منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

يقدم طاعاته لله عزوجل ، وإنما يقدم ذنوبه فقط. ويحس أنه في تقصير مستمر.

وإن قلنا : إن أخرجت أي أبرزت. وكان المراد من الأثقال : الأعمال ـ كما عليه هذا الوجه ـ كان هذا على ضد الشكل السابق. وهو أن الفرد يشعر بطاعاته أمام الله سبحانه وأمام خلقه ، وأنه تحمل المصاعب والبلاء في سبيل ذلك ، فهو يبرزها ويفتخر بها.

الاحتمال الثامن : أن يكون أخرجت بمعنى أبرزت ، على معنى أنها أخرجت وهيّأت خيراتها بعد الظهور. ويكون ذلك نتيجة لزلزلة البلاء السابق عليه.

وهذا المعنى قابل للانطباق على الأيام الكبيرة عموما ، كظهور الإسلام المسبوق ببلاء الجاهلية وعبادة الأصنام ، أو دخول الجنة المسبوق ببلاء يوم القيامة.

الاحتمال التاسع : أن تكون أرض النفس قد أبرزت كوامنها بالاختبار والتمحيص. وتلك الكوامن قد تكون هي الإيمان والطاعات ، وقد تكون هي الفسق والنفاق.

فإن قلت : إن كل هذه الأمور ليس لها ثقل حتى المادي منها ، كالمعادن والموتى والسكان ، لأن الثقل العرفي هو المحسوس بالحمل أو الوزن ونحو ذلك. وليس هذا منه.

قلت : يكفي الصدق العرفي للثقل ، ويظهر ذلك بتقدير الحمل أو حصول الوزن.

فإن قلت : الذنوب والظلمة والمسئولية أيضا ليس لها ثقل. مع أن نص الآية على وجود الثقل. فتكون قرينة متصلة على نفي كل هذه المعاني ، وتبقى المعاني المادية المشهورية.

ويؤيد ذلك : إن بعض الأمور المادية أيضا ليس لها وزن في حالة وجوده الأصلي في الطبيعة ، فكأن وزنه صفر.

٣٢١

قلت : إن هذا كله لا يعني التنزل عن الإدراك المعنوي لثقل تلك الأمور المشار إليها. مهما كان ظهورها العرفي ضعيفا.

سؤال : لما ذا يقول الإنسان : ما لها؟

جوابه : إن قوله : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) ، استفهام يراد به الاحتجاج أو يدل على حصول الدهشة ، كما عليه المشهور. وهم يعنون الأمور غير المتوقعة أو الرديئة وليس الحسنة.

وهذا قابل للمناقشة من وجوه :

أولا : إن الأمور الحسنة أحيانا لا تكون متوقعة ، فتثير الدهشة ، وإن لم تثر الاحتجاج.

ثانيا : احتمال أن يراد الاستفهام عن استحقاق النفس لطلبها من الله سبحانه.

ثالثا : إنه استفهام استنكاري للاستحقاق يراد به نفيه.

رابعا : أن تكون ما نافية فهي لنفي الاستحقاق ، يعني ما لها شيء.

فإن قلت : هذا لا ربط له بالزلزلة.

قلت : إن فهمنا من الأرض : الأرض العرفية ، فإن السؤال يأتي بعد الزلزلة ، أو قل : نتيجة للزلزلة.

وإن فهمنا من الأرض : الأرض المعنوية ، فإن السؤال يمكن أن يكون خلال التزلزل ، ويمكن أن يكون بعده.

إن قلت : إن ما نافية وليست استفهامية.

قلت : بل يتعين كونها استفهامية ، لأن النافية :

أولا : خلاف السياق.

ثانيا : على خلاف أصالة عدم التقدير ، لأن التقدير : ما الذي لها. أو ما الذي يكون لها. فالجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر. والمبتدأ محذوف

٣٢٢

أيضا ، فنحتاج إلى التقدير ، بخلاف كونها استفهامية ، بحيث تصلح بنفسها أن تكون مبتدأ.

فإن قلت : فهي موصولة. أي وقال الإنسان : ما هو الذي لها.

قلت : فتكون : إما مبتدأ وخبرها مقدر تقديره : ثابت أو متحقق. أو تكون صفة أي وقال الإنسان الذي لها.

وهذا على خلاف مشهور اللغويين ، إضافة إلى حذف مقول القول ، مع أن المفروض ثبوته. وكل هذه القرائن تدل على أنها ليست نافية ولا موصولة.

سؤال : من هو المتسائل في قوله : ما لها؟

جوابه : الإنسان. وينقسم إلى أقسام :

أولا : مطلق الإنسان ، أو عمومه. وهو ما فهمه المشهور.

ثانيا : الإنسان المطلق.

ثالثا : المبتلى بالزلزلة.

رابعا : المشاهد لها ، وإن لم يكن مبتلى بها.

