منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

ثانيا : نفي وحدة السياق بينهما ، للفصل الكبير بين الآيتين. ويؤيده أن الألف واللام في كلا لفظي البينة جنسية ، في حين لو عملنا بوحدة السياق تعين كونها عهدية.

ولعل الآيتين لم تنزلا سوية ، فلم نحرز وحدة السياق. فيكون التمسك بها في المورد ، من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ثالثا : إنه لا ملازمة بين القصدين ، كما هو ظاهر ، وإن كان مظنونا بظن غير معتبر. ولا دليل عليه إلّا إجماع المفسرين ، والإجماع في غير الشريعة ليس بحجة.

إذن ، فالمراد الإطلاق من كلا الجهتين لأن كلّا من موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم هم : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة. فكلا البينتين يراد بها نفس المعنى ، وهو الأعم من كل الهداة.

سؤال : حول قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). من حيث إن أمروا ، مبني للمجهول. والفاعل الحقيقي له هو الله تعالى : لكن هذا بلسان من؟ هو بلسان نبي بلا شك ، ولكن من هو؟

جوابه : فيه أطروحتان :

الأولى : الأطروحة المشهورة ، وهي الإسلام. كما حمل السياق السابق على الإسلام. ويكون المراد : أن الأوامر والتعاليم الإسلامية لا تختلف كثيرا عما عهدوه في أديانهم من المفاهيم والتعاليم. وهذا كلام ترغيبي للدخول في الإسلام ، لأنهم سيبقون إذا أسلموا ، على عاداتهم ، لا تتغير حياتهم كثيرا ، لكي يخشوا مثل هذا التغير والاختلاف. وهذا معنى جيد للعوام.

الثانية : إنه بلسان الأنبياء جميعا. فيكون إشارة إلى الدعوة النبوية العامة للأنبياء ، والمراد أن دعوة الإسلام بأصوله وفروعه عين دعوة أنبيائهم الواقعية. يعني : وما أمرهم الله دائما إلّا بذلك.

سؤال : عن معنى مخلصين. في قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ).

٣٦١

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) : الخالص كالصافي ، إلّا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه. والصافي قد يقال لما لا شوب فيه. أقول : يعني : الأعم.

وقال : وقوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) : أي انفردوا خالصين عن غيرهم. وقوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ـ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ). فإخلاص المسلمين أنهم قد تبرءوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث. قال تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ... فحقيقة الإخلاص التبرّي من كل ما دون الله تعالى.

أقول : والملاحظ وروده في القرآن مكسورا ومفتوحا : مخلصين ومخلصين. وفي محل الكلام مكسور ، وورد بالفتح في بعض القراءات (٢).

والفرق بينهما : أنه بالكسر يكون اسم فاعل وبالفتح يكون اسم مفعول.

فإن كان هو سبب إخلاص نفسه ، فهو مخلص بالكسر ، وأما المخلص بالفتح ، فالملاحظ فيه أنه جعل فيه الإخلاص كما في قوله تعالى : كفر (٣). أي جعل فيه الكفر. والجاعل أحد أمرين :

أولا : بلحاظ الأسباب : أي حصلت الأسباب المناسبة لوجود الإخلاص أو الكفر.

ثانيا : بلحاظ المسبّب. أي أن الله تعالى أخلصه ، كما في المقربين أي قربهم الله تعالى.

ومادة : خلص إما ثلاثية ، خلص وإما رباعية (مزيدة) : اخلص. والثلاثي لازم لا يتعدى إلى مفعول. بخلاف الرباعي فإنه متعدّ. وقد يستعمل لازما. كما تقول : أخلصت لله. أي أصبحت مخلصا.

__________________

(١) المفردات ، مادة : «خلص».

(٢) معجم القراءات القرآنية ، ج ٨ ، ص ٢٠٧.

(٣) قال تعالى (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) سورة القمر / ١٤.

٣٦٢

ونقول بنحو الأطروحة : إن الرباعي متعدّ دائما ولا يكون لازما. وهذا ينتج أنه إذا لوحظ الفعل لازما كان من الثلاثي واسم فاعله : خالص. والرباعي اسم فاعله : مخلص بالكسر. فإذا لاحظنا جانب الفاعل قلناه بالكسر ، وإذا لاحظنا جانب المفعول قلناه بالفتح.

فيكون معنى : مخلص لك بالكسر ، أي أنه جاعل فيك الإخلاص. كما لو سلك سلوكا بحيث جعلك توده ، وتخلص له. فهو مخلص لك أي مخلّصك من الشوب الذي كان موجودا عندك تجاهه. ثم نقل بشكل مجازي. فبدلا من أن يكون لقبا للفاعل أصبح لقبا للمفعول به.

إذن ، فمعنى الإخلاص ، إنما هو بالفتح دائما ، لأن الملحوظ فيه جانب المفعول. وأما بالكسر ، فالملحوظ فيه جانب الفاعل. لكن العرف لا يفهم ذلك!!. فقد أصبح المخلص بالكسر صفة للمتصف بالإخلاص كما أصبح لازما. مع أنه في أصل اللغة ينبغي أن يكون متعديا.

وهما ليسا مترادفين ، طبعا. لأن أحدهما اسم فاعل والآخر اسم مفعول. فيتحصل سؤال : أنه ما الفرق بينهما؟

جوابه : إن في ذلك عدة أطروحات :

الأولى : أن نقول : إنه لا فرق بينهما ، وإنما هما لغتان لمعنى واحد.

