منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

الموكل بالنار ، أو هو وأعوانه ، وليست النار بذاتها ، وإنما نسب إليها العلم مجازا.

الوجوه الإعرابية في هذه الآيات :

الحطمة الأولى مجرورة بحرف الجر : في.

والحطمة الثانية مرفوعة خبرا لما أو لضمير مقدر.

ويمكن ـ نظريا ـ جر «نار» على أنها بدل من الحطمة الأولى. ولا بأس به ، وإن كان بعيدا.

وأما رفعها فله بابان :

الأول : ما أشار إليه العكبري (١) : قال : «نار الله» أي هي نار الله. أقول : أي إنها خبر لمبتدإ محذوف ، وهو ممكن. لكن يمكن عدم تقدير المبتدأ ، بل جعله ظاهرا ، وهو الحطمة ، ليكون نار الله خبرا له. وتساعد على ذلك القرائن المتصلة.

الثاني : إن نار بدل من الحطمة الثانية المرفوعة. ونلاحظ في بعض المصادر : كسر الحطمة الثانية ، كما في الميزان (٢) وإعراب الكرباسي (٣). وهو خطأ. والصحيح رفعها بالضمة الظاهرة.

ثم إنه ذكر أبو البقاء العكبري (٤) لإعراب اسم الموصول : الّتي تطّلع ، ثلاث أطروحات أو وجوه :

أولا : الرفع على النعت. يعني أن المنعوت هو : نار الله.

ثانيا : إنه خبر لمبتدإ محذوف. يعني هي التي أو الحطمة التي.

ثالثا : إنها في موضع نصب بأعني. يعني : أعني التي.

__________________

(١) «الإملاء» ج ٢ ، ص ١٥٨.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٥٨.

(٣) انظر ملحة الأعراب لمحمد جعفر الكرباسي ، القسم الأول ، ص ٢٣٧.

(٤) الإملاء ج ٢ ص ١٥٨.

٢٢١

ثم قال عز من قائل : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ). بالهمزة بقراءة حفص ، وقرأ غيره بترك الهمز : والهمز أشهر ، إلّا أنه غير موجود في أصل المادة.

قال الراغب (١) : يقال : أوصدت الباب وآصدته : أي أطبقته وأحكمته وبالتخفيف. أي (موصدة) مطبقة.

أقول : فلا بد من فرض باب لجهنم أو أبواب ، وإلّا لم يصدق الإيصاد. وهو منصوص عليه في القرآن الكريم. قال تعالى (٢) : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). كما قد وردت الإشارة إليه في بعض الأخبار أيضا (٣).

وليس المقصود من الجزء المقسوم : أن الباب منقسم إلى قسمين : كما هو المتعارف. إذ لو كان كذلك لقال : منها ولم يقل منهم. فمراده الجزء منهم أي من مستحقيها والمعاقبين فيها. كأنه يتصور جمع واقف أمام جهنم ، فيقال لكل جماعة منهم : هذه الباب التي تدخلون منها. وهذا لا يستلزم الجبر لأنه بسوء اختيارهم وفشل تصرفاتهم.

والآية مشعرة بعدم إمكان الفتح مطلقا ، كأنها موصدة إلى الأبد. وذلك بأكثر من تبرير :

الأول : إن من يفتح الباب لا بد أن يكون مسلطا على الفتح ومالكا للمفتاح ، وهم ليسوا كذلك. فهم آيسون من التصرف بالباب مطلقا ، فمن زاويتهم يكون الإيصاد مؤبدا. وأما من بيده المفتاح فيستطيع أن يفتحها متى شاء ، وهما اثنان : مالك خازن النار ، وقسيم الجنة والنار (٤).

الثاني : إن الباب مغلق من الخارج ، فلا يكون من في الداخل متسلطا على فتحه.

__________________

(١) المفردات مادة «وصد».

(٢) الحجر / ٤٤.

(٣) انظر الميزان ١٢٠ ، ص ١٥٧. وغيره.

(٤) انظر الصواعق المحرقة لابن حجر ص ٧٥ وكنز العمال ج ٦ ص ٤٠٢ ، نقلا عن فضائل الخمسة في الصحاح الستة ، ج ٣ ص ١٠٥.

٢٢٢

وحمل الباب على المجازية أو المعنوية ، وإن كان محتملا ، إلّا أنه غير متعين ، غاية الأمر أننا نعلم أن الباب من جنس ذلك الوجود. فإن قلنا بماديّة جهنم ولو باعتبار القول بالمعاد الجسماني ، لزم القول بمادية الأبواب. وإن لم نقل بذلك ، باعتبار أنها من عالم المثال ونحوه. قلنا : بأن الأبواب مناسبة لها ، وهكذا.

ثم قال عز من قائل : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) ، بفتحتين وقرئ بضمتين.

