منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

اعتراضا على الله تعالى ، ويلزم منه ترك الواجب وعمل المحرم ، فيكون واجبا.

نعم ، يكون الصبر في بعض درجاته مستحبا ، فلا يكون الإيصاء به من الأمر بالمعروف الواجب ، غير أن المجموع من المستحب والواجب يكون مستحبا ، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات. فيكون التواصي أعم من الأمر بالمعروف ، وبينهما نسبة العموم ، والخصوص المطلق.

ولكن نقول : إن بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فمحل اجتماعهما هو أغلب الطاعات ، ولكن قد لا يكون التواصي أمرا بالمعروف ، كما لو كان أمرا بالمستحب أو أمرا مستحبا. كما يحصل عند عدم اجتماع شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد لا يكون الأمر بالمعروف تواصيا ، لأن التواصي إنما هو فيما إذا أوصى بعضهم بعضا ، من باب التفاعل بين الطرفين. وأما إذا كان الأمر بالمعروف من طرف واحد ، فليس تواصيا : بل يصدق السلب من هذه الجهة. فيكون أمرا ولا يكون تواصيا ، فيكون هذا مورد الانفكاك من هذه الجهة.

٢٤١
٢٤٢

سورة التكاثر

لم أجد لها اسما آخر في المصادر. فيكون لها ثلاث أطروحات فقط :

الأطروحة الأولى : التكاثر.

الأطروحة الثانية : السورة التي ذكر فيها التكاثر.

الأطروحة الثالثة : تسميتها بالكلمات التي بدأت بها : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ، مضافا إلى أطروحة رقمها في المصحف الشريف وهو : ١٠٢.

سؤال : من هو المخاطب بقوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

جوابه : إن فيه أطروحتين :

الأولى : أن يكون خطابا لمن يتصف بهذه الصفة ، وهو من ألهاه التكاثر. فيكون المراد : يا من ألهاكم التكاثر قد ألهاكم التكاثر.

الثاني : أن يكون خطابا لأهل الدنيا ، وهم عامة البشر الذين جعلوا الدنيا أقصى همهم ومبلغ علمهم ، فإنهم على هذه الحال سيلهيهم التكاثر.

وهدف السورة هو التحذير من الدنيا والتقريب للآخرة والتركيز بالعقوبة : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ...) أي إذا ألهاكم التكاثر.

سؤال : ما معنى اللهو؟

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) : اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. يقال : لهوت بكذا ولهيت عن كذا. اشتغلت عنه بلهو. قال تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...).

__________________

(١) المفردات مادة : «لهي».

٢٤٣

وقال الراغب أيضا : ويقال : ألهاه كذا أي شغله عما هو أهم إليه. قال تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

أقول : الإنسان في حياته يواجه أمورا ومحتملات عديدة ، يكون بعضها أهم من بعض أو قل : يكون بعضها أهم وبعضها مهم ، إما دنيويا وإما أخرويا ، وإما من كلا الجهتين : فإذا أخذ الفرد بالجانب الأقل أهمية وترك الجانب الأهم ، كان هذا لهوا. في حدود المعنى اللغوي الذي سمعناه. ونتيجة ذلك : أنه يكون معابا أخلاقيا أولا ودنيويا ثانيا وأخرويا ثالثا.

ومن مصاديق ذلك : اللهو العرفي بالالتزام بما هو أدنى عرفا وترك ما هو أعلى. ومن مصاديقه الرئيسية أيضا : التلهّي بأعمال الدنيا عن أعمال الآخرة.

ومن مصاديقه أيضا : أن الإنسان ينصرف إلى عمله الشخصي وينسى العمل لغيره ، فيكون عمله سببا للغفلة من عمل الآخرين الأكثر أهمية ، إن كان كذلك.

فمقاربة الدنيا تكون دائما بهذه الطريقة ، قال تعالى (١) : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ). لأنهم يهتمون بالدنيا ، وكأن الآخرة غير موجودة ، وإن كانوا يعتقدون بأصول الدين.

فقوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ). أي صار التكاثر سبب غفلتكم عن الآخرة.