الثانية : إن مخلص بالكسر لوحظ فيه التسبيب للإنسان ، كما سبق. وبالفتح لوحظ إسناد السبب إلى الله سبحانه.

الثالثة : إن المخلص بالكسر أقل درجة من الآخر. باعتبار أن الفرد قد يشعر أنه هو الذي يتكامل أو يجعل نفسه متصفا بالزهد والعبادة. فإن كان صادقا في نيته فهو مخلص بالكسر. وإن كان يشعر أن طاعاته إنما هي بتوفيق الله سبحانه وفضله ، فهو مخلص بالفتح. والأول أقل درجة بطبيعة الحال ، من الثاني.

إن قلت : إنه بناء على ذلك يحصل تناف في الآية الكريمة : مخلصين له الدين ، وذلك دين القيمة ، بناء على تفسير المشهور. أي الجماعة القيّمة.

٣٦٣

وهم القيّمون على الدين وهم المعصومون عليهم‌السلام. فيحصل التنافي. لأننا عرفنا أن مخلصين بالكسر تعبير عن المتدنين نسبيا. والقيمة تعبير عن العالمين. مع أن ظهور السياق القرآني هو كون المراد منهما واحدا ، فكيف نجمع بينهما؟

قلت : يكون ذلك من عدة وجوه :

أولا : يمكن التنزل عن تأويل الجماعة القيّمة إلى الأمة القيّمة ، وهم سائر المسلمين ، وهم مخلصين بالكسر غالبا. فناسب صدر الآية ذيلها ، وسقط الإشكال.

ثانيا : إن الآية الكريمة ليس فيها مفهوم مخالفة ناف للزائد.

ونحتاج هنا إلى مقدمة وحاصلها : أن النسبة بين مخلص بالكسر ومخلص بالفتح هو العموم المطلق ، وليس التباين ولا التساوي. فكل مخلص بالفتح هو مخلص بالكسر ، ولا عكس.

فالجماعة القيّمة وهم المعصومون عليهم‌السلام ، مخلصين بالكسر وهم أولى من غيرهم أن يكونوا كذلك ، والآية لاحظت حالهم بالكسر ولم تلحظه بالفتح. ولا يجب ذكر الصفة الأفضل.

ثالثا : إنه تعالى يقول : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). فالجماعة القيّمة آمرة. والكفار والمشركون وأهل الكتاب هم المأمورون.

فمتعلق الآية هو الأمر لمن هو دان لكي يكونوا مخلصين بالكسر. وأما مخلصين بالفتح ، فلا يتعلق به الأمر ، لأنه من فعل الله لا من فعل العبد.

رابعا : إن السياق يختلف بقوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) كأنه بدأ سياق ثان ، فلا يتعين أن يكون مخلصين بالكسر وصفا للقيمة ، بل يمكن أن يكونوا مخلصين بالفتح.

فإن قلت : فإنه في متن العبارة يقول : وذلك ، وهو إشارة إلى أمور منها المخلصون بالكسر ، المذكورون في الآية.

٣٦٤

قلت : نعم ، إلّا أن الظاهر أن الدين هنا يراد به الدين الذي يدعو له القيمة لا الدين الذي يلتزمونه بينهم وبين الله. فإن ذاك مستوى أعلى من هذا.

سؤال : عن معنى قوله تعالى : حنفاء؟

قال الراغب في المفردات : الحنف (بفتحتين) (١) هو ميل (والأفضل أن يقول هو الميل) عن الضلال إلى الاستقامة (أي الهداية والعدل). والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال ، والحنيف (صفة مشبهة) هو المائل إلى ذلك. قال عزوجل : (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ...) وقال : (حَنِيفاً مُسْلِماً). وجمعه حنفاء (أي مجموعة من الناس كل واحد منهم متصف بالحنف). قال عزوجل : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ). وتحنف فلان أي تحرّى طريق الاستقامة (أي اهتدى). وسمّت العرب كل من حج واختتن حنيفا. تنبيها أنه على دين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

والأحنف (بمعنى كلي) من في رجله ميل. قيل سمي بذلك على التفاؤل. (يعني من تسمية الضد باسم ضده ، كما سميت الجميلة : قبيحة والقصيدة العصماء : البتراء. وكما قال الشاعر :

مضل الناس قد سميت هادي

كما قد سمي الأعمى بصيرا

 .....) وقيل بل استعير للميل المجرد.

أقول : هنا عدة مستويات :

الأول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن كان قبله من الأنبياء والصالحين ، على دين إبراهيم عليه‌السلام.

الثاني : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من ولده هم من أصلاب طاهرة وأرحام مطهرة كما ورد (٢). فكيف كان ذلك ، وآباؤهم مشركون؟.

__________________

(١) انظر المفردات مادة : «حنف». وما كان بين قوسين فهو من إيضاحاتنا.

(٢) انظر مفاتيح الجنان ، ص ٤٢٩.

٣٦٥

وجوابه : إنهم كانوا متدينين بدين الله في زمن الجاهلية ، وهو دين الحنيفية. كما روي عن عبد المطلب وأبي طالب وغيرهما ، إنهم كانوا يقرءون كتب الأنبياء السابقين.