وعلى قراءة الضم ، فهي جمع عمد أو عماد. كما في تلخيص البيان (١). وعلى قراءة الفتح ، يراد به المفرد ، وهو اسم جنس. واسم الجنس بمنزلة الجمع ، لأنه يدل بدوره على الكثير. إذن ، فلا تفرق هاتان القراءتان في تفسير الآية.

سؤال : ما المراد من أن جهنم في عمد ممدّدة؟

جوابه : قال الشريف الرضي في تلخيص البيان (٢) : والمراد بذلك أنها مطلة عليهم وثابتة لهم. كما يطل الخباء المضروب بانتصابه ، ويثبت بتمديد أعماده وأطنابه.

أقول : إنه قدس‌سره فسر العمد ولم يفسر ممددة. كأنه أخذه مسلما بأن قماش الخيمة ممدد بالعمد أو على العمد. وهذه نقطة ضعفه.

وبناء على هذا الفهم يمكن أن نفهم الآية على أحد أشكال :

الأول : إن السرادق ممدد على العمد. أي سقفه مبسوط على كثير من الأعمدة. وهذا هو الذي أخذه مسلّما.

الثاني : إن السرادق أعمدته ممددة ، أي ممتدة بخط طويل.

الثالث : إن العمد ممددة ، أي مرتفعة وطويلة جدا.

وكل هذه الأشكال ، بناء على كون «ممددة» صفة للعمد ، لا أنها خبر لجهنم ، أو الضمير عائد إليها.

__________________

(١) ص ٢٨٤.

(٢) ص ٢٨٤.

٢٢٣

كما أن الشريف الرضي أهمل معنى «في» ، فإنه إذا كانت جهنم ، كالفسطاط ، أو السرادق ، فينبغي أن يقول : على عمد ممددة. لأن جهنم ليست داخل السرادق بل هي السرادق ـ مجازا ـ. وهذا تناقض عقلي بين أن نتصور جهنم داخل السرادق أو نتصورها هي السرادق.

وعليه ، فينبغي أن نؤول المعنى ، فإما أن نقول : إن «في» هنا بمعنى الباء ، ويراد بها السببية أي : بعمد ممددة. يعني أن السرادق مشدود بالعمد. وإما أن نقول : إنها بمعنى كاف التشبيه. أي كعمد ممددة. أو مثل العمد الممددة. إلّا أنه على ذلك لا يتغير المعنى. لأن الممددة تكون هي العمد لا القماش. فلا بد من زيادة التقدير ، بأن نقول : كخيام أو كسرادق (هي) في عمد ممددة.

وأما الجهة النحوية لهذه الآية ، فهي موقوفة على أن «ممددة» بالجر أو بالرفع. وهذا يجرنا إلى سؤال عما إذا كان بالإمكان القول أن تكون نازلة في الوحي ساكنة. لأن مقتضى القاعدة هو التسكين والوقوف في نهايات الآيات ، وهو مستحب شرعا ، وفي نهاية السورة انقطاع الوحي. إذن ، فقد نزلت ساكنة. ومعه لا يتعين ـ ثبوتا ـ كونها مجرورة أو مرفوعة.

وقوله : في عمد ، بتقدير حرف العطف. والعطف بتقدير تكرار العامل. إما بتكرار الضمير أي : وهي في عمدة ممددة. أو تكرار الضمير ومدخوله أي : إنها عليهم موصدة وإنها في عمد ممددة. ومقتضى التبادر الأرجح أن يكون الضمير وحده هو المكرر.

وممددة ، بالجر على كونها نعتا للعمد المجرور بفي. وبالرفع على احتمالين :

الأول : أن تكون خبرا لضمير تقديره هي.

الثاني : أن تكون جملة تقديرها : هي ممددة في عمد : فالضمير مبتدأ أول ، وممددة مبتدأ ثان ، وخبره الجار والمجرور ، والجملة خبر المبتدأ الأول.

ومقتضى إجماع المفسرين كون «هي» المقدرة عائدة إلى جهنم أو

٢٢٤

الحطمة. ولكني أقول : إنه عائد إلى سكنة جهنم أو المعذبين فيها!

فإن قلت : إنه لا يناسب ذلك.

قلت : بل يمكن ذلك ، لأنه يقول : إنها عليهم موصدة ، فمرجع الضمير قريب.

فإن قلت : هذا مفرد مؤنث : (هي) وذلك جمع مذكر : (هم).

قلت : انتصارا لهذه الأطروحة ـ : إن سكنة جهنم أعيد لهم الضمير على أشكال ثلاثة كما سنشير ، ومعه ، فالمهم هو الواقع ، أو تفهّم النص ، وليس شكل الضمير.

الشكل الأول : قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). فالشخص المقصود هنا مفرد مذكر غائب.

الشكل الثاني : في قوله : عليهم ، مذكر جمع.