سؤال : ما معنى التكاثر؟

جوابه : قال في المفردات (٢) : والتكاثر : التباري في كثرة المال والعز ، قال تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

أقول : هنا توجد أكثر من ملاحظة :

الأولى : التباري هو المفاعلة ، كالتضارب والتناصل ونحوها. فلا بد من

__________________

(١) الروم / ٧.

(٢) مادة «كثر».

٢٤٤

وجود اثنين أو أكثر ليحصل ذلك. وهذا هو حال أهل الدنيا ، كل منهم يحاول الزيادة على صاحبه ، ليكون أكثر نفرا وأعز حالا.

ولكن في الإمكان صدق هذه القضية ، من دون لحاظ الآخرين. فالتكاثر هنا ليس إلّا الاستزادة من المال. وهذا هو العمدة ، وخاصة إن لاحظنا وجود الباطن السيئ لدى هذا الفرد.

فالأول من باب المفاعلة ، وهي المكاثرة ، دون الثاني ، وهو التكاثر. فإنه أعم. وكلاهما محتمل في الآية.

الثانية : إن التكاثر أما إثباتي أو ثبوتي. فالتكاثر الإثباتي هو كل صورة ذهنية لهدف دنيوي ، كأحلام اليقظة ، أو التخطيط لتجارة معينة. فهو ليس تكاثرا حقيقيا أو خارجيا ، لكنه تكاثر إثباتي. أو قل تكاثر بالحمل الأولي لا بالحمل الشائع.

ومن انتهى إلى هذه الأفكار ، فقد غفل عن الآخرة ، والتهى بالدنيا عنها. في حين أن التكاثر الثبوتي هو تطبيق تلك الأفكار عمليا وهو أشد في تسبيب اللهو.

سؤال : ما معنى المقابر؟

جوابه : قال في المفردات (١) : المقبرة والمقبرة ، موضع القبور وجمعها مقابر. قال تعالى : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ). كناية عن الموت.

أقول : المقبرة هي الأرض كثيرة القبور. فلا تكون مقابر جمعا لها. وحسب فهمي : أن المقبرة مؤنث مقبر. وهو اسم مكان من قبره يقبره إذا أدخله القبر. فالمقبر مكان القبر ـ بمعنى المصدر ـ وعمليا هو القبر ـ بمعنى الذات ـ والمؤنث وهو المقبرة مثله. فيكون المراد من المقابر القبور لا محل اجتماعها ، وإلّا كان الجميع دالا على التعدد من محال الاجتماع ، وهو أمر غير محتمل ، إلّا أن يراد بالجمع اسم الجنس ، فيكفي وجود الواحد ، مصداقا له. وهو خلاف الظاهر.

__________________

(١) مادة «قبر».

٢٤٥

وبالتدقيق ، فإن المقبرة بالفتح اسم مكان وبالكسر اسم آلة ، وكلاهما يمكن التعبير به عن القبر. فقد يكون اسم آلة ، أي آلة الانتقال من الدنيا إلى الآخرة ، أو آلة الإقبار وهو أن يغيب الجسد عن أعين الناظرين وضرر الآخرين.

إن قلت : لما ذا قال : المقابر ، ولم يقل : القبر؟

قلت : ذلك : أولا : لحفظ النسق القرآني في الآيات.

ثانيا : إن الخطاب للمجموع ، وكل واحد منهم انتهى ونزل إلى قبره. فأتى به جمعا لا مفردا.

سؤال : ما المراد بقوله : زرتم؟

جوابه : قال في المفردات (١) : الزّور أعلى الصدر ، وزرت فلانا تلقيته بزوري ، أو قصدت زوره. نحو وجهته. ورجل زائر وقوم زور نحو مسافر وسفر. وقد يقال : رجل زور ، فيكون مصدرا موصوفا به نحو : ضيف.

