منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

جوابه : نقضا وحلا :

الأول : وجود قرائن متصلة على تحديده ، إذ ليس المراد مطلق المصلين قطعا ، وإلّا لوصل الذم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين (ع) مع أن مدحهم في القرآن أشهر من أن يذكر.

الثاني : إن المراد بهم حصة خاصة من المصلين بتقييد سابق وتقييد لاحق.

أما التقييد السابق : فهو ما أشار إليه صاحب الميزان قدس‌سره ، حين قال (١) : وفي الآية تطبيق من يكذب بالدين على هؤلاء المصلين ، لمكان فاء التفريع.

فإن قلت : إن ترك الفاء يخل بالسياق اللفظي ، إذن فلا بد منها وإن لم تفد التفريع.

قلت : نعم ، تخل بالسياق عندئذ. غير أنه كان يمكنه أن يستعمل الواو التي لا تفيد التفريع إذا لم يكن التفريع مقصودا. إذن فهو مقصود.

وأما التقييد اللاحق فهو قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ). فهنا مطلق وهو مقيد بقرينة متصلة. فيتكون من القيد والمقيد مفهوم تصوري ضيق. هو المنتقد في الآية دون غيره.

وينبغي هنا أن نلتفت إلى أنه يمكن التقييد بما بعده أيضا ، وهو قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

قوله تعالى : (ساهُونَ).

الظاهر من الساهي هنا هو الذي يحصل منه السهو مرات عديدة ، أو هو مستمر على سهوه.

سؤال : ما معنى السهو؟

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦٨.

١٦١

جوابه : له عدة معان :

المعنى الأول : ترك الصلاة.

فإن قلت : إنه قد فرضهم مصلين.

قلنا : إن المصلين هنا بمعنى المسلمين ـ ظاهرا ـ أو هم من أهل القبلة. لكي ينسجم المعنى ، فهم مصلون ، لاقتضاء الصلاة لهم بالاقتضاء التشريعي ، يعني من تجب عليهم الصلاة. في مقابل الأديان الأخرى التي لا تؤمن بالصلاة.

المعنى الثاني : الشك والسهو الواقع في الصلاة. قال الشهيد الثاني (١) : إن كلّا منهما يطلق على الآخر ، استعمالا شرعيا أو تجوزا لتقارب المعنيين.

ولكن هذا المعنى غير مقصود لأكثر من وجه واحد :

الأول : إن هؤلاء الساهين معاتبون بقوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ). ولم يقل : للساهين.

الثاني : إن الشك والسهو غير اختياري عادة ، فلا يكون الفرد معاتبا عليهما. لأن العتاب والعقاب خاص بما هو اختياري.

فنستنتج من ذلك أن هذا الوجه غير محتمل.

إلّا أن نقول : إن الشك والسهو وإن لم يكن اختياريا ، إلّا أن أسبابه قد تكون اختيارية. فالعتاب يتوجه على عدم ترك أسبابه ورفعها. ولكن ما هي هذه الأسباب ، أعني المنتجة لزوال الشك والسهو؟

هي على نحوين :

الأول : الراحة الدنيوية : يقال : أرح ذهنك لكي لا يكثر سهوك.

الثاني : التكامل في درجات اليقين ، فإن حصول ذلك هناك يكون متعذرا ونادرا.

__________________

(١) الروضة البهية ج ١ ، ص ٣٩٩.

١٦٢

المعنى الثالث : ما فهمه صاحب الميزان قدس‌سره حيث قال (١) : غافلون لا يهتمون بها ، ولا يبالون أن تفوتهم بالكلية أو في بعض الأوقات أو تتأخر من وقت فضيلتها. وهكذا.

أقول : أي يكون حال المكلف الاقتصار على الواجبات وترك المستحبات.

وفيه نقطة قوة : وهي : إن ما ورد من السؤال عن الوجه الأول لا يأتي هنا. لأن معناه أنهم مصلّون ولكنهم متسامحون في صلواتهم. وهذا التسامح لا يكون إلّا من أجل الاهتمام ببعض أمور الدنيا. ما قال في الدعاء (٢) : لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.

سؤال : إنه تعالى قال : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ). فكررت الذين هم ، مرتين فما هي الحاجة إلى الذين هم الثانية؟

وهنا ينبغي التعرف على إعراب الجملة قبل الشروع في الجواب.