فلا بأس أن يتحول إلى التأنيث في المرة الثالثة ، كما تحول إلى الجمع في الثانية. ويمكن أن يرجع إلى أجسادهم أو جثثهم وإن لم يكونوا ميتين. أو باعتبار أن معنى الجمع أقرب إلى معنى المؤنث في اللغة العربية. وقد سبق أن قلنا إن التحويل من المفرد إلى الجمع ليس اعتباطيا بل لحكمة ، وهو كون المقصود من المفرد اسم الجنس ، وهو بمنزلة الجمع ، والجمع بمنزلة المؤنث.

ومعه يكون الممدد ، هو أجسادهم ، وليس جهنم نفسها.

٢٢٥
٢٢٦

سورة العصر

في تسميتها عدة أطروحات :

الأولى : العصر ، وهو المشهور.

الثانية : الإنسان ، وإن كان المشهور أن سورة الإنسان هي سورة الدهر. ولا ينبغي تسمية سورتين باسم واحد.

الثالثة : إنها أيضا سميت بسورة الخسر. غير أنه ليس بصحيح لأن الانطباع العام فيه فاسد قطعا. وذلك لأن الإنسان المعاند ضد الحق ، هو الذي يكون في خسر ، ولا يمكن أن تكون السورة للخسر. بل ينبغي أن يكون اختيار الاسم محترما.

الرابعة : السورة التي ذكر فيها الإنسان أو التي ذكر فيها العصر ، وذلك : على طريقة الشريف الرضي ، في حقائق التأويل.

الخامسة : أن نسميها باللفظ الأول ، فيها : والعصر. وينطق عادة بالكسر لا بالوقف.

السادسة : أن نعطيها رقمها من المصحف الشريف. وهو : ١٠٣.

قوله تعالى : والعصر.

الواو للقسم ، والعصر مقسم به أو مدخول القسم. وقد كان سيدي الوالد قدس‌سره يقول : إن الخلق يقسمون بالخالق. والخالق يقسم بالخلق. ويختار لقسمه بعض الأمور العجيبة أو المهمة. وهنا قد اختار الله سبحانه للقسم شيئا مهما وله درجة من الاعتبار حسب الحكمة الإلهية ، وهو «العصر».

٢٢٧

سؤال : ما معنى العصر؟

جوابه : حسب فهمي ، أن المعاني الأصلية في اللغة اثنان :

أحدهما : الزمان ، في الجملة.

ثانيهما : العصر ، بمعنى إخراج الماء. وهذا لم يخطر في أذهان المفسرين أصلا.

ثم إن الألف واللام ، إما أن تكون عهدية ، وإما أن تكون جنسية. فإذا التفتنا إلى المعنى الأول ، وهو الزمان ، كان للاستعمال في السورة ، عدة معان حقيقية أو مجازية :

المعنى الأول : الدهر ، بما فيه من عجائب دالة على قدرته تعالى. والألف واللام عهدية ، إلى مجموع الدهر.

المعنى الثاني : حقبة من الدهر ، وهذا هو الأنسب لغة. ومعه قد تكون الألف واللام عهدية ، وقد تكون جنسية. فهنا نفرض كونها جنسية ، ويكون المقصود المعنى المطلق لحقب الدهر.

المعنى الثالث : حقبة معينة من الدهر ، وتكون الألف واللام عهدية ، كل ما في الأمر أنها ينبغي أن تكون مهمة ، كعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عصر الظهور ، أو عصر بني أمية ، أو عصر الغيبة الكبرى ، وأهميته إما لحسنه وعدله أو لسوئه.

المعنى الرابع : وقت العصر من النهار ، وله أصل لغوي. ولكن ليس له أهمية تذكر. وعليه فتكون تلك قرينة على عدم إرادته. وخاصة مع عدم انحصاره ، كما هو معلوم.

المعنى الخامس : ما يوجد في وقت العصر من الفريضة المعروفة. أعني صلاة العصر. وفيه : أنه يحتاج إلى تقدير ، والحمل على الحقيقة أولى بطبيعة الحال. فيكون ساقطا من هذه الجهة.

هذا كله بناء على المعنى الأول ، وهو الزمان.

٢٢٨

وأما إذا التفتنا إلى المعنى الثاني ، وهو إخراج الماء ، لم نجد للمعنى الحقيقي أهمية. وإنما ينبغي أن نلتفت إلى المعاني المجازية. من حيث إن كل صعوبة بمنزلة العصر. ومن هنا يقال ضغط عليه أي أحرجه. فبلاء الدنيا نحو من الضغط على المؤمن لكي يتكامل. قال تعالى (١) : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

فهذا البلاء يطهره من الذنوب والعيوب. فكأن الماء الخبيث ، يخرج منه ليبقى بعده نظيفا ، طبقا لفطرة الله الأصلية (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). وهي طاهرة ما لم تنجسها الذنوب والعيوب.