أقول : هذا من ناحية اللفظ. وأما من ناحية المعنى ، فيمكن أن نتساءل : هل تؤخذ هذه الزيارة مؤقتة أو دائمة؟

فإن كانت مؤقتة كانت بمعنى الاعتبار بالمقابر حال الحياة ، لأجل التقليل من التكاثر أو الامتناع عنه. لأنه من قبيل ذكر الموت. وقد ورد : إذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور. وورد (٢) : أحيي قلبك بالموعظة ... وذلّله بذكر الموت. من حيث إن ذلك يقلل من الاهتمام بالدنيا ، أو يزيله كله.

وإن كانت هذه الزيارة دائمة ، فستكون تعبيرا آخر عن الموت نفسه. يعني : ألهاكم التكاثر طول حياتكم حتى متّم.

__________________

(١) المفردات مادة : «زور».

(٢) من وصية لأمير المؤمنين (ع) إلى ابنه الحسن (ع) عند انصرافه من صفين. نهج البلاغة ، ج ٣ ، ص ٣٨ ، شرح محمد عبده.

٢٤٦

إن قلت : فإن الزيارة لا تصدق على الميت ، لأنها من مواجهة الزور. ولا يكون ذلك إلّا للإنسان الحي. فلو زار بيتا خاليا أو صحراء لم يصدق ذلك. فكذلك لدى نقل الميت إلى القبر.

قلت : جواب ذلك من عدة وجوه :

الوجه الأول : إمكان التسليم ، بأنه استعمال مجازي ، ولا بأس به.

الوجه الثاني : إمكان الالتزام بحصول نحو من أنحاء النقل اللغوي ، وذلك بإلغاء الشرط المذكور ، وهو التقابل بالزور ، والتوسع إلى مطلق الذهاب. وهذا النقل قد حصل قبل نزول القرآن. فيكون حجة. وقد نزل القرآن على أساسه.

الوجه الثالث : إن هذا يحصل للأموات ، حين ينتقل إليهم ، وتكون جثته بين جثثهم.

الوجه الرابع : إن هذا يحصل للأموات في عالم البرزخ. حيث يجتمعون ويتحدثون. إلّا أن هنا فرقا من حيث اختيار حصول الزيارة. فإن الزائر الحي يكون مختارا في زيارته ، بخلاف الميت فإنه غير مختار بالزيارة لا بجسده ولا بروحه.

إلّا أن هذا أيضا مما لم يؤخذ في الوضع ، وإنما هو قيد غالبي.

ثم قال سبحانه وتعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ...).

كلا لنفي ما سبقت الإشارة إليه ، والزجر عنه ، وهو التلهي بالدنيا والغفلة عن الآخرة ، بأي مستوى من مستوياتها.

وهي مكررة ثلاثا ، وهو نفي مؤكد ومشدد. أو قل : هو أقصى درجات النفي. فقد قال : كلا سوف تعلمون مرتين. ثم قال : كلا. وهي بمعنى تقدير تكرار العامل السابق ، يعني : كلا سوف تعلمون.

وكلا الثالثة ، غير مربوطة بما بعدها لا لفظا ولا معنى. فكأننا نضع

٢٤٧

نقطة بعدها ثم نقول : لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم.

وقد سبق أن قلنا في «سورة الكافرون» : إن الأمر قد يبلغ من الضرورة والأهمية إلى حد ينبغي أن يصل فيه التأكيد إلى أقصى مداه. والتأكيد في اللغة العربية ثلاث مرات كحد أقصى. وهنا مكرر مرتين لفظا ومرة معنى.

سؤال : ما هو سبب التكرار؟

جوابه : قال القاضي عبد الجبار (١) : إن المراد بهما مختلف. فالمراد بالأول (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينزل بكم في الدنيا في حال الحياة والممات. والمراد بالثاني (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يكون لكم في الآخرة من ثواب وعقاب. وهذا بعث من الله على التمسك بطاعته.

أقول : ويمكن أن يجعل قرينة على ذلك : العطف بثم التي تفيد التراخي. بمعنى : في الآخرة. ولكن ينافيها قوله : «سوف» في (كلّا) الأولى الدالة أيضا على بعد الزمان. فيكون كلاهما للآخرة.

وقال صاحب الميزان (٢) : وقيل : المراد بالأول علمهم بها عند الموت ، وبالثاني علمهم عند البعث. وعليه فلا يرد هذا الإشكال.

