منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

القرآن أو السورة أو اسم ربك. وبهذا المعنى قدر العكبري معنى الحال : (مبتدأ باسم ربك) فيكون الجار والمجرور متعلقا بالفعل المقدر بدلا من تعلقه باقرأ. وهو خلاف الظاهر.

سؤال : عن الذي في قوله : (الَّذِي خَلَقَ).

جوابه : أما من الناحية العرفية ، فإن مدخول الذي يكون بمنزلة الجهة لهذا الفعل. كما قال تعالى (١) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). أي بسبب وعليّة هذه الصفة.

وأما من الناحية الدقيقة ، فإن هذا ليس بصحيح ، فإنهم قالوا في علم الأصول : إن القيد والمقيد يكوّنان مفهوما واحدا ، فلا يتحصل من المجموع ذلك المعنى.

إذن ، فمعنى الذي ، أي من هذه الجهة. وليس مجرد قيد أو توضيح أو إشارة إلى الذات. وهو أمر عرفي كما سبق. وهذا مما يبعّد ما اختاره الطباطبائي من كون مفعول اقرأ هو الوحي. إذ لا يبدو له ربط واضح ، إلّا أن يراد أنه خلق الوحي ، وهو خلاف الظاهر.

إن السياق الذي ادعاه في الميزان من أن السورة أول القرآن ، يعني : اقرأ من الآن فصاعدا. لا يكون صحيحا ، إذ لا علاقة باسم (الذي خلق) بإنزال الوحي. وإنما ينبغي استعمال آخر يتعلق بالوحي وبالقرآن لا الخالق ، لو كان المراد ذلك. فهذا بمنزلة القرينة المتصلة على نفي السياق الذي ادعاه. مضافا إلى المناقشات التي سبقت.

سؤال : قال الرازي في هامش العكبري (٢) : فإن قيل : أين مفعول خلق الأول؟

جوابه : يحتمل وجهين :

__________________

(١) إبراهيم / ٣٩.

(٢) المصدر ج ٢ ، ص ١٥٣.

٤٢١

أحدهما : أن لا يقدر له مفعول ، بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خلق سواه. كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ). في أحد الوجهين. وقولهم : فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع. أي بغض النظر عما يعطيه أو يمنعه. وهذا أمر عرفي لطيف.

الثاني : أن يكون مفعوله مضمرا تقديره الذي خلق كل شيء. ثم أفرد الإنسان (في خلق الثانية) بالذكر تشريفا له وتفضلا. انتهى كلام الرازي.

أقول : ويحتمل أيضا : أن يكون المراد من كلتا الكلمتين كلمة واحدة ، ومفعولها الإنسان. وإنما كررت لنكتة بلاغية أو أدبية أو سياقية مع حفظ السياق والروي والنسق ، وبدونها سيكون التعبير سمجا.

كما أنه يمكن أن تكون حكمة التكرار هو انقطاع الوحي انقطاعا مؤقتا ، كما ذكرنا في سورة الإيلاف ، فراجع.

سؤال : وقال الرازي أيضا (١) : فإن قيل : كيف قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) على الجمع ، ولم يقل : من علقة؟

جوابه : قلنا : لأن الإنسان في معنى الجمع بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). والجمع إنما خلق من جمع علقة لا من علقة.

فإن قيل : هذا الجواب يردّه قوله تعالى (٢) : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ).

قلنا : المراد : فإنا خلقنا أباكم من تراب. ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة. وقيل : إنما قال من علق. رعاية للفاصلة الأولى. وهي خلق. انتهى كلام الرازي.

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) الحج / ٥.

٤٢٢

أقول : ولكنه مع ذلك لم يجمع بين الآيتين من الناحية المعنوية ، وإن كان قد جمع بينهما من الناحية النحوية. إذن ، فالإشكال يبقى مفتوحا من حيث إن الآية الأولى ذكرت أن الإنسان خلق من علق. والآية الثانية ذكرت ثلاث مراحل لخلقته : التراب والنطفة والعلقة.

وحسب فهمي : فإن للإنسان ثلاث بدايات ، يصلح أن يكون كل منها بداية للإنسان :

البداية الأولى : وهي التراب ، بأحد تقريبين :

الأول : لأن آدم من تراب ، كما قال تعالى (١) : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ). فآدم (ع) مخلوق من تراب بالمباشرة ، وخلق الناس بالتراب بالواسطة والتسبيب عن طريق آبائهم ، كما أشار الرازي.

والثاني : لأن الجسم كله دائما من تراب. وهذا تقريب (مادي) من حيث إنه قد يستبعد أن يكون آدم من تراب حقيقة. فيمكن أن يكون المراد : الأجزاء الترابية أو مكونات التراب.

ويوضح ذلك : أن هناك دورة بين الإنسان والتراب ، وذلك : لأن النبات يخرج من التراب فيأكله الإنسان ويعود إلى التراب ، فيكون نباتا من جديد. أو نقول : إن التراب يكون نباتا ، فيأكله الحيوان ، فيأكله الإنسان ، فيكون ترابا. ومعه يمكن القول بدرجة من درجات الفهم بالحمل الشائع : إن التراب لحم واللحم تراب.

