منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

ثانيا : إيجاد الفرق بين هذه الآية وتلك ، من حيث إن قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ). مشعر بالخصوصية لوجود اسم الموصول : الّذي. وهو لا يوجد في الآية التي تتحدث عنها. إذن فهذا الاستشعار غير لازم.

ثالثا : إن أهم وأوضح أعمال الشيطان هي الوسوسة ، باعتبار أنها مما يسمع ويشعر بها الفرد. دون باقي أعمال الشيطان. فليس من المستبعد أن تكون مقصودة وحدها ، بعد التنزل عن الوجهين السابقين.

رابعا : إننا ينبغي أن نلتفت إلى أنه ليس في الآية (مفهوم مخالفة) بحيث يقال : إن الاستعاذة فقط من الوسوسة دون غيرها. ومعه لن يكون المعنى نفي الاستعاذة عن غيرها على أي حال.

خامسا : نعرضه كأطروحة ، باعتبار احتمال كون الاستعاذة من الوسوسة هي الأساس والسبب الرئيسي لدفع الشرور الأخرى. فإذا اندفعت انسد الباب عن أعمال الشيطان الأخرى.

قوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ).

يوجد إشكال في هذه الآية الكريمة ، لعل المفسرين لا يجيدون الجواب عليه. وهو ما إذا كان الشيطان يخدع الإنسان والجن معا. حيث قالوا : إنه لا يوسوس إلّا للإنس. فهل هذا صحيح؟

قال الطباطبائي في الميزان (١) : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للوسواس الخناس. أقول : مع العلم أن بينهما فاصل آية كاملة ، فيكون المعنى على تقدير صحته : إن الشيطان الذي هو من الجنّة والناس ، يوسوس في صدور الناس ، أي البشر فقط.

وقال (٢) : وفيه إشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم. كما قال تعالى (٣) : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ). أقول : فكأن

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٩٧.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) الأنعام / ١١٢.

٦١

الاستعاذة تكون من كلا هذين القسمين.

وجواب ذلك ، ولو كأطروحة احتمالية :

إننا قلنا : إن الوسواس هو حديث النفس. وهذا قرينة على أن من يقوم به هو الشيطان بالمعنى المعروف. فإن شياطين الإنس لا يوسوسون وإنما يتحدثون بكلام مسموع ، فلا يكون وسواسا. مضافا إلى أن الخناس هي صفة للشيطان وشياطين الإنس لا يخنسون. إذن فشياطين الإنس غير مقصودين من السورة بل لا بد ، بهذه القرائن المتصلة من حمل (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) على الجن. لأن الشيطان (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(١).

وهذا يدلنا على أن السياق ينفي ما قالوه من أن الشيطان يؤثر على الإنسان فقط. بل إنه يوسوس في صدور الناس الذين هم (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فالجنّة والناس ليست صفة منقطعة للوسواس الخناس ، كما قال صاحب الميزان (٢) ، بل هي صفة متصلة للناس.

قال في هامش العكبري (٣) : إن إطلاق «الناس» على الجن غير مناسب ، وذلك لأن الجن إنما سموا بذلك لاختفائهم. وإنما سمي الناس ناسا لظهورهم ، وهذا تهافت.

وجواب ذلك : إننا لا نسمي الناس ناسا لظهورهم ، بل لكونهم أفرادا متعددين يشكلون طبقة أو مجتمعا أو نحو ذلك ، وهذا موجود في الجنّ والإنس معا ، على ما ينقل من صفاتهم. هذا أولا.

وثانيا : إن الاستعمال يمكن أن يكون مجازيا ، في إطلاق الناس على الجنّ ، بعد وجود قرائن سياقية عليه.

فإن قلت : إن الشيطان لا يوسوس في صدور الجن ، لأنه لا يناسب

__________________

(١) الكهف / ٥٠.

(٢) ج ٢٠ ص ٣٩٧.

(٣) ج ٢ ص ١٦١.

٦٢

معهم. وذلك لأمرين :

الأمر الأول : لأنه ليس عدوهم ، وإنما هو عدو آدم وذريته بنص القرآن (١) ولم يذكر القرآن أنه عدو الجن.

الأمر الثاني : إن الجن يرونه أعني الشيطان ، والإنس لا يرونه. قال تعالى (٢) : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).

وإذا رآه الجن استطاعوا أن يهربوا منه لئلا يخدعهم. بينما الإنسان لا يستطيع ذلك لأنه لا يراه. بل يسمع كلامه ويطيعه ، لأنه مناسب لشهواته.

قلت : أما أولا : فصحيح أن الشيطان عدو لآدم وذريته. ولكن يمكن القول بأنه عدو لأهل الإيمان خاصة أيا كانوا من الملائكة أو من الجنّ أو من البشر أو من أي خلق الله. إذن ، فهو عدو مؤمني الجنّ لأنهم يؤمنون بعدوه وهو الله سبحانه وتعالى. وكل مؤمن بعدو فهو عدو. كما قيل في الحمة (٣) : عدوك ثلاثة عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك.