«ويل» مبتدأ خبره محذوف ، والجار والمجرور متعلق به. و «هم» مبتدأ و «ساهون» خبره. و «عن صلاتهم» جار ومجرور متعلق باسم الفاعل. ويكون التقدير : الذين هم الساهون عن صلاتهم.

فالضمير «هم» ليس ضمير فصل. بل مبتدأ نحتاج إليه ليكون عائدا على الموصول. بل حتى لو لم يذكر الضمير لاحتجنا إلى تقديره.

و «الذين» مبتدأ و «هم» مبتدأ ثان. خبره «يراءون» والجملة خبر للمبتدإ الأول.

أو «هم» ضمير فصل يفيد التأكيد ، وبالتالي لا تحتاج الجملة إلى وجوده ، لكون العائد صالحا في أن يكون هو فاعل «يراءون». فهنا يتأكد السؤال : لما ذا وجد الضمير؟

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦٨.

(٢) انظر : مفاتيح الجنان ، ص ١٦٧.

١٦٣

جوابه من عدة وجوه :

الوجه الأول : ـ كأطروحة ـ : لعل هناك قراءة بترك «هم». وهذا لا ينافي السياق اللفظي القرآني. والاحتمال مبطل للاستدلال المقابل.

الوجه الثاني : ما عليه المفسرون من أنه وضع لأجل إيجاد التماثل بين الآيتين ، وإحراز وحدة السياق اللفظي بينهما. ولو تركت لما حصل ذلك.

الوجه الثالث : «إن «هم» تفيد التأكيد. والحاجة إلى التأكيد متحققة. وهي التركيز على عصيانهم وفسقهم وسوء تصرفهم. فهم مضافا إلى كونهم (ساهون عن صلاتهم) فإنهم أيضا يراءون ويمنعون الماعون.

الوجه الرابع : إن فيه إشعارا بالتقييد والتحديد ، دون إرادة الكلي المفهوم بدون الضمير. فهذه الصفات خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم. وهم الجماعة المعينة التي تفهم على المستوى المعنوي من التفكير. وهي جماعة كلية لا جزئية. لهم ثلاث صفات : السهو في الصلاة ، والرياء ، والمنع عن الصدقات.

وقوله تعالى : (يُراؤُنَ). يمكن أن يقع الكلام في مادته وهي الرياء تارة ، وفي هيئته أخرى. أما مادة الرياء ومعناها فقد عرضناها تفصيلا في كتابنا. فقه الأخلاق (١) ، فراجع.

وأما من حيث الهيئة فيمكن الالتفات إلى أن فيه سياقا ونسقا قرآنيين :

أما النسق ، فقد قلنا إنه على معنى نهايات الآيات ، ولا نسميه سجعا ولا قافية. لأنه يختلف عنهما عرفا.

و «يراءون» وإن لم تكن نهاية الآية إلّا أن لها نسقا مع ساهون وماعون. وهو نحو من النسق القرآني ، إذا قرأت بالوقف عليها.

وأما السياق فهو على قسمين :

القسم الأول : السياق المعنوي. وهو ما يسمى بوحدة السياق في علم

__________________

(١) ج ١ ، ص ٣٧.

١٦٤

الأصول. ويستدل بها بصفتها من القرائن المتصلة على المعنى.

القسم الثاني : السياق اللفظي ، أي جمال اللفظ القرآني وترتيبه بحيث نحرز كونه مصداقا للهجة القرآنية. فلو اختل واختلف خرج عن كونه قرآنا. كما لو حذفت الواو من قوله : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ). أو جعلت في قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ). أو حذف الضمير المنفصل منها. وهكذا.

سؤال : ما معنى الماعون؟

جوابه : إن فيه أطروحتين :

الأولى : ما قاله في الميزان (١) : كل ما يعين الغير في دفع حاجة من حوائج الحياة. كالقرض تقرضه والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره. أقول : فيكون بمعنى المعين.

الثانية : الظرف من ظروف الطعام. وهو معنى نفهمه الآن بالتأكيد. ويمكن استصحابه بالاستصحاب القهقرى إلى العصر اللغوي الأول.

إلّا أن هذا الاستصحاب إلى صدر الإسلام لا يتم ، لانقطاعه بتفسير أهل اللغة ، فلا يمكن حمل الآية عليه. ولعل استعمالنا لهذا المعنى كان مجازا ، ولو باعتبار كثرة الإعارة له. ثم أصبح حقيقة ، كما هو الآن وجدانا.