والتقريب الأول عليه ارتكاز المتشرعة ، وظاهر القرآن الكريم. أما التقريب الثاني فهو فهم العصر المادي المتأخر.

البداية الثانية : وهي النطفة قال تعالى (٢) : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى). فإن الذي يكون لحما وعظما ليس هو النطفة بل الدم. كما نص القرآن

__________________

(١) آل عمران / ٥٩.

(٢) القيامة / ٣٧.

٤٢٣

الكريم (١) : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً).

البداية الثالثة : العلق ، قال تعالى (٢) : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ). وهو الدم.

فهذه ثلاث بدايات للإنسان ، فالأولى بانتسابه إلى الأرض ، والثانية بانتسابه إلى أبيه ، والثالثة بانتسابه إلى أمه وأول تكوينه. وبلحاظ كل نسبة يصدق أنها بداية. ويمكن أن يلحظ المتكلم أي واحد منها ، فقد اختار في إحدى الآيتين واحدة ، واختار في الأخرى الأخرى.

سؤال : ما هي النسبة بين الفعلين : خلق الأولى وخلق الثانية. لأنها واردة هنا بنحو التتابع؟

جوابه : أولا : إنها ليست سمجة ، بل لطيفة وموافقة مع رويّ القرآن وسياقه وذوقه.

ثانيا : إن الثانية تأكيد للأولى ، باعتبار أن السامع قد يكون مستشكلا أو معترضا أو غير منتبه. فترد الثانية للتأكيد. وهذا معناه أنهما واحدة في المعنى.

ثالثا : إنها معطوفة بحذف حرف العطف ، ونتيجته التعدد في المعنى ، أي : خلق مطلقا وخلق الإنسان من علق. ومن الواضح أنه لا يستقيم نحويا بدون حرف العطف أو تقديره.

إلّا أنه يمكن الطعن بالكبرى لغويا ، وإن صحت نحويا ، وهي ضرورة التعاطف بين الجمل. بل قد تكون كل جملة مستقلة عن الأخرى ومعه فلا حاجة إلى تقدير حذف حرف العطف.

رابعا : إنها عطف بيان على الأولى. إلّا أنه لا يتم لأمرين :

__________________

(١) المؤمنون / ١٤.

(٢) العلق / ٢.

٤٢٤

١ ـ إن هذا النحو من العطف خاص بالمفردات لا بالجمل. وهنا نتكلم عن الجمل لا عن المفردات. إلّا أن نطعن بالكبرى أيضا ، وهو اختصاصه بالمفردات.

٢ ـ إن هذا النحو من العطف مورده تعذر عطف النسق. والمفروض هنا إمكانه ولو بتقدير الحرف ، بعد التنزل عن الوجه السابق.

خامسا : إن الثانية بيان للأولى في المعنى أي تفصيل بعد إجمال. وهذا في نفسه جيد. إلّا أنه يرجع إلى نحو من الوحدة بين اللفظين. فإذا منعنا ذلك نحويا أو لغويا ، امتنع هذا الوجه. وإنما يكون الأول عاما أي خلق كل شيء ونفهم منه العموم باعتبار حذف المتعلق ، فإنه من قرائن ذلك. وخلق الثانية للخصوص ، من عطف الخاص على العام. إن قدرنا حرف العطف.

سؤال : عن معنى العلق؟

جوابه : أعطى الراغب عدة معان تكاد تكون متباينة للعلق. فقال (١) : العلق : التشبث بالشيء ، يقال : علق الصيد بالحبالة. وأعلق الصائد إذا علق الصيد في حبالته. والمعلق والمعلاق ما يعلق به. أقول : أو المتعلق نفسه. ومنه تسمية الرئة بالمعلاق. لأنها غالبة التعليق. وعلى هذا المعنى يكون علق في الآية : مصدرا أو اسم مصدر.

وأضاف : والعلق دود يتعلق بالحلق. أقول : ومنه الدود الذي يمصّ الدم. أو أنه سمي بالعلق لأنه يمص العلق وهو الدم.

وأضاف : والعلق الدم الجامد. ومنه العلقة التي يكون منها الولد. قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ـ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً). أقول : مضغة أي لحمة. حين يتحول الدم المتجمد في الرحم إلى لحم.

وأعتقد بأن العلق يطلق على مطلق الدم. ومنه قولهم في حرب الجمل :

__________________

(١) المفردات مادة : «علق».

٤٢٥

نحن بنو ضبّة لا نفرّ

حتى نرى جماجما تخرّ

يخرّ منها العلق المحمرّ

والدم الجامد لا يخرّ. ولا أعتقد أنه استعمال مجازي وجدانا.

وعلى أي حال ، فيكون للعلق في الآية الكريمة عدة أطروحات :

الأولى : مطلق الدم : لأن النطفة تتحول إلى دم. بغضّ النظر عن كونه جامدا أم لا.