ويكون بين مؤمني الجنّ والشيطان عداوة ، لأنهم مخلصون لله عزوجل. وليس في القرآن (مفهوم مخالفة) من هذه الجهة ، ما يدل على أنه عدو للبشر وليس عدوّا للجنّ. إذا فعداوته للجنّ مما لا مانع منها ، كأطروحة.

وأما ثانيا : فإن الأمر الثاني خطل من القول ، فإن الإنسان لا يهرب ممن يخدعه من البشر بالرغم من أنه يراه ، بل يعتبره ناصحا له وموجها. لأنه موافق لرغباته ونفسه الأمارة بالسوء.

فإذا اعترف الطباطبائي ، بوجود شياطين من الإنس ، وهم أعداء كشياطين الجنّ ، إذن فالهرب من كلا الجنسين قد لا يكون متحققا.

__________________

(١) كما قال سبحانه : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). فاطر / ٦.

(٢) الأعراف / ٢٧.

(٣) وفي نهج البلاغة ما يدل عليه ج ٤ ص ٧١ (شرح محمد عبده).

٦٣

بل ظاهر القرآن الكريم أن الشياطين من كلا الجنسين يخدعون كلا الجنسين. قال تعالى (١)(شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً). وهذا يعني : إن الصورة التي نعتبرها غريبة ، لها نحو من التحقق أيضا. وهي مكر الإنس بالجن وخداعهم لهم. وظاهر الآية الكريمة أن ذلك لا يقتصر على مؤمني الجن بل على شياطينهم أيضا!!

الوجوه الإعرابية للآية الكريمة :

قال أبو البقاء العكبري (٢) : قوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). قيل هو بدل من شرّ. أي من شر الجنّة.

أقول : أعتبره بدلا لكون الواو العاطفة غير موجودة. فلم يعتبره معطوفا. وقوله : قيل ، أي إنه قابل للمناقشة. وذلك : لأن البدل إنما هو لفظ إفرادي. وأما كون الجار والمجرور بدلا ، فهو على خلاف القاعدة.

وإذا سقط ذلك ، فيمكن أن يكون معطوفا بحذف حرف العطف ، إذا فهمنا أنه مربوط بالشرّ. فيكون بتقدير أمرين : الواو العاطفة وتكرار الشر : فيكون المعنى : ومن شر الجنة ومن شر الناس.

وقال العكبري أيضا (٣) : وقيل بدل من ذي الوسواس. لأن الموسوس من الجنة. أقول : هنا عنوان البدلية غير وارد ، لأنه جار ومجرور كما ذكرنا ، ويمكن أن يكون صفة أو حالا معطوفا بحذف حرف العطف.

وقال (٤) وقيل : هو حال من الضمير في يوسوس أي يوسوس وهو من الجنة.

أقول : أي حال كونه من الجنة والناس. فيكون المعنى : من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس. وهو إما من الجنة وإما من الناس. أي

__________________

(١) سورة الأنعام / ١١٢.

(٢) الإملاء ج ٢ ص ١٦٠.

(٣) المصدر والصفحة.

(٤) المصدر والصفحة.

٦٤

الموسوس لا الموسوس له. وهو ينطبق على أحد المعاني التي ذكرناها.

وقال (١) : وقيل هو بدل من الناس أي في صدور الجنة ... وقيل (من الجنة) حال من الناس.

أقول : يكون المعنى أنه يوسوف في صدور الناس من الجنة والناس. إما بمعنى كون الناس موصوفين بكونهم من الجنة والناس. وإما أنه بدل من الجنة والناس ، أو حال كونهم من الجنة والناس. فذلك كله محتمل. ومعناه : إنه سبحانه سمى الجن ناسا ، كما سمى الناس ناسا ، أعني البشر. وذلك لا ضير فيه ، كما سمّاهم نفرا ورجالا.

وقال العكبري أيضا (٢) : وأطلق على الجن اسم الناس لأنهم يتحركون في مراداتهم. والجن والجنة بمعنى.

أقول : وهذا يعني بلغتنا الحديثة أمورا. منها :

أولا : إنهم ذوات عاقلة ومختارة.

وثانيا : إنهم أيضا ينقسمون إلى ذكور وإناث ، بحسب النقل الأكيد. كما إنهم يعيشون ، بالتقريب لا بالتحديد ، مثل معيشتنا.

فإذا كان الأمر كذلك ، فهم (رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ)(٣) وليس النساء من الجنسين.

والحق أن الاستعاذة ليست بشيء من الخلق ، بل بالخالق جلّ شأنه. لأن الاستعاذة بالخلق نتيجتها الفشل (فَزادُوهُمْ رَهَقاً)(٤) وكذلك الاستعاذة بالجن ، بل بأي مخلوق. فإن من استعاذ بغير الله فإنه يوكل إلى من استعاذ به. ويفشل بطبيعة الحال ، لأنه لا يملك لنفسه دفعا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وإنما (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) ،

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) الجن / ٦.