الثالث : إن الجزء الرئيسي ـ حسب فهمي ـ من دين الحنيفية ، هو ما نسميه بأصول الدين ، لا فروعه ، والجزء الرئيسي من أصول الدين هو التوحيد. مع الغفلة عن الأربعة الأخرى منها في ذلك الحين أو عن غالبيتها.

وأما فروع الدين ، فلم تكن ملغاة بالمرة ، نعم ، لم تكن هناك أوامر محددة ، وإنما كان هناك نواة. كلا تزن لا تسرق لا تكذب لا تشرب الخمر. وأمثال ذلك. وقد كان الحنفاء ملتزمين بمثل هذه الأمور مضافا إلى تركهم السجود للأصنام.

فإن قلت : كيف تكون الحنيفية مقبولة منهم ، وقد كان الدين الحق يومئذ هو دين المسيح عليه‌السلام؟

قلنا : نعم ، ولكن هناك عدة موانع من الالتزام بذلك ، منها :

١ ـ إن دين اليهودية والنصرانية ، كان محرفا عن العقيدة الأصلية لأنبيائهم. ولم تكن العقيدة الأصلية معروفة بينهم ليتم الالتزام بها.

٢ ـ إن اليهود والنصارى كان لهم وجود في جزيرة العرب. وهم معاشرون ومصاحبون للمجتمع. ويعرفهم الناس بأنهم ذوو عقائد محددة غير محمودة ، كالاعتقاد بالثالوث المقدس ونحوه. ويستطيع المفكرون من أهل الحنيفية استنتاج ذلك بكل تأكيد.

٣ ـ إن هؤلاء اليهود والنصارى ، كما هم غير تامين في أصول دينهم ، فهم ناقصون أيضا في فروع دينهم ، وملتزمون بكثير من المعاصي والفواحش واللاإنسانية ، الأمر الذي ينفر الفرد المنصف والطالب للحق عنهم.

ومن هنا كان لا بد لهؤلاء الطالبين للحق ، الالتزام بنبوة النبي السابق

٣٦٦

على اليهودية والنصرانية ، وهو إبراهيم عليه‌السلام. وهو متصف بعدة صفات مهمة في نظرهم وفي نظر الجميع :

١ ـ إنه جاء بعقيدة متكاملة في فهم التوحيد الإلهي.

٢ ـ إنه كان واضح الإخلاص لله في سلوكه.

٣ ـ إنه جاء إلى الجزيرة العربية وخلف فيها ولده إسماعيل.

٤ ـ إنه باني الكعبة المشرفة.

٥ ـ إنه النبي الذي يعترف بقدسيته كل الملل المتأخرة عنه.

والمهم ، بعد كل ذلك ، أن الحنيفية هي الإخلاص في التوحيد ، وهي من قسم أصول الدين وليست من فروعه.

فإن قلت : إن العرب ، كما سمعنا ، كانت تسمي كل من حج واختتن حنيفا ، وذلك من فروع الدين.

قلت : أهم تفسير لذلك أن نقول : إن ذلك العمل قد كان منهم قربة إلى الله تعالى ، فالالتزام به يدل على الالتزام بأصول الدين ويكون له كشف إثباتي عنه. وبتعبير آخر : إنهم لم يكونوا يعملون تلك التطبيقات : الحج والختان لمجردهما ، بل بعنوان كونها لله عزوجل. والأعم الأغلب كانوا يفعلون ذلك كوظيفة دينية. فرجعنا إلى أن الأصل في الحنيفية هو التوحيد.

فإن قلت : كيف نسبت الحنيفية إلى إبراهيم عليه‌السلام ، في حين أنها تمثل خط الأنبياء جميعا ، من كان قبله ومن جاء بعده؟

قلت : لذلك عدة أجوبة يجمعها معنى أهمية إبراهيم عليه‌السلام ، وعظمته. فإن له صفتين ثبوتية وإثباتية :

أما الصفة الثبوتية فهي أنه عليه‌السلام بلغ من صفات التوحيد ودقائقه أكثر ممن كان قبله ، وقد وصلت البشرية في زمنه إلى أعلى مرتبة سابقة في توحيد الباري سبحانه.

٣٦٧

نعم ، تطور الدين في زمن موسى عليه‌السلام ، ولكن تطوره كان في فروع الدين ، لا في أصوله ، وأما الزيادة في زمن عيسى عليه‌السلام ، فقد كانت التبشير بالمستقبل المقدس للبشرية.

إذن ، فالمبشر الرئيسي بالتوحيد هو إبراهيم ، في عالم الثبوت والواقع.

وإذا تنزلنا عن ذلك ، نقول : إنه عليه‌السلام أحسن من بيّن ذلك إثباتا ، حتى نوح عليه‌السلام لم يستطع ذلك. لأن مجتمعه كان أغلبه كفارا ولم يؤمن به إلّا القليل ، حتى أخذه الطوفان. وأما آدم ، فقد كان عدد البشر في زمنه قليلا جدا.

ومع التنزل عن كل ذلك ، يكفي أن يكون الأمر ترغيبا للمتدينين. السابقين على الإسلام للدخول في الإسلام ، وأنهم إذا دخلوه كانوا حنفاء أيضا ، بل كانوا أيضا ، على دين الجماعة القيّمة ، وهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام.