الثانية : الدم الجامد. لأن الجنين يكون كذلك في فترة من تطوره ، وهو ما ذكره الرازي (١).

الثالثة : إنه سمي بذلك لأنه يعلق بالرحم أي يكون فيه فهو بمعنى التعلق لا بمعنى الدم.

الرابعة : إنه يتعلق بجدار الرحم ويلتصق به. كما ثبت في الطب الحديث.

فإن قلت : إن هذه الفكرة متأخرة عن نزول النص القرآني ، والناس يومئذ لم يكونوا معهودين بها. فكيف يتم الحديث عنها. وهو خلاف القانون العرفي القائل : كلم الناس على قدر عقولهم.

قلت : ذلك صحيح ، لكن ذلك لا صغرى له هنا. لأنه في القرآن لم يبين ذلك. فربما قصد الله تعالى ذلك ، ولكن لم يبينه بصراحة ، ليكون خلاف ذلك القانون العرفي.

الخامسة : العلق بمعنى التأثير والبدء بالنمو ، ومنه علق الصبغ وعلق الضوء. يعني أثر أثره. وهو أمر عرفي وليس لغويا. وبالاستصحاب القهقرائي. إلى صدر الإسلام ، نفهم من علق الجنين : أي لقحت البويضة أو بدأ نموه مطلقا.

السادسة : أن الجنين في هذا المورد من تطوره يصبح كدودة العلق التي تمص الدم.

__________________

(١) هامش الإملاء ، ج ٢ ، ص ١٥٣.

٤٢٦

السابعة : أنه لا دليل واضحا على تعرض الآية الكريمة لنمو الجنين ، إلّا معنى العلق. فإذا صرفناه عن معناه لم يبق دليل أصلا ، وقد عرفنا أن معناه هو مصدر التعلق. فيمكن أن يكون مرادا. أي خلق الإنسان من التعلق.

والمراد : أن الطبيعة الأساسية للإنسان هي التعلق ، ونظيره قوله تعالى (١) : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ). وهو بلا شك معنى مجازي ، فيكون خلقة الإنسان منها ـ أي من التعلق أو العجل ـ يحتوي على تسامح في التعبير ولكن قد يبلغ اتّصاف الإنسان بهذه الصفات درجة من الوضوح والأهمية إلى حد تصبح بمنزلة لحمه ودمه أو بمنزلة جسمه وكأنها صفة مجموعة من كثرتها وعمقها وأهميتها.

وهنا يطرح سؤال عن معنى التعلّق؟

وجوابه : أن الإنسان لا يمكن بأي حال أن يعيش بالاستقلال. فالتعلّق موجود في الإنسان بكل صوره. وذلك لعدة أشكال :

الأول : الشوق والحب والإرادة. فقولك. تعلق به أي أحبه ومال إليه. وطرفه إما الدنيا وإما الله تعالى. أما الأسباب وأما مسببها. وأما الاستقلالية الكاملة فهي محال. وإن كان قد يتوهمها الفرد.

الثاني : أن نصرف التعلق في كونه حبا وعاطفة إلى كونه علما ويقينا. ولكن ما هو المتعلق؟ هذا وارد في كل واحد حسب مستواه. فبعض يتعلق بالأسباب الطبيعية ، وبعض يتعلق بالأسباب غير الطبيعية ، وبعض يتمحض بالتوكل على الله تعالى.

سؤال : عن معنى (من) في قوله تعالى : (مِنْ عَلَقٍ؟).

جوابه : أن معنى (من) لا يختلف باختلاف معنى العلق ، سواء كان ماديا أو معنويا ، وهو التعلّق ، كما شرحنا فيما سبق.

__________________

(١) الأنبياء / ٣٧.

٤٢٧

ولمعنى (من) عدة احتمالات :

الأول : إنها لبيان الجنس ، كقولك : إبريق من طين. وكما قال تعالى (١) : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ). وقال (٢) : (أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). فيكون القول هنا ـ حقيقة أو مجازا ـ إن جنس الإنسان من علق.

الثاني : إنها للتبعيض كقوله تعالى (٣) : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ). أي بعضهم. فيكون المعنى : خلق الإنسان من بعض العلق. ولا يراد به الجزء من الكل بل الجزئي من الكلي ، لأن العلق كلي في أي معنى أعطيناه.

الثالث : إنها لابتداء الغاية ، كقولنا : خرجت من الكوفة. وهذا أوضح في المعنى المادي للعلق. باعتبار أنه أول حركة نمو الجنين.

ويدعم هذا المعنى : أننا نستطيع أن نفهم من الخلق في الآية هذا المعنى لا مطلق الخلق. بل نفهم ابتداء الإنشاء للخلق. فتكون من دالة على الابتداء لأول مرة ، وخلق أيضا تدل على ذلك. أو قل : ابتداء صنع الإنسان من علق.

الرابع : إنها بمعنى في أي الظرفية ، وهذا أقرب إلى المعنى المعنوي وهو التعلّق والحاجة إلى الله تعالى. فهو بمنزلة الظرف والإنسان بمنزلة المظروف ، لهذه الحاجة والتعلّق ، فالإنسان في علق.