(٤) الجن / ٦.

٦٥

أي بالله لا بأحد سواه.

سؤال : إنه من الملاحظ أن النسق في سورة الناس فيه كلمتان : الناس والخناس. والناس مكررة أربع مرات. فلما ذا حصل ذلك؟

جوابه : له عدة وجوه :

الوجه الأول : قصور اللغة أحيانا ، كما أشرنا في المقدمة. فإنه لا توجد كلمة ثالثة تختم بالحروف الثلاثة (ناس) ، فتعينت الحاجة للتكرار.

الوجه الثاني : التأكيد. من حيث اقتضاء المصلحة له. يعني أن يكون المقصود في الجميع واحدا. باعتبار ذكر الله سبحانه : (بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ).

الوجه الثالث : إن الكلمة وإن أريد بها معنى واحدا ، إلّا أنه بقيدها تصبح ذات معنى آخر. لأنهم قالوا في الأصول إنه يتكون من النسبة الناقصة مفهوم جديد مقيد. وهذا من مواردها.

٦٦

سورة الفلق

وفي تسميتها نفس الأطروحات التي سبقت في سورة الناس ، فراجع وطبّق.

وهي أقل نسقا من سورة الناس ، لأن فيها حرف القاف والباء والدال في نهايات الآيات. ولكنها متحدة في الروي ، وهو فتح ما قبل الآخر. مضافا إلى الوقف بالسكون عند نهايات الآيات ، كما هو مستحب شرعا.

والفلق بالسكون ، مصدر يراد به التفريق بين جزءين من شيء واحد. قال الراغب (١) : الفلق شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض. يقال : فلقته فانفلق. قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ ـ إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ـ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).

والفلق بالفتح : صفة مشبهة بمعنى اسم المفعول : أي مفلوق ، كالقصص بمعنى المقصوص.

أقول : ويمكن أن يتخذ معنى الفلق في السورة أحد أمور ثلاثة :

الأول : فلق الصبح. باعتبار أن ضوء الفجر يفلق ظلام الليل ويقسمه إلى قسمين.

الثاني : الخلق أو الوجود. لأن الوجود يفلق العدم ويبدده.

الثالث : جب في جهنم يتعوذ أهل النار من شدّة حرّه ، على رواية ضعيفة ذكرها في مجمع البيان (٢).

__________________

(١) المفردات مادة «فلق».

(٢) ج ١٠ وكذلك انظر تفسير علي بن إبراهيم ج ٢ ص ٤٤٩.

٦٧

ونستفيد من المعنى الأول : إن رب الفلق أي رب الصبح أو الفجر. وهذا الوقت لعله أفضل الأوقات من الناحيتين الدنيوية والأخروية.

أما من الناحية الدنيوية فباعتبار أن انفلاق الفجر أمر عجيب إذ يحصل الضوء في ظلام دامس ، ثم يتدرج إلى أن يصبح نهارا. وتتكرر هذه الحالة في كل يوم. ففي ذلك عبرة وفضل من الله تعالى.

وأما من الناحية الأخروية فلما هو معروف في الشريعة من أن ما بين الطلوعين أفضل الأوقات للتوجه والذكر والدعاء.

أما على المعنى الثاني ، فيكون المعنى : رب المخلوقات كلها أو رب كل شيء أو رب العالمين.

والمعنى الأول ، وإن كان أقرب إلى الذوق ، ولكن فيه نقطتا ضعف :

النقطة الأولى : إنه أضيق من المعنى الثاني وعلى هذا يكون المعنى الثاني ـ من الناحية الاعتبارية ـ أنسب بالله سبحانه.

النقطة الثانية : إن محصل الآية في المعنى الأول يكون : أعوذ برب الصبح من شر الخلائق كلها. فتكون هنا الإشارة إلى الذات بذكر مزيّة لها ، وهي انفلاق الفجر.

بينما يكون التناسب بين الآيتين ، بناء على المعنى الثاني ، ألطف وأكثر انسجاما. أي أعوذ بالخالق نفسه الذي هو أعلم بالمخلوقات كلها من شر المخلوقات كلها في الدنيا والآخرة. فتكون الاستعاذة أنسب بالله سبحانه وتعالى.

وهنا قد يقال : إن الشر غير موجود في الخليقة ، فهل يستعاذ من شيء غير موجود؟

وجواب ذلك : إن للفلاسفة في تفسير الشر عدّة آراء ، نذكر أهمها :

الرأي الأول : إن الخير والشر موجودان. والله تعالى خالق الخير والشر ، وقادر على كل شيء أي على كل من الخير والشر. وفي بعض

٦٨

الأخبار (١) في وصف الله سبحانه أنه «خالق الخير والشر».