ولكننا قلنا : إن التكرار للتأكيد والتركيز على الأهمية. وثم هنا ليست للتراخي ، بل للدلالة على عدم كفاية القول مرة واحدة. فتكون الأولى ثبوتية والثانية إثباتية. كأنه قال : ثم أقول كلا ... لمدى أهميته بحيث لا يقوم بأداء المعنى إلّا تكرار اللفظ.

سؤال : ما هو جواب «لو» في قوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ)؟

جوابه : قال العكبري والطباطبائي : إن جواب لو محذوف والتقدير ـ كما في الميزان (٣) ـ : لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن

__________________

(١) تنزيه القرآن عن المطاعن ، ص ٤٧٧.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٥١.

(٣) المصدر والصفحة.

٢٤٨

التباهي والتفاخر بالكثرة. وقدره العكبري بقوله (١) : لو علمتم لرجعتم عن كفركم.

أقول : ولما ذا لا يكون قوله : لترون الجحيم جوابا لها. ولا تكون استئنافا كما زعم في الميزان؟

وقال في الميزان (٢) : واللام للقسم. أي في قوله : لترون ، وحسب فهمي أنها ليست كذلك ، بل للتأكد. وقلنا فيما سبق أن هذه اللام تدخل على الاسم فتسمى لام الابتداء ، وتدخل على الفعل المضارع فتسمى لام القسم. باعتبار أنها تشبه لام القسم ، وإلّا فإنه لا يوجد قسم في السياق.

فإن قلت : إن من جملة الموانع المحتملة لكون : لترون الجحيم جوابا للو : كونها فعلا مضارعا ، في حين أنه يناسب كونه فعلا ماضيا. من قبيل قول العكبري : لو علمتم لرجعتم عن كفركم. ولم يقل لترجعن.

قلنا : هذا إنما يتم فيما إذا كان فعل الشرط ماضيا ، كما في تقدير العكبري : لو علمتم لرجعتم عن كفركم. وأما لو كان فعل الشرط مضارعا جاز أن يكون الجواب مضارعا. كما في الآية. لأنه تعالى قال : (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). وبتعبير آخر : أنه لا بأس بالتماثل بين فعل الشرط وجوابه. إما الفعل بالماضي معا أو بالمضارع معا.

إن قلت : كما قال في الميزان (٣) : ولا يجوز أن يكون قوله لترون الجحيم. جواب لو الامتناعية : لأن الرؤية محققة الوقوع. وجوابها لا يكون كذلك.

أقول : أي إن رؤية الجحيم ليست ممتنعة الوقوع ، بل متعينة وضرورية. كرؤية الجنة والقيامة. فلا يكون جوابا للو الامتناعية. لأن ما يقع في جوابها هو الممتنع لا الممكن.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

(٢) ج ٢٠ ص ٣٥٢.

(٣) المصدر والصفحة.

٢٤٩

وقد أجاب السيد الطباطبائي (قده) على هذا الإشكال ، ولم يعتبره صحيحا. كما سنذكر. ولكنه مع ذلك يرى أن قوله : لترون الجحيم استئناف كلام وقدر للو جوابا آخر. مع العلم أن الإشكال إذا لم يكن واردا ، فلما ذا لا تكون بنفسها جوابا ولما ذا تحتاج إلى التقدير؟

أما الجواب على هذا الإشكال فيتم بوجوه. منها :

الوجه الأول : إن لو هنا ليست امتناعية. بل هي شرطية بمعنى إن وإذا. فإن كان وضعها الأصلي امتناعيا ، فهي مستعملة هنا مجازا في حال عدمه. وقد قلنا في درس الأصول بأن استعمال الحروف مجازا معقول. فتكون : لترون جوابا محققا لأداة الشرط لو غير الامتناعية.

الوجه الثاني : ما أجاب به الطباطبائي حين قال (١) : وهذا مبني على أن يكون المراد برؤية الجحيم يوم القيامة ... وهو غير مسلم. بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين ... وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء الملتهين ، بل ممتنعة في حقهم ، لامتناع اليقين عليهم.