إلّا أنه بعيد ، لصعوبة فهم الظرفية عرفا.

سؤال : ما هو ربط اقرأ الأولى بخلق الإنسان ، الذي هو مدخولها. مع أنه غير مربوط بالقراءة ظاهرا ، وخاصة مع فهم قيد الحيثية كما تقدم فلما ذا ذكر؟

__________________

(١) المؤمنون / ١٢.

(٢) الكهف / ٣١.

(٣) البقرة / ٢٥٣.

٤٢٨

جوابه : من عدة وجوه :

أولا : الإشارة إلى الذات ، يعني ذات الخالق سبحانه ، مع ذكر أهم النعم المنسوبة إليها وهو أصل الخلقة. وخاصة وأن الخطاب للإنسان فيحسن التركيز على خلقته التي هي أهم النعم عليه.

ثانيا : إن كلتا العبارتين : (اقرأ) واحدة في المعنى. فيكون السياق واحدا ، فيكون المتأخر كأنه مدخول للمتقدم ، والتكرار إنما هو للتأكيد ، أو للتوصل إلى مدخولها ، فيكون وصفا للنعمة بخلقة الإنسان وتعليمه. فيكون المجموع مناسبا مع القراءة.

ثالثا : إن القراءة متوقفة على أصل الوجود ، لا أنهما غير مرتبطين إطلاقا ، وإنما يلزم من عدمه عدمه. أي يلزم من عدم الخلقة عدم القراءة. فقد ذكر وجود الإنسان كمعد أو شرط لها.

رابعا : أن نفهم من القراءة الجانب المعنوي ، وهو التفكير في خلق الله. فيكون ذلك مناسبا مع خلق الإنسان. فإن خلق الإنسان من أعظم العبر والمعجزات في العالم بل أهمها على الإطلاق.

فإن قلت : فإنه عندئذ لا يناسب اقرأ الثانية التي مدخولها القلم والكتابة.

قلت : ذلك من وجهين :

أولا : إن التفكير كما يكون بالكون ثبوتا ، يكون أيضا بالكتابة إثباتا. أو قل : إن القراءة على الصفحات جزء من القراءة التكوينية أو التفكير في خلق الله. فيرجع كلاهما إلى محصل واحد ، وهو التفكير.

ثانيا : أن نقر هنا بالتعدد بين الفعلين ، أعني اقرأ الأولى واقرأ الثانية ، فلا ربط بينهما من هذه الناحية. فقد يكون الأول للتفكير ، والثاني للكتابة : ولا بأس بذلك.

فإن قلت : إن بينهما وحدة سياق تدل على وحدة المعنى.

٤٢٩

قلت : جوابه من وجهين :

أولا : إن الكتابة والعلم والقراءة كلها حصص من التفكير في الكون كما قلنا.

ثانيا : إننا يمكن أن ننفي وحدة السياق لوجود القرينة على عدمها ، لأن مقتضى الحكمة تعدد المعنى ، وليس وحدته.

سؤال : لما ذا جاء بالأكرم بدل الكريم ، مع أنه المشهور. ولما ذا لم يأت باسم آخر؟ جوابه : من أكثر من وجه واحد :

أولا : لوحدة النسق ، أو القافية ، وهذا مهم بلاغيا وأدبيا.

ثانيا : إننا لو نظرنا من زاوية الله سبحانه ، لو صح التعبير ، لوجدنا أن كرمه كاف باعتباره مدبرا وخالقا ، ولأنه يدير الكون باستمرار ولم يغفل عنه طرفة عين. ولكن ذلك ، في نظر الله سبحانه ، غير كاف. بل إنه أي الكون ، يحتاج إلى أكثر من ذلك ، وهو التعليم والتكامل ، فهو دائم الإفاضة على عباده ، قال تعالى (١) : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

فهو كريم بالوجود ، لأننا لم نطلب منه الوجود لكي نوجد. وأما التعليم فهو أكثر من ذلك في الكرم ، فصار سبحانه : أكرم. لأن ذلك نعمة بعد نعمة.

سؤال : قوله تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ). ما هو الوجه للعطف في هذه الجملة؟

جوابه : قال في الميزان (٢) : والجملة حالية أو استئنافية. أقول : وهذا تام نحويا لأن الواو إما حالية أو عاطفة.

إلّا أن المراد الآن بيان المعنى. وهو على أحد وجهين :

أولا : الإشارة إلى النعمة الثانية بعد الخلق. وهي التعليم والهداية ، كما

__________________

(١) ق / ٣٥.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٢٤.

٤٣٠

قال في آية ثانية (١) : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). وقال أيضا (٢) : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى).

ثانيا : كأطروحة : إن المراد : اقرأ باسم ربك الأكرم. كما قال أولا : اقرأ باسم ربك الذي خلق. ولكنه لا يعبر بذلك لأنه يصبح فيه سماجة التكرار ، فعبر بهذا التعبير : اقرأ وربك الأكرم.