إن قلت : إن قضاء الحاجات سيكون : بما في الماعون ، لا الماعون نفسه.

قلنا : أولا : هذا فرع أن يراد بالماعون الظرف. وقد نفيناه.

ثانيا : إنه تلطيف في المجاز كقوله تعالى (٢) : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). يعني أهلها. فكذلك تكون قضاء الحاجة ، بالماعون أي بما فيه.

سؤال : ما هو أصل كلمة الماعون؟ لأن الظاهر أنها كلمة أجنبية أو دخيلة أو «ملمعة» بين العربي والأجنبي.

جوابه : على عدة أطروحات :

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦٨.

(٢) يوسف / ٨٢.

١٦٥

الأولى : ما موصولة. وعون مصدر أو صفة مشبهة. بمعنى ما أعين به الآخرون. أو من يكون عونا للآخرين.

الثانية : ما المصدرية. ويكون المحصل نفسه.

الثالثة : إنه ملمع من لغتين ، فتكون ما فارسية بمعنى نحن ، فتكون بمعنى إعانتنا للآخرين.

١٦٦

سورة الإيلاف

وفي تسميتها عدة أطروحات :

الأولى : الإيلاف. وهو المشهور.

الثانية : قريش ، كما في بعض المصادر.

الثالثة : السورة التي ذكر فيها الإيلاف. أو التي ذكر فيها قريش.

الرابعة : أن نسميها بما تبدأ به وهو قوله : لإيلاف قريش.

الخامسة : أن نشير إليها برقمها في المصحف وهو ١٠٦.

سؤال : ما هو متعلق لإيلاف؟

جوابه : إن فيه عدة وجوه :

الأول : إنه فعل مقدر قبله. مثل : نزلت السورة أو أقول أو يكون أو يحصل. ونحوه لأجل أن يناسب إسناد الجار والمجرور.

الثاني : إنه فعل مقدر بعده ، فيكون المعنى أنه تحصل رحلة الشتاء والصيف لإيلاف قريش.

الثالث : ما ذكره الرازي في هامش العكبري ، حين قال (١) : إنها متعلقة بما بعدها ، وهو قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ).

أقول : إلّا أنه بعيد لأنه بمنزلة المعلول والأثر ، فلا يكون بمنزلة المؤثر.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

١٦٧

ويجاب : إنه أثر للنعمة ومؤثر في الإيلاف. وبالرغم من بعده اللفظي ، فإننا قد نقبل به. ولكن مع الانحصار.

الرابع : إننا إنما نحتاج إلى فعل يرجع إليه الجار والمجرور ، مع وجوده. أما عدمه ، فلا حاجة إلى ذلك كبرويا. ولا يتوقف عليه المعنى بل هو مفهوم بدونه.

الخامس : ما ذكره الرازي ـ أيضا ـ حيث قال (١) إنها متعلقة بآخر السورة التي قبلها. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.

أقول : هذا على أساس أمرين : أحدهما : عدم الفصل بالبسملة. وثانيهما : إنهما سورة واحدة.

وهناك من القرائن ما يدل على وحدة السورتين ، مضافا إلى الروايات من الفريقين. وروايات العامة بترك البسملة بينهما (٢) ، فيكون ذلك أوضح في الوحدة ، ويدفعه : بأنه لا إشكال من وجود البسملة هنا. مع العلم أنه لا توجد بسملة في وسط السورة إلّا في سورة النمل. ووجود البسملة دال على التعدد. وكذلك فإنه مع حصول وجوه أخرى لمتعلق الجار والمجرور ، تنتفي هذه القرينة على الوحدة أيضا.

وأما قرائن التعدد ، فمتعددة :

أولا : وجود البسملة بين السورتين.

ثانيا : ارتكاز المتشرعة.

ثالثا : إنه لا دليل على تتابعها في النزول. بل قد يكون الأمر بالعكس.

رابعا : اختلاف السياق اللفظي. فسورة الفيل تنتهي آياتها باللام ، والإيلاف بالنون.

خامسا : تعدد الهدف أو السياق المعنوي.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٦.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٣٢ ، ص ١٠٤.

١٦٨

سادسا : إن الروايات وإن دلت على الوحدة ، فإن هناك روايات أخرى تدل على التعدد ، ذكرها صاحب الميزان (١) ، أيضا. ولكنه يمكن القول بأن سند هذه الروايات ضعيف. كما أن سند روايات الوحدة ضعيف أيضا.