أقول : قوله : لامتناع اليقين عليهم ، يعني بصفتهم ملتهين لا مطلقا. يعني : ولن تعلموا علم اليقين فلن تروا الجحيم بعين البصيرة. وهذا غير محقق الوقوع بل محقق العدم.

ويؤيد هذا الكلام : أن تعلمون وترون ، أفعال مضارعة. والفعل المضارع يشمل الحال والاستقبال. ويمكن التمسك بإطلاقه من هذه الناحية. والحال يراد به الدنيا. والاستقبال يراد به الآخرة.

سؤال : لما ذا فضّلت لو هنا على غيرها ، وهل هناك مصلحة في ذلك؟

جوابه : من أكثر من وجه :

الوجه الأول : إن ذلك أمر اختياري للمتكلم ، فينسد السؤال ، لأنه من

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٢٥٠

غير المنطقي أن تسأل المتكلم عن ألفاظه. كما قلنا في المقدمات.

الوجه الثاني : أنها تدل على الترغيب والترهيب من ناحية العلم المشار إليه بالآية : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ). فهو يرغب الإنسان في تحصيل هذا العلم ، ويرهب الناس منه ، حيث يذهب الذهن فيه كل مذهب. وهذا لا يكون في حروف الشرط الأخرى : إن وإذا.

ويمكن القول : إن لو وإن صرفت عن كونها امتناعية ، لكنها يمكن أن تطعم بمعناها الأصلي الامتناعي ، من زاوية قبولها للجواب من جهة ، ومن ناحية دلالتها على الترغيب والترهيب من جهة أخرى.

بل إذا تقدمنا خطوة أخرى ، أمكننا القول : بأن هذا التضمين الامتناعي للو ، يعطينا هذه الفكرة الخيالية للإنسان : كأن شيئا ممتنعا هو في طريق الوجود. فهو مهم لدرجة اجتماع النقيضين في يوم ما. فهي تقع في الخيال كفكرة رهيبة وعظيمة ، باعتبار هذا التضمين الامتناعي. وهذه الرهبة تشارك في الترغيب والترهيب المشار إليه.

وقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ... للتهديد ، لأن المخاطب به أهل الجهل والغفلة ، بدليل : سوف تعلمون. يعني أنتم الآن غير عالمين. وهو يدل على حصول العلم للجميع. إلّا أن متعلق العلم مجهول. ينال كل واحد منه حسب استحقاقه وترتفع الغفلة بالموت. وقد حذفه المتكلم جلّ شأنه عمدا ليذهب به الذهن كل مذهب. وليذهب به الخيال كل مذهب.

و «سوف» تجعل المضارع نصا بالمستقبل. وإنما كان الأمر استقباليا باعتبار توقع حصول أسبابه. وهي تختلف ما بين الناس.

سؤال : ما هو متعلق اليقين؟

جوابه : إن فيه عدة أطروحات. نذكر منها :

الأطروحة الأولى : اليقين بوجود جهنم. فيكون المعنى : كلا لو تعلمون بجهنم علم اليقين لترون الجحيم.

٢٥١

إلّا أن هذا قابل للمناقشة ، لأن القضية ستكون عندئذ بمنزلة القضية بشرط المحمول أو قضية تكرارية. يعني : إذا رأيتم جهنم فقد رأيتم جهنم. ولا يكاد يكون لها محصل.

الأطروحة الثانية : ما يقوله أهل المقامات من أن المراد : اليقين بالله سبحانه الملازم مع انفتاح البصيرة القلبية. فتحصل بذلك الرؤية لكثير من الأشياء كجهنم والجنة وغيرها.

سؤال : إن العلم واليقين بمعنى واحد. فما هو وجه الحاجة إلى هذه الإضافة في قوله تعالى : علم اليقين؟

جوابه : فيه عدة وجوه :

الوجه الأول : إن العلم يختلف عن اليقين. فإن العلم أعم من العقلي والعرفي. واليقين هو العلم الدقّي أو العقلي. فيكون من إضافة الخاص إلى العام ، أو تقييده به كما نقول : الإنسان العراقي.