الرابع : من مستويات الحديث عن لفظ الحنفاء :

أن ندعي ، كأطروحة ، أن حنفاء بمعنى مخلصين ، لأكثر من قرينة :

أولا : إن حنفاء إن كان بمعنى الموحدين أو الملتزمين بدين إبراهيم (ع) ، صار بمعنى واحد ، كالمترادفين. ونحن نعلم وجدانا أنهما ليسا كذلك. فلا بد أن يكون في حنفاء زيادة في المعنى عن معنى الموحدين. فندعي أنه بمعنى المخلصين.

ثانيا : إن الراغب ، كما سمعنا ، قال : الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة. والذي يميل هذا الميل هو المخلص الناصح لنفسه ، والمخلص لربه. وإلّا كان فيه جنف لا حنف.

ولكن ليس كل إخلاص هو حنف ، أي ليس المخلص لأي هدف هو حنيف بل حصة منه. فإما أن نقول : إن الحنف هو الإخلاص بدرجة عالية ، بحيث يكون الفرد على استعداد بأن يفدي نفسه وأهله وماله ، وإما أن نقول : إنه الإخلاص للتوحيد أو للدين وليس للدنيا.

٣٦٨

فإن قلت : إذا كان حنفاء بمعنى مخلصين ، ومخلصين واردة في الآية أيضا. فما ذا يتحصل من مفهوم الآية؟

قلت : هذا له عدة أجوبة؟

الأول : إنه تكرار بغير لفظه ، فلا يكون قبيحا ، بل إنه مهم لزيادة الاهتمام والتوكيد.

الثاني : إن مخلصين معنى عام ، وحنفاء : مخلصين لله ـ كما قربنا ـ فيختلفان.

إلّا أن هذا لا يكفي لأن الإخلاص في الآية مقيد بالدين ، فإن كان حنفاء مقيدا بالدين أو بالتوحيد (وهو الدين أيضا) حصل التكرار. فإن قبلنا به رجع إلى الجواب الأول ، ولكن لو تنزلنا عن ذلك ، بطل هذا الوجه.

الثالث : أن نخص أحدهما بأصول الدين ونخص الآخر بفروعه. أو بالعكس. وكلاهما أطروحة معتمدة لدفع الإشكال. وكون مخلصين له الدين بالفروع وحنفاء بالتوحيد أو بالأصول أرجح لأكثر من قرينة.

منها : أن حنفاء إشارة إلى دين إبراهيم عليه‌السلام ، ومنها : أنه ترق من الفروع إلى الأصول ، وهو ينتج زيادة في التفهيم والتأكيد ، لا يتحصل مع العكس ، وهذا الظهور واضح في الآية.

سؤال : عن إعراب مخلصين.

قال العكبري (١) : مخلصين حال من الضمير في يعبدوا (يعني : يعبدون الله حال كونهم مخلصين) وحنفاء حال أخرى. أو حال أخرى من الضمير في مخلصين (يعني مخلصين حال كونهم حنفاء) وقوله تعالى : دين القيّمة ، أي الملة أو الأمة القيّمة.

سؤال : عن معنى القيمة. وما هو التقدير المناسب لها؟

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٦.

٣٦٩

جوابه : أن له عدة أطروحات :

الأولى : ما فهمه المشهور وسمعناه عن العكبري ، من أن التقدير الملة أو الأمة. والفرق بينهما : أن الأمة هي مجموعة من الناس كيفما اتفق ، والملة هي الجماعة المتصفة بدين معين أو إيديولوجية معينة. فتكون النسبة بينهما العموم المطلق ، فكل ملة أمة ولا عكس.

فالملة حينما نطلقها ، فإننا نشير إلى دينها ، فهي قيمة بصفتها متدينة. فيترجح اختيار الملة على الأمة ، فيما إذا اخترنا هذا الوجه.

الثانية : حسب فهمي ، إن التقدير ينبغي أن يكون الجماعة ، لأن معنى القيم هو من لا قيم عليه ، أو قل هو القيم على الإطلاق الذي ليس فوقه قيم غير الله عزوجل ، فينصرف إلى أعظم الأفراد ، وهم المعصومون عليهم‌السلام.

الثالثة : أن نقول : لا حاجة إلى التقدير ، لأنه لا يصار إليه إلّا مع الضرورة ، فيمكن القول بأن القيّمة وحدها تكفي وهي بمعنى : القيّمين.

وليس هذا غريبا في اللغة. أعني التعبير بالمؤنث عن الجمع. فيكون المعنى : القوّام أو القائمين ، أي المشرف والمدبر والمراقب. وهو مأخوذ من القيام وهو الوقوف. لأن الأغلب في المشرف أن يكون واقفا على ما يشرف عليه. ثم استعمل فيما كان فاقدا له مجازا ، ولكنه أصبح حقيقة منذ زمن قديم جدا.

والآية كما هو معلوم لم تشر إلّا إلى عنوان القيّمين ، ولكن من هم وممن هم وعلى من هم. فقد أهملت الآية التعرض لذلك عمدا ، لأن الحكمة اقتضت الاختصار.

ولكننا نستطيع أن نستنتج من السياق الجواب على أنهم : من قبل من هم؟ وذلك لأن الله تعالى في القرآن يشهد بأنهم قيّمون. فأخذهم بشكل مطلق وحق ولم يشر إلى أنهم منصوبون من قبل ناس آخرين. فيكون واضح الدلالة أنهم منصوبون من قبل الله سبحانه للقيمومة.