أما الإنسان المطلق فهو المتكامل بعد أن طهرت نفسه وأخرجت أثقالها ، فهو يتساءل عن استحقاق نفسه. فيجيبه الله سبحانه بمقدار استحقاقها. كما قال سبحانه (١) : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). والله تعالى كريم لا بخل في ساحته.

وأما مطلق الإنسان فإن فهمنا من الأرض : الأرض المادية فإنه يسأل عن العلة المادية والسبب للتزلزل. أو عن العلة الغائية لها ، وأنها بأي حكمة حصلت. أو أنه يسأل عن الحكمة بصفته معترضا على ذلك. والعياذ بالله.

وإذا فهمنا من الأرض : الأرض المعنوية ، وهي في الفرد الاعتيادي دائمة

__________________

(١) غافر / ٦٠.

٣٢٣

التزلزل وكثيرة الشكوك والفتن. كما قال في الدعاء (١) : فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرة لصفو المنائح والمنن. فهو يتساءل عن سبب ذلك. إذا كان هو المبتلى بها.

أما إذا كان المتسائل هو المشاهد لها ، فله عدة أمثلة :

منها : إن الإنسان المطلق يتساءل عن سبب كفر الكافر أسفا عليه. كما ورد أن الحسين عليه‌السلام ، كان يبكي لحال أعدائه (٢). ومنها : أن مطلق الإنسان يتساءل عن حال صاحبه (الإنسان المطلق) باعتبار أنه متخلف ورجعي ومتقوقع ولا يريد إلّا مصلحة نفسه.

ومنها : قول الملائكة : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(٣). فهم معترضون على الكفار والفجرة بوصولهم إلى هذا الدرك ، مع أن الله أهّلهم بالخلقة للوجود في أعلى عليين. كما قال تعالى (٤) : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ).

وقد يكون الإنسان هو المتسائل ، بدل الملائكة.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها).

حدّث يتعدى بالباء إلى المفعول الثاني لا بنفسه. والأخبار هنا بمنزلة المفعول الثاني ، وأما الأول فمحذوف ، فاحتاجت الأخبار إلى الباء.

فهي لا تحدث الأخبار نفسها ، وإنما تحدث بأخبارها ، فتكون هنا أكثر من أطروحة :

الأولى : إن «أخبارها» منصوب بنزع الخافض. على اعتبار أن مقتضى الأصل وجوده.

__________________

(١) انظر : مفاتيح الجنان : ص ١٢٣ ، مناجاة المطيعين لله.

(٢) انظر الخصائص الحسينية للتستري ص ٧٨. هذا نقلا عن : أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام للمؤلف طبع : مؤسسة المعارف ـ بيروت ص : ١٣٥.

(٣) المدثر / ٤٢.

(٤) فاطر / ٣٧.

٣٢٤

الثانية : إن «تحدث» وإن كان ينصب مفعولا واحدا حقيقة ، إلّا أنه جعل مجازا ناصبا لمفعولين. ولا ضير في ذلك.

وارتباط هذه الآية بالآية السابقة عليها صريح. فيكون المراد رد الجواب على السؤال السابق : ما لها؟

سؤال : ما المراد بالإخبار؟

جوابه : إن في ذلك عدة أطروحات :

الأولى : إنها تحدثه عن سبب حصول ما يسأل عنه : وذلك أنه حصل بسبب الوحي «بأن ربك أوحى لها» أي بأن تتزلزل.

الثانية : إن الأرض تحدث الإخبار الحاصل فيها من الحوادث الموجودة في الحال والماضي.

الثالثة : إنها تخبره أنه قد حصل لها الوحي إجمالا ، بغض النظر عن مضمونه.

وأسلوب الإخبار منقسم إلى تقسيمين :

التقسيم الأول : إنها تتحدث بلسان المقال والنطق أو إنها تتحدث بلسان الحال. وهذا احتمال ينفع المستوى الثقافي المادي الذي يستبعد حصول النطق والكلام. فنقول له : إنها تنطق بلسان الحال ، أي تعرف من علاماتها وأوصافها.

التقسيم الثاني : إن الحديث أو النطق إما أن يكون بشكل موضوعي ، أي إنه مجرد شرح للحال : إنه حصل كذا وكذا!. وإما أن يكون هذا الشرح مقترنا بلسان الإقرار والمذلة أمام الله سبحانه ، وليس مجرد كونه شرحا موضوعيا.

الوجوه الإعرابية :

قال العكبري (١) : عامل في إذا جوابها وهو قوله تعالى : (تحدّث ، أو يصدر).

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٣٢٥

أقول : وتعليقنا على ذلك بأمور :

أولا : إن المشهور على أن إذا ظرف يحتاج إلى متعلق أو عامل. كما أشار العكبري (١). إلّا أن ذلك لا يخلو من إشكال ، لأن «إذا» حرف والحرف لا محل له من الإعراب ، فلا يحتاج إلى متعلق. وإذا كانت اسما لم تحتج إلى متعلق أيضا ، بل تكون مبتدأ والجملة الشرطية خبرها. أو نقول : إنها لا محل لها من الإعراب لأن لها الصدارة في الكلام ، وكل ما لا محل له لا يحتاج إلى متعلق وإن كان اسما.