وهذا لا يختلف فيه الحال في الدنيا عن الآخرة. سواء قصدنا صعوبات يوم القيامة أو عذاب القبر أو جهنم نفسها. فكلها نحو من الضغط والعصر.

فإن كان المراد من الألف واللام : العهد. كان إشارة إلى بلاء الدنيا. وإن كان المراد الجنس شمل كلا الأمرين. وكلاهما يدل على عدل الله وحكمته وتدبيره. وبالتالي يستحق أن يقسم به الله سبحانه ، كما أنه أنسب مع الخسر الموعود به في السورة للإنسان.

ولكن يمكن القول انتصارا للمشهور الذي فهم الدهر ، بوجوه :

أولا : إن فهم الدهر في الجملة حقيقي ، وفهم الضغط مجازي ، والحمل على المعنى الحقيقي أولى.

ثانيا : التناسب بين المعنيين المذكورين : الدهر والضغط. من حيث إنه قد يراد من المعنى الأول : الدهر السيئ وعصر البلاء. ويراد بالمعنى الثاني : البلاء الدنيوي : فيرجعان إلى محصل واحد.

وكلا هذين الوجهين قابل للمناقشة :

أما الوجه الأول : فبأمرين :

__________________

(١) الأنفال / ٤٢.

٢٢٩

الأمر الأول : إن الضغط ليس معنى مجازيا للعصر ، بل هو حقيقي. وضع له لغة بنحو الاشتراك اللفظي لا المعنوي.

الأمر الثاني : إن إجراء أصالة الحقيقة خاص بالسامع ولا يشمل المتكلم. فالمتكلم حر في أن يتكلم مجازا أو حقيقة. ويكون الأمل في الحكمة هو ما يكون أكثر أداء للمعنى لا ما يكون متعينا في المعنى الحقيقي.

فإن قلت : فإن وجود القرينة وعدمها هو المحك في تعين الحقيقة من المجاز بالنسبة إلى المتكلم والسامع معا.

قلت : هذا مع القول بأن المجاز غلط بدون قرينة على المشهور المنصور ، إلّا أن بعض أساتذتنا أجازه ، فليس لا بد للمتكلم أن يلتزم به.

ولكن محل حديثنا ليس من ذلك ، لأن الأمر فيه لا يدور بين الحقيقة والمجاز ، بل بين معنيين من المشترك اللفظي. ولا شك أن استعماله بدون قرينة جائز خلافا للمشهور.

أما مناقشة الوجه الثاني ، فلأنه مبني على أطروحات معينة ، ولكنها غير متعينة. فلو قصدنا مطلق الدهر أو الدهر الجيد ، كعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أو قصدنا من المعنى الثاني : البلاء الأخروي ، أو ما يشمله. لم يتفق المعنيان. فهو اتفاق مبني على أطروحات معينة وفي مورد واحد. واحتماله ضعيف. وخاصة الدهر السيئ.

ويمكن الانتصار للمشهور بكبرى أخرى من حيث إنه تعالى ، لا بد أن يختار ما هو الأفضل في اللفظ ، حسب الحكمة الإلهية. وحيث إن قصد الزمان هنا أصلح دينيا واجتماعيا ، فيكون هو الأول.

ولكن ذلك مطعون صغرويا ، بمعنى إمكان التشكيك في التطبيق على محل الكلام ، فإنه من قال : إن استعمال معنى الزمان هنا أولى حسب الحكمة الإلهية؟ فتكون الكبرى غير منطبقة على المورد.

سؤال : كيف يكون الإنسان في خسر ، كما تنص الآية الكريمة. وفيها قسم على ذلك ولام التأكيد وحرف الجر الذي يدل على أن الإنسان في

٢٣٠

داخل الخسر. مع أن للإنسان مميزات تدل على أنه في نجاة وصلاح وهداية ، وفطرة سليمة. فكيف يكون في خسر.

ومن مميزاته : ١ ـ عقله ورشده. ٢ ـ روحه العليا التي هي أعلى من الملائكة. ٣ ـ نظامه الذي يسير عليه ، وخاصة العدل المتمثل بالشرائع السماوية عامة ، والإسلام خاصة.

جوابه : إن ذلك يكون لعدة وجوه محتملة :

الوجه الأول : إن هناك قرينة متصلة تدل على أن المقصود بالإنسان ليس مطلق الإنسان بل بعض حصصه. وتلك هي المحمول : في خسر. فهو يدل على تحديد الموضوع. فمناسبات الحكم والموضوع تدل على أن الإنسان المتدني في خسر ، وليس كل إنسان.

ولكن هذا المقدار غير كاف ، وإن كان صحيحا كبرويا. لأنه يعود إلى القضية التكرارية أو القضية بشرط المحمول ، وهي : أن الإنسان الذي هو في خسر : في خسر. لأن القرينة هي (في خسر) وليس الإنسان المتدني فرجع الحال إلى التكرار ، وسقط الجواب. فتأمل.