٣٧٠

فإن قلت : إن القيم واحد ، وهو الله سبحانه ، وهو ينافي معنى التأنيث ، لأنه يوحي بالجمع.

قلت : القيم ليس هو المالك ، بل هو المنصوب من قبله ، كما يقولون : وكيل مفوض ، والله سبحانه لم يلاحظ قيما لأنه غير منصوب من قبل واحد. وإن كان قيما بالذات. والعرف لا يسمي المالك قيما بل المنصوب من قبله. وهنا نقصد المنصوب من قبل الغير ، وهم المعصومون عليهم‌السلام ، ولا يشمل الله سبحانه. فرج المتعلق إلى الجماعة ، لا إلى الفرد ، فالتأنيث في محله.

إن قلت : إننا مخيرون بين تقدير الأمة وتقدير الجماعة. فإذا لم نقدر الجماعة قدرنا الأمة أو الملة وهم المسلمون. فلما ذا لا نقدر المسلمين. مع أنه تعالى قال في آية أخرى (١) : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). أي شاهدين وقائمين. فيكون معنى الآيتين مشتركا؟

قلت : ينبغي أن نفرق بين مفهوم القيمومة ومفهوم الشهادة ولم يثبت أن معنى هذا هو ذاك ، والأمة الإسلامية شهيدة على الناس ولكنها ليست قيمة عليهم.

وأوضح فرق بينهما : أن القيمومة تقع في علل التصرف والشهادة تقع في معلولاته وبعد إنجازه ، فالقيمومة متقدمة رتبة على العمل والشهادة متأخرة عنه. فلا يجتمعان.

فإن قلت : ولكن الله تعالى في نفس الآية السابقة يقول : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). فإن نفينا كون الأمة قيّمة ، فلا يمكن أن ننفي كون الرسول قيما. ومعه يمكن فهم قيمومة الأمة من قيمومة الرسول وشهادتها ، باعتبار وحدة السياق.

قلت : كلا : فإن الرسول له صفتان : الشهادة والقيمومة. فقد جعله الله في جانب العلة وفي جانب المعلول معا. وهذه الآية السابقة تدل على

__________________

(١) البقرة / ١٤٣.

٣٧١

وجود الشهادة في الأمة وفي الرسول. ولا تدل على القيمومة في الأمة ولا في الرسول. وليس لها مفهوم مخالفة يدل على نفي القيمومة. والآية التي نتكلم عنها تدل على القيمومة لا على الشهادة.

فهذه هي الأطروحة الأولى لتفسير (دِينُ الْقَيِّمَةِ) يعني دين الجماعة القيمة أو دين القيمين. وهو الأرجح مما سنذكره.

ولكن توجد أطروحة ثانية يمكن أن تعرض بهذا الصدد. وهو أن يكون دين القيمة أي دين القيمومة. فإن القيم هو صفة مشبهة. بمعنى اسم الفاعل. وبالتالي فهو اسم فاعل. والقيمومة مصدر ، فتكون الآية قد استعملت اسم الفاعل بمعنى المصدر. ولا ضير في ذلك مجازا. فالدين القيّم بمعنى الدين القائم أو دين القيمومة.

ويمكننا أن نصف الدين بأنه قيّم ، وذلك على ما ورد في آيات أخرى من القرآن الكريم ، قال تعالى (١) : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً). أي قيّما. بحسب أهم تفاسيره أو على قراءة أخرى غير المشهورة. وقال تعالى (٢) : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

فإن القيّم هو الفرد المشرف والمدبر بالمباشرة (الفاعل المختار الرشيد) ولكن حين لا يكون معه فكر أو إيديولوجية صحيحة ، فإنه سوف يسيء التصرف. بل لعل جانب الفساد منه سيكون هو الأغلب ، لأنه سوف يطيع شهوات نفسه ومصالحه الشخصية. ولكن مع وجود الدين والفكر الحاكم على هذا القيّم ، ستكون القيمومة بعدل ومطابقة للواقع. ومعه أمكن أن نصف هذا الدين أو الفكر لأنه قيّم لأنه الموجّه للقيّم.

ومعه تكون لفظة : القيّمة ، بمنزلة الصفة أو النعت للدين نفسه. كما ورد وصفه بأنه قيّم. بدون حاجة إلى تقدير موصوف أعني : الجماعة القيّمة.

__________________

(١) الأنعام / ١٦١.

(٢) التوبة / ٣٦ ، ويوسف / ٤٠ ، والروم / ٣٠.

٣٧٢

غير أن ذلك يواجه : إشكالين.

أحدهما : إنه من نعت النكرة بالمعرفة. لأنه قال : دين القيّمة ، فكان الموصوف نكرة والصفة معرفة.

وجوابه : إن هذا استعمال عرفي ، وإن لم يكن فصيحا. ومقتضى احتواء القرآن على كل شيء (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أن يحتوي على ذلك أيضا. فإننا نقول عرفا : صحن الشريف وكعبة المشرفة وسوق الكبير. وبالرغم من أننا نعربه مضاف إليه وليس نعتا ، إلّا أن المقصود الحقيقي هو النعت وليس الإضافة.