ومعه ، تسقط كلتا الطائفتين عن الحجية ، إما للضعف أو للتعارض. ونرجع إلى ظاهر القرآن الكريم بالتعدد. وذلك باعتبار الوجوه السابقة التي قلناها.

كما يمكن القول : إن روايات الوحدة تعارض هذا الظاهر القرآني ، فتسقط عن الحجية ، لقولهم عليهم‌السلام (٢) : ما خالف قول ربنا باطل ، اضرب به عرض الجدار. وروايات الوحدة توافق هذا الظاهر ، فتكون معتبرة. وعلى أي حال ، يكون ظاهر القرآن معتبرا.

ثم إن كون الجار والمجرور : (لإيلاف) متعلق بما قبله من سورة الفيل ، ينتج أمرا ، وهو أن حادثة الفيل حصلت لأجل إيلاف قريش ، وأنسها بولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو معنى لطيف إلّا أنه قابل للمناقشة. وعلى هذا تكون وحدة السورتين ، قرينة ـ ولو كانت ناقصة ـ على أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفيل ، كجزء منها.

وهذا الوجه قابل للمناقشة من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن تعلق الجار والمجرور ، يكون بعيدا لفظا ، مع وجود فاصل آية أو أكثر من آية ، لا أقل من البسملة ، وهذا خلاف الظهور الفعلي.

الوجه الثاني : إن في سورة الفيل ستة أفعال : ترى وفعل ويجعل وأرسل وترميهم وجعلهم. فلأي منها يعود الجار والمجرور؟ نذكر عدة أطروحات كلها باطلة :

أولا : أن يعود إلى الجامع بينها ، أي إلى أحدها على نحو الإجمال. وهذا باطل نحويا ومعنويا ، وإن كان متصورا أصوليا.

__________________

(١) راجع الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٦٤ ...

(٢) انظر الوسائل ج ١٨ كتاب القضاء ص ٧٨ ـ ٧٩ ...

١٦٩

ثانيا : أن يعود على «فعل». وفيه نقطة قوة ونقطة ضعف :

أما نقطة قوته : فهي انسجام المعنى. من حيث إن الله تعالى ينتقم من أصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش.

ونقطة ضعفه : بعده اللفظي عن الجار والمجرور ، وهو أمر مهم.

ثالثا : إنه يعود على قوله : (فَجَعَلَهُمْ). ونقطة قوته قربه النسبي من الجار والمجرور. إلّا أنه لا يناسب المعنى الذي اقترحوه ، فيكون على خلاف الظاهر.

الوجه الثالث : إن السبب الذي تدل عليه سورة الإيلاف ، هو إلف قريش لرحلة الشتاء والصيف واستيناسهم بها. ولا ذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فالذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى فعل وانتقم من أصحاب الفيل لأجل إيلاف وأنس قريش برحلاتهم. وهذا هو الأقرب إلى السياق القرآني.

فإن قلت : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولد في عام الفيل ، فيكون مناسبا مع حادثة الفيل.

قلت : إن مئات الحوادث حصلت في عام الفيل. ولكن أهمها ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فينبغي أن تكون هناك قرينة على أنسهم بولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو إشارة إلى ذلك في السياق. وهو منتف.

الوجه الرابع : إن تعلق الجار والمجرور بسورة الفيل ، إنما يصح مع وحدة السورتين ، إذ لا يمكن تعلق الجار والمجرور بسورة مستقلة. وهذا فرع أن تكون سورة الإيلاف نازلة بعد سورة الفيل مباشرة ، لا بعد سورتين أو أكثر أو كانت نازلة قبلها.

إذن ، فجميع هذه الوجوه غير صحيحة. بل يتعلق الجار والمجرور بما ذكرناه من الوجوه السابقة.

سؤال : ما معنى الإيلاف؟

١٧٠

جوابه : الإيلاف هو الأنس والاعتياد. من الثلاثي (ألف) وهو متعد إلى مفعول واحد. أو الرباعي (ألف) وهو متعد إلى مفعولين ، وقيل : لواحد.

والمراد من السورة : الإلف ، أي مادة الثلاثي. والمعنى : إلف قريش للرحلة. ولكنه استعمل الرباعي.

وذلك لأكثر من وجه واحد :

الأول : إنه من قبيل استعمال الرباعي في معنى الثلاثي ، مجازا. ومن هنا احتاج إلى مفعول واحد ، كالثلاثي ، خلافا للميزان الذي ذكر (١) أن المفعول الثاني موجود أو مقدر يعرف مما بعده ، وهو رحلة.

