منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

إن قلت : ولكن الله تعالى : وصف نفسه بأنه علّام الغيوب (١). فكيف صح وصف المخلوق بما هو أكثر تأكيدا من ذلك؟

قلت : إن علمه تعالى لا يقاس بالخلق ، ولا يحتاج إلى تأكيد. ولذا اكتفى بصفة «العلام». بينما يحتاج المخلوق إلى زيادة التأكيد ، لكي يعرف بأنه وصل إلى غاية العلم المتصور له.

وعلى هذا ، فإن التأنيث في الهمزة واللمزة ، يراد بها أنه وصل إلى غاية ما هو متصور من هاتين الصفتين.

الوجه الرابع : إنه تعالى لو ذكّر اللفظين لكان على خلاف السياق القرآني ، والنسق القرآني.

سؤال : ما هو وجه الحاجة إلى الجمع بين الهمزة واللمزة؟ ولما ذا لم يكتف بواحد منهما؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إنهما ليسا بمعنى واحد ، بل لكل منهما معناه المستقل ، وكل منهما مراد في الآية ، ولا تكرار فيها كما سيأتي في تفسيرهما.

الوجه الثاني : إنه إن تنزلنا عن الوجه الأول ، فستكونان بمعنى واحد ، فيكون المراد باللمزة تشديد النكير على الهمزة واللمزة ، واستقباحهما. فإنه حتى لو فعل ذلك مرة واحدة ، فهو عمل في غاية الشناعة ، فضلا عما إذا كان فعله مكررا. وهذا أقرب إلى الفهم العرفي للقرآن.

الوجه الثالث : أن نقول إن اللمزة ، تابع للهمزة.

والإتباع مستعمل في اللغات غير العربية بكثرة ، ولكنه في العربية نادر. وهو أن يتكلم المتكلم بكلمة ثانية مشابهة لفظا للأولى ، وليس لها معنى إلّا معنى الكلمة الأولى. وذلك بقصد الاستهزاء أو الاستظراف أو التهديد أو التأكيد. أو غير ذلك. وهي كلمة يستفاد معناها من مدخولها.

__________________

(١) المائدة / آية ١٠٩ و ١١٦ ...

٢٠١

واللمزة في الآية الكريمة يمكن أن تكون صغرى لهذه الكبرى ، والاحتمال مبطل للاستدلال. ولا تكون لغوا بل ذكرت بقصد الاستهزاء أو التأكيد أو نحو ذلك.

إن قلت : اللمزة لا تحتمل أن تكون للاتباع لأن لازمه أنها لا معنى لها. لأن الكلمة التابعة لا معنى لها. ولا يمكن أن تكون في القرآن الكريم كلمة لا معنى لها.

قلت : جوابه من أكثر من وجه :

أولا : الطعن في الكبرى ، وهي ضرورة خلو القرآن الكريم ، من أية كلمة لا معنى لها. بل يمكن القول بإمكان ذلك. وذلك لقوله تعالى (١) : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). وهو يشمل حتى الكلمات الخالية من المعنى.

ثانيا : إنها وإن كانت لا معنى لها ، إلّا أنها صحيحة لغة وفصيحة في الاستعمال ، فجاز وجودها في القرآن. لوضوح أن كل إتباع فهو لا معنى له. فليكن هذا منه. وهذا لا يعني نفي المعنى إطلاقا لأننا قلنا إنه يعرف معناه من معنى تابعه ، وهو الكلمة السابقة عليه. إذن ، فمحصل المعنى موجود دائما.

ثالثا : أن نذكر بنحو الأطروحة ، فكرة الجمع بين كونه ذا معنى وكونه اتباعا. إذ قد تكون الكلمة ذات معنى في نفسها بغض النظر عن الإتباع ، وقد وقعت اتباعا. فتفيد كلا الأمرين. إذ لا يتعين في الاتباع سلب المعنى مطلقا ، بل سلبه من حيث كونه اتباعا. وهو لا ينافي وجود معنى آخر لنفس اللفظة في اللغة.

سؤال : عن معناهما وعن الفرق بينهما.

جوابه : إننا ننفي ـ أولا ـ الأطروحة التي تقول بترادفهما. بل لهما معنيان مختلفان وهما من الألفاظ التي يقال فيها : إنهما إذا اجتمعا افترقا

__________________

(١) الأنعام / ٣٨.

٢٠٢

وإذا افترقا اجتمعا. كالفقير والمسكين. يعني إذا اجتمعا في اللفظ افترقا في المعنى ، وإذا افترقا في اللفظ اجتمعا في المعنى ، أي كان من الممكن المراد منهما شيئا واحدا.

وهذه القاعدة ارتكازية ظهورية ، لا يمكن التنازل عنها عرفا. وكل من فسرها بالترادف ، فقد فسرها بخلاف الظاهر.

وأما تفاصيل معنى هاتين الكلمتين أعني : الهمزة واللمزة. فكما يلي :

قال الراغب في المفردات (١) الهمز كالعصر ، يقال : همزت الشيء في كفي ، ومنه الهمزة في الحرف وهمز الإنسان اغتيابه. قال تعالى : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ). يقال : رجل هامز وهمّاز وهمزة. قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). وقال الشاعر : وإن اغتيب فأنت الهامز اللّمزة. وقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ).