واسم الموصول : الذي. هنا ، يعني من هذه الجهة ، أي من جهة أنه (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). فهو يستحق التسبيح من هذه الجهة. مضافا إلى الجهات الأخرى. وهي جهة إثباتية ، يعني الإحساس والشعور بهذه المنة. وفيه جهة ثبوتية : وهي أنه لو لا تعليمه لما حصلت القراءة تكوينا. فأصل وجود القراءة باسمه بأي معنى فسرنا القراءة.

سؤال : ما هو معنى تعليم الله للإنسان أو قل : ما هي كيفية نسبة التعليم إليه سبحانه؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن كل الخلق منسوب إليه بنحو فلسفي ، ليس هنا محل بيانه ، فتعليم الإنسان من جملة ذلك.

وهي فكرة قالها الشيخ المظفر عن أستاذه الشيخ الأصفهاني عن مشهور الفلاسفة ، أنهم قسموا العلة إلى قسمين :

القسم الأول : علة ما به الوجود. ويراد به التسبيب غير الإلهي.

القسم الثاني : علة ما منه الوجود. وهو التسبيب الإلهي.

فأي شيء حينما تتم علته ، يطلب بلسان حاله الوجود من الله تعالى ، وهو كريم لا بخل في ساحته ، فيفيض عليه الوجود فيوجد.

__________________

(١) طه / ٥٠.

(٢) الأعلى / ٢ ـ ٣.

٤٣١

والتعليم من جملة ذلك ، له علة ما به الوجود وهو الأستاذ. وعلة ما منه الوجود وهو الفيض الإلهي. فكما ينسب الإنسان إلى أبيه تارة وإلى الخالق أخرى ، كذلك ينسب العلم إلى الأستاذ تارة وإلى الله أخرى.

الوجه الثاني : جعل القابلية للتعليم في الإنسان. وهذا أمر وجداني في كل الأفراد ، ما لم يكن الفرد قاصرا. فتعليم الله للإنسان يتم بإيجاد شرطه وهو القابلية. فإن تلقي العلم معلول ، فهو يحتاج إلى تمامية علته ، من مقتضى وشرط وعدم المانع. والله تعالى خالق القابلية ، أي الشرط وهذا يكفي.

الوجه الثالث : أن يراد به خلق عالم الإثبات ، أعني عالم المعرفة والأفكار ، مضافا إلى خلق عالم الثبوت ، وهو عالم التكوين.

فقد خلق الله تعالى الأفكار التي لها القابلية للخطور في الذهن. وهذا من قبيل المقتضى. والنتيجة تنسب إلى المقتضى بطبيعة الحال ، لا إلى الشرط ولا إلى عدم المانع. ومنها وجدت اللغات.

فإذا ضممنا الوجهين الثاني والثالث ، يعني القابلية للإنسان وما يستطيع به أن يملأ هذه القابلية وينميها. علمنا كيف أن الله تعالى هو المعلم للإنسان حقيقة.

الوجه الرابع : تعليم الله تعالى للبشر عن طريق أنبيائه وكتبه ويدل عليه قوله تعالى (١) : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). وقال (٢) : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ). وقال (٣) : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

إن قلت : فإنه تعالى لم يعلم بالقلم ، وإنما هو شأن التعليم البشري للقراءة والكتابة. فكيف قال : علم بالقلم؟

__________________

(١) إبراهيم / ٤.

(٢) الحديد / ٢٥.

(٣) التوبة / ٣٣.

٤٣٢

قلت : هذا يختلف باختلاف معنى التعليم. كما سبق. فإن قصدنا منه التسبيب الطبيعي ، كما هو المعنى الأول ، فاستعمال القلم الاعتيادي صحيح ، وإن قصدنا غيره ، كان للقلم معنيان آخران.

المعنى الأول : القلم الأعلى ، وهو قلم التقدير الذي يكتب في اللوح المحفوظ. ولا شك أن له دخلا في التعليم ، لأن ذلك مما يدخل ضمن القضاء والقدر. لأن الباء في قوله (بالقلم) تفيد السببية ، فيراد بها سببية القضاء والقدر لتعليم الإنسان.

المعنى الثاني : القلم الأدنى ، وهو قلم التنفيذ. وذلك بمنزلة الأمر وهذا بمنزلة المأمور. ومنه تعالى (١) : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). يعني الكلمات التكوينية المكتوبة في لوح الواقع. ومن الواضح أن من جملة التكوين قلم الإنسان وأي فرد من أفراده.

وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أنه على قلة المتعلمين والكاتبين في صدر الإسلام ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير قارئ وغير كاتب ماديا وعمليا ، إلّا أنه ورد ذكر القلم والمداد في القرآن الكريم مكررا ومؤكدا ، والتركيز على أهميته حتى من الناحية الشخصية. قال تعالى (٢) : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ). يعني طبقا للشريعة. وهكذا.

كما ينبغي أن نلتفت أيضا إلى أمر قلما يلتفت إليه الناس حتى الأدباء ، وهو أن خمسة أو ستة كلمات مكررة في سطرين من الكلام في أول هذه السورة الشريفة ، مع حفظ المستوى البلاغي للقرآن. وهي : اقرأ وخلق وربك ، وعلم والذي والإنسان. والأخيرة مكررة ثلاث مرات ، اثنين منها في خمس آيات صغار والثالثة في السادسة.