الثاني : إن المراد الرباعي. ويكون المفعول الأول مقدرا. يعني يؤلفون غيرهم : أو يؤلف بعضهم البعض على الرحلة. وهي المفعول الثاني.

سؤال : ما هو محل «قريش» من الإعراب؟

جوابه : هي مضاف إليه للمصدر. ولكن هل هي من إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول؟ قال في الميزان (٢) : وفاعل الإيلاف هو الله سبحانه ، وقريش مفعوله الأول ، ومفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده.

أقول : أي إنه رجح كون الإضافة إلى المفعول. وفيما سبق رجحنا أن الإضافة إلى الفاعل ، أي إن قريشا تؤلف غيرها على الرحلة.

وكما يمكن أن يكون فاعل الإيلاف هو الله سبحانه ـ كما قال ـ يمكن أن يكون أيضا : الأسباب الطبيعية أو التجارة أو الاسترباح أو الضرورة ، باعتبار أن أرضهم كانت ممحلة لا تنبت زرعا (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٣).

و «رحلة» مفعول به للرباعي إن قلنا إنه يأخذ مفعولا واحدا. ولا بد من تقدير مفعول ثان إن قلنا إنه يأخذ مفعولين. أي إن قريشا تؤلف الآخرين رحلة الشتاء والصيف.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦٦.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) إبراهيم / ٣٧.

١٧١

وهناك أطروحة أخرى ، وهي : إنه ليس بالضرورة أن كل فعل متعد إلى مفعولين ، يأخذ مفعولين فعلا. بل يجوز أن يأخذ مفعولا واحدا. وهنا كذلك.

وبتقريب آخر : إننا قلنا : إن الرباعي استعمل بدل الثلاثي ، مجازا. ويمكن القول إنه اكتسب نفس صورته النحوية واللغوية ، بأن يأخذ مفعولا واحدا.

سؤال : لما ذا التكرار في «إيلافهم»؟

جوابه : أولا : ما عليه مشهور المفسرين ، وهو التأكيد. وفيه : إن التأكيد ليس مطلوبا دائما. لأنه ينبغي أن يكون مطابقا لمقتضى الحال. وجوابه : إن المراد بيان كثرة الألفة والهمة نحو الرحلة. فإنه لو لا هذه التجارة لماتوا جوعا. فالأهمية موجودة وتستحق التأكيد بالتكرار.

ثانيا : تغيير المتعلق. فإننا عند ما نقول : ألف زيد عمرا المكان. فإنه يطول الكلام نسبيا. فيمكن أن نقول بدلا عنه : آلف زيد عمرا ألف المكان. فقد دخل الأول على المفعول الأول والثاني على المفعول الثاني. أو نقول : دخل الأول على الفاعل والثاني على المفعول إذا كان متعديا إلى مفعول واحد.

وبهذه الأطروحة نكون قد حصلنا على مبرر للتكرار.

ثالثا : اختلال السياق اللفظي بحذف إيلافهم الثانية. وهو ما يدرك حسا وذوقا.

رابعا : وهي أطروحة لم تخطر على بال أحد. وهي أنه من المحتمل حصول بطء وتلكؤ في الوحي نسبيا. كما لو قال : لإيلاف قريش. وسكت لوجود مانع أو مصلحة. وحين أراد تجديد الكلام كان لا بد من تجديد الارتباط بدون تكرار كامل. فقال : إيلافهم والله تعالى يعلم بعلمه الأزلي ، البطء والتكرار. فأصبحت جزءا حقيقيا من القرآن. لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها هكذا. والاحتمال مبطل للاستدلال.

١٧٢

إن قلت : إن انقطاع الوحي لمانع ، خلاف عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فيه من إشعار عدم الإصغاء للوحي.

قلت : أما من ناحية الكبرى ، وهو لزوم الإصغاء للوحي ، فلا إشكال في كونه مسلما به لأن الوحي من الله سبحانه. ولكنه قابل للمناقشة صغرويا لعدة أسباب :

أولا : إن المتكلم المباشر للوحي ليس هو الله سبحانه بل جبرائيل. يقول سبحانه (١) : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ). فخرجت الصغرى عن تلك الكبرى وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم وأهم من جبرائيل. فليس وجوب الإصغاء متحققا بالنسبة إليه.