أقول : فهم الراغب من الهماز : المغتاب. ونحن لو قارنا بين الصيغ الثلاث : هماز ، هامز ، همزة. لوجدنا أن أشدها : همزة. لأنه يكون كثير الهمز ومبتلى به الناس. وقوله تعالى : (هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) ، لا يدل على الغيبة فقط ، لأن الشياطين لا يغتابون الناس. بل المراد مطلق الأذى.

وقال الراغب أيضا في المفردات (٢) : اللمز الاغتياب وتتبع المعاب. (أي المعايب) يقال : لمزه يلمزة ويلمزه. قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ).

أقول : وقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، لها تفسيران :

الأول : ما ذكره الراغب (٣) : أي لا تلمزوا الناس فيلمزونكم ، فتكونوا في حكم من لمز نفسه.

__________________

(١) مادة (همز).

(٢) مادة (لمز).

(٣) المصدر.

٢٠٣

الثاني : لا يلمز بعضكم بعضا. والمراد جميع المجتمع ، والضمير للجمع ، في الموضعين : ولا تلمزوا أنفسكم ، وهو القرينة المتصلة على كونه كذلك. وهذا الوجه أكثر وضوحا مما قاله الراغب.

وأضاف الراغب : ورجل لمّاز ولمزة كثير اللمز. قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). أقول : إننا بعد أن اطلعنا على المعاني اللغوية لكل منهما ، يظهر أن كليهما بمعنى الاغتياب ، أو قل : مطلق الأذية. فيكونان كالمترادفين ، وربما يرجح أن اللمزة اتباع ، ولا يراد بها معنى مستقل عن الهمزة.

ولكن ـ مع ذلك ـ يمكن تقديم عدة أطروحات محتملة للاختلاف. وخاصة إذا قلنا إن الظهور بالاختلاف ثابت فيهما. حسب قاعدة : إذا اجتمعا افترقا.

الأطروحة الأولى : إن الهمز في الغياب اللمز في الحضور. كما تدل عليه بعض الآيات. قال تعالى (١) : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ). وقال (٢) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ). وكلاهما واضح في الحضور.

الأطروحة الثانية : إن الهمز مطلق الأذية والاغتياب ، بأي سبب كان. واللمز الأذية في محل معين والطلب غير المناسب ، وعلى خلاف الحكمة. كما أشارت إليه الآيتان والأخيرتان. بحيث يكون نوعا من الإزعاج.

ونلاحظ أن اللمز لم ينسب إلى الشياطين ، بخلاف الهمز ، فإنه نسب إليهم. وهو دليل الاختلاف.

ولا يقال : إنه تعالى اختار ذلك ، فلا يكون دليلا على الاختلاف.

فإنه يقال : إن الارتكاز المتشرعي والعرفي على صحة الاختلاف.

الأطروحة الثالثة : إن المعنى الاجمالي لهما يذهب فيه الذهن كل مذهب ، من حيث لا يحتمل الترادف.

__________________

(١) التوبة / ٧٩.

(٢) التوبة / ٥٨.

٢٠٤

وذكر الرازي في هامش العكبري (١) ، احتمالات ستة أخرى :

١ ـ إنهما بمعنى واحد ، لا فرق بينهما ، وإنما الثاني تأكيد للأول.

٢ ـ إنهما مختلفان ، فقيل : الهمزة المغتاب ، واللمزة : العياب.

٣ ـ وقيل : الهمزة : العياب في الوجه ، واللمزة في القفا.

٤ ـ وقيل : الهمزة الطعان في الناس ، واللمزة : الطعان في أنساب الناس.

٥ ـ وقيل : الهمزة يكون بالعين واللمزة باللسان.

٦ ـ وقيل : عكسه.

فهذه ستة أقوال.

سؤال : هل هما للجمع أم للمفرد؟

جوابه : صيغة هذين اللفظين ، تناسب المفرد ، كما تناسب الجمع بدليل وجود ضمير في آخر السورة يعود إلى الجمع : إنها عليهم مؤصدة. وهذا لا ينافي دخول كل عليها حين قال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). فإنه يراد بكل هنا ، كل مجموعة أو كل حصة ، وليس كل هماز ولماز. ومعه فيراد بها أقل الجمع ، على أقل تقدير. ولا يكون وجود كل دالا على عدمه.

وأما قوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ). فيراد بالموصول المفرد فيدل على أن الهمزة واللمزة يراد بهما المفرد.

إن قلت : إن الضمير عائد على الجمع ، كما عرفنا ، في حين أن اسم الموصول دال على المفرد. فيحصل تهافت في القرائن المتصلة.

قلت : كلا. فإن الضمير ، في الحقيقة ، لا يدل على أن الهمزة واللمزة للجمع ، وإنما يراد بهما الجنس ، أي الجميع ، وليس همازا معينا. فناسب إرجاعه ، جمعا ، ولا ينافي كون اللفظ مفردا لغويا ونحويا. ومن المعلوم أن اسم الموصول العائد إلى اسم الجنس ، دال على معنى اسم الجنس.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٥

سؤال : إن الموضوع في الآية الكريمة هو مجموع الصفات المذكورة. والمحمول هو : لينبذنّ. فهل الموضوع هو مجموع الصفات أو جميعها؟

جوابه : إننا لو نظرنا من زاوية أصولية ، كان لا بد من تقييد بعضها ببعض. فهذا الناتج من مجموع هذه القيود ، هو الذي ينبذ في الحطمة. أو قل : إنه الشخص الجامع لهذه المفاسد كلها.