فإن قلت : إنهم قالوا في علم الكلام : إن الله خير محض ، والخير لا يصدر منه إلّا الخير ، ولا يمكن أن يصدر منه الشر ، لضرورة التناسب والسنخين بين العلة والمعلول ، كما قرر الفلاسفة. فالشر سواء كان وجوديا أم عدميا ، لا يمكن صدوره من الخالق ، لأنه خير محض.

جوابه : إن هذا قابل للمناقشة ، من أكثر من وجه :

الوجه الأول : إن الله سبحانه لا يمكن أن نسميه خيرا محضا. والآية (٢) : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) ، لا تدل على ذلك ، بل هي بمعنى أنه سبحانه خير الحافظين.

الوجه الثاني : إن الفلاسفة ، لم يقولوا إنه خير محض ، بل قالوا : إنه وجود محض ، أي وجود بلا ماهية ، وبسيط غير مركب.

وأما كونه خيرا ، فهذا مترتب على كون الوجود خير وليس بشر. وهذا مترتب على أن الشر عدم وليس بوجود. في حين أننا نتكلم في هذا الوجه الأول بناء على أن الخير والشر معا موجودان.

الوجه الثالث : إنه اتضح التناسب بين العلة والمعلول ، وهو الاشتراك في الوجود ، للخير والشر معا.

الوجه الرابع : إن عنوان الخير وعنوان الشر كل منهما مفهوم انتزاعي ذهني ، وليس أمرا خارجيا ، كما سنذكر ، وما هو موجود إنما هو الموجود الخارجي خاصة.

الرأي الثاني : ما قرّبه الشيخ المظفر قدس سرّه في محاضراته : من أن الخير وجود والشر عدم. والقدرة والإرادة والمشيئة إنما تتعلق بالوجود لا

__________________

(١) الوافي ج ١ ص ١١٧.

(٢) سورة يوسف / ٦٤.

٦٩

بالعدم. والعالم الخارجي إنما هو وجود ، وهو كله خير وليس بشر لأنه تعالى لم يخلق إلّا الخير.

وكان يمثل لذلك : إن شخصا ضرب بسكين فسال الدم. فوجود الدم خير ووجود اللحم خير ووجود الليونة في اللحم ، بحيث أصبح قابلا للقطع خير أيضا ، ووجود السكين خير ، وقدرة الضارب على الحركة خير. أما الشيء العدمي الذي هو شرّ ، فهو انفصال أحد الجزءين عن الآخر بالضربة. وكذلك الموت ، هو أمر عدمي ، لأنه انفصال الروح عن البدن.

وينتج من ذلك : إن الشر ما دام عدما ، فإنه لا تتعلق به القدرة والمشيئة وإنما تتعلق بما هو موجود. لأن العدم لا يمكن أن يوجد بما هو عدم. وعالم الخارج ليس صقعا للعدم ، وإنما هو صقع للوجود خاصة.

وهذا لا ينافي ما قلناه من أن الله تعالى على كل شيء قدير ، لأن العدم هنا ليس عدما محضا ، بالمعنى الفلسفي ، بل هو بمعنى النقص ، وإيجاد الناقص معقول ، من حيث كونه موجودا. فالله تعالى قادر على العدم بقدرته على الموجودات.

الرأي الثالث : إن الخير والشر أمران انتزاعيان ذهنيان. أو قل إنهما قيمتان أخلاقيتان مدركتان للذهن. وأما الخلقة الخارجية ، فلا خير ولا شر وإنما هي وجود.

والقيمة الأخلاقية الانتزاعية ، تختلف باختلاف الجانب الحاكم بتلك القيمة. ويوجد في باطن الإنسان عدّة ملاكات مقيّمة للأشياء ، لا أقل من أمرين :

الأول : العقل العملي. وهو حاكم عادل وكل قضاياه صادقة ، ركزه الله تعالى فينا لنفعنا وهدايتنا ، وليس فيه خطأ. وهو الذي يحكم بحسن العدل وبقبح الظلم.

وكان الشيخ المظفر (قدس سرّه) ينزله إلى معنى حكم العقلاء (١) ،

__________________

(١) راجع أصول المظفر ج ١ ص ٢٢٥.

٧٠

ولكنني أراه فوق ذلك. بحيث لو زال العقلاء كلهم بقي ذلك الحكم صادقا في نفسه.

فالعدل يعود إلى الخير بهذا اللسان الذي نتكلم عنه. والظلم يعود إلى الشر بهذا اللسان أيضا.

الثاني : النفس الأمارة بالسوء. وهي حاكم باطل وكل قضاياها باطلة ، على العكس من العقل العملي. فهي ظالمة ومظلمة وليس فيها حق إطلاقا. وهي قد تصبح ربّا لصاحبها إذا (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(١). فهذا التقييم الضال والمضل هو الذي أفسد البشرية من لدن آدم إلى يوم القيامة ، إلّا على تقادير من رحمة الله تعالى.