ثانيا : إنه بعد التنزل عن الأمر الأول ، وقلنا إن إذا اسم أو ظرف. فإن المتعلق ـ حسب فهمي ـ ينبغي أن يكون أسبق رتبة من الظرف ، وإذا تعلقت بتحدث أو يصدر ، كما قال العكبري ، تكون متعلقة بمتأخر لفظا ورتبة. لأن كلّا منهما جواب شرط. وجواب الشرط متأخر رتبة عن أداة الشرط لا محالة. وهو متأخر لفظا أيضا.

بل إن هذين الفعلين المحتملين ، متأخران عن «إذا» رتبتين لا رتبة واحدة ، لوقوعهما في جواب الشرط ، وهو متأخر عن فعله المتأخر عن الأداة. لكن إذا دار الأمر بين الجملتين على أنها جزاء الشرط تقدمت المتقدمة ، لأنها أسبق رتبة من الأخرى.

فإن قلت : إن هنا إشكالا آخر ، على تعلق «إذا» بهذين الفعلين ، لأنهما عملا في عدة معمولات كالمفعول به والحال. كما هو واضح لمن يقرأ الآية الكريمة ، ولا يمكن للفعل الواحد أن تتعلق به عدة معمولات. إذن لا يمكن أن تتعلق إذا بأي منهما.

قلت : بل يمكن القول بالجواز. وأن الفعل قد يعمل عدة أمور دفعة واحدة. ولا مانع من ذلك نحويا ، نعم ، لو أخذنا ذلك من جانب فلسفي امتنع ، لقاعدة : أن الواحد لا يصدر إلّا من الواحد.

سؤال : ما هو جواب الشرط لإذا؟

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٢٦

جوابه : هو قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها).

فإن قلت : إنها لا يمكن فيها ذلك ، لأن جواب الشرط مصدّر بالفاء. في حين أنها فاقدة له. وكان ينبغي أن يقول : فيومئذ تحدث إخبارها ، لو كان جوابا.

قلت : أولا : لعلها موجودة في بعض القراءات. ولا يخلّ وجودها بالسياق القرآني وجماليته.

ثانيا : إن الوحي نزل بدون الفاء في جواب الشرط ، فيكون حجة على العدم. لأن الأخذ بالنطق القرآني أولى من الأخذ بلسان العرب.

ثالثا : إن هناك من الموارد ما لا يقع الفاء في جواب الشرط ، ومنه الفعل المضارع الواقع في الآية ، وهو «تحدث».

رابعا : مع التنزل عن ذلك وفرض إصرار النحويين على وجود الفاء. نقول إنها حذفت من أجل مصلحة المورد. وملخصها : إنها لا يمكن أن تدخل على الكلمات كلها : يومئذ تحدث أخبارها.

أما الأخيرة فواضح. وأما يومئذ فلأنها فضلة وليست جملة ، وأما تحدث فلأن دخول الفاء فيها مضر بصحة السياق القرآني كما هو معلوم. كما أن تقديم تحدث قبيح في السياق أيضا. فيتعين حذف الفاء.

خامسا : أن نقول : إن جواب الشرط غير هذه الآية المذكورة ، بل هو الآية الأسبق منها وهي قوله تعالى : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها).

فإن قلت : إنها أيضا محذوفة الفاء ، في جواب الشرط.

قلت : يأتي هنا بعض ما قلنا ، هناك ، مضافا إلى القول : إن الواو هنا زائدة أو إنها بمعنى الفاء.

ثم أضاف العكبري قوله (١) : يومئذ بدل من إذا ، وقيل التقدير اذكر إذا زلزلت. فعلى هذا يجوز أن يكون تحدث عاملا في يومئذ ، وأن يكون بدلا.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٣٢٧

أقول : إذا كانت إذا ظرفا متعلقا بمحذوف وهو اذكر وغير متعلقة بتحدث. صح أن يتعلق يومئذ بتحدث.

أما إذا كانت متعلقة بتحدث ، فلا يصح أن يكون يومئذ متعلقا بها. لأن الفعل الواحد لا ينصب ظرفين في رتبة واحدة ، حسب وجهة نظر العكبري.

وجواب ذلك : من وجهتين :

الوجهة الأولى : النقاش في الصغرى وذلك : أن العكبري أصلا ، اعتبر يومئذ بدلا من إذا. فيكون الظرف المتعلق واحدا ، وهو إذا.

الوجهة الثانية : النقاش في الكبرى ، وذلك : أننا قلنا فيما سبق إن مقتضى سياقات كلام النحويين أن الفعل يمكن أن يكون عاملا لعدة معمولات دفعة واحدة ، كرفعه للفاعل ونصبه للمفعول وكونه متعلقا للجار والمجرور ونحو ذلك.