الوجه الثاني : إنهما بمعنى واحد ، ولكن مع ذلك يكون تقييد أحدهما بالآخر مفيدا لنتيجة لم تكن قبل ذلك. ولو باعتبار التعمق في العلم أو أهميته فكان مقتضى الحكمة الحصول على هذه النتيجة. فهذا التقييد له فائدة ، أعلى من كلا الأمرين منفردا.

الوجه الثالث : إن المراد هو اصطلاح علم اليقين ، لأنهم قالوا : يحصل أولا : علم اليقين ثم تحصل درجة : عين اليقين.

فإن قلت : إننا لم نسمع اصطلاحا موجودا في القرآن الكريم. وإنما هو دائما عرفي وعقلاني.

قلت : جوابه من أكثر من وجه :

أولا : إنه قد يكون من الفهم الباطني للقرآن الكريم.

ثانيا : إن القرآن هنا أراد أن يجعل باستعماله اصطلاحا جديدا. فهو جعل ابتدائي لاصطلاح جديد ، يعبر عن درجة من درجات العلم.

٢٥٢

وأما الكلام عن (عَيْنَ الْيَقِينِ).

فإنه إن كان اصطلاحا أيضا ، فلا بد أن يكون درجة أعلى من علم اليقين. وذلك لأننا نجد فرقا بين العلم والعيان. فالعلم صورة ذهنية ولكنها مشددة ومؤكدة. أما العيان فهي رؤية حسية مباشرة. فالإنسان يومئذ يرى يوم القيامة أو الجنة أو جهنم. كما يرى الأشياء في الدنيا. قال تعالى (١) : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

وبذلك ، يندفع الإشكال على هذا التركيب. فإن فيه إشكالا من ناحيتين :

إحداهما : التنافي بين العلم واليقين ، فلا يجوز تقييد أحدهما بالآخر. لأنه يكون من تقييد المتنافيين.

ثانيتهما : أن أحدهما عين الآخر ، فلا حاجة إلى التقييد ، لأنهما متساويان.

وكلا التقديرين ليس بصحيح ، والحق أن أحدهما يختلف عن الآخر.

ونبدأ بالإشكال بالناحية الأولى بإظهار كونهما متنافيين كما يلي :

إن قلت : عين اليقين غير مناسب. لأن العين إحساس واليقين وجدان ، فهما متنافيان وليسا من باب واحد.

قلت : إن الإحساس طريق الوجدان. والعين هنا لا يراد بها العين العضوية أكيدا ، بل نتيجتها ، وهو الإحساس البصري أو ما كان واضحا للفرد بمنزلته ، كالإحساس بيوم القيامة ونحوه. إذن ، فالإحساس منتج لليقين ، فلا تنافي بينهما.

لا يقال : إن الإحساس مساوق دائما لليقين ، فيكون من عطف المتساويين على بعضهما البعض.

جوابه : بالالتفات إلى ما يصل إلى الحس من الأوهام والمغالطات

__________________

(١) الذاريات / ٢٣.

٢٥٣

الحسية. كانكسار الخشبة في الماء. فيراد بالإحساس في الآية : الإحساس غير القابل للغلط.

قال العكبري (١) : لترون مثل : لتبلون. وقد ذكر. ويقرأ بضم التاء على ما لم يسم فاعله. وهو من رؤية العين بنقل الهمزة. فتعدى إلى اثنين (أحدهما : نائب الفاعل. والثاني : الجحيم). ولا يجوز همز الواو (لترؤن). لأن ضمها غير لازم. وقد همزها قوم كما همزوا واو اشتروا الضلالة (اشترءوا الضلالة) وقد ذكر.

أقول : وقوله : لأن ضمها غير لازم ، يعني ما دام ضمها غير لازم فهمزها غير لازم. فإمكان الهمزة منوط بالضم. وأما مع الفتح فيكون الهمز متعذرا. وعلى أي حال فتكون القراءات ثلاثا : بضم التاء مع الهمز وبدونه ، وبفتحها. والضم على كلا التقديرين شاذ غير مروي عن المعصومين عليهم‌السلام ، فيسقط عن الاعتبار.