ثانيهما : إنه من وصف المذكر بالمؤنث. لأنه قال : دين القيّمة. فكان المنعوت مذكرا ونعته مؤنثا.

وجوابه من وجهين :

الوجه الأول : إن الدين كلي والكلي بمنزلة الجنس ، والجنس بمنزلة الجمع. والجمع بمنزلة المؤنث في اللغة العربية.

الوجه الثاني : إننا قد نقول : إن تاء التأنيث لا تدل على تأنيث مدخولها دائما. بل تناسب مع المذكر أحيانا ، كتاء الوحدة والتنكير ، كتمرة وجلسة. فيكون القيّمة مذكرا. وأما ما هو ممنوع فهو وصف المذكر بالمؤنث الحقيقي ، لتنافيهما. وهذا ليس منه.

سؤال : ما هو هدف السورة؟

جوابه : إن أفضل من التفت إلى ذلك هو سيد قطب في ظلال القرآن (١) : فقد ذكر مجموعة أمور كهدف للسورة. إلّا أن هدف السورة ينبغي أن يكون واحدا. وقد جعلت هذه المفاهيم التفصيلية كمقدمات لتحصيله.

والهدف هو مجادلة الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، ومضادتهم أولا ، وهدايتهم ثانيا.

__________________

(١) في ظلال القرآن / سورة البينة ، ج ٣٠ ، ص ٢١٤.

٣٧٣

فأقول : ـ بعرض منا بغض النظر عما قيل في ذلك المصدر ـ : إن المهم في مجادلة الكفار من أهل الكتاب والمشركين. أربع نقاط : بيان عيوبهم وما يصلحهم وبيان الرحمة والمنة النازلة عليهم وتقييمهم كما يلي :

أولا : أما ذكر عيوبهم : فهي كونهم كفارا ومشركين وأهل كتاب. وهذا العنوان في نفسه عيب. لأن الإسلام دين ناسخ لما قبله من الأديان. ومن يترك ما هو أعلى وأفضل ويختار ما هو أدنى ، فهو معيب لا محالة.

ثانيا : وأما ما يصلحهم فهو البينة والكتب المطهرة.

ثالثا : وأما الرحمة والمنة النازلة عليهم فهي العلم. ولكنهم لم يستفيدوا من هذا العلم ، وإنما اختلفوا فيه وتقاتلوا عليه.

رابعا : وأما تقييمهم فهو أنهم شرّ البرية. وهم كذلك في الدنيا وفي الآخرة. أي أن القيمة الأخلاقية لهم متدنية في كلا الدارين.

وفي مقابلهم خير البرية ، وقيمتهم الأخلاقية عالية في كلا الدارين. وجزاء خير البرية الجنة وجزاء شر البرية النار.

قد يقال : إن نسق الآيات يختلف في السورة ، ابتداء من قوله تعالى : إن الذين كفروا ، بعنوان الإشارة إلى كونه هو النتيجة للمقدمات الموجودة في أول السورة.

وجوابه : إن هذا الاختلاف غير الواضح. والنسق هو نسق الهاء الساكنة في كل الآيات إطلاقا.

وهنا يمكننا أن نلاحظ عدة أمور :

أولا : إن لفظ القيمة استعمل مرتين بمعنيين : كتب قيمة ودين القيمة ، ولا أقل أنه بعد تقييده يصبح بمعنيين.

فإن قلت : إن القيمة بمعنى واحد. لأنكم ذكرتم أن معنى كتب قيمة هي الكتب التي لها القيمومة. وكذلك دين القيمة. فرجعت إلى معنى واحد.

٣٧٤

قلت : جوابه من عدة وجوه :

١ ـ إننا ذكرنا ذلك كأطروحة. ولكن هنا يمكن أن نخرج عن الإشكال ، بأن نختار إحدى الأطروحتين في أحد اللفظين. ونختار الأخرى في الآخر. لأجل أن لا يلزم التكرار.

٢ ـ إنه مع التنزل فإن المفهوم التصوري حين يقيد بمفهوم تصوري آخر ، يكون المجموع مفهوما تصوريا واحدا ، فإذا اختلفت الإضافة اختلف المفهوم. كقولنا : سرج الفرس وسرج زيد.

٣ ـ لا بأس أن يكون كلا اللفظين بمعنى واحد. وتكون القيمومة للكتب المطهرة وللدين معا. لأن محصلهما الحقيقي واحد.

ثانيا : من الأمور التي نلاحظها في الآية : أن النسق محفوظ في الهاء. والضمير في ربه جعل في نسق التاء المدورة ، كالبينة والقيمة. وهذا واضح في لزوم تسكين نهايات الآيات ليصح النسق ويتحقق.

وهذا يدعم الأخبار الواردة الدالة على الاستحباب الشرعي للوقوف في نهايات الآيات والنهي عن الدرج فيها. ومن هنا نستطيع أن نفهم من هذه السورة نحوا من الأمر والطلب للوقوف في نهايات الآيات ليكون النسق واحدا. ولعل الأرجح فعلا ، أنها نزلت بالسكون.

ثالثا : إن عددا من الآيات مضموم : كالبينة وربه وعدد منها مكسور وهي : خير البرية وشر البرية. فلو قرأت بالحركات الإعرابية لانتفى التناسق. فلا بد من قراءتها بالسكون.