__________________

(١) لقمان / ٢٧.

(٢) البقرة / ٢٨٢.

٤٣٣

فإذا سطرت هذه الكلمات المكررات ، ملأت سطرين أو أكثر فينبغي أن يكون الكلام سمجا. مع أنه قد صاغه في غاية الرصانة والبلاغة. وبنفس المقدار من الأسطر ، وهذا من إعجاز القرآن الكريم.

بل نستطيع هنا أن نقول : إن نسبة الكلمات غير المكررة إلى الكلمات المكررة في ابتداء هذه السورة ، هي نسبة قليلة ، فليست غير المكررة إلّا بضع كلمات هي : باسم وعلق والأكرم والقلم. وهي أربعة بإزاء ستة. فإذا التفتنا أن تكرار الستة يجعلها اثني عشر أو أكثر (١). استطعنا التعرف على النتيجة النهائية.

قال في الميزان (٢) : والمراد بالإنسان الجنس ، كما هو ظاهر السياق ، وقيل : المراد به آدم عليه‌السلام ، وقيل : إدريس لأنه أول من خط بالقلم. وقيل كل نبي كان يكتب. وهي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

أقول : إن التعليم إذا كان منحصرا به سبحانه ، فهو لا يعلم كل إنسان بل هو خاص بالأنبياء. ومن هنا ذكروا ذلك. إلّا أنه يوجد مقسم آخر وهو كل إنسان ، بل جميع الخلق ، فإنه إنما يتلقى الهداية والتعليم من الله سبحانه ، كما أوضحنا في الوجوه السابقة.

سؤال : عن قوله تعالى ما لم يعلم ، ما هو الذي لا يعلمه الإنسان ، وفي أي زمان كان لا يعلم؟

جوابه : هذا يختلف باختلاف معنى العلم الذي تلقاه الإنسان من الله سبحانه حسب الأطروحات السابقة :

فإن قصدنا تفسيره بالتعليم الاعتيادي طبقا للأسباب ، فالإنسان كان قبل هذا التعليم جاهلا أو قاصرا أو سفيها. وأصبح عالما بعد ذلك.

وإن قصدنا : «التذكر» وهو منوط بالله سبحانه ، وكل شيء تذكره فقد

__________________

(١) ولو بعنوان : أن يعلم تكرار لعلم لأنها من مادتها.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٢٢.

٤٣٤

تعلمه ، وزمن الجهل هو النسيان لأنه يقابل التذكر.

ويمكن ـ كأطروحة أخرى ـ أن نحمل التذكر على نظرية (المثل) لأفلاطون. بأن الروح تنزل في الجنين فيوجد الإنسان : فيكون ناسيا لعالم الروح ، فإذا تكامل تذكر ما نسيه. ويدعم ذلك قصيدة ابن سينا التي يبدأها بقوله عن الروح : هبطت إليك من المحل الأرفع ... إلى عدة أبيات.

وهنا لا بد أن لا نخلط بين النظريتين : نظرية المثل ونظرية التذكر ، فإننا وإن سمينا العالم الأعلى بعالم المثل ، إلّا أنه ليس تعبيرا دقيقا. وإنما نظرية المثل تحتوي على افتراض وجود فرد مثالي في العالم الأعلى جامع لكل صفات النوع وفاقد لكل سيئاته ونواقصه. وهو المسمى برب النوع. وهذا المعنى لم تثبت صحته.

ولكن ما قاله من أن الأرواح موجودة قبل الأجسام هي نظرية محترمة جدا ، وقد ورد : أن الأرواح جند مجندة.

وقد ورد في القرآن الكريم (١) : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). الذي يدل على أن آدم عليه‌السلام ، كان موجودا هو وذريته لا بأجسامهم بل بأرواحهم. والله تعالى كشف لآدم ذريته إلى يوم القيامة دفعة واحدة.

فقوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، يراد به أن الإنسان في هذه الدنيا يكون ناسيا للعالم الآخر الذي كان فيه ، ثم قد يبدأ بالتذكر. وهو من حسن التوفيق ، ونحو من التعليم من قبله تعالى.

كما يمكن أن نفهم أطروحة أخرى ، وحاصلها : أن الله تعالى أودع كثيرا من الأشياء في خلقة الإنسان وروحه. فمتى كان لا يعلم؟

جوابه : قبل خلقته. فالإبداع قد وجد بوجود الإنسان ، فهو بمنزلة الماهية ، وقبل وجود هذه الماهية كان لا يعلم. أي من حين وجود روحه لا

__________________

(١) البقرة / ٣١.

٤٣٥

جسمه حصل العلم ، بحصول الإبداع ، وقبل وجوده كان لا يعلم. إن قلنا إن الأرواح حادثة.

قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى).