ولكن إذا أصبح رأى مهموزا ، أصبح رباعيا (أو مزيدا فيه) فصار متعديا إلى مفعولين. تقول : أرى فلان فلانا النجوم. ومنه لترون بالضم. ولو لم يكن رأى مهموزا تعدى إلى مفعولين ، مع قصد الرؤية القلبية لا بدونها على المشهور. كما سبق أن ناقشناه.

وقوله : وهو من رؤية العين بنقل الهمزة ، يحتمل فيه أمران :

الأول : معناه : روي بالهمزة. فالمراد من النقل الرواية.

الثاني : إنه نقل من الثلاثي إلى الرباعي بزيادة الهمزة ، فأصبح مدخوله مفعولين.

ولكن إذا كان هذا مقصوده ، فهو على خلاف سياق كلامه ، لأنه قال بعد ذلك : لأن ضمها غير لازم. بمعنى أنها إذا قرئت بفتح التاء فهمز الواو غير معقول. وأضاف : وقد همزها قوم. وسياق كلامه لا يناسب ذلك.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٥٤

قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ). وهي على وجهين : بفتح التاء وضمها وهو الأشهر. أما الأول فبمعنى : أنكم أنتم تسألون عن النعيم. والثاني بمعنى : يسألكم السائلون عن النعيم.

والنعيم يراد به نعيم الآخرة. كما فهمه المشهور. فيكون المراد : أن الإنسان يطالب الله تعالى بالدخول إلى الجنة. فيجاب يومئذ حسب استحقاقه. وقد يكون المقصود من النعيم ما هو أعم من نعيم الدنيا والآخرة. وكلا النعيمين يطالب به الفرد ربه.

وقوله تعالى يومئذ ، بحسب السياق اللفظي ، يدل على أنه حينما ترون الجحيم وحين تعلمون علم اليقين ، حينئذ تسألون عن النعيم.

ومن جملة أساليب الفهم للقرآن الكريم : أن نفهمه متفاصلا وغير متعلق بسياق قبله. فيكون المعنى : أنكم تسألون عن النعيم عند الحاجة إليه وعند الشعور بالافتقار. وأما إذا كان النعيم حاصلا له ، فلا يسأل عنه. ويمكن القول : إن الإنسان حينما يرى جهنم عين اليقين ، ويدخلها ، فإنه سوف يطالب الله تعالى بالجنة. وهكذا حال الإنسان يطالب الله تعالى بالجنة سواء كان في الدنيا ، أو في القبر ، أو في يوم القيامة ، أو في جهنم نفسها.

ولكن انفصال السياق عن الدنيا واضح ، وذلك : لأن الإنسان فيها محجوب عن عين اليقين. فلذا يسأل في الدنيا عن نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. والله تعالى لا بخل في ساحة كرمه. فيعطي ما يشاء لمن يريد وقال (١) : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

سؤال : من هو السائل عن النعيم يومئذ. وما هو النعيم المسئول عنه (بناء على قراءة الضم)؟

جوابه : السائل هو جهة الله تعالى ، سواء قلنا إنه هو الله تعالى بالمباشرة ، أو من قبيل الملائكة ، أو أمير المؤمنين أو الضمير الحي.

__________________

(١) غافر / ٦٠.

٢٥٥

وأما فهم النعيم. ففيه عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : أن المراد نعيم الآخرة ، باعتبار أن الإنسان معاتب يومئذ على النعيم ، ومسئول أنه لما ذا دخل النار ولم يدخل الجنة.

فإن قلت : هذا صحيح من جانب دخوله النار ، فما بال من يدخل الجنة ، هل هو معاتب أيضا؟ فإن لم يكن معاتبا ، كانت القضية خاصة غير عامة.

قلت : بل القضية عامة غير خاصة ، لأن من يدخل الجنة معاتب أيضا ، ومسئول أنه لما ذا لم يختر مقاما أرفع. لأن الكمال لا متناهي فالسؤال لا متناهي. فأينما وصل من الدرجات ، فهو نادم ، لأنه لم يصل إلى المقامات العليا لسوء عمله وتقصيره.