ثانيا : إن الخواطر غير اختيارية حتى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوحي يعلم بذلك ، فيسكت حتى تنجلي.

ثالثا : إنه يمكن حصول شغل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كدخول شخص عليه أو غير ذلك من عوارض الدنيا. فيتحول ذهنه اضطرارا عن الوحي. فسكت الوحي حينئذ. فلا بد من التكرار للارتباط.

سؤال : ما المراد من العبادة في قوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ).

جوابه : لمادة العبادة هنا عدة مستويات :

الأول : الدخول في الإسلام ، لأن المخاطب قريش. وهم عبدة أصنام. فخوطبوا للتحول إلى عبادة الله ، أو قل : للدخول إلى الإسلام.

الثاني : تقديم الشكر لله عزوجل على النعم العظيمة المذكورة في السورة الكريمة. على اعتبار أن المخاطب هو كل الناس ، في كل القرآن وهو سبحانه قد أمنهم من خوف وأطعمهم من جوع.

الثالث : الحج. أخذا بالقرينة المتصلة. أي فليعرضوا من هذه الرحلة إلى الرحلة إلى الحج والعبادة. والبيت هو محل الحج على أي حال.

__________________

(١) الشعراء / ١٩٣.

١٧٣

وكل هذه المستويات محتملة وقائمة. ولكن بحسب الظاهر الأولي ، فإن المستوى الأول هو أرجح المحتملات.

أما ذكر البيت فقد لا يكون قرينة على الحج ، وإنما خصّ بالذكر لوضوحه في أذهانهم ، وقربه منهم ، مع إدراكهم بكونه مربوطا بالله تعالى.

ومنه يتضح معنى الفاء في قوله : (فَلْيَعْبُدُوا). فإن فائدتها التفريع على السابق ، أي نتيجة لدوام النعم في رحلة الشتاء والصيف.

سؤال : ما المقصود بالذي في قوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ؟).

جوابه : أمران :

أحدهما : وهو الأرجح أن يراد به الله سبحانه. وهو مذكور في السياق بعنوان : رب هذا البيت.

ثانيهما : البيت ، وهو جزء العلة والسبب الأهم للرزق والأمان. أما الرزق فباعتبار كثرة السواح. وأما الأمن فباعتبار حرمة دخول الحرم المكي والقتال فيه.

غير أن الأرجح ـ كما قلنا ـ هو أن المراد هو الله سبحانه ، لأنه هو المسبب الحقيقي.

سؤال : كيف أمنهم من خوف؟

جوابه : لعدة اعتبارات :

أولا : إن تلك الرحلة التجارية كانت خطرة من عدة جهات للوحوش واللصوص وغير ذلك. ولكنهم كانوا في كل عام يذهبون سالمين ويرجعون سالمين.

ثانيا : إن القوى الكبرى في العالم يومئذ. ككسرى وقيصر ، لم يتعرضوا لهم بالشر ، بالرغم من إمكان ذلك ، وقلة إمكانيات الدفاع لديهم.

ثالثا : إنهم لم يتعرضوا إلى الغزو والغارات التي كان يقوم بها بعض القبائل تجاه بعض. فقد كان هذا معتادا إلّا أنه غير موجود إطلاقا على

١٧٤

أهل مكة ، لقدسية الكعبة والحرم المكي الذي كانت فكرته موجودة إجمالا في الجاهلية وأشير إليه في القرآن الكريم كقوله تعالى (١) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). وقال تعالى (٢) : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ).

هذا. ويمكن أن نقول : إن قوله : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) ، يعني لأجل هذا السبب ، بالرغم من كونه نعتا. وهو لا يفيد هذه الجهة لا نحويا ولا أصوليا ، إلّا أن الحدس العرفي يقرر ذلك. وله شواهد في القرآن الكريم كقوله تعالى (٣) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ ...). وقوله (٤) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ...). وغير ذلك كثير.

سؤال : ما معنى أطعمهم؟

جوابه : إنه على معنى قدم لهم الطعام ومكنهم منه. وهو إما حقيقة أو مجاز. والمراد ليس هو الطعام الحقيقي ، بل مطلق سبل العيش والرزق. كل ما في الأمر : إن إطعامهم إيجابي ، وأمنهم سلبي يعني دفع عنهم أسباب الخوف والبلاء. ومن هنا كان استناده إلى الله أوضح ، لأنه ليس باختيار أحد. وإنما هو المدبر.

وفي الإمكان حمل هذه النعم على النعم المعنوية ، لأن كيان الإنسان على مستويات متعددة : الجسم والنفس والعقل والروح. وقد جعل الله سبحانه لكل منها لذة وألما وخوفا وأمنا.

كما يمكن أن نحمل ذلك على المستوى الأخروي. فأطعمهم من جوع يعني : أثابهم في وقت حاجتهم إلى الثواب ، وأمنهم من خوف ، أي من عقاب جهنم.

__________________

(١) العنكبوت / ٦٧.

(٢) القصص / ٥٧.

(٣) إبراهيم / ٣٩.

(٤) الأعراف / ٤٣.

١٧٥

فإن قلت : هل مثل هذا الكلام مما تستحقه قريش عبدة الأصنام؟

قلت : أولا : إننا حملنا كلا الأمرين (الطعام والأمن) على المعنى المعنوي. فيمكن أن نفهم من قريش المعنى المعنوي أيضا. وذلك أن يكون المراد كل فئة متدنية بالنسبة إلى الكمال الذي لم يصلوه. وإن الوصول إليه منوط بالتوفيق الإلهي الذي أطعمهم وأمنهم وسيّرهم في طريق التكامل الذي مشوا فيه.

ثانيا : إنه تعالى أعطى قريشا نفسها وأطعمهم وأمنهم ، ببزوغ نور الإسلام الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور.

غير أن إنزال الإسلام وتبليغه ، إنما هو سبب اقتضائي للهداية وليس علّيا ، وإنما تنفع حقيقته حينما تتم أجزاء العلة ، بالدخول إلى الإسلام ، وإطاعة أحكامه.

وعلى هذا يمكن القول بإمكان عموم الإطلاق (للإطعام والأمان والنعم الإلهية) إلى كل من المعاني المادية والمعنوية والدنيوية والأخروية ، وعدم الانحصار ببعضها دون بعض.

١٧٦

سورة الفيل

في تسميتها ثلاث أطروحات فقط :

أولا : سورة الفيل.

ثانيا : السورة التي ذكر فيها الفيل.

ثالثا : إعطاؤها رقمها في تسلسلها من المصحف وهو ١٠٥.

سؤال : ما هو محتوى الاستفهام في قوله تعالى : (أَلَمْ)؟.

جوابه : إن له شكلين من المحتوى :

الشكل الأول : أن يكون اعتياديا ، وليس استفهاما استنكاريا وذلك ، إذا كان متعلقا بحادثة الفيل. لأن الحادثة أخذت في السورة مسلمة الصحة ، كما هي كذلك. غاية الأمر أنه استفهام عن العدم الذي لم يتحقق لا عن الوجود الذي حصل.

الشكل الثاني : أن يكون استفهاما استنكاريا. فيما إذا كان متعلقة الرؤية ، وليست أصل الحادثة. كما هو الأوفق بالوجدان.

فإنه قد يتوهم أن المتعلق هو الحادثة الرئيسة كما قلنا. إلّا أنه ليس بصحيح لأكثر من وجه واحد :

أولا : إن مدخوله الرؤية في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ).

ثانيا : إنه خصص حرفا استفهاميا آخر لحادثة الفيل ، هو كيف ، فقال : (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ). فخص القرآن لكل منهما أداة استفهام.

١٧٧

فالأول استفهام عن الرؤية والآخر عن شكل الحادثة.

سؤال : ما المراد بالرؤية في قوله : (أَلَمْ تَرَ؟).

جوابه : من عدّة وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره في الميزان (١) من أن : المراد بالرؤية العلم الظاهر ظهور الحس.

أقول : فيكون المعنى : ألم تعلم علما قريبا من الإحساس. فكأنه مشاهد للحادثة وإن لم يكن كذلك فعلا. لأنها قريبة في تأريخهم ومتواترة ومهمة. ولم يكن العرب قد شاهدوا الفيل قبل ذلك الحين.

الوجه الثاني : إن المخاطب ليس هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل غيره ، من قبيل إياك أعني فاسمعي يا جارة. لأن الفاصل بين نزول الوحي والحاثة ، أربعون سنة. ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد شاهدها ، إلّا أن هناك الكثير من كبار السن الموجودين في ذلك المجتمع ممن شاهدها فعلا. وهم المخاطبون بالآية الكريمة.

الوجه الثالث : أن يراد به رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعلم الباطن ، يكشفها الله تعالى له. والسياق دال على حصول الرؤية فعلا ، لأن مؤدى الاستفهام عن الرؤية استنكاري ، فيؤدي إلى الجزم بالإثبات ، عن حصول الرؤية والعلم.

سؤال : من هم أصحاب الفيل؟

جوابه : أبرهة ، وهو صاحب الفيل. وقد عبر عن الجيش كله بأصحاب الفيل. مع أن صاحبه واحد.

فإن قلت : فإنه لما ذا عبر عن الجيش بأصحاب الفيل؟

قلت : لعدة وجوه :

أولا : لأنهم أتباع أبرهة صاحب الفيل ، وهو الذي خطط لهم بأن يكون

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦١ ...

١٧٨

سيرهم حيث سار الفيل ووقوفهم حيث وقف.

ثانيا : إن الفيل متقدم على الجيش كالقائد. فيكون أبرهة نفسه مسيّرا من قبل الفيل. وهم مسيرون من قبل أبرهة ، فيكون المجموع مسيرا من قبل الفيل. فصحّت النسبة إلى الفيل.

ثالثا : إن المكيين لو نظروا إلى الجيش المعادي لقالوا : جاء الفيل مع جيشه المواكب له. ولعل أفراد الجيش نفسه لا يلتفتون دائما أنهم في معية الفيل. ولكن هذا الشعور يكون واضحا لدى المشاهدين في مكة. والقرآن نزل من زاوية فهم الجيش المعادي.

سؤال : لما ذا قال : (فِي تَضْلِيلٍ) ، ولم يقل في إضلال؟

جوابه : ما قاله في الميزان (١) من أن التضليل والإضلال واحد. أقول : فالثلاثي : ضل ضلالا : وهو لازم. والرباعي منه يكون بالتضعيف : ضلل تضليلا. والتهميز : أضل إضلالا. ويكون متعديا على النحوين. وكلتا المادتين موجودتان في القرآن. غير أنه لم يرد بالتضعيف إلّا في هذا المورد. وذلك لأجل حفظ النسق القرآني في السورة : الفيل. تضليل. أبابيل ، سجّيل.

سؤال : كيف جعل الله تعالى كيدهم في تضليل؟ مع أن المفهوم منه هو التيه في الصحراء ، ولم يحصل.

جوابه : لعدة وجوه :

الوجه الأول : الإشارة إلى ضلال هدفهم أساسا وبطلانه ، وهو هدم الكعبة المشرفة. وإنما جعله الله تعالى كذلك لاستحقاقهم بخباثة أنفسهم.

فإن قلت : إن جعلهم ضالين ، بهذا النحو يلزم منه القول بالجبر.

قلت : أولا : إننا يمكن أن نتنازل عن هذا الوجه إلى الوجوه الأخرى ، فلا يلزم القول بالجبر.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٦١.

١٧٩

ثانيا : ليس كل إضلال يلزم منه الجبر ، وإن كان الإضلال الابتدائي كذلك. إلّا أن هناك أنواعا من الإضلال إنما يحصل كعقوبة على ذنوب سابقة ، وهي من العقوبة المعجلة في الدنيا ، سواء كانت ظاهرية أو معنوية.

فمن العقوبات الظاهرية قوله تعالى (١) : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ).

ومن العقوبات المعنوية المعجلة ، قوله تعالى (٢) : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ). وقوله سبحانه (٣) : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ).

الوجه الثاني : إن المراد إفشالهم في حملتهم تلك. والضلال هو الفشل ، إما مجازا ، أو باعتباره حصة منه بنحو المشترك المعنوي.

وهذا هو الأظهر ، بل إن هدف السورة هو الحديث عن تلك المعجزة الإلهية التي أوجبت النعمة بفشل الجيش المعادي.

الوجه الثالث : إن الضلال لا ينحصر في النية ، بل هو التخطيط القاصر وعدم توقع الحوادث. فإنهم مهما كانوا قد أخذوا الأمور بنظر الاعتبار ، لم يكونوا يتوقعون حصول المعجزة بردهم عن الكعبة. فعدم التوقع هذا ، ضلال وقصور ، مع أنه المناسب لقدسية البيت من ناحية ، ولقدرة الله سبحانه ، من ناحية أخرى.

فيكون تخطيطهم قاصرا وضالا ، لأنهم لم يحسبوا كل الاحتمالات. ولو حسبوها ما فعلوا ولا جاءوا.

__________________

(١) هود / ٨٢.

(٢) التوبة / ٧٧.

(٣) الجاثية / ٢٣.

١٨٠