الوجه الثاني : هناك قرينة متصلة أخرى في السورة ، وهي قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). يعني أن الإنسان إذا لم يكن كذلك فهو في خسر.

وهذا صحيح ، إلّا أنه لا ينبغي الاقتصار عليه. لأنه سوف يرجع إلى القضية التكرارية أيضا. لأن ظاهر الآية : إن الإنسان الخاسر هو من لم يكن قد عمل الصالحات. والإنسان الخاسر في خسر. فرجع الأمر إلى الدور المضمر ، لا الصريح ، كما عليه الوجه الأول.

الوجه الثالث : إن الألف واللام في الإنسان ، وإن كانت جنسية ، إلّا أنه يكفي في الجنسية مطلق الكلي لا الكلي المطلق. فيكفي قصد الحصة منه.

وبتعبير آخر : إن الألف واللام الجنسية تدل على استيعاب مدخولها ، ومدخولها قد يكون هو كل الإنسان وقد يكون هو بعضه. فتكون القضية

٢٣١

بمنزلة المهملة والمهملة بمنزلة الجزئية ، كما قالوا في المنطق ، فكأنه قال : بعض الإنسان في خسر. ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال والدافع للإشكال.

إلّا أن هنا غير تام ، أيضا ، لأن احتمال أن يكون مدخولها هو بعض الإنسان ، على خلاف ظاهر القرآن. فسقط الجواب ، ورجعت القضية إلى قضية موجبة كلية ، وليست مهملة.

الوجه الرابع : أن نرجع القضية إلى موجبة جزئية بأحد تقريبين :

التقريب الأول : أن نقول : إن مدخول «ال» ليس هو مطلق الإنسان بل هو مقيد بقوله : إلّا الذين آمنوا ... فيكون ذلك قرينة على أن المراد بعض الإنسان لا كله. وقد سبق الكلام فيه.

التقريب الثاني : أن نقول : إن الألف واللام عهدية وليست جنسية. فيرجع إلى بعض حصص الإنسان.

إلّا أن هذا وحده لا يكفي ، لأن ظاهر الألف واللام ، والأصل فيها هو كونها للجنس ولا يمكن حملها على العهدية إلّا بقرائن حالية أو مقالية مفقودة في الآية.

الوجه الخامس : أن نقول : إن الألف واللام مرددة بين الجنس والعهد ، فلا تتعين للجنس ليثبت الإطلاق.

وجوابه : إنه مبني على أنه لا دليل على إرادة الجنس ، مع أن الدليل موجود. فإن الظهور الأصلي فيها ، هو أن تكون جنسية لا عهدية.

ولكن مع ذلك ، فإن هناك قرائن حالية أو مقالية تقرب كون الألف واللام عهدية ، وهي :

أولا : الإشارة إلى الإنسان المتعارف الذي نراه ونسمعه. قال تعالى (١) : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). فإن هذا الإنسان متدن عمليا

__________________

(١) الفرقان / ٤٤.

٢٣٢

هالك فعلا. لأن ٩٠% من البشر غير مسلمين ، و ٩٠% من الباقي غير مؤمنين و ٩٠% من الباقي غير مقلدين أو مقصرون. وهكذا.

وهذا مطلب ، في نفسه صحيح.

ثانيا : إن المعهود هو الجيل المعاصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس كل جيل متدن. مع العلم أن هذا الجيل ، قليل بالنسبة إلى مجموع البشرية.

ثالثا : أن نستعمل لغة حساب الاحتمالات ، فإن أغلب استعمالات الإنسان في القرآن الكريم يراد بها الإنسان المتدني. وعندئذ يمكن أن نلحق المورد المشكوك ، وهو محل الكلام ، بالأعم الأغلب وهو الإنسان المتدني.

قال تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (١) ... إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (٢) ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣) ... إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٤) ... وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٥) ... وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (٦) ... قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (٧) ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٨) ...) وغيرها.

وهناك موردان فقط في القرآن الكريم ، يراد به الإنسان المتكامل.

الأول : قوله تعالى (٩) : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

ونفهم منها الروح العليا للإنسان ، وتلك هي في أحسن تقويم. بل هي أحسن الخلق ، لأن مزاياها لم تعط للملائكة ، فضلا عن غيرهم. وبها وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المعراج إلى محل لم يستطع جبرائيل سلام الله عليه أن يصل إليه. وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت (١٠).

__________________

(١) النساء / ٢٨.

(٢) المعارج / ١٩.

(٣) إبراهيم / ٣٤.

(٤) الأحزاب / ٧٢.

(٥) الإسراء / ٦٧.

(٦) الإسراء / ١٠٠.

(٧) عبس / ١٧.

(٨) العلق / ٦.

(٩) التين / ٤.

(١٠) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ١٥٥.