وهنا نخسر معنى معتدا به ، وهو استحقاق الهماز فقط أو اللماز فقط ، للنبذ في الحطمة. فهذا مما لا يبقى عليه دليل في الآية الكريمة.

ولكن ـ حسب فهمي ـ : فإن كل موضوع واحد ، يراد بحياله واستقلاله. فالهمزة عليه نار موصدة ، واللمزة عليه نار موصدة ، وإن لم يتصف بالصفات الأخرى.

سؤال : حول قوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ). وجمع المال ليس بحرام دائما ، فقد يكون حلالا. فلما ذا يكون الويل له؟

جوابه من عدة وجوه :

الأول : إننا نجعل تهديده بالعقوبة ، بمنزلة القرينة المتصلة على كون المال المجموع بغير حقه وبشكل غير مشروع.

الثاني : أن نفهم أن التهديد منوط بالمجموع ، أي المتصف بمجموع هذه الأوصاف وليس بواحد منها فقط. وهي الهمزة واللمزة وجمع المال.

الثالث : من جهة أخلاقية ، يكون جمع المال شيئا من حب الدنيا. فجمع المال وإن كان غير محرم في نفسه ، لكنه يؤدي إلى المحرم اقتضاء أو علية. فإن الشهوة إن أطيعت مرة أطيعت مرات. فيستحق صاحبها الويل والحطمة.

الرابع : أن نجعل ما بعدها قيدا لجامع المال. وهو قوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ). فيكون المتصف بالقيد والمقيد هو المقصود.

وفرقه عن الوجه السابق ، أنه هناك اعتبرنا كل القيود الأربعة ، مقيد

٢٠٦

بعضها ببعض ، أما هنا فيدخل النار بهذا القيد فقط.

ومعه يكون محصل الآيتين أنها ذكرت أمرين ، وليس أربعة :

الأمر الأول : الهمزة واللمزة. فإنهما وإن كانا يختلفان ، ولكنهما يرجعان إلى محصل عرفي واحد. ويكون أحدهما مقيدا بالآخر.

الأمر الثاني : مجموع ما بقي ، وهو قوله : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) ، أيضا يكون بعضها مقيدا ببعض.

ثم يأتي المحمول : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)؟!.

ولكن هل تكون الصفات أربع أو أنهما صفتان مستقلتان أو هي صفة واحدة ، بعد تقييد الجميع ببعضها البعض؟

جوابه : حسب فهمي وذوقي أنه يقتضي الاستقلالية. وكلها تقتضي النبذ في الحطمة. وبحسب القاعدة أن هذه الأمور متعاطفة بعضها على بعض ، بتقدير تكرار العامل. فيكون المعنى : ويل لكل همزة وويل لكل لمزة وويل لكل من جمع مالا وعدّده. وهكذا ، فلكل منها تهديد مستقل عن الآخر. وهذه أطروحة محتملة ، وإن كان بحسب الظاهر غير ذلك ، لعدم وجود تعاطف ظاهر بل مقدر.

سؤال : إن قوله تعالى : (جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ). ظاهره البدوي على التقليل ، لأنه مقتضى التنكير ، ومقتضى إمكان العد في «عدّده» لأن المال الكثير لا يمكن عدّه عادة ، فهل الذي يخرج ماله عن إمكانية العد يكون ناجيا؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن (عدّده) ، ليس بمعنى العدّ والحساب. وإنما هو بمعنى أعد من الإعداد. وقد أشار إلى ذلك العكبري في كتابه (١) بمعنى أعده لمستقبله ولمصاعب حياته ، أو لشهواته. فلا يتعين أن يكون المال قليلا ، من هذه الناحية.

__________________

(١) املاء ما منّ به الرحمن ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٧

ولكن يبقى الإشكال عليه من ناحية اختلاف اشتقاق المادتين أعدّ وعدّد. فعدّه أحصاه والاسم العدد والعديد. وأعدّه لأمر كذا هيأه له. من الإعداد.

الثاني : إنه ليس ظاهرا بالقلة من ناحية التنوين ، بل هو ظاهر بالكثرة ، لأن حال اسم الجنس دال على التعدد.

إن قلت : إن الكثير لا يكون قابلا للعدّ عادة. والآية نص بالعدّ. بعد التنزل عن الوجه السابق. فتكون هنا قرينة متصلة دالة على القلة.

قلت : العدّ إما عدّ فعلي وخارجي وإما عدّ اقتضائي وذهني. فهو يحافظ على المعدودات الذهنية ، كما يحافظ على المعدودات الخارجية. وينبغي الالتفات إلى أن المال غير منحصر بالدراهم والدنانير ليعدّها أو بالغنم والبقر كذلك ، بل قد يكون أرضا أو نباتا أو عقارا.

الثالث : إن الآية خاطبت الناس على قدر عقولهم في ذلك الحين.

فالله تعالى ناظر إلى طبقة غنية ليست عالية جدا في الثراء ، كما كان المعهود في ذلك الحين. وأمثالهم يكون مالهم قليلا ويمكن عدّه ، مهما كان في نفسه كثيرا. وأمّا الطبقة الأعلى من ذلك اقتصاديا ، فهي تفهم من الآية بالأولوية لا بالنص.

الرابع : إننا يمكن أن لا نفهم من التنكير التقليل بل مجرد كونه حصة من المال ، باصطلاح علم المنطق وعلم الأصول.

الخامس : إن مال الغني إذا نسب إلى مجموع أموال المجتمع أو إلى الدخل القومي الكامل ، كان قليلا.

السادس : إن التنكير للاحتقار ـ كما في الميزان (١) ـ وليس للتقليل.

سؤال : ما هو إعراب «الذي» في قوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً)؟.

جوابه : قال العكبري (٢) الذي ، يحتمل الجر على البدل والنصب على إضمار أعني والرفع على هو.

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٥٩.

(٢) الإملاء ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٨

أقول : جوابه لوجهين : أولا : إن التقدير خلاف الأصل وكلا الأخيرين فيه تقدير. فالمصير إلى الأول وهو البديل.

ثانيا : إننا نضيف احتمالا آخر ، وهو أن يكون نعتا. باعتبار أن الفرد موصوف بكونه همزة ولمزة وهو الذي جمع مالا وعدّده.

ومجموع الموصول وصلته يكوّن مركبا ناقصا ، لا تنطبق عليه قاعدة : الجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال. غير أن الموصوف هنا وهو كل لا ينطبق عليه عنوان النكرة ، فيمكن أن يكون نعتا ، بدل أن يكون بدلا.

وقلنا فيما سبق : إن «الذي» مفرد ولكنه كلي ينطبق على كثيرين. فهو بمنزلة اسم الجنس لأنه يعود على اسم جنس.

ثم إنه قد ذكر القاضي عبد الجبار سؤالا (١) مع جوابه كما يلي :

سؤال : هل يدخل في قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) «غير الكافر» ، أو لا يدخل فيه إلّا الكافر؟

جوابه : ذلك محتمل ، لأجل قوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ). وذلك لا يليق إلّا بالكفار الذين لا يعتقدون في أموالهم أنها من قبل الله تعالى. فلذلك رجحنا قول من صرف ذلك إلى الكفار.

أقول : وهذا من غرائبه. لأنه لا يوجد أحد من البشر يحسب أن ماله أخلده. لوضوح أن المال لا يدفع الموت الذي لا بد منه. والمتكلم لا يقصده والسامع ينبغي أن لا يفهم ذلك. إذن فلا توجد قرينة على الاختصاص بالكفار.

وعلى أي حال ، ينبغي أن نؤول الآية بعد سقوط الدلالة المطابقية. وستكون هذه الوجوه عامة للمسلمين والكفار. ونقول : إنه يمكن أن يراد بها أحد أمور :

__________________

(١) تنزيه القرآن عن المطاعن / سورة الهمزة.

٢٠٩

الأول : الغفلة عن الموت ، وترتيب الأثر على الخلود. وهذا حاصل للكفار وغيرهم. قال الإمام الصادق عليه‌السلام (١) : لم يخلق الله عزوجل يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت. فالناس غافلون عن الموت ، حتى كأنهم لا يذوقونه. وكلما زاد المال والسيطرة والشهرة ، زاد ابتعاد ذكر الموت عن ذهن الفرد.

الثاني : إنه يحسب أن ماله يطيل عمره ، كما يقال عادة بالتداوي والتقوّي. وهذا أيضا حاصل لكل أهل الدنيا.

الثالث : إنه يحسب أن ماله يكون سببا لخلود ذكره في الدنيا بعد موته. بعمل معين أو كتاب أو مؤسسة أو تجارة وهذا الشعور أيضا شامل للمسلمين والكفار معا.

فالاختصاص بالكفار بلا موجب. والجمع بين الوجوه الثلاثة لا بأس به.

سؤال : لما ذا قال : أخلده ، بصيغة الماضي ، ولم يقل : يخلده بصيغة المستقبل ، مع أنه القياس؟

جوابه : لأن صيغة الماضي تدل على شدة التأكيد بأن ذلك حاصل. فكأنه قد حصل فعلا. فإن وجود المعلول بوجود علته ، فكأن الفرد قد خلد فعلا من حين حصوله على المال ، وطبقة الأثرياء كأنهم يضمنون الخلود بحصولهم على المال.

سؤال : قال تعالى : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). فما المراد من كلا؟ ولما ذا لم يقل لا ، أو غيرها من حروف النفي؟

جوابه : إن كلا يراد بها فائدتان : إحداهما : التهويل. وثانيهما : النفي الشديد. وفي السياق يراد به نفي الخلود.

وظاهر عبارة صاحب الميزان (٢) أن كلا المعنيين في رتبة واحدة ، وهما

__________________

(١) الخصال ص ١٤ ، وانظر من لا يحضره الفقيه ج ١ ، حديث ٥١٦.

(٢) الميزان ج ٢٠ ص ٣٥٨.

٢١٠

التهويل والتشديد في النفي. ولكن ـ حسب فهمي ـ إن تشديد النفي في المرتبة الأسبق ويستفاد منه التهويل في المرتبة اللاحقة. فيكون أحدهما بالدلالة المطابقية ، والآخر بالدلالة الالتزامية.

قوله تعالى : (لَيُنْبَذَنَ).

قال صاحب الميزان (١) : اللام للقسم.

أقول : إنما تكون اللام للقسم إذا كان القسم موجودا ، كقولنا : والله لتفعلن. وأما إذا كان السياق خاليا منه ، فلا تكون كذلك ، بل هي للتأكيد. وهي لام تدخل على الأسماء فتسمى لام الابتداء. وتدخل على الأفعال فتسمى لام القسم ، مجازا ، لا حقيقة ، لعدم الإشعار بالقسم ، كما قلنا.

ونون التوكيد في : لينبذنّ ، لزيادة التأكيد. بل يمكن القول : إن دخول اللام على الفعل يصحبه دخول النون عليه ، فهما متلازمان في القرآن الكريم : لتسمعنّ (٢) ، ليخرجنّ (٣) ، لتبلونّ (٤) ، لتبيّننّه (٥).

هذا من الجهة النحوية.

وأما الجهة اللغوية : قال الراغب (٦) : النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. ولذلك يقال : نبذته نبذ النعل الخلق. وقال صاحب الميزان (٧) : النبذ : القذف والطرح.

أقول : فيكون المعنى : ليقذفن في الحطمة. وفيه إشعار بالذلة والصّغار. وهذا إنما يستفاد من التأكيدات في لينبذنّ ، أو من السياق العام. لأنه تعالى قال : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). إذن فهذا الوهم وهو

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) آل عمران / ١٨٦.

(٣) النور / ٥٣.

(٤) آل عمران / ١٨٦.

(٥) آل عمران / ١٨٧.

(٦) المفردات مادة «نبذ».

(٧) ج ٢٠ ، ص ٣٥٩.

٢١١

الخلود بالمال باطل وضلال رديء جدا. وإنما أبدله المال بدل المعيشة المرفهة بالمعيشة الضنكة في جهنم. فليس ماله بمنجيه. كلا.

فإن قرأنا : لينبذن بالفتح أي للمفرد ، فضمير المفعول يعود على الهمزة واللمزة الذي جمع مالا. ولا إشكال لأن السياق كله سيكون إفراديا.

وإنما الإشكال إذا قرئ بالضم. فيحصل هنا سؤال ، كما يلي :

سؤال : من المقصود بالجمع في قوله : لينبذنّ؟

قال العكبري (١) : هو وماله ويجوز أن يكون المعنى هو وأمواله لأنها مختلفة. وربما قيل هو وماله وأهله. في كل ذلك جهة صحة.

وإنما الأمر كما سبق من حيث إن الهمزة واللمزة لا يراد بها واحد بعينه بل يراد بها اسم الجنس وهو بمنزلة الجمع ، لأنه كلي ينطبق على كثيرين ، فيمكن أن يعود الضمير عليه جمعا. وهذه الفكرة تنطبق على القراءتين : بالضم وبالفتح.

لأننا إن راعينا اللفظ ناسب الفتح ، وإن راعينا المعنى ناسب الضم.

مضافا إلى وجه آخر للجميع ، وحاصله ملاحظة «كل» الواردة في أول السورة. ويل لكل همزة لمزة. وهي تمثل جماعة من الناس لا محالة ، فناسب إرجاع الضمير إليها جمعا. إلّا أنه لا يتعين ذلك ويمكن لحاظ مدخولها مستقلا.

سؤال : لما ذا سميت جهنم بالحطمة؟

جوابه : من وجهين :

الأول : إنه من الحطم وهو كسر الشيء مثل الهشم. فهي مبالغة في التكسير. وجهنم تزيد قاطنيها تحطيما وتكسيرا.

الثاني : من الأكل. يقال : حطّمه أي أكله بأسنانه حين المضغ والحطمة الآكلة. بل الشديدة الأكل لسكانها ، كأنهم يطبخون فيها.

__________________

(١) الإملاء ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢١٢

ونحن حين نلاحظ تقابل هذين الأمرين في قوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). فيكون الإنسان بدل الرفاه والنعيم ، تأكله النار وتحطمه وتذله إذلالا. لا يشفع له مال ولا بنون ، إلّا من أتى الله بقلب سليم. وقلبه ليس بسليم بطبيعة الحال.

ولا يخفى أن صيغة حطمة جاءت على وزن همزة ولمزة. ومن هنا نعرف سببين لهذا التعبير ، ولم يقل حاطمة. أولا : للدلالة على الشدة ، كما عرفناه. وهو مما يخلو منه اسم الفاعل. وثانيا : حفظ النسق مع الصيغ السابقة.

سؤال : ما المراد بما ، في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ؟).

جوابه : أحد أمرين :

الأول : أن تكون نافية ، ويكون المعنى : إنك لا تدرك ما الحطمة. وذلك للتهويل والتخويف.

الثاني : أن تكون للاستفهام. ويكون المعنى : إنك لا تدرك ما الحطمة. وذلك للتهويل والتخويف.

الثاني : أن تكون للاستفهام. ويكون المعنى : من الذي جعلك تدرك الحطمة؟ فهو استفهام استنكاري يفيد نفي مدخوله. باعتبار أن الحطمة أعظم من إمكان إدراكها وفهم مراتب عذابها.

وكلا هذين الأمرين قابل للصحة ، ومؤد للمعنى.

سؤال : ما معنى : (أَدْراكَ) ، ومن هو المخاطب فيها؟

جوابه : الإدراك. بمعنى الإدراك الذهني وهو الدراية والمعرفة. والكاف للخطاب. وهو بحسب الظهور المباشر للنبي (ص). ولكنه (ص) يعلم بالحطمة ، فلما ذا خاطبه سبحانه بذلك؟

جوابه : من عدة وجوه :

أولا : إن الخطاب ليس له بل لغيره ، من باب : إياك أعني فاسمعي يا جارة.

٢١٣

ثانيا : إنه (ص) أعلى الخلق ، فيكون إدراك جهنم بالنسبة إليه بسيطا ولكن إذا تصورناه رجلا مصلحا ، وأنه مجرد بشر يوحى إليه ، إذن ، فهو لم ير الآخرة ، ولا الجنة ولا النار ، فليس عجبا أن يقول له سبحانه : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ).

ثالثا : إن المراد بالإدراك المنفي في السياق ، ليس العلم بل الإدراك البصري الحسي. أو قل : العليّ لا الاقتضائي. فإن الاقتضائي ، وإن كان موجودا ، إلّا أن العلي أو الفعلي غير موجود ، ولا يوجد إلّا لمن يدخلها ، ويراها فعلا.

سؤال : لما ذا نسب الله تعالى النار إلى نفسه ، في قوله : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ؟).

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن ذلك باعتبار أنها خلق من خلق الله سبحانه. وكل الخلق منسوب إليه تعالى. وأما الجهة الفلسفية لذلك فليس هنا محلها.

الوجه الثاني : نسبتها إليه تشريفا وتعظيما. كما نسب ذلك إلى كثير من خلقه ، في الكتاب والسنة معا ، كالروح والأمين والنبي والكليم : روح الله وأمين الله ونبي الله وكليم الله. وغير ذلك.

فهذه النسبة إلى الله مجازية ، بصفتها مطيعة لله تعالى. لأنه تعالى أمرها بالأمر التكويني ، وهي تؤدي وظيفتها على أحسن وجه بإحراق من فيها من العصاة والفسقة. فيكون تفخيمها في محله.

الوجه الثالث : إن المراد كونها في الآخرة ، لأن كل ما كان هناك فهو منسوب إليه. لأنها مجردة عن المادة. وأما في الدنيا فلا يمكن نسبتها إليه تعالى ، لأنها مادة ، وهي متدنية في سلسلة الوجود.

الوجه الرابع : إن المراد كونها عقوبة من الله سبحانه. لأنها حصلت بحكمته وعدله للمستحقين.

٢١٤

ويؤيد ذلك : إنه تعالى لم ينسب ألفاظا أخرى إلى نفسه ، كجهنم والسعير ونحو ذلك. فهذا يقرّب : إن ما كان من أنواع العذاب في جهنم ، منسوب إليه سبحانه.

نعم ، لا خصوصية للنار ، إذ يقول تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) ، بل المهم هو نسبة العقاب إليه ، وذلك بعد تجريد النار عن الخصوصية إلى كل عقوبة.

وقد ورد (١) : إن في جهنم عقوبات كثيرة ، حتى في كل درك من دركاتها السبعة ثلاثمائة ألف عقوبة أو نوع من العذاب. فيتعين تجريد النار عن الخصوصية.

ثم إن قوله تعالى : (الْمُوقَدَةُ). صفة تدل على فعلية نشاط النار وحيويتها وفعاليتها. وقد يدل ذلك على وجودها وإيقادها الآن.

فإن قلنا : إن جهنم موجودة ، فهو المطلوب. وإن قلنا إنها غير موجودة فإنها سوف توجد عند ما تقتضي الحكمة ذلك ، في يوم القيامة أو بعد النفخ في الصور ، أو في زمن النبذ فيها.

سؤال : لما ذا وصفها بأنها موقدة ، مع أن كل نار فهي موقدة. ولا يصح أن تكون النار غير موقدة. لأنها عندئذ لا تكون موجودة إطلاقا.

جوابه : من عدة وجوه :

أولا : أن يكون المراد شدة توقدها ، بحيث يكون ضم غيرها إليها كضم الحجر إلى جنب الجدار. أو أنها ملحقة بالعدم.

ثانيا : أن يكون المراد بيان الرهبة التي تكتنفها ، والخوف الذي يتلبس من يراد نبذه فيها.

ثالثا : أن يكون المراد صدق الإيقاد عليها عرفا. وهذا ثابت لها. في حين أن النار القليلة أو الصغيرة ، لا يصدق عليها ذلك. وإن كانت عقلا كذلك.

__________________

(١) انظر نحوه في تفسير علي بن إبراهيم ، ج ١ ، ص ٣٧٦.