سؤال : حول قوله خالدين فيها أولئك هم شر البرية. فقد يستشكل من ناحية كلامية في الخلود. أما من ناحية أن الخلود في النار لكل أحد غير جائز. وأما الخلود لكل هؤلاء (أي الكفار) ، غير جائز لأن فيهم قاصرا ومعذورا ونحو ذلك.

جوابه : أنه يقع الكلام في ذلك في جهتين.

٣٧٥

الجهة الأولى : في الخلود لأي إنسان. وجهة السؤال فيه : إننا لو فرضنا أن الإنسان قد أذنب طول عمره ، وهو محدود. فهل يبقى في العذاب مدة لا متناهية؟ وهذا خلاف العدل ، بأن تزيد العقوبة على الذنب.

وجوابه : أحد أمرين :

الأمر الأول : نقضا : في جانب الجنة : فإن أهلها خالدون فيها خلودا أبديا. مع أنهم أطاعوا الله ـ على سبيل الفرض ـ طول عمرهم ، وهو محدود. ونسبة المتناهي إلى اللامتناهي صفر. فيأتي فيه نفس الكلام ، وما يقال هنا يقال هناك.

الأمر الثاني : حلا وهو أحد أمرين :

الأول : ما ورد في السنة الشريفة من تفسيره (١) : بأن الإنسان لو بقي في الدنيا إلى ما لا نهاية لاستمر على المعصية إلى ما لا نهاية. فيعاقبه على الذنوب التي يمكن أن تحصل منه.

ويجاب عليه : أن العقاب على الذنوب التقديرية الحاصلة في المستقبل ، ولم تحصل فعلا ، ظلم أيضا. ولكن يمكن أن يجاب عليه ، بما يلي :

الثاني : إن العقاب ليس على هذه الذنوب التي سوف تحصل. بل هو عقاب على سببه ومعدنه وعينه ، وهي العين النابعة أو المنبعة للذنوب. وهو سوء السريرة والنفس الأمارة بالسوء. فمهما بقي الفرد على سطح هذه الأرض ، فإنه يبقى في حالة ذنب وعصيان.

فإن قلت : بأن هذا الوصف غير اختياري ليصح العقاب عليه.

قلت : جوابه من وجهين :

الوجه الأول : إنه اختياري لأنه رباه ونماه بذنوبه السابقة. فاشتد مستواه التعصبي للكفر والفسق والفجور. بل اقتنع بوجوده ولعله أصبح مفتخرا به. فهو اختياري.

__________________

(١) انظر نحوه في أصول الكافي ج ١ ص ٨٥.

٣٧٦

الوجه الثاني : ذكر (دانتي) في كتابه : الجحيم (١). في وصف جهنم : إن بعض قاطنيها يزدادون عتوا ونفورا ، ويشتمون الله ويعترضون عليه.

وحسب فهمي : إن هؤلاء دخلوا إلى جهنم باستحقاقهم ، فإبقاؤهم فيها عدل وخلودهم فيها رحمة. ولا يجب على الله بحسب حكم العقل العملي إخراجهم منها ، مع شتمه والاعتراض عليه. فهم يبقون فيها جوازا على أقل تقدير.

إن قلت : ورد أنه في الآخرة حساب ولا عمل (٢). لعدم وجود الشريعة هناك. فكيف أصبح الشتم هناك سببا للعقاب ، وهو الخلود في النار؟

قلت : جوابه من وجهين :

أولا : إننا لم نقل إن الخلود في النار عقوبة على الشتم ، وإنما الشتم سبب وجهة تعليلية ، لعدم وجوب إخراجهم من النار بحسب حكم العقل العملي. بحيث لا يكون بقاؤهم وخلودهم فيها ظلما لهم ، ما داموا على تلك الصفة.

ثانيا : إن هذا المضمون وإن ورد ، وهو أنه في الآخرة حساب ولا عمل. إلّا أنه لم يثبت على إطلاقه. إذ لا إشكال أن شتم الله ذنب وذكره والطمع في رحمته وحسن الظن به طاعة. سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. فما كان في ذاته ذنب بغض النظر عن الشريعة ، قابل للثبوت هناك. وكذلك ما كان في ذاته طاعة. وإنما المفقود هناك هو الشريعة فقط. وهو المقصود بالأخبار المشار إليها.

الجهة الثانية : وهي أن الخلود غير جائز للقاصرين والمعذورين.

فإنه تحصّل من الجهة السابقة أن من يخلد في النار هم المعاندون وأضرابهم. وليس بهذه العناوين التفصيلية الثانوية. ودخول القاصر إلى

__________________

(١) الكوميديا الإلهية ، الجحيم ص ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة خطبة / ٤٢ ، شرح محمد عبده.

٣٧٧

جهنم وخلوده فيها ، غير موافق للرحمة الإلهية. نعم قد يدخل (إذا كان مستحقا إجمالا) ولكنه لا يخلد.

سؤال : ما معنى : البرية؟

جوابه : الباري اسم فاعل ، وهو يطلق في لغة المتشرعة على الخالق سبحانه وتعالى. قال الله تعالى (١) : (الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ). واسم المفعول منه بري أو بريء. وهو فعيل بمعنى مفعول. وبرية مؤنث بري. فالبريّ هو المخلوق ، فيكون معنى البرية : المخلوقون.