قال في الميزان في معرض حديثه عن الآية (١) : ردع عما يستفاد من الآيات السابقة أنه تعالى أنعم على الإنسان بعظائم النعم مثل التعليم بالقلم وسائر ما علم ، والتعليم عن طريق الوحي ، فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك. لكنه يكفر بنعمته ويطغى.

أقول : وفكرة الردع خطأ فظيع ، لأنه ليس في الآيات السابقات إلّا الحق. فلا معنى للردع عنها ، كما لا معنى لنفيها ، ولا يحتمل ذلك لا تكوينا ولا تشريعا. وإنما المراد استبعاد اتباعها من قبل الإنسان الذي يغلب فيه الطغيان.

فكأن الاتصال بالله شيء ووضع الإنسان خارجا شيء آخر. وأكثر الناس طغاة مع شديد الأسف. وليس فقط الحكام والجبابرة. قال تعالى (٢) : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

سؤال : عن معنى الطغيان؟

جوابه : أن الطغيان والسيطرة مفهومان متساويان. والإنسان عادة مسيطرة على نفسه ، وقد يكون مسيطرا على غيره. فيتخذ الأمر أشكالا من المصاديق :

أولا : التمرد على أصول الدين ، أو قل : إنكار أصول الدين. وهو عنوان عام يشمل أيّا من الأصول الخمسة. قال تعالى (٣) : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٢٤.

(٢) يس / ٣٠.

(٣) فصلت / ٢٢.

٤٣٦

ثانيا : التمرد على فروع الدين. كترك الصلاة.

وهذان الأمران يجتمعان مع ما قلناه من قبل بأن الإنسان قد يتمرد على نفسه تارة وعلى غيره تارة أخرى ، بكلا الشكلين : ففي أصول الدين يكون مضلا لنفسه وللآخرين. قال تعالى (١) : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). وقال (٢) : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي). وفي فروع الدين يكون ظالما لنفسه أو لغيره. قال تعالى (٣) : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). وظلم النفس مكرر في القرآن كثيرا. ومنه قوله تعالى (٤) : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وقال (٥) : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

ثالثا : الشعور بالاستقلالية ، إما بعنوان الشعور بأهمية ذاته وهو الاستكبار. وهو مساوق للشعور بأنه هو الفاعل لكل النعم الموجودة في حوزته قال تعالى عن لسانه (٦) : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي). وإما بعنوان الشعور بالأسباب. ومثاله قوله تعالى (٧) : (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). والثاني أعم من الأول.

فيراد من قوله تعالى : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) : عقد ملازمة شرطية بين الجملتين. كأنه قال : إذا استغنى طغى. وإنما يشعر بالاستغناء إذا (رآه) يعني رأى نفسه بالجنبة الاستقلالية ، أو رأى نفسه مستغنيا. أو أن رؤيته للنفس هي الاستغناء أو أن هناك ملازمة بين رؤية النفس والاستغناء. فيكون المحصل : أن رؤية النفس سبب للشعور بالاستغناء والشعور بالاستغناء سبب للطغيان أعاذنا الله من كل شر.

__________________

(١) النساء / ١١٣.

(٢) سبأ / ٥٠.

(٣) إبراهيم / ٣٤.

(٤) البقرة / ٥٧.

(٥) التوبة / ٣٦.

(٦) القصص / ٧٨ ، وانظر الزمر / ٤٩.

(٧) هود / ٧٢.

٤٣٧

وهنا لا بد من الإشارة إلى ما التفت إليه السيد الطباطبائي (١) : من أن فاعل «رآه» ومفعوله واحد ، وهو الإنسان.

وحسب فهمي أن الإنسان قد يجرد نفسه رائيا ومرئيا في عين الوقت. أي هو الرائي وهو المرئي. ومثاله : أن الفرد قد يرى نفسه في المنام بكامل جسمه ، كأنه يرى إنسانا آخر ، ومع ذلك فهو هو لا غيره.

وهنا قال العكبري (٢) : أن رآه. هو مفعول له أي يطغى لذلك.

أقول : هذا ناشئ من أمرين :

أولهما : فهم التعليل ، أي لأجل أنه يرى نفسه مستغنيا ، أو بسبب ذلك.

ثانيهما : وهو وجه نحوي : قالوا : إن المصدرية تسبك دائما هي مع ما بعدها بمصدر. والمصدر (بصفته مفردا غير مركب) يحتاج إلى محل الإعراب. وهو هنا مفعول لأجله. وأما إذا كان جملة ، فالجمل لا يتعين أن يكون لها محل من الإعراب دائما.

وقول النحويين : إن لك أن تسبك هي مع ما بعدها بمصدر. فيه مناقشة ، لأن إن المخففة من الثقيلة لا تسبك مع ما بعدها بمصدر. فالجملة فيها موضوع ومحمول ، أي أنه معنى تصديقي ، بينما المفرد معنى تصوري ذو نسبة ناقصة. فإن النسبة التامة تزول إذا جيء بدلها بمفرد أو مركب وصفي. وسوف يتغير المعنى بطبيعة الحال.