٢١٥

سؤال : إن ظاهر القرآن الكريم في عدد من آياته ، وفي هذه السورة أيضا أن جهنم مخلوقة. وظاهر القرآن حجة. فمثلا قوله : الحطمة ، يعني حاطمة فعلا. وقوله : الموقدة يعني هي كذلك فعلا. ونحوه في قوله : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ). فإن كانت كذلك ، فما الحكمة من وجودها الآن؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إنها قد أوجدها لإبراز قدرته سبحانه. وهذه إحدى النظريات العامة أيضا في الحكمة من وجود الخلق كله.

ومعه فلا حاجة إلى تأجيل إيجادها إلى الزمن اللاحق ، لأن الغرض منه ليس هو إحراق الظالمين فقط ، بل إبراز القدرة.

الوجه الثاني : إن العقوبة والمثوبة غير خاصة بالبشر ، بل هي عامة لكل الخلق المدرك. كما ورد (١) : إن الله سبحانه قد خلق قبل البشرية ألف ألف آدم وألف ألف عالم.

وآدم ، هو أي ذات مدركة وعاقلة. فيذهب المطيعون إلى الجنان والعاصون إلى النيران.

فإن قلت : إن يوم القيامة واحد ، وليس بمتعدد ، كما هو مقرر في علم الكلام ، وعليه ظاهر القرآن.

قلت : نعم ، هو ذلك ، ولكن يراد بقوله (٢) : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : الحشر لكل نسل آدمي سويّة. ولا يراد به كل المخلوقات اللانهائية. ففي الإمكان القول ـ كأطروحة ـ إن لكل نسل قيامته الخاصة به.

فإن قلت : إن قوله : الموقدة ، صفة نحويا وقيد أصوليا ، والقيد ليس مفهوما استقلاليا في التصور. فلا يكون بمنزلة الإخبار عن أنها موقدة فعلا.

__________________

(١) انظر الخصال ص ٢٥٦ ، والتوحيد للصدوق ، ص ٣٧٧.

(٢) الأنعام / ٢٢ ، ويونس / ٢٨.

٢١٦

قلت : جوابه من عدة وجوه :

الوجه الأول : ما قلناه في علم الأصول من أن القيد ، وإن كان مندكا في المقيد تصورا وعقلا ، إلّا أن له نحوا من الاستقلال العرفي ، بحيث يعتبره العرف كاذبا إذا لم يكن مطابقا للواقع ، مع كون هذا الاعتبار لاغيا حال اندكاكه في المقيد.

الوجه الثاني : إن الحكمة ليست منحصرة في جهنم من حيث كونها عقوبة ، بل الحكمة من وجودها متعددة وليست واحدة ، ومن ذلك كونها لإظهار قدرة الله تعالى. فيتعين وجودها الفعلي.

الوجه الثالث : إننا نستفيد ذلك من القرائن السياقية اللفظية في الآية الكريمة. وهي الإطلاق الأزماني الشامل لكل الأزمان الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل.

سؤال : كيف تطلع النار على الأفئدة؟

جوابه : إنه يكون من عدة وجوه محتملة :

الوجه الأول : ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) من : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وورد أيضا (٢) : نيّة المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله.

ويتحصل من ذلك : إن العمل الحقيقي أمام الله سبحانه هو الأعمال القلبية أو النفسية وليست هي الأعمال الظاهرية ، وعندئذ نقول : إن جهنم تكون عقوبة على القلوب المنحرفة والنوايا الباطلة والمضلة. فهي عقوبة للأفئدة والقلوب وليست للأجسام.

الوجه الثاني : ما ذكره السيد الشريف الرضي قدس‌سره في كتابه «تلخيص البيان» (٣) : من أن آلامها ونفثه يصل إلى القلوب.

__________________

(١) انظر مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٩٩.

(٢) الوسائل ، ج ١ ، ص ٣٥.

(٣) انظر ص ٢٨٤.

٢١٧

أقول : وفيه :

أولا : إن وصول الألم إلى الفؤاد غير منحصر في جهنم. بل إن كل الآلام ، والأفراح تصل إلى الفؤاد باعتباره بيت العواطف ، كما أن العقل بيت الإدراك : فبلاء الدنيا ، أيضا ، يطلع على الأفئدة. إذا قصدنا مجرد الوصول.

ثانيا : إن ذهابها إلى القلب لا يعني الاطلاع على القلب بمعنى المعرفة. لأن جهنم ليس لها علم ، وإنما العلم عند الله سبحانه.

ومعه يفشل هذا الوجه ، إلّا أن نجد له تفسيرا آخر ، فنقول :

التفسير الأول : إن الاطلاع ليس بمعنى المعرفة بل بمعنى النظر. أي : وصل نظره إليه واطلع عليه ، كما ينظر الإنسان من النافذة. وفي الحديث (١) : إن الله طلع اطلاعة على البشر فاختارني منهم ، أي نظر إليهم. فالنظر يصل إلى المنظور إليه ، وليس هو ملازم للفهم دائما. فتأمل.