٢٣٣

الثاني : قوله تعالى (١) : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها). وظاهره : الإنسان الذي يخاف من حصول الزلزلة. غير أننا روينا في كتابنا (٢) : ما وراء الفقه ما يدل على أن المراد بالإنسان هنا هو أمير المؤمنين (ع). وهو الإنسان الكامل.

سؤال : إن المستفاد من هذه الآية الكريمة : أن القاعدة هو خسر الإنسان إلّا ما خرج بدليل. مع العلم أن قوله تعالى (٣)(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). بالعكس. أعني نجاة الإنسان بمقتضى طبعه ، ولذا تعجبوا من دخولهم في جهنم. فما هو الوجه في ذلك؟

جوابه : إن الأطروحات المحتملة ثلاث :

الأولى : إن الأصل هو الخير. ويكون الشر هو المستثنى والطارئ.

الثانية : الأصل هو الشر ، ويكون الخير هو الطارئ بعمل الصالحات ونحوه.

الثالثة : إن كلّا من الخير والشر أصليان وأساسيان في الخلقة. وأي منهما كان متبعا ، كان هو المسيطر على نتيجة الإنسان.

وهنا نحاول الاستدلال على الأطروحة الثالثة ، لتبرز قيمة الوجهين الأولين ، من الناحية الواقعية. وما يمكن أن يستدل به عدة أمور :

أولا : قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(٤). إذا فهمنا الهداية التكوينية لا التشريعية. ويكون المراد : إننا ركزنا في ذاته وفي روحه النجدين ، أي الخير والشر أو قل : الحق والباطل. وما على الإنسان إلّا أن يعصي أحدهما ويطيع الآخر.

وبهذا نجمع بين المضمونين ، فتكون الآية التي ذكرت أن الخير هو المركوز صادقة ، وهو قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). وتكون الآية الأخرى

__________________

(١) الزلزلة / ٣.

(٢) ج ١ ، ق ٢ ، ص ٣٢٠.

(٣) المدثر / ٤٢.

(٤) البلد / ١٠.

٢٣٤

أيضا صادقة : وهي التي دلت على أن الشر هو المركوز. وهو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ). فأحدهما ناظر إلى جانب ، والآخر ناظر إلى الجانب الآخر.

ثانيا : إن الأصل الأول للخلقة هي الروح العليا ، وهي خير لا شر فيه. فالأصل إذن هو الخير. ولكن هذا الخير يقترن بشر في المرتبة المتأخرة عنه. ولكن ذلك ، في نفس الوقت متحقق في المرتبة المتقدمة على الحياة الدنيا. فتكون الحياة الدنيا مبتلاة بخير سابق عنها وبشر أسبق منها. وإن كان الخير أسبق في نفسه من الشر.

أما كون الإنسان مخلوق على الخير ، فباعتبار الروح العليا ، وأما كونه على الشر ، فبتقريبين :

التقريب الأول : إن الشر لا يحتاج في وجوده إلى عمل الشر ، بل يكفي فيه عدم عمل الخير. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات ، فهو على شر. فالإنسان إما أن يعمل الصالحات أو يعمل الشر أو لا يعمل شيئا. فالأول هو الناجي والآخران هالكان. ومحل الشاهد : إن الروح الخيرة الأساسية لا تنفع. فإنها لو كان نافعة لأثرت بحالة الوسط وهي عدم فعل الشر. مع أنه غير كاف في النجاة. وإنما ينبغي أن يقترن المقتضي الأساسي للخير ، بالمقتضي الأساسي للعمل. وهو عمل الصالحات ، لكي تحصل النجاة.

التقريب الثاني : إن الفطرة الأصلية للإنسان وإن كانت صالحة ، فمقتضى الهداية موجودة فيه تكوينا. إلّا أن المقتضى لا يؤثر إلّا مع عدم المانع. وهو مواكبة العمل مع الفطرة. وأما إذا حصل المانع لم تحصل النجاة. ولذا قيل : ما سلككم في سقر.

وهذا مانع عدمي ، يعني إذا لم يعمل فهو على شر ، ولا يتعين أن يعمل الشر ... مضافا إلى ارتكاز الشر أيضا في نفسه. فالمانع أصلي أيضا. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة : إن الإنسان لفي خسر.

سؤال : لما ذا استعمل حرف الجر : في قوله : في خسر. ولم يقل : على

٢٣٥

خسر أو لخسر. مثلا. ولما ذا لم يقل : إن الإنسان خاسر؟

جوابه : إن «في» هنا أبلغ. وذلك لأنه دخل في الخسر والخسر مسيطر عليه. وليس مجرد أنه خاسر أو على خسر. وبتعبير آخر : إن ذلك للتركيز : بأن الإنسان في باطن الخسر ، حقيقة أو مجازا. لكي تكون له الهمة أن يفتقه ويخرج منه.