وقد قالوا في علم الأدب : إن المتكلم أراد أن يعطي صورة متحركة. وهذا إنما يتوفر إذا كان جملة تامة. وأما إذا كان مفردا فلن يكون متحركا بل جامدا. فنكون قد أهملنا جزءا معتدّا به من الأدب القرآني الذي أراده المتكلم. ولا حاجة إلى هذا الإهمال.

سؤال : لما ذا فتحت همزة أن ، مع أن المناسب كسرها؟

__________________

(١) الميزان : ج ٢٠ ، ص ٣٢٥.

(٢) ج ٢ ، ص ١٥٦.

٤٣٨

جوابه : إن لذلك عدة أطروحات محتملة :

أولا : لعل هناك قراءة بالكسر ، فينحلّ الإشكال.

ثانيا : إنه يمكن في اللغة أن يكون الفتح بمعنى الكسر. يعني أن تكون أن المفتوحة بمعنى إن المكسورة.

ثالثا : إن المتكلم جلّ شأنه جعلها مفتوحة لأجل أن يعطي كلا المعنيين. لأن أن المفتوحة مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر. كما أن المكسورة شرطية. والسياق يعطي معنى الشرطية. ففي هذه الأطروحة نقول : إن الكسر موجود ضمنا لا مطابقة.

فإن قلت : فما هو المصدر المسبوك؟

قلت : «استغناءه» أي أن رأى استغناءه ، إلّا أن هذا محل نقاش باعتبار أن المصدر يكون من المدخول المباشر لأن. وهو هنا رآه وليس استغنى. وهذا لا يكون مستقيما لفظا إلّا بتقدير حرف جر محذوف وهو الباء. فإنه يقال : برؤيته أو بسبب الاستغناء.

فإن قلت : فإن الرؤية يمكن أن تلحظ طريقا إلى المرئي وهو الاستغناء كما في قوله تعالى (١) : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). يعني إذا كان الشهر متحققا. ولا دخل للرؤية في تحققه. ففي محل الكلام يمكن حذف الرؤية واعتبار أن مدخول أن المصدرية هو الاستغناء ، فيصح فرض المشهور.

قلنا : أولا : إن الرؤية وإن أمكن أخذها طريقية أحيانا كتلك الآية الكريمة. إلّا أنها هنا لم تؤخذ بهذا النحو ، وإنما المقصود لحاظ الرؤية بذاتها بمعنى الشعور بالاستغناء وليس الاستغناء نفسه. لوضوح أن الاستغناء نفسه وهمي وكاذب.

ثانيا : إن هذا الطراز من التفكير معنوي وليس لفظيا. ومن هنا لا يكون نحويا أو لغويا. فإن فرضنا أخذ الرؤية طريقية معنى. فإنها على حال

__________________

(١) البقرة / ١٨٥.

٤٣٩

مدخول أن المصدرية لفظا. وهذا يكفي من الناحية النحوية. فلا يتم مبنى المشهور.

رابعا : إنه بعد التنزل عما سبق يمكن أن نقول ـ كأطروحة ـ : إن أن المصدرية وما بعدها يسبك بمصدر يكون مبتدأ أو بمنزلة المبتدأ ، وما قبله خبر مقدم. كأنه قال : استغناؤه طغيانه. والخبر يمكن أن يكون جملة إلّا أن المبتدأ لا يصح أن يكون جملة ، فهو جملة نحويا ، إلّا أنه مفرد نظريا. وإنما تحدث بهذا الترتيب ليعطي صورة متحركة وعرفية واضحة.

سؤال : عن قوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى). فإنه لا تكون الرجعى إليه حقيقة ، بعد ما ثبت في علم الكلام استحالة ذلك.

جوابه : يكون هذا على وجوه يتم بيانها بعد بيان مقدمة ، وهي أن نقول : قالوا : إن لكل فعل رد فعل ، وفي الشريعة لكل عصيان عقاب ولكل طاعة ثواب. وهو بمنزلة رد الفعل. وقالوا : إن هناك آيات في القرآن الكريم لها جواب ، أي أن هناك آية بمنزلة السؤال وآية بعدها بمنزلة الجواب. أو قل : بمنزلة المقدمة وبمنزلة النتيجة. أو قل : بمنزلة الفعل وبمنزلة رد الفعل.

وتطبيقها في المورد : أن الفعل هو : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ، ورد الفعل هو : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى).

والآن نذكر وجوه الجواب :

أولا : أن يكون المراد يوم القيامة ، كما هو المشهور.

ثانيا : أن يكون المراد أن الله تعالى يقوم بحسابه ، فكأنه واقف بين يديه وأمامه ، وإن لم يكن كذلك حقيقة. كما أن المصلي حينما يصلي فإنه يقف بين يدي الله. وهذا واضح في أذهان المتشرعة ، وعليه بعض الروايات ، مع العلم أن المقابلة المادية غير موجودة.

ثالثا : أن يكون المراد الإشارة إلى الكمال المطلق ، وهو هدف كل الموجودات وفيها شوق ارتكازي إليه. كما قال الفلاسفة العارفون.

٤٤٠