نعم ، هو لا يعمل عملين من جنس واحد ، وفي رتبة واحدة ، كما لو رفع فاعلين أو نصب مفعولين أو تعدى إلى جارّين ومجرورين.

وإذا تمّ ذلك ، لم يكن يومئذ متعلقا بتحدث ، لأن كلّا من إذا ويومئذ ظرف بنوعية واحدة ورتبة واحدة. بعد التنزل عن كونها بدلا ، كما في الوجه الأول.

وقول العكبري : يومئذ بدل من إذا. يعني أن مرجعهما في معنى واحد ومحصل واحد. وكأنهما بمنزلة ظرف واحد. لأن يومئذ يحتوي على تنوين التعويض ومرجعه إلى تكرار السابق يعني : يوم إذ زلزلت الأرض زلزالها. رجع إذ وإذا إلى معنى واحد. وهو مطلق وجيه.

ثم قال العكبري (١) : (بِأَنَّ رَبَّكَ) ، الباء تتعلق بتحدث ، أي تحدث

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٢٨

الأرض بما أوحى. وقيل هي زائدة وأن بدل من أخبارها ، ولها بمعنى إليها. وقيل : أوحى يتعدى باللام تارة وبإلى أخرى.

أقول : فيكون المعنى تحدث الأرض بما أوحى الله تعالى لها من الأمور. فينتج من ذلك : أنه يتعلق بتحدث سنخين من المتعلق : الظرف والجار والمجرور. وهذا لا بأس به سواء كان الباء في «بأن» زائدة أو سببية.

وقوله : وقيل هي زائدة يعني كون الباء بمنزلة العدم. بمعنى أنها تحدث أن ربك أوحى لها.

وقوله : وأن بدل من أخبارها. يعني : أن المصدر المؤول من أن ومدخولها هو البدل.

فإن قلت : إن أوحى تتعدى بإلى لا باللام كقوله تعالى (١) : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). وقوله (٢) : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى). وغير ذلك. في حين أنها متعدية هنا باللام ، في لها.

قلت : ذلك من وجوه :

أولا : ما ذكره العكبري (٣) ، من أن : لها بمعنى إليها ، كما سبق.

ثانيا : ما نقله العكبري بقوله (٤) : وقيل أوحى يتعدى باللام تارة وبإلى أخرى.

ثالثا : إن أوحى تتعدى بإلى أو ما يقوم مقامها حقيقة أو مجازا. بناء على ما اخترناه من إمكان الاستعمال المجازي في الحروف.

رابعا : إن معنى اللام غير معنى إلى. فمعنى أوحى إليها أنها هي السامعة للوحي. وأما أوحى لها فبمعنى : أوحى لأجل مصلحتها. ولكن

__________________

(١) الإسراء / ٣٩.

(٢) النجم / ١٠.

(٣) ج ٢ ، ص ١٥٧.

(٤) المصدر والصفحة.

٣٢٩

إلى من يكون الوحي؟ فهذا مجمل في الآية. ولعله إلى بعض الخلق العالي ، كجبرئيل أو غيره. وهذا في نفسه معنى محتمل.

وقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ). الباء يفيد التكلم. أي إن الأرض تحدث بوجود الوحي أو بسبب الوحي. أو أنها تزلزلت بسبب الوحي. إما امتثالا أو خشوعا. فيكون نحو اعتذار عن التزلزل. أو أنها يوحى لها وتحدث أخبارها بعد أن يتم التزلزل. وهكذا.

قال الطباطبائي في الميزان (١) : وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي. أهو بإعطاء الحياة والشعور للأرض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها.

أقول : قال الفلاسفة : إن الجماد ليس ميتا. بهذا المعنى. بل يمكن سماعه وجوابه.

وقالوا أيضا : إن الصفات من العلم والقدرة والحياة ، هي من لوازم الوجود. فهي تتحقق بتحققه. وكلما كان الوجود أعلى ، وأهم وأشرف ، كانت هذه الصفات أوضح. وكلما كان أدنى كانت هذه الصفات أقل وأضعف ، حتى لا يكاد أن يكون مدركا لنا ، كما في الجمادات. إذن ، فالأرض بصفتها موجودة ، يمكن أن تسمع وأن تتحدث.

وأضاف الطباطبائي (٢) : أو يخلق صوت عندها ، وعدّ ذلك تكليما منها.

أقول : هذا بعد التنزل عن الرأي الأول. واعتبار الأرض ميتة ، ولكن صوتا ما يخلقه الله في أرجائها. ونوع هذا الصوت كالصوت الذي أوجده الله سبحانه في الشجرة لموسى عليه‌السلام. وهو قوله (٣) : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

وقول الطباطبائي : وعد ذلك تكليما منها. يعني : أنها تحدث مجازا لا حقيقة.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٣.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) القصص / ٣٠.

٣٣٠

ويرد عليه : أنه من يسمع ذلك الصوت؟ فإنه حسب سلسلة تفكير المشهور : أن ذلك يحصل في أشراط الساعة ، وأن الأرض تخرج أثقالها وكل الناس ميتون يومئذ ، فمن يسمع؟ والصوت بدون سامع لغو!!

فإن قلت : الملائكة هي التي تسمع؟

قلت : إن المشهور يرى أنه بعد النفخة الأولى في الصور ، فإن جميع الخلق من ملائكة وبشر وجن يموتون (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(١). فهل الله هو المحدّث ، وهو يعلم بذلك بالعلم الأزلي. ولا حاجة له إلى هذا الحديث؟

إذا سرنا بهذا السير ، فبالإمكان القول ، إنه يحصل بعد النفخة الثانية نوع من الحياة. فحينئذ تخرج الأرض أثقالها وتحدث أخبارها. وهم الذين يسمعون.

وأضاف الطباطبائي في الميزان إلى عبارته السابقة (٢) : أو دلالتها بلسان الحال. بما وقع فيها من الأعمال. إلخ.

وحسب فهمي : أن السيد «قدّس سره» : يدعم الأطروحة الأولى بروايات وردت في البحث الروائي وإن لم يصرح بذلك. قال (٣) : ولا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت ، ولا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة ، انتهى.

إن الآيات القرآنية تنص على أن كثيرا من ظواهر الطبيعة ، قابلة للإدراك كقوله تعالى (٤) : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). وقوله سبحانه (٥) : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

__________________

(١) الرحمن / ٢٧.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٣.

(٣) المصدر والصفحة.

(٤) النور / ٤١.

(٥) الإسراء / ٤٤.

٣٣١

وقوله جل جلاله (١) : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها). وقوله تعالى (٢) : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ). إلى آخر الآية. وهذا كله يدعم الفكرة الفلسفية الآنفة الذكر.

وأما عدم تمامية الحجة بهذا النوع من الشهادة ، كما أشار الطباطبائي ، فهو غير صحيح ، لأن المفروض أن الدلالة كاملة بحيث يحصل منها العلم أو الاطمئنان ، فلما ذا لا تكون حجة؟

فإن قلت : إن الوحي مختص بالنبوة ، والأرض ليست كذلك.

قلت : ليس الوحي منحصرا بالأنبياء يقينا. بدليل قوله تعالى (٣) : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ... وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى)(٤) ... وفي الروايات المستفيضة : أن الوحي ينزل على أناس ليسوا رسلا. كأمير المؤمنين والزهراء والحسنين والمهدي عليهم‌السلام (٥). وهذا يكفي.

بل إن نزوله حاصل حتى على الحيوانات ، كما صرح به القرآن الكريم. إذن فلا غرابة أن تكون الأرض موحى لها.

ويدعمه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦) : أما بعد فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قسم لها.

فإن قلت : الأوامر هنا بمعنى الحوادث.

قلنا : كلا ، بل الأمر أكثر من ذلك. فكأنه يشبه قطرات المطر في الكثرة

__________________

(١) الأحزاب / ٧٢.

(٢) النحل / ٦٨.

(٣) النحل / ٦٨.

(٤) القصص / ٧.

(٥) انظر موسوعة الإمام المهدي (ع) للمؤلف : تاريخ الغيبة الكبرى ص ٥٠٥ وتاريخ ما بعد الظهور ص ٢٧٣.

(٦) نهج البلاغة خطبة / ٢٣. ج ١ ص ٦٨ ، شرح محمد عبده.

٣٣٢

والانتشار. فكل قطرة هي وحي يوحى إلى الطبيعة ، وإلى المؤثرات والأسباب القهرية فيها.

قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ... يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ).

سؤال : عن إعراب يومئذ الثانية؟

جوابه : قال العكبري (١) : ويومئذ الثانية بدل ، وعلى تقدير اذكر. أو ظرف ليصدر. أقول الأولى كونه ظرفا ليصدر ، لموافقته للمعنى ومشابهته في الظرفية ليومئذ الأولى.

سؤال : لما ذا كرر يومئذ؟

جوابه : إنه بعد التجاوز عن الجانب الاختياري ، من حيث إن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء. يمكن تقديم عدة وجوه للفرق بينهما :

الوجه الأول : إن الأول خاص بالإنسان المطلق ، والثاني عام لمطلق الإنسان.

الوجه الثاني : إن الأول خاص بالأرض ، والثاني عام لمن عليها.

الوجه الثالث : إن الأول خاص بالحوادث السابقة على يوم القيامة ، والثاني عام لحوادث يوم القيامة.

ولا تنافي بين هذه الوجوه. ولكل منها قرائنه الخاصة به. وتجتمع على أن مناسبة الأولى أخص من مناسبة الثانية.

سؤال : ما هو المحذوف في يومئذ. لأنهم قالوا : إن التنوين فيه دالّ على محذوف ، ومعوّض عنه فما هو؟

جوابه : من وجهين :

الوجه الأول : إن المقدر في كل منهما غير المقدر في الأخرى. وكل منهما يؤخذ المقدر مما سبقه في الكلام.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٣٣٣

الوجه الثاني : إن المقدر فيهما واحد ، وإنما كرر إيضاحا. ووحدة السياق تدعم هذا المعنى.

ولكن ينبغي أن نلاحظ أنه ما هو العلة وما هو المعلول من هذين اليومين المذكورين في يومئذ؟ طبعا الأول منهما يكون بمنزلة العلة أو الشرط والثاني يكون بمنزلة المعلول أو المشروط. أو يكونان بمنزلة المعلولين لعلة واحدة ، وهو الزلزال. فيحصل منه أمران مقترنان : أن تحدث الأرض أخبارها وأن يصدر الناس أشتاتا.

سؤال : عن معنى قوله : أشتاتا.

جوابه : قال الراغب (١) : الشت تفريق الشعب. يقال : شتّ جمعهم شتا وشتاتا ، وجاءوا أشتاتا. أي متفرقي النظام. قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً). وقال : (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي مختلفة الأنواع. وقال : (قُلُوبُهُمْ شَتَّى). أي هم بخلاف من وصفهم بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).

وقال العكبري (٢) : أشتاتا حال. والواحد منه شتّ ، إلخ.

أقول : ومفرده مشتّ. واسم فاعله شات. ومشتّ رباعي (أو مزيد فيه) من أشت أي حمل غيره على التفرق. فيكون معناه : مفرّق وليس متفرق. وأما شاتّ فهو من الثلاثي. من شتّ إذا تفرق الجمع.

وأشتات جمع تكسير لمشتّ أو شاتّ أو شتّ. ولكن شاتّ ومشتّ يجمع جمعا سالما أيضا : شاتّين ومشتّين.

ويمكن طرح أطروحة أخرى ، وهي احتمال كون : أشتاتا ، مفردا وليس جمعا. وحسب فهمي أن ذلك فيه عدة أطروحات :

أولا : إنه مفرد بمنزلة الصفة المشبهة.

__________________

(١) المفردات مادة : «شت».

(٢) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٣٣٤

ثانيا : إنه بمنزلة اسم الفعل يعطي معنى التفرق.

ثالثا : إنه مفرد لا جمع له.

رابعا : إنه جمع لا مفرد له.

خامسا : إنه مفرد يراد به الجمع ، أو هو مفرد لفظا جمع معنى ، مثل ناس ونساء.

ومن العجيب أنهم قالوا : إن له مفردا وهو جمع. لكننا لو لاحظنا الجمع فيها فينبغي ملاحظة عدة جماعات مشتتة. فيكون كل واحد منها جزءا للأشتات. وليس من الصحيح أن نلاحظ جماعة واحدة ، بحيث يكون كل فرد منها مفردا لها. بل يكون جزءا من الشتات الواحد.

وأما إذا لاحظنا الأشتات لجماعة واحدة ، فليس كل واحد منها مفردا بل جزء. فيكون معنى شت أنه متفرق عن صاحبه. فيكون معنى : شتّ ، أي ابتعد. ومعنى مشتّ أي شخص مبتعد.

فهذه نقطة قوة من هذه الجهة ، وهو أننا حصلنا على مفرد أشتات.

ولكن نقطة ضعفه : أن الأشتات عندئذ لا يكون بمعنى متفرقين ، كما فسره أهل اللغة ، بل يكون بمعنى متباعدين. وإن كان المحصل العرفي فيهما واحد.

هذا ، وينبغي أن نلاحظ أن هذا الوصف لا يوصف به الذوات العاقلة فقط. بل كل متفرق ، حتى لو كان حيوانا أو نباتا. قال تعالى (١) : (مِنْ نَباتٍ شَتَّى).

وأنه أيضا ، لم يلحظ في أشتات : سبق الاجتماع. أي أنهم كانوا مجموعين فتفرقوا وأصبحوا أشتاتا. بل قد يكونون متفرقين بالخلقة ، كما في الجبال المتوزعة على سطح الأرض. فإنها أيضا أشتات. وكل واحد من هذين النحوين حصة منه.

__________________

(١) طه / ٥٢.

٣٣٥

فإن قلت : ولكن هذه الآية تعطي (صورة متحركة) بأنهم كانوا مجموعين ثم تفرقوا.

قلت : هذا صحيح ، ولكنه لم ينشأ من قوله تعالى : أشتاتا. وإنما من قوله : يصدر ، يعني يرجعون إلى الحياة. كقوله تعالى (١) : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ).

فإن قلت : إن أشتاتا حال من يصدر. فيكون المعنى : أنهم يصدرون متفرقين من حين صدورهم ، لا أنهم بعد صدورهم تفرقوا وأصبحوا أشتاتا.