سؤال : لما ذا استعمل كلمة : خسر نكرة لا معرفة؟

جوابه : إن فيه عدة وجوه من الفهم :

الوجه الأول : أن يراد به الجنس. فكأنه قال : في الخسر. فإن اسم الجنس كالجمع في المعنى.

إلّا أنه لا يتم ، لأنه خلاف الظاهر. لاحتواء الكلمة على تنوين التنكير أو تنوين الوحدة ، وكلاهما ضد معنى الجنس.

الوجه الثاني : أن يراد به خسر إجمالي. لعدم تعيينه. كأنه أراد أن يقول : إن هناك خسر ما سيكون أمامك لا حاجة إلى إيضاحه.

الوجه الثالث : أن يراد به خسر ما حسب الاستحقاق. فإن كل فرد غير صالح يستحق نوعا من الخسر حسب نوعية السوء في عمله. ولكل عامل خسره الذي يستحقه في علم الله.

الوجه الرابع : أن يراد به خسر واحد. ولكنه متشابه ومشترك بين الجميع. وهو خسران النفس. قال تعالى (١) : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). وقال (٢) : (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). وهذا معنى مكرر في القرآن الكريم. وقد انتبه إليه صاحب الميزان قدس‌سره (٣).

فإن قلت : كيف يخسر الإنسان نفسه. مع أن نفسه لا تزول ولا تتبدل ،

__________________

(١) الأنعام / آية ١٢ وآية ٢٠.

(٢) الأعراف / ٥٣.

(٣) الميزان ج ٢٠ ، ص ٣٥٦.

٢٣٦

سواء كان في الجنة أو في النار.

وجوابه : إن الفرد إذا مشى في طريق الحق واليقين : فهو يربح نفسه. كما ورد (١) : من عرف نفسه فقد عرف ربّه. وذلك بأن يعرف نفسه الحقيقية وروحه العليا. وأما إذا مشى في طريق الدنيا والشهوات ، فإنه يخسر نفسه ، أي يبقى جاهلا بحقائق نفسه وروحه وملكاته الواقعية.

وشيء آخر ينفع للإيضاح في المقام ، وهو أن بعض الماديين قالوا : إن تبدل الإنسان من شخصية إلى شخصية أو قل : من أسلوب حياتي إلى أسلوب حياتي آخر ، صعب بمنزلة المستحيل. وأنا أعتقد أنه صعب وليس بمستحيل. فالذي يغيّر عمله تتغير شخصيته بالتأكيد. فيكون معنى الذين خسروا أنفسهم أي خسروا جانب الصلاح في أنفسهم. أو قل : الشخصية الصحيحة والحقة والتي تتصف بالإخلاص واليقين.

الوجه الخامس : ما اختاره صاحب الميزان (٢) ، من أنه جعل نكرة للتهويل والتعظيم. يعني أنه لو كان بالألف واللام لما أفاد ذلك.

وهذا قابل للمناقشة ، لأن التنكير نص أو كالنص بالوحدة ، فيكون ظاهرا ، بما تقتضيه الجزئية أو المهملة على الأقل. ومن الواضح أن الموجبة الكلية أهم منها. لأن محصلها : أنه حائز على كل خسران ، فيكون أعظم وأشدّ هولا.

وبتعبير آخر : إن التنكير لا يراد به الجنس ، بل الواحد. وهذا يحتاج في تتميمه إلى ضم فكرة أخرى نقول : إن الخسر الواحد أهم من الخسر المتعدد. وهذا غير معقول. فأين التهويل والتعظيم؟ فهذا الوجه ساقط. فلو كان هو الوجه الوحيد كان على خلاف الحكمة.

سؤال : الاستثناء المذكور في السورة ، وهو قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات في

__________________

(١) البحار ج ٢ ، ص ٣٢ ، عن مصباح الشريعة.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٥٦.

٢٣٧

ربح. مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم ببيان مضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء. فكيف حصل ذلك؟

جوابه : إن الاستثناء وإن لم يدل بصراحة على أنهم رابحون. ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربع الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح. مع أننا لو فرضنا أنهم ليسوا بربح. فالمضادة حاصلة أيضا ، لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.

وبتعبير آخر : إن المدلول اللفظي ليس إلّا استثناؤهم من الخسر. وليس لبيان أنهم في ربح. كل ما في الأمر ، أنه يمكن أن نستدل نظريا على أنهم في ربح ، بوجوه :

أولا : لما قاله هناك من اتصافهم بهذه الصفات العظيمة وهي أنهم : آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

ثانيا : الملازمة في الارتكاز المتشرعي بين عدم الخسران والربح. لأن الأمر دائر بين الثواب والعقاب ، أو بين دخول الجنة ودخول النار. ولا وسط بينهما. فإذا لم يكونوا في خسر ، بمقتضى الاستثناء ، فهم في ربح.