والفرق بين هذين المقيّمين أمور :

الأمر الأول : إن أحكام العقل محدودة في الأمور القطعية ، ولا أقل من حصول الاطمئنان العرفي بشيء بأنه عدل أو ظلم. وأما في صورة الشك والتعارض والتزاحم ونحوها ، فلا حكم للعقل.

ومن هنا قيل : إن العقل غير صالح بمجموع أحكامه لقيادة المجتمع البشري ، لأنه قليل الإحكام. في حين أن الفرد يحتاج في كثير من خصائص حياته إلى البتّ والفتوى في كثير من الموارد.

في حين أن النفس تتدخل في الصغيرة والكبيرة ، وتحكم على أي شيء يطرأ عليها. فأحكام العقل أقل من أحكام النفس.

الأمر الثاني : إننا نجد نحو عداوة بين العقل والنفس وتنافيا في أحكامها. فما ترغب النفس يمجّه العقل وما يمجه العقل ترغب به النفس.

بل يمكن القول إن كل ما هو عدل في العقل العملي ، هو على خلاف حكم النفس. وكل ما هو وفق الشهوة النفسية ، بما فيها المحرمات والمكروهات ، فهو ظلم بنظر العقل ، بطبيعة الحال.

__________________

(١) الفرقان / ٤٣ والجاثية / ٢٣ ...

٧١

إذن ، بينهما تعارض وتعاد في أغلب الأحكام بل كلها.

الأمر الثالث : إن هناك عداء بين النفس والله تعالى. في حين أن العقل إلى جانب الأحكام الإلهية. وأما النفس فهي ضدها وتمجها وتفضل الحرية عن مسئولياتها. في حين أن العقل ليس كذلك بل هو (عبد) لله عزوجل. وفي الحديث القدسي (١) : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلّا فيمن أحب. أما إني وإياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب.

والعقل يمضي كل الأحكام الشرعية. وكلها موافقة للعقل حتى قيل بالملازمة بين أحكام العقل وأحكام الشرع. ولم يقل أحد بالملازمة بين حكم النفس وحكم الشرع. بل الرشد بخلاف النفس وعصيانها. لأن الرشد في خلاف دائم مع أعداء الله أينما وجدوا.

والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإن لم تثبت عندي في علم الأصول ، ولكننا خارجا ، لم نجد حكما عقليا إلّا وعلى طبقه حكم شرعي إلزامي أو استحبابي ، كما لم نجد حكما شرعيا ، إلّا على طبقه حكم عقلي بالرجحان وأن تطبيقه موافق للعدل.

هذا كله بمنزلة الكبرى ، في قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ).

فالاستعاذة ليس مما خلقه الله تعالى ، بل من شرهم. فإن وجودهم وذاتهم نعمة وخير فلا يستعاذ منه. وإنما يستعاذ مما قد يأتي منها من سوء ونقص.

سؤال : هل الاستعاذة عامة لجميع الناس؟

جوابه : إنما هي لمن يجمع بين خوف الله وخوف الخلق ، وهم الأعم الأغلب من الناس ، أما الذين يتمحضون في الخوف من الله ، فهم يخشون الله (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ)(٢) ولا يخافون من شر ما خلق الله سبحانه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٢٧ وكذلك ج ١١ ص ١٦٠.

(٢) الأحزاب / ٣٩.

٧٢

فتكون هذه الاستعاذة بمنزلة السالبة بانتفاء الموضوع. ولكن مع ذلك نقول : إن القرآن أنزل لكي تستفيد منه كل الطبقات.

سؤال : ما هو الفرق في الاستعاذة في المعوذتين؟

جوابه : الاستعاذة في سورة الناس من الشيطان فقط. بينما الاستعاذة هنا من سائر ما خلق الله. فموضوع سورة الفلق أعم من موضوع سورة الناس.

سؤال : ما هو شر ما خلق؟

جوابه : له عدة تفسيرات تختلف باختلاف المعاني السابقة :

الأول : الشر الذي خلقه الله تعالى ، بناء على اختيار الرأي الذي يقول : بأن الشر موجود.

الثاني : النقص الذي خلق. بناء على أن الشر هو النقص والعدم. سواء كان هذا النقص اختياريا وهو الذنب. أو غير اختياري وهو الشامل لسائر الخلق العاقل وغيره.

الثالث : الفعل الاختياري ، ولعله الأقرب إلى المعنى العرفي.

فإن الفعل الاختياري منسوب إلى فاعله ، كما حقق في محله ، فتكون الإضافة في قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، إضافة منشئية. وما خلق أعم من كل فاعل مختار ، على هذا الوجه. فهو يشمل كلا من الجن والملائكة وغيرهم.

وأما الله سبحانه وتعالى ، فلا يختار لنا إلّا الخير ، سواء قلنا بأن الشر موجود أو غير موجود. أما إذا نفينا وجوده فواضح. وأما إذا أثبتناه فلأن الرحمة سابقة ، فالقدر الإلهي لكل فرد إنما هو في صالحه محضا. كما قال الفلاسفة : ليس في الإمكان خير مما كان. وهو يشمل الكل والبعض من الأفراد ، وإن لم ندرك ذلك.