قلت : نعم ، هو مستفاد من الآية إلى حد ما. ولكن يمكن القول : إنهم يصدرون فيتفرقون. وأما إذا فهمنا أنهم متفرقون من حين صدورهم ، فينبغي أن نفهم من الأشتات تفرق الاتجاه لا تفرق الأفراد. بمعنى أنهم مجموعون في لحظة قيامهم. ولكن كل واحد منهم يتجه إلى اتجاه مختلف عن اتجاه الآخر. قال تعالى (٢) : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) ... أي اتجاههم متفرق. وقال تعالى (٣) : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). أي متفرق. وهي أوضح من سابقتها فيما نقوله.

سؤال : يبدو أن هناك تناقضا ما بين آيتين من القرآن الكريم. إحداهما قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً). وثانيهما : قوله تعالى (٤) : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً). حيث دلت إحداهما على التفرق والأخرى على الجمع. فأيّ منهما نصدق؟

جوابه : إن هذا له أكثر من مبرر :

الأول : ما التفت إليه في الميزان حين قال (٥) : والمراد بصدور الناس

__________________

(١) الأنبياء / ٩٦.

(٢) الحشر / ١٤.

(٣) الليل / ٤.

(٤) الكهف / ٤٧.

(٥) ج ٢٠ ، ص ٣٤٣.

٣٣٦

متفرقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة والنار. أقول : فيكون الجمع في الموقف والتفرق بعده.

ويرد عليه : أن أشتاتا حال من يصدر ، فيكون المعنى أنهم يصدرون حال كونهم أشتاتا. في حين أن مقتضى هذا الوجه هو أنهم يتفرقون بعد ذلك في منازلهم من الجنة والنار.

مضافا إلى نص الآية أنه : يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم وذلك في يوم القيامة. فالصدور سابق على يوم القيامة ، فهذه الصفة ، أعني أشتاتا ، سابق عليه أيضا.

وأما ذهابهم إلى منازلهم ، فيكون على معنى أنهم يرون نتائج أعمالهم ، من الثواب والعقاب. وإفادة ذلك من الآية يحتاج إلى تقدير ، وهو خلاف الأصل.

الثاني : ما في الميزان أيضا حين قال (١) : وقيل : المراد خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه وبياضها ، وبالفزع والأمن وغير ذلك ، لاعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب.

ويرد عليه : أن الأشتات والتفرق صفة للصدور في الآية ، وليس صفة للأوصاف والحالات. ويكون فهم ذلك متوقفا على التقدير ، وهو خلاف الأصل.

الثالث : إن أشتاتا راجع إلى ما قبل الحشر عند الخروج أو الصدور من قبورهم باعتبار تفرق قبورهم. أو لأنهم كانوا في الدنيا مشتتين. فيكون الحاصل : أنهم يجمعون بالرغم من تفرقهم.

وجوابه : أن الظاهر عودة الأشتات إلى الصدور. يعني بعد الصدور ، لا قبله.

الرابع : إنهم أشتات ما بين الصدور والحشر. فإن الذي يحصل في يوم

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٣٧

القيامة ثلاثة أمور : الأول : رجوع الموتى إلى الحياة. الثاني : الذهاب إلى عرصة المحشر. الثالث : الحساب في عرصة المحشر. وأشتاتا يعود إلى الأمر الثاني. وفي عرصة المحشر يجمعون بعد التفرق.

الخامس : أن نقول بالحشر التدريجي ، وفكرته : أن كل جماعة أو كل جيل ، أو كل دين يحشر لوحده ويحاسب. فيراد بالتفرق والأشتات أي في أزمنة متعددة.

ويرد عليه : أن هنا وضوحا في أذهان المتشرعة بحصول الحشر الدفعي. وأن الحشر التدريجي باطل. وكذلك هو ظاهر قوله تعالى (١) : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

ويمكن أن يجاب على ذلك بما ورد في عدد من الروايات (٢) : أن قبل آدمكم هذا ألف آدم وألف عالم. فهل يحاسب هؤلاء كلهم دفعة واحدة؟

حسب فهمي : أن كل نسل يحاسب على حدة. والحساب إن لاحظناه دفعيا فهو صادق لكل نسل وحده. وإن لاحظناه تدريجيا ، فباعتبار تعدد النسل ، كما نصت عليه الروايات ، المشار إليها.

فإن قلت : فما المقصود إذن ، من الناس في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً)؟.

قلت : إن المقصود بهم أحد أمرين : إما أولاد آدم ، أي النسل الحالي على وجه الأرض. وهذا هو الأقرب إلى الظهور الأولي للقرآن الكريم ، فيثبت الحشر الدفعي لهذا النسل.