التفسير الثاني : أن نقول ، كما قال الفلاسفة : إن الأشياء كلما صعدت في عالم الروح المجرد زاد فهمها وإدراكها. وكلما كانت أقرب إلى المادة قلّ فيها ذلك. إذن ، تكون الأشياء في عالم الروح الأخروي فاهمة ومدركة. وجهنم جزء من ذلك. لأن الإدراك مساوق للوجود فكلما ارتفع الوجود زاد الإدراك وكلما تنازل قلّ. وبذلك تكون جهنم مطلعة على الأفئدة.

التفسير الثالث : أن تطلع لها قراءة أخرى وإن لم تكون مشهورة. وهو تطلع بالتخفيف. أي تصعد إليها وتخرج إليها وتدخل فيها.

الوجه الثالث : ما ذكره الشريف الرضي أيضا (٢) ، من : أن شعب النار

__________________

(١) الخصال ، ص ١٤٢ ، عيون أخبار الرضا ، ج ٢ ، ص ٦٦ ، وانظر ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ص ٦٤٥.

(٢) انظر تلخيص البيان : ص ٢٨٤.

٢١٨

تدخل في أفواههم فتصل إلى أجوافهم وقلوبهم ، فيكون ذلك أبلغ في المضض وأعظم للألم.

أقول : وفرقه عن الوجه السابق : أن ذاك على معنى أن الألم لم يصل إلى الفؤاد. ولكن هنا تصل نفس النار إليه. ونقطة القوة في هذا الوجه : إنه لا يحتاج إلى تقدير ، بل هي تطلع على الأفئدة ، بغض النظر عما قلناه هناك.

الوجه الرابع : إنها تذيب الجسم حتى تصل إلى القلب. كما قال تعالى (١) : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها). فيصل العذاب إلى القلب مباشرة. وحيث إن الموت غير موجود في النار ، فيعاد الجسد كرة بعد كرة.

إن قلت : إن هناك فرقا بين الآيتين. فنضجت معناه : انطبخت ورقت نتيجة للاحتراق ، لكن الآية هنا ـ حسب هذا الوجه ـ تدل على أن الجسم كله يذوب ويتلاشى.

قلت : هذا من الفهم السطحي ، لأن نضج الجلود كما يناسب رقتها يناسب ذوبانها وتقطعها وتلاشيها. حتى تصل النار إلى اللحم والعظم ثم إلى القلب والفؤاد. فتطابق المعنيان.

الوجه الخامس : ما نقله الشريف الرضي عن آخرين (٢) من أن الاطلاع هو العلم ، كقوله تعالى (٣) : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ). فالمراد : إن الله تعالى يخلق في النار علما تطلع به على ضمائر الموجودين ، فتوصل إليهم الآلام على قدر مراتبهم من الذنوب.

أقول : هذا الوجه في طول القرآن ، ولأجل تصحيح الآية. في حين أننا نصحنا أن نأخذ بالفهم السابق على الآية ، والذي يمكن أن تكون الآية قد نزلت على أساسه.

__________________

(١) النساء / ٥٦.

(٢) انظر تلخيص البيان ، ص ٢٨٤.

(٣) مريم / ٧٨.

٢١٩

ولكن في هذا الوجه بعض نقاط القوة :

الأولى : إنه فهم مباشر من الآية. أي إن جهنم تعرف ما في الأفئدة ، حسب الظهور العرفي للقرآن.

الثانية : ما ذكرناه سابقا ، من أن عالم المجردات كله مدرك وعارف ، بواقعه الذي يعيش فيه. ومنها جهنم ، فهي مطلعة على الأفئدة ، وعلى غيرها ، أي على كل ساكنيها. ولكن صاحب هذا الوجه لم يدرك ذلك بوضوح ، بل زعم أن العلم يخلقه الله سبحانه في جهنم خصوصا.

لكن فيه بعض المناقشات :

منها : إن جهنم ليست اسما لشيء محدد ، بل هي مفهوم انتزاعي. كما أن الحال في (الدنيا) كذلك ، فإنها ليست اسما لشيء محدد ، بل لمجموع الحوادث والأعراض والعلل والمعلولات ، والإضافات التي توجد في هذا العالم المنظور. ومن هنا نلاحظ أنه لم يرد في القرآن الكريم لفظ الدنيا مفردا ، بل يقول : الحياة الدنيا ، إذن ، فجهنم شيء من هذا القبيل.

ونستنتج من ذلك : إنها لا تكون مصداقا وتطبيقا للقاعدة التي قلناها : من أن موجودات عالم الروح والمثل مدركة. فإن جواهرها الجزئية ، مدركة ، ولكن مفهومها الانتزاعي غير قابل للإدراك. وحيث إن جهنم من المفاهيم الانتزاعية ، على ما هو المفروض في هذا الوجه ، فلا تكون صغرى لهذه الكبرى.

ولكن هذا ، إذا غضضنا النظر عن القراءة الأخرى : تطلع. وإلّا سقط هذا الوجه.

لكننا حتى لو سلمنا بتلك القراءة ، وأن جهنم مفهوم انتزاعي ، ولكن مع ذلك نقول : إنها مدركة ، لأن حقيقة الأشياء هي بحقائق الملائكة الموكلين بها. فجهنم ليست جهنم ، وإنما هي عين خازنها ، وهو «مالك» خازن النار. وهو مدرك وعاقل.

وعلى أي حال يتحصل من ذلك : إن المطلع على الأفئدة هو الملك

٢٢٠