وهذا لا يعني أن نقول : إن التخطيط لمصلحته الدنيوية. وإنما هو

٧٣

لمصلحة كيان الفرد في الدنيا والآخرة. فإن حصل هناك تناف بين المصلحتين اختار الله الأهم في الحكمة ، وهو في الأغلب مصلحة الآخرة ، وإن تخلفت مصالح الدنيا.

فليس في أفعال الله سبحانه شر ، ولا يصح الاستعاذة منها. لأن الخلاص منها يوقع الفرد على خلاف الحكمة. بخلاف (شَرِّ ما خَلَقَ) فإنه موجود ويمكن الاستعاذة منه. ولذا يدعو بعضنا : كفانا الله شرّ بني آدم.

قوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ).

قال الراغب (١) : غسق الليل شدة ظلمته. والغاسق الليل المظلم. أقول : حسب فهمي ، فإن الغاسق أول الليل ، لأنه الفاعل للظلمة الشديدة. وذلك فيما إذا ذهب الشفق أي الحمرة المغربية ، وتمّ الظلام.

وقال الراغب (٢) : الوقب كالنقرة في الشيء. ووقب إذا دخل في وقب. أقول : يعني : إذا دخل في النقرة أو الثقب. ويستعمله الفقهاء في اللواط. وعن المرأة يعبرون بالدخول حتى لو كان دبرا.

سؤال : إن قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، استعاذة عامة و : (مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ...) إلخ استعاذة خاصة. ألا تكفي الاستعاذة العامة عن الاستعاذة الخاصة؟

جوابه : إن في عطف الخاص على العام حكما عديدة نذكر منها :

أولا : ما ذكره صاحب الميزان من أنه (٣) : لزيادة الاهتمام.

وقد اهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة : هي شدّة الليل إذا دخل وشرّ سحر السحرة وشر الحاسد إذا حسد. لغلبة الغفلة فيهن.

ثانيا : لأن هذه الثلاثة أشد الشرور المتصورة عادة.

__________________

(١) المفردات : مادة (غسق).

(٢) المفردات : مادة (وق).

(٣) الميزان ج ٢٠ ص ٣٩٣.

٧٤

ثالثا : إنها أغلب من غيرها باعتبارها أكثر مصادفة للإنسان.

رابعا : إنها أسباب الشر ، فيكون سبب الشرّ شرّا. وهذا أوفق بالسياق فتكون الاستعاذة من شر الخلق ومن شر سبب الشر ، وهي الليل والحسد والسحر ، فتكون الاستعاذة من العلة والمعلول معا.

سؤال : ما هو الوجه في تقييد «غاسق» ب «إذا وقب»؟

جوابه : لأن الليل إذا لم يدخل ، فلا وجود له. ومن ثم فلا وجود للشر الناتج عنه. والاستعاذة ليست من ذات الليل ، بل من الشر الحاصل فيه أي بعد دخوله. وبحسب التعبير الأدبي : هناك صورة متحركة : ضوء ثم ظلام ، نهار ثم ليل.

سؤال : ما هو الوجه من استعمال غاسق ووقب بالخصوص دون : مظلم ودخل ، اللذين هما بنفس المعنى؟

جوابه : إن كلا اللفظين (يعني غاسق ووقب) يدلان على الشدة. فالأول يدل على شدة الظلام والثاني يدل على شدة الدخول ، وفي الآية إشعار واضح بذلك. كأن الليل يدخل على حين غفلة ويسيطر ولا يكون الفرد مستعدا للتلافي والدفع. ومن الواضح أن الليل غالبا ليس كذلك. وهذا بنفسه يكون قرينة على احتمال أن يكون المراد أمرا آخر غير الليل. فإنه ذكر الظلمة والغاسق. ولم يذكر الليل. ومشهور المفسرين أخذوا الجانب المادي أو الدنيوي في الآية. والذي ينبغي أن يفهم أن الظلام قد يكون منهما ومن الدخول ما يكون مؤلما. ومن هنا تكون عدة أطروحات لفهم الغاسق ودخوله ، بشكل ينحفظ فيه سياق الآية :

الأطروحة الأولى : أن نفهم من الغاسق : الليل وما فيه من وحوش ووحشة ولصوص وأمراض وحوادث ، مع قلة إمكانية الفرد في الدفع ، وانقطاعه عن الناس ، أو كونه نائما لا يعي أصلا.

الأطروحة الثانية : ظلام النفس والقلب ، فإنه منتج لكثير من البلايا ، كالعصيان والأنانية وعدم سماع الموعظة والأمر بالمعروف.

٧٥

وهذا الظلام أشد على الإنسان من ظلام الدنيا. ولذا ورد عن الأئمة الهداة سلام الله عليهم (١) : اجعل نفسك عدوا تجاهده. وورد : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه.

إن قلت : إن ظاهر العبارة : إنه وقب حيث لم يكن كذلك. مع أن ظلام النفس والقلب ، دائم ، فلا يكون مناسبا معه.

قلت : هذا له جوابان :

الأول : النظر إلى الفطرة الأصلية للإنسان ، فإنها خالية عن الظلمة. قال الله تعالى (٢) : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). وورد (٣) أيضا : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصرانه. أي يجعلانه غافلا ، ومن أهل الدنيا. فقد وقب فيها الظلام عند ما تسببت أسبابه ، أي دخل على حين غرّة ، بعد أن لم يكن فيها.

الثاني : قد يفرض أن الفرد طيب ونيّر القلب إلّا أنه قد يناله الظلام من أسباب عديدة ، باطنية وظاهرية ، كالطعام والمعاشرة ، فينتج شرورا وضيقا يستعاذ منه.

الأطروحة الثالثة : بلاء الدنيا من حوادث ومرض وفقر وموت حبيب وغيرها. فإنها بالنسبة إلى طبقة من الناس بنفسها شر ، وبالنسبة إلى طبقة أخرى منتجة للشر والمضاعفات النفسية والخارجية. ولا أقل من أن يكون رد فعل الإنسان تجاهها غير مرض لله عزوجل ، كالاعتراض عليه. فيكون المعنى : الدعاء بأن يعيذه الله من شر هذا البلاء.

الأطروحة الرابعة : الغفلة : قال تعالى (٤) : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ). وهي بيت الداء وأصل خسران

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ١٢٣ و ١٢٤.

(٢) الروم / ٣٠.

(٣) البحار ج ٦٧ ص ١٣٣ والمعجم الكبير للطبراني ج ١ ، حديث ٨٣٥ ...

(٤) الروم / ٧.

٧٦

الآخرة ، فيستعاذ منه. وهذا البلاء الباطني مرفوع عن المعصومين عليهم‌السلام. قال أمير المؤمنين (١) «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» وقال : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله وبعده».

قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ).

النفث هو النفخ. وكانت الساحرات يقرأن طلاسم ويعقدن شيئا وينفخن على العقدة ، حتى تؤثر التأثير المعين الذي يردنه.

سؤال : لما ذا خصّت النساء بالذكر مع أنه ممكن للرجال أيضا؟

جوابه : ما قاله صاحب الميزان قدس سرّه (٢) : لأن السحر فيهن ومنهن أكثر من الرجال. أقول : ويمكن أن تكون هذه الصحة من السحر مما يتبناه النساء أكثر من الرجال.

إلّا أن هذا الجواب يصلح «أطروحة» وإن كانت إجماعية بين المفسرين. إلّا أنه يمكن تقديم أطروحات أخرى. لأن الله تعالى استعمل معنى قابلا للانطباق على حصص متعددة ولم يذكر العقد ما هي ولا أن النافث من هو ، ولا أن العقد شر ، بل قد يكون النفث خيرا ، لكنه لا يخلو من شر ، كما سيأتي.

ومن هنا يمكن أن نعرض عدة أطروحات في معنى العقد والنفث منها :

الأطروحة الأولى : العقد هي ملكات السوء التي في الإنسان ، باعتبار أن الملكة هي الصفة الراسخة غير القابلة للانفكاك. فتشبه العقدة.

والنفث فيها ، هو التسبب إلى بقائها وزيادتها. كالنفخ في النار لأجل زيادتها.

الأطروحة الثانية : أن تكون العقد ملكات الخير للإنسان والنفث فيها ، هو

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي ص ١٢٤.

(٢) ج ٢ ص ٣٢٣.

٧٧

التسبب لإضعافها وإزالتها.

الأطروحة الثالثة : العقد هو السلوك الصالح للإنسان ، وهو الاعتياد على طاعة الله سبحانه. والنفث فيه هو محاولة إفساد ذلك وتبديله.

الأطروحة الرابعة : العقد هو السلوك الطالح للإنسان أو الحال السيئ له دنيويا وأخرويا. والنفث فيه هو معاونته ومحاولة زيادته (١).

فإن قلت : فإنك قلت في جانب الخير إن النفث هو التسبيب إلى نقصانه. وفي جانب السوء إن النفث هو التسبيب إلى زيادته.

قلت : أولا : إن هذا هو معنى الشر المنصوص عليه في الآية. إذ من الواضح أن النفث الذي يزيد في الخير وينقص من الشر ، ليس شرّا بل هو خير.

ثانيا : إننا وإن سلمنا شموله لمثل ذلك ، وهو خير ، إلّا أنه قد تحصل منه مضاعفات. باطنية أو دنيوية أو أخروية قليلة أو كثيرة ، كتحميلنا قوة الطاعة من الأمر بالمعروف ونحوه. فسيعاذ من شره.

الأطروحة الخامسة : العقد هو عقد الصداقة والعهود بين الأشخاص أو المجتمعات. والنفث فيه هو التسبب إلى إزالته. وقد لا يكون في زواله مصلحة ، كما هو الغالب.

__________________

(١) فالتقسيم يكون على أحد شكلين :

أحدهما : إن صفات الإنسان إما صالحة وإما طالحة.

ثانيهما : إن صفات الإنسان إما ظاهرية وإما باطنية ، أي (الملكات الحسنة والملكات الرديئة ، فتكون معاني العقد أربعة حاصلة من ضرب ٢+ ٢).

والمراد بالملكة الصفة الراسخة في النفس فنعبر عنها مجازا بالعقدة ، لأنها صعبة الانفكاك ومنها العقد النفسية (باللغة الحديثة) وكذلك يمكن أن نسمي سلوك الإنسان (عقدة) إذا كان ملتزما به ويمثل شخصيته وحياته. شرا كان أو خيرا فالسلوك بمنزلة المعلول والملكات بمنزلة العلة أي أن الملكات الحسنة تنتج سلوكا حسنا والملكات السيئة تنتج سلوكا سيئا. فالنظر يكون إما من جانب العلة وإما من جانب المعلول وكله من سنخ العقد لترسخه وقوته.

٧٨

فإن قلت : العقد جمع عقدة ، ولا يشمل العقد المعاملي.

قلت : أولا : إنهما من مادة واحدة ، غاية الفرق في التأنيث والتذكير ، وهو غير مهم.

ثانيا : إنه ورد التعبير في القرآن الكريم عن المعاملة بالعقدة في قوله تعالى (١) : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

سؤال : لما ذا أنّث النفاثات ، مع أن التذكير اسم جنس يشمل الذكر والأنثى؟

جوابه : إننا إذا فهمنا من النفاثات الساحرات ، كما عليه المشهور. إذن يتعين التأنيث في التعبير ولا يكون في هذه القضية مفهوم مخالفة ، من حيث إن الاستعاذة من النفاثات يعني عدم الاستعاذة من النفاثين. بل يقتضي ذلك بصفتهم شرا أيضا.

وإن كان المراد منها الملكات والسلوك. فيكون المعنى : التسبب إلى إنجاحها أو إبطالها. فيعود الإشكال مرة أخرى ، يعني أن نقول : إنه ينبغي التذكير.

وتوضيح جوابه : أن نقول : إن العلل في الكون كله ذات صفتين : الخير والشر. والفرق بينهما ـ نعرضه كأطروحة ـ : إن قوى الخير أقوى وأوسع في الكون بمجموعه من قوى الشر. ونريد به مجموع الكون المادي والروحي.

فلو نظرنا إلى الكون المادي ، فقد نجد أن التسبيب إلى الشر أقوى كقوله تعالى (٢)(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). فهم على قلّتهم مفسدون في المدينة. ولكن لو نظرنا إلى الكون الروحي والمادي معا لقلنا إن الخير أقوى بكثير.

__________________

(١) البقرة / ٢٣٧.

(٢) النمل / ٤٨.

٧٩

والكون الروحي وإن احتوى جزئيا على الشر ، إلّا أنه ضعيف وقليل. قال الله سبحانه (١) : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). وقال (٢) : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).

فالتسبب إلى الخير في مجموع الكون أضعاف أضعاف التسبيب إلى الشر. والتسبيب إلى الشر قليل وضعيف. فيعبر عنه مجازا بالأنثى. لأن الرجل أقوى من المرأة. فيكون المراد الاستعاذة من التسبيبات الضعيفة الموجودة في الكون للشر. وفي الآية إشعار واضح للقلة النسبية للنفاثات. وهو صحيح. لضئلة أسباب الشر بإزاء أسباب الخير. كما قلنا.

فإن قلت : لكن في الآية إشعارا بقوة النفث وعمق أثره. فكيف قلنا : إنه ضعيف بإزاء قوى الخير؟

قلت : إن ما قلناه في قوى الخير ، يشمل الكون المادي والروحي معا. أما تأثيره على وجه الأرض فليس ضعيفا ولا قليلا. مضافا إلى أن قلته لا تعني ضعفه وعدم تأثيره فهو قليل ولكنه شديد.

وهذا هو الذي يشير إليه سياق الآية. أما دنيويا فلأنه يوجب شدة الضيق. وأما أخرويا فلأنه طريق جهنم.

وبتعبير آخر : إن سياق الآية يدل على قوة النفث وعمق تأثيره ، باعتبار أن الشر عليّ غالبا ، والخير اقتضائيّ غالبا.

سؤال : لما ذا عرّف الله سبحانه النفاثات ، ونكّر ما قبلها وما بعدها وهما : الغاسق والحاسد؟

جوابه من وجهين :

الأول : ما ذكره الرازي في هامش العكبري حيث قال (٣) : لأن كل نفاثة

__________________

(١) النساء / ٧٦.

(٢) إبراهيم / ٢٢.

(٣) هامش كتاب (إملاء ما من به الرحمن) ج ٢ ص ١٦٠ ...

٨٠