وإما أن يراد بهم الذوات العاقلة المدركة القابلة للثواب والعقاب. وهذا المعنى شامل لكل ذلك النسل المشار إليه في الروايات. إلّا أن هذا يعني أن لكل نسل منهم حشرا دفعيا. وهو معنى وجيه ، وأما أن نقول إن ظاهر الناس اجتماع كل تلك النسول دفعة واحدة. فهذا مما لا يمكن المصير إليه.

__________________

(١) الكهف / ٤٧.

(٢) الخصال ، ص ٦٥٢ ، والتوحيد للصدوق ، ص ٢٧٧.

٣٣٨

وكذلك في قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

سؤال عن قوله تعالى : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ).

جوابه : قال العكبري (١) : ليروا يتعلق بيصدر. ويقرأ بتسمية الفاعل وبترك التسمية وهو من رؤية العين. أي جزاء أعمالهم.

أقول : إن قلت : ليروا ليس جارا ومجرورا ليتعلق بشيء. قلت : إنهم يعتبرونها بتقدير أن المصدرية. فتكون لام الجر داخلة على المصدر المسبوك منها مع مدخولها. فيحتاج إلى متعلق.

ويكون المعنى بناء على القراءة المشهورة ، مبنيا للمفعول ، أن الفاعل المحذوف هو الله سبحانه أو الملائكة ، ونحو ذلك ، يعني : يريهم أعمالهم.

وإن قرأناه على القراءة الأخرى مبنيا للفاعل ، كان من رؤية العين وقد أخذ مفعولا واحدا. وأما إذا قرأناه مبنيا للمفعول. فهو بمعنى تعديه إلى مفعولين ، باعتبار تحوله من الثلاثي إلى الرباعي. فالثلاثي : رأى يرى ، والرباعي : أري ، يرى. إذا حمل على الرؤية ، وهذا قليل الاستعمال في العربية. ومثاله : خاط زيد الثوب. وأخاط زيد عمرا الثوب أي حمله على الخياطة. فيتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما مبتدأ وخبر. وكذلك الحال في يروا. بأن يكون نائب الفاعل بمنزلة المفعول الأول. والمنصوب هو الثاني.

قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

قال مشهور المفسرين : إن المراد أن الإنسان يرى عمله يوم القيامة.

ويرد على ذلك عدة إشكالات.

الإشكال الأول : ما أشرنا إليه فيما سبق من أن المرئي حقيقة إن كان هو العمل ، فلا وجود له يوم القيامة ليكون قابلا للرؤية.

ويجيب المشهور على ذلك بأحد وجهين :

__________________

(١) ج ١ ، ص ١٥٧.

٣٣٩

الوجه الأول : أنه يرى جزاء عمله من ثواب وعقاب غير أن ذلك يستلزم التقدير وهو خلاف الأصل.

الوجه الثاني : إنهم قالوا بتجسّد الأعمال. فهو يرى عمله على شكل جسم. وهو أيضا يحتاج إلى نحو من التقدير ، لأنه ليس رؤية للعمل نفسه بل للجسم النائب عنه أو البديل له. مضافا إلى ما سبق أن ما ناقشنا به هذا المسلك عموما.

الإشكال الثاني : إنه هل يوجد عمل بمقدار ذرة؟

وهو إشكال على ظاهر الآية ، مضافا إلى كونه موافقا لفهم المشهور. وجوابه : أنه ينبغي أن يقال أحد أمور :

الأمر الأول : إن جزء العمل عمل. فالصلاة عمل وجزؤها الركوع وجزؤه الذكر وجزؤه الحرف. وكلها أعمال يجزى عليها. فإذا لوحظ العمل كمجموع ، فإنه لا يكون صغيرا ، وأما إذا لاحظناه لحاظا تحليليا فهو أعمال كثيرة وصغيرة. ويمكن أن تكون الآية قد لاحظت ذلك.

الأمر الثاني : إننا لو تنزلنا عن الأمر الأول ، وقلنا بأن هناك الأعمال الجسدية واضحة وكبيرة. فإن الأعمال ليست فقط تلك ، بل هناك الأعمال الباطنية : النفسية والقلبية والعقلية. وهي ليست دائما بذاك الوضوح. بل قد توجد في غاية الصغر والضآلة. كخطور في الذهن في لحظة. فهو بمقدار ذرة. ويشبهه ما ورد : لو تكاشفتم لما تدافنتم. أي تكاشفتم بما في الخواطر والنفوس.

الإشكال الثالث : إن المراد بالرؤية في يوم القيامة ليس هو نفس الأعمال ، وإنما التقييمات الأخلاقية لها ، ولا أهمية لأي عمل بدون تقييم. فهو العمدة في يوم القيامة. ويمكن أن تكون الآية واضحة من هذه الناحية. ومن الواضح أن بعض التقييمات كبير وبعضها قليل مثل قيد شعرة أو مثقال ذرة.

الإشكال الرابع : إن الأعمال إنما هي أعراض وليست جواهر. وما يمكن

٣٤٠