ثالثا : إن هذه الأعمال مقدمة للربح. والله تعالى أكرم من أن يحجب عنهم مطلوبهم. فيكونون رابحين لا محالة. وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الآية ، لأنها واضحة في إعطاء الطريق والمنهج للخروج من الخسر الأساسي إلى الربح الأساسي ، وانحصار الطريق به. وهذا هو هدف السورة.

سؤال : ما معنى الحق ، في قوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ؟).

جوابه : معناه أحد الأمور :

الأمر الأول : إنه عمل الصالحات المشار إليه بالآية ، ويكون قرينة عليه.

إن قلت : إذن يكون بمنزلة التكرار.

قلت : كلا ، لأن القصد يختلف في الجهتين. فالأول العمل لنفسه ، والآخر الإيصاء لغيره بالعمل الصالح.

٢٣٨

الأمر الثاني : إن الصالحات عمل الظاهر ، والحق عمل الباطن.

الأمر الثالث : إن الصالحات هو الطاعة ، والحق هو التشريع العادل الذي جاء به الإسلام.

الأمر الرابع : إن الصالحات هو فروع الدين ، والحق هو أصول الدين.

الأمر الخامس : إن الصالحات هو الطاعة ، والحق هو التوحيد الخالص.

الأمر السادس : أن تكون الباء للسببية ، مثل قوله تعالى (١) : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). فيكون معنى الآية : إن التواصي يكون بعليّة الحق وتسبيبه ، وهو الله سبحانه. وأما مضمون التواصي فمحذوف ، يدل عليه ما قبله وما بعده.

الأمر السابع : أن نفهم الحق مقابل الحكم. فالحكم ما على الإنسان أن يفعله ، أي ما أمر به شرعا. وأما الحق فهو ما تعلق بالغير من أحكام ارفاقية بالنسبة إلى ذي الحق. فما تعلق بالفرد حكم وما يتعلق بالغير حق.

سؤال : قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). مكرر كثيرا في القرآن الكريم ، ولكنه في هذه السورة مقيد بقوله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). فما هي الحاجة إلى التقييد بالتواصي؟

جوابه : أنه ينبغي أن يكون ذلك واضحا. لأننا قلنا إن عمل الصالحات لنفسه والتواصي بالحق لغيره. ولذا نبّه عليه بخصوصه. وهذا كما ينطبق على الظاهر ، ينطبق على الباطن. كما ورد عنهم عليهم‌السلام (٢) : إنما الأعمال بالنيات. وورد (٣) : نيّة المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله ، إذن ، فالأمر الأساسي هو نظافة الباطن. وبأي معنى فسرنا الحق يكون المطلب ضروريا.

__________________

(١) القلم / ٢.

(٢) الوسائل ج ١ ، ص ٣٣.

(٣) المصدر ، ص ٣٥.

٢٣٩

والحق وحدة لا يكفي ، ولكن الاستقامة والصبر ضروري ، لأن عدمه يلازم عدم الحق. فالصبر معناه استمرار الحق إلى الموت. ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام (١) : عليكم بالصبر ، فإن الصبر من الإيمان ، كالرأس من الجسد. ولا خير في جسد لا رأس فيه. ولا في إيمان لا صبر معه.

فإن الذي يجزع من البلاء الدنيوي ، أو من الارتداع عن المحرمات ، فإنه يكون مرتكبا للمعاصي لا محالة. وإذ جزع من الطاعات أصبح تاركا لها ، فيؤول الأمر إلى الباطل والفسق (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)(٢).

ومعه فينبغي أن يستقيم المؤمن ويصمد ويصبر إلى حين موته. لكي يحشر على المستوى الذي مات فيه. فإن الفرد يحشر على المستوى الذي مات فيه. إن حقا فحق ، وإن فسقا ففسق. ولا يفيده أنه كان مؤمنا سابقا ، ولكنه مات فاسقا ، فإن هذا من الإيمان المستودع. قال تعالى (٣) : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

والعمل الشخصي ، والصبر الشخصي لا يكفي ، بل لا بد من «التواصي» بأن يوصي بعضهم بعضا عن طريق الموعظة والتحذير والتذكير. ونستطيع أن نتصور مجتمعا خاليا من ذلك. فكم سيكون فاسدا ومتدنيا ويكون أفراده في خسر لا محالة.

قال في الميزان (٤) : التواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحثّ على العمل الصالح.

أقول : إن قلت : إن التواصي بالصبر مستحب ، لأن الأمر المستحب مستحب.

قلت : الطعن بالصغرى ، لأن الصبر واجب ، لأننا إذا رفعنا الصبر كان

__________________

(١) نهج البلاغة ، ج ٤ ، ص ١٨ (شرح محمد عبده).

(٢) الحجرات / ١١.

(٣) هود / ٦.

(٤) ج ٢٠ ، ص ٣٥٧.

٢٤٠