الأطروحة الثانية : ما ورد في بعض الروايات عنهم عليهم‌السلام من أن النعيم يراد به ولاية أهل البيت عليهم‌السلام. كقوله (١) : إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد. وفي خبر آخر (٢) : تسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته.

الأطروحة الثالثة : ما ذكره صاحب الميزان قدس‌سره (٣) قال : ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه ، وهو كل ما يصدق عليه أنه نعمة. فالإنسان مسئول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه.

أقول : ذلك باعتبار أن الألف واللام للجنس ، في قوله : النعيم. وكل نعيم في الدنيا فلا بد مسئول عنه يوم القيامة. أو يراد به التنعم غير المشروع. وعلى أي حال يراد به السؤال وليس العقاب. فيكون عاما ، لأن السؤال يكون حتى فيما لا عقاب عليه.

الأطروحة الرابعة : أن نفهم أن النعيم مترتب على السؤال ، وأن السؤال

__________________

(١) الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٥٤.

(٢) المصدر : ص ٣٥٣.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٥٢.

٢٥٦

بمنزلة العلة للنعيم ، والنعيم بمنزلة المعلول. أي تسألون وتدخلون الجنة.

أما بناء على قراءة الفتح في تسألون ، فهو واضح ، لأنه يكون بمنزلة الدعاء من العبد ، فيجاب. وأما بناء على الضم فلأن من يحصل على درجات علم اليقين. وعين اليقين ، وهي جوانب مختلفة وكثيرة ، فلا يقال له يومئذ : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، لأنه في جنة معنوية وليس في سقر ، ولكن يسأل عن كل مقام من مقاماته المتوقعة ، وأنه هل عمل له عمله المناسب له أم لا.

٢٥٧
٢٥٨

سورة القارعة

نتكلم أولا عن احتمالات تسميتها وهي عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : القارعة ، كما هو المشهور.

الأطروحة الثانية : الموازين.

الأطروحة الثالثة : السورة التي ذكرت فيها القارعة أو الموازين.

الأطروحة الرابعة : رقمها في الكتاب الكريم وهو : ١٠١.

قوله تعالى : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ).

قال العكبري (١) : الكلام في أولها مثل الكلام في أول الحاقة. وقال في الحاقة (٢) : قوله تعالى : الحاقة. قيل : هو خبر مبتدأ محذوف. وقيل : مبتدأ وما بعده خبر ، على ما ذكر في الواقعة. أقول : والقول الثاني هو الذي مال إليه الطباطبائي في الميزان (٣).

وعلى أي حال يتحصل في إعرابه عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : أن يكون لفظا مفردا لا محل له من الإعراب. أتي به للتذكير بالمعنى. وبعده جملة مستقلة إعرابيا. وهذا أمر عرفي ، وإن لم يعترف به النحويون.

الأطروحة الثانية : أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف تقديره هي.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

(٢) ج ٢ ، ص ١٤٣.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٤٨.

٢٥٩

الأطروحة الثالثة : أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف تقديره ما الاستفهامية ، كالذي بعده ، ويدل عليه نفسه بنحو القرينة المتصلة. أي : ما القارعة ما القارعة.

الأطروحة الرابعة : أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف من لفظه ، أي : القارعة القارعة ، والمراد : القارعة هي القارعة ، إلّا أنه لا يخلو عن بعد. لأنه يكون بمنزلة القضية التكرارية.

الأطروحة الخامسة : أن يكون مبتدأ وما الاستفهامية مبتدأ ثاني ، وما بعده خبر. وهو مختار صاحب الميزان ، ولعله أبعد الاحتمالات ، وخاصة لو تجاوزنا الأطروحة الرابعة.

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ).

الاستفهام فيها للتهويل والتخويف.

و «ما أدراك» صيغة تعجب على المشهور. وهذه الجملة قد تكون خبرية وقد تكون إنشائية. فإذا كانت خبرية تكون ما موصولة مبتدأ و (أدراك) جملة فعلية خبر. والمعنى : أن شيئا ما أدراك القارعة وفهمك عنها.

وأما إذا كانت إنشائية ