها الآن اثنان : إملاء ما به من الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن لأبي البقاء العكبري. والملحة في إعراب القرآن لمحمد جعفر الكرباسي.

ومنها : الكتب المختصة بتعريف القراءات في القرآن ، وهي عديدة ، يحضرني منها اثنان : النشر في القراءات العشر ، لابن الجوزي ، والمعجم الحديث للقراءات القرآنية.

وكذلك الكتب التي خصصت فصولا منها للبحث في بعض الأمور القرآنية أو الدفاع ضد إشكالات أوردت ضد الدين وضد القرآن. وهي عديدة ، لا تدخل تحت الحصر من كل مذاهب الإسلام ، يحضرني منها اثنان : كتاب الأمالي للسيد المرتضى وما وراء الفقه للمؤلف. وخاصة ما ذكرناه في كتاب الصلاة حول القرآن الكريم.

وكذلك الكتب المخصصة لبيان لغة القرآن الكريم نفسه ، كمفردات القرآن للراغب الأصفهاني ومجمع البحرين في لغة الكتاب والسنة للطريحي ، مضافا إلى كتب اللغة العامة كلسان العرب لابن منظور ، والقاموس المحيط وتاج العروس ، وغيرها كثير.

وكذلك الكتب المخصصة لما يسمى بعلوم القرآن وهي التي تتحدث عن وجوه الإعجاز فيه أو عن القراء والقراءات أو عن التجويد أو عن الحساب الرياضي للقرآن وغير ذلك. منها كتاب عبد القاهر الجرجاني ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي والجزء الأول من البيان للخوئي. وفي اعتقادي أن هذه العلوم تصلح كمقدمات لفهم التفسير لا أكثر.

ومنها الكتب المخصصة للفهم الطبيعي أو العلمي الحديث للقرآن الكريم ،

٣٠

وهي عديدة أشهرها تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ، والآيات الكونية في القرآن لحنفي أحمد والطبيعة في القرآن الكريم للدكتور كاصد ياسر الزيدي وغيرها.

وكذلك الكتب المختصة بالتاريخ الديني ، لو صحّ التعبير ، كالكتب المختصة بقصص الأنبياء ، والمتصلة بالحديث عن الأمم السابقة ، أو الحديث عن الجنة والنار ويوم القيامة. سواء كانت كتب حديثية تقتصر على نقل السنة الشريفة ، أو كتب رأي وتحليل.

وقد يفيدنا في هذا الصدد أيضا من بعض الجهات ، الكتب المختصة بالتربية الأخلاقية للفرد ، وهي كتب عديدة من الفريقين ، يحضرني منها الآن : إحياء علوم الدين للغزالي وجامع السعادات للنراقي وفقه الأخلاق للمؤلف.

هذا ، مضافا إلى الكتب الواردة في حقل اختصاص هذا الكتاب نفسه ، مما اعتمدناه ومما لم نعتمده ، وهي المخصصة لدفع الشبهات عن القرآن الكريم ، وهي أيضا عديدة ، نعتمد منها : كتاب الرازي المطبوع في هامش كتاب العكبري ، وتنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وتلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي.

ـ ١٩ ـ

هذا ولا يفوتنا ، ونحن بصدد الحديث عن المصادر : القول بأن الآراء المعروضة فيها تنقسم بحسب فهمي إلى قسمين رئيسين : آراء ثابتة في الرتبة السابقة على القرآن ، والآراء المتحققة في الرتبة المتأخرة عنه. وما هو المعتمد في فهم القرآن الكريم هو القسم الأول فقط.

والمراد بالآراء الثابتة في الرتبة السابقة ، هي الآراء التي تحدثت عن اللغة وعن القواعد العربية أو الأنظمة العقائدية ، بغض النظر عن آيات القرآن. يعني الحديث عن تلك الأمور في أنفسها ، ومن ذلك ما ثبت للمفكر من معاني لغوية وغيرها عن الحقبة الجاهلية السابقة على الإسلام مباشرة ، فإنها

٣١

في الحقيقة تمثل عصر النص ، والمجتمع الذي نزل فيه القرآن ، فيكون هو المعتمد في فهمه ، كمصدر رئيسي بلا إشكال.

والمراد من الآراء المتحققة في المرتبة المتأخرة عن القرآن ، كل الآراء المعروضة بعد أخذ القرآن بنظر الاعتبار ومحاولة الاستفادة والاستظهار منه. فإن مثل هذه الآراء إنما تؤخذ كاجتهادات لأصحابها. وتكون غالبا قابلة للمناقشة ، ومتعارضة ومتعددة. ويمكن أن يكون لأي مفكر رأي بإزائها وفي مقابلها.

ومن أمثلة ذلك الخلاف في قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ). في أن هذا المؤمن هل دخل الجنة حيا أم ميتا؟ من حيث إن الآية لم تنص على موته. إذن ، فهو لا بد أن يكون حيا. ومن حيث إن دخول الجنة لا يكون إلّا بالموت ، فهو لا بد أن يكون قد مات ودخل الجنة.

ومحل الشاهد أن كل ذلك وغير ذلك ، إنما هي استفادات بعد أخذ المدلولات القرآنية بنظر الاعتبار ، فتكون آراء خاصة بالمؤلفين ، وقابلة للمناقشة وقابلة لإفادات آراء أخرى بإزائها.

فما هو المعتمد في الحقيقة في فهم القرآن الكريم ، هو القسم الأول من الآراء والاتجاهات ويكون حجة في إثباته عادة وغالبا ، دون القسم الثاني لا محالة.

ـ ٢٠ ـ

وستكون العناوين العامة في البحث الآتي ، هي عناوين السور ذاتها. ثم نعرض في كل سورة أسئلة وأجوبة ، نحاول أن تكون مرتبة بترتيب آيات السورة. حتى ما إذا انتهت السورة بدأنا بالسورة التي قبلها وهكذا أخذا بالمنهج القهقرى الذي التزمناه.

وهذه الأسئلة إما بعنوان سؤال وجوابه ، كما هو الغالب ، أو بعنوان الإشكال مع رده أو بعنوان : إن قلت : قلنا. ونحو ذلك ، وكلها على أي

٣٢

حال ، تعد من الناحية النظرية طريقة واحدة أو متشابهة في المنهجية العامة.

هذا ، وإنني لا أدعي ، الاستيعاب والمشمول ، وخاصة بعد القيود التي سبق أن عرفناها ، كما لا أدعي التناهي في العلم. وإنما الأمر كما قاله سبحانه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). وإنما هذا الذي تراه بين يديك هو بمقدار الميسور ، بحسن منة المنّان سبحانه وتعالى.

هذا ، وإني أشكر كل من وازرني وشجعني وأعانني على هذا المشروع الطيّب ، من فضلاء طلابي ومن المؤمنين الذي يحسنون بي الظن. وجزاهم الله جميعا خير جزاء المحسنين.

الحمد لله والصلاة على عباده الذين اصطفى. (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ). أعاننا الله على أنفسنا وعلى جميع مشاكلنا وعلى كل وجودنا ، إنه ولي التوفيق وهو على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير وهو أرحم الراحمين.

حرّره بتاريخ السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام ١٤١٦ ه‍.

محمّد الصّدر

٣٣
٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مبحث البسملة

سؤال : ما معنى الباء في البسملة؟

جوابه : يحتمل معناها وجوها :

الوجه الأول : السببية ، وهي العليّة والتسبيب. ومنه قوله تعالى (١) : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ). أي بسبب هذا الاتخاذ. فيكون المعنى في البسملة : أعمل أو أبدأ بسبب اسم الله تعالى وببركته.

الوجه الثاني : الإلصاق : وهو في اللغة على قسمين :

قسم مادي مباشر ، من قبيل قولنا : عملت بيدي أو أمسكت بزيد.

وقسم معنوي : نحو مررت بزيد. فالمرور لم يلتصق بزيد ، ولكنهم اعتبروا ذلك مجازا. فيكون المعنى في البسملة : إن عملي مقترن وملتصق ـ مجازا ـ ببسم الله الرحمن الرحيم.

الوجه الثالث : الظرفية ، ومنه قوله تعالى (٢) : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ). وقوله تعالى (٣) : (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ). أي في ذلك الزمن. فيكون المعنى في

__________________

(١) البقرة / ٥٤.

(٢) آل عمران / ١٢٣.

(٣) القمر / ٣٤.

٣٥

البسملة أن نتصور أن العمل مظروف واسم الله ظرف. وأن العمل مظروف ـ مجازا ـ لاسم الله تعالى لكي تزيد بركته.

الوجه الرابع : الاستعلاء. ومنه قوله تعالى (١) : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ). أي على قنطار. وكذلك قوله تعالى (٢) : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ). فيكون المعنى في البسملة إفادة التوكل على الله. بمعنى : أبدأ على اسم الله أو توكلت على الله. والعامة تقول : توكلت بالله.

وكل تلك المعاني ممكنة وصحيحة ، وقد تكون كلها مرادة. ولا يتعين واحد منها ، ولا يوجد ظهور في أحدها. كما روي (٣) : إن للقرآن بطنا ولبطنه بطن. وروي : إن له سبع بطون. وإن : له سبعون بطنا. ونحو ذلك ، ولكن الإنسان المحدود لا يدركها كلها. غير أن الله تعالى اللامتناهي يمكن أن يقصد معان لا متناهية.

سؤال : لما ذا لم يستعمل غير الباء من حروف الجر؟

جوابه : لأنه لا يمكن لأي حرف غيرها أن يقوم مقامها وأن يؤدي مؤداها. وقد سمعنا المعاني الأربعة السابقة. وليس في حروف الجر ما يؤديها جميعا غير الباء. مع العلم أن مقتضى الحكمة تنبيه القارئ عليها ، أو إلى ما يتيسر له منها.

سؤال : ما هو متعلق الباء في البسملة؟ فإن الجار والمجرور يحتاج إلى متعلق نحويا لا محالة.

جوابه : إن هذا المتعلق له نحوان من التصور :

النحو الأول : وهو المشهور ، يكون بتقدير فعل مناسب مع السياق ، كقولنا أبتدئ أو أستعين أو أعمل ونحوها.

__________________

(١) آل عمران / ٧٥.

(٢) المطففين / ٣٠.

(٣) البحار ج ٩٢ ، ص ٩٥.

٣٦

النحو الثاني : يكون بتقدير اسم يكون خبرا لمبتدإ محذوف. كما لو قلنا : هذا الفعل متبرك ببسم الله الرحمن الرحيم. أو هو كذلك. أو كائن أو حاصل. ونحوها.

ويندرج في النحو الأول ما قيل من أن المتعلق : أقرأ أو أقول أو قل. باعتبار كون البسملة شروعا بالقول أو بالقراءة.

وما ذكروا في ردّه (١) : من أن مفعول القراءة أو القول يجب أن يكون هو الجملة بحالها من المعنى. لا يتم : لعدم المنافاة بين أن يكون مقول القول هو الجملة التامة. وبين أن يكون ظرف القراءة ككل أو جوّها العام هو اسم الله سبحانه ، والتوكل عليه.

كما يندرج في النحو الأول ، ما ذكروه من أن المتعلق : أستعين أو استعن ، باعتباره قصد الاستعانة والتوكل على الله سبحانه.

ولا يرد عليه ما ذكروه (٢) في رده من استحالة الاستعانة من الله سبحانه باعتباره أنه هو المتكلم في القرآن أصلا. فيكون كأنه هو المستعين بالله وهذا مستحيل. فإنه مستغن عن الاستعانة بأسمائه الكريمة.

وجواب ذلك : نقضا وحلا : أما النقض : فبكل ما ورد في القرآن الكريم بلسان غيره سبحانه ، من دون الإشارة ، إلى المتكلم. ومنه ما ورد في فاتحة الكتاب (٣) : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). فإنّه لو كان هو المتكلم لما جاز كل ذلك.

وأما الحل : فباعتبار ظهور التعليم للآخرين والتلقين لهم بأن يعملوا ذلك ، ليكون خيرا لهم في دنياهم وأخراهم. بما فيها موارد النقض التي ذكرناها. وكل القرآن الكريم منزل لهداية الناس وتعليمهم. ولعله من هنا

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، للخوئي ص ٤٥٧.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) سورة الفاتحة : ٥ ـ ٦.

٣٧

قدروا فعل الأمر : قل أو اقرأ أو استعن : بصفته تعليما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمباشرة ولكل الناس بالتسبيب.

هذا : وقد استنتج في المصدر المشار إليه (١) أنه : يتعين أن يكون متعلق الجار والمجرور هو أبتدئ. أقول : لو تمّ له كل ذلك وتنزلنا عن المناقشات السابقة ، فغايته صلاحية مادة الابتداء لكونها متعلقا. وأما كونها بصيغة المضارع أو الأمر أو الاسم الذي يكون خبرا لمبتدإ محذوف ، فهذا مما لا يتعين في حدود ما ذكره من الدليل. فقوله : إنه يتعين الابتداء بصيغة المضارع خاصة ، جزاف من القول.

سؤال : لما ذا قال : بسم الله. ولم يقل بالله. أليس الاعتماد على الله مباشرة أفضل من الاعتماد على اسمه؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إننا لو قصدنا ذات الله سبحانه كواقع ، فلا معنى لذكره إلّا بطريق الإشارة إليه عن طريق أسمائه. فنشير إلى الله باسم الله. ولو قلنا بالله لكنا ـ أيضا ـ قد وسّطنا الاسم. وذلك : لأن اللغة تقتضي ذلك. ولا فرق بحسب النتيجة أن نقول بالله أو بسم الله.

الوجه الثاني : إننا لو قلنا : بالله الرحمن الرحيم لقصدنا ذات الله سبحانه ، وعندئذ تسقط المعاني التفصيلية الموجودة في هذه الأسماء : الله ، الرحمن ، الرحيم. في حين أن الحكمة تقتضي أن تلحظ هذه الأسماء لحاظا واضحا ، وأن تقصد بعناوينها التفصيلية. ولا تكون لمجرد الإشارة إلى الذّات المقدّسة. فالتركيز على هذه الأسماء لمدى أهميتها ، لا على الذات. ولو كان التركيز على الذات لانمحت استقلالية ، وتفاصيل هذه الأسماء وهذا على خلاف الحكمة.

الوجه الثالث : إن الأسماء الحسنى يمكن أن تكون الواسطة بين العبد وربّه. فهل هناك واسطة فعلا بين العبد وربه؟

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ص ٤٥٧.

٣٨

أجابت النصوص الشريفة بثلاثة أجوبة كلها صحيحة :

الجواب الأول : إنه لا واسطة بين العبد وربه. قال تعالى (١) : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال (٢) : (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ). فهو أقرب إليه من ذاته فضلا عن غيره.

الجواب الثاني : إن الأئمة المعصومين (عليهم‌السلام) : هم الواسطة ، فهم الشفعاء والأولياء ، وقال في الدعاء خطابا لهم (٣) ، إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم والصادر عما فصّل من أحكام العباد.

ولكنّهم سلام الله عليهم ، لا يتصرفون بذواتهم الاستقلالية ، بل بحقائقهم الواقعية الفانية في ذات الله سبحانه. والله هو المسبب الحقيقي. فالأمر نازل من الله والتوجه منحصر إلى الله. وإن كان ذلك بواسطة المعصومين. فالمعصوم عليه‌السلام ، موجود بحسب الحقيقة الثانية ، وغير موجود بحسب الحقيقة الأولى ، فالواسطة موجودة لكنها بمنزلة العدم.

الجواب الثالث : إن الواسطة هي الأسماء الحسنى. والله تعالى فتح لنا هذه الرحمة ، قال سبحانه (٤) : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها). فندعوه بها لكي لا نحرم من تلك الرحمات المترتبة على الاستعانة بالله سبحانه.

ولا منافاة بين هذا الجواب والجواب السابق. وذلك لأن الأسماء الحسنى مستبطنة في الأئمة المعصومين عليهم‌السلام. وهذا المجموع مستبطن وفان في الله سبحانه. فهو موجود ـ كما قلنا ـ بصورة فنائية لا بصورة استقلالية.

وعليه فقد اقتضت الحكمة أن يختار الله سبحانه للبسملة أوسع أسمائه

__________________

(١) ق / ١٦.

(٢) الأنفال / ٢٤.

(٣) مفاتيح الجنان ص ٤٢٣.

(٤) الأعراف / ١٨٠.

٣٩

الحسنى وأكبرها وأهمها. كما قال في الدعاء : اللهم إني أسألك بأوسع أسمائك وأكبرها يا الله يا رحمن.

سؤال : لما ذا تبدأ سور القرآن الكريم بالبسملة؟

جوابه : ما ورد في فضل البسملة (١) من : إن كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر. ونستنتج منه : إن البسملة تنتج عدة آثار معنوية :

منها : إنها توجب تكامل النتيجة وصفائها وخلوصها.

ومنها : إنها تنفي عنها النقص والمحدودية والظلمانية. فمثلا : عند الأكل تنفي بالبسملة أضرار الطعام المادية والروحية. وكذلك عند الابتداء بالسور ، بل الابتداء بكل عمل. فإن كل عمل ينبغي أن يتكامل ويندفع سوؤه ببسم الله الرحمن الرحيم.

والمفروض أن الإنسان ينبغي أن يكون في ذكر دائم لله تعالى. والله تعالى علم أننا نعجز عن ذلك ، ولأجله طرحت الشريعة المقدسة أمرا يعوض عن ذلك ، وهو استحباب الذكر في أول العمل وفي آخره. أما الذكر في أوله فبالبسملة ، وأما الذكر في آخره فبالحمد. وورد (٢). اللهم صلّ على محمد وآل محمد واختم لي بخير. فإذا كان العمل بادئا بالذكر ومنتهيا به فيكون بينهما الفرد بمنزلة الذاكر.

سؤال : ما هو مضمون البسملة ومدلولها؟

جوابه : نحن لا نستطيع أن نحيط بالبسملة علما. لأن علومها أوسع وأعمق من أن ننالها بعقولنا القاصرة ، وإنما نلم بها إلماما.

والشاهد على عظمة البسملة ، ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) : إن علوم الكون كلها في القرآن وعلوم القرآن في السبع المثاني وعلوم السبع

__________________

(١) البحار ج ٧٦ ، ص ٣٠٥.

(٢) انظر دعاء أبي حمزة الثمالي في مفاتيح الجنان ، ص ١٨٦.

(٣) انظر نحوه في : الأربعون حديثا للشيخ إبراهيم الخوئي ، ص ٢٣١.

٤٠