قال الراغب في المفردات (٢) : البرية : الخلق. قيل أصله الهمزة. فترك. وقيل ذلك من قولهم بريت العود. وسميت برية لكونها مبرية عن البري أي التراب ، بدلالة قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ). وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). وقال : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

أقول : من المؤكد أن الفهم المشهوري من البرية : البشر أي أولاد آدم عليه‌السلام. ولا شك أن ذلك عليه إجماع المفسرين. وهو اسم مفعول أو صفة مشبهة. بمعنى مبرية أي مخلوقة ، وأصله مبروءة. إلّا أن فهم خصوص البشر بلا موجب ، لأن المراد مطلق الخلق. ولكن يوجد تقييد بأن المشار إليهم بأولئك هم المذكورون لا غيرهم : بدليل ثوابهم وعقابهم ، سواء كانوا بشرا أو خلقا آخر.

سؤال : عن صيغة : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) و (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

جوابه : إن فهم المشهور بأن فيه إشعارا بأفعل التفضيل. ولعلهم أخذوه مسلما. مع أنه مخالف للقواعد العربية وللظاهر أيضا فإنه لم يقل : أشر وأخير. لكي نحمله على ذلك. بل أورد مجرد الصفة. فيكون حالها حال الأعمى في قوله تعالى (٣) : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى

__________________

(١) الحشر / ٢٤.

(٢) المفردات مادة : «برأ».

(٣) الإسراء (٧٢.

٣٧٨

وَأَضَلُّ سَبِيلاً). فلا يمكن أن نفهم منها أنه أكثر عمى.

وبذلك ينتفي الفهم المشهوري والارتكاز المتشرعي. إلّا أن نفهم ـ كأطروحة محتملة ـ أنه معنى موروث جيلا بعد جيل من قبل الأئمة عليهم‌السلام ، فيكون من قبيل السنة التي تفسير القرآن الكريم. ولم يثبت ذلك. فتبقى دعوى المشهور مفتقرة إلى دليل. وسيأتي مزيد إيضاح لذلك.

سؤال : كيف وصفهم القرآن الكريم بذلك ، ولعل في البرية من هم أكثر شرّا منهم أو أكثر خيرا؟

جوابه : إن هذا مسند من قبل القرآن الكريم نفسه. لأنه يشهد بأنهم شرّ البرية وخير البرية (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)(١). هذا مع متابعة الفهم المشهوري للتفضيل.

سؤال : إن الأشر يجب أن يكون واحدا لا جماعة ، فكيف أصبحت الجماعة أشر البرية؟

جوابه : إن التفضيل مقبول بالتشكيك بوجود الفاضل والأفضل منه. (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(٢). في الكمال والنقص أي من ناحية الخير ومن ناحية الشر. وكلاهما مراتب متعددة. وكلما زاد الكمال قلّت الأفراد ، وكلما قلّ زادت.

فإذا لاحظ المتكلم الكمال الأعلى ، فإنه ينحصر بواحد. وأما إذا لاحظ الكمال المتوسط أو الأدنى ، فهو واسع في جماعة. فمن الممكن في الآية أن يكون قد لاحظ ذلك.

ثم إننا ينبغي أن نلتفت هنا إلى أن الله تعالى قسّم البشرية إلى قسمين : قسم صالح وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقسم طالح وهم الكفار

__________________

(١) النساء / ١٢٢.

(٢) آل عمران / ١٦٣.

٣٧٩

من أهل الكتاب والمشركين. ثم لاحظ المجموع وسماهم البرية. فخير البرية هم المؤمنون وشرها الكفار.

يمكننا أن نلاحظ هنا ما سبق أن قلناه من عدم استفادة التفضيل باعتبار أن المقصود هو كون هذه الجماعة هي خير للبشر أجمعين وتلك هي شر لهم.

سؤال : ما هي الحاجة إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ). مع أنه كان يمكن الاكتفاء بأحدهما؟

جوابه : من عدة وجوه :

أولا : إن أوضح مبرر لذلك هو التأكيد الذي ينتج من التكرار. وقلنا : إن أقصى التأكيد هو التكرار ثلاث مرات. وهو متحقق هنا في الذين وأولئك وهم. ويكون التأكيد لدفع كل الأوهام المحتملة.

ثانيا : إنه بعد التنزل عن الوجه الأول نقول : إنه للدلالة على الحصر. وهو نفي الزائد.

ثالثا : الاحترام ، كما قال سبحانه (١) : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ). فهو يشير إلى شيء مرتفع معنويا ، احتراما له ، كذلك يقول هنا : أولئك. ويشير إلى من هم مرتفعون وعالمون في المقام. ويمكن أن يعم ذلك لكلا البعدين المعنويين للخير والشر معا.

رابعا : إن حذف أحدهما يخل بالسياق القرآني ، وهذا ما ندركه بالذوق.

خامسا : إشارة إلى المجموعة كمجموعة ، لأن لفظ الخير مفرد ، فاحتاج إلى هذا التأكيد ، لإبراز جهة المجموع ، ليفهم السامع أن المراد بالخير : الكلي ، وليس المفرد الحقيقي.

سادسا : لو كانت الجملة بدون «هم» لبدت منفصلة عن سابقتها. وهذا مما يدرك بالذوق أيضا.

__________________

(١) البقرة / ٢.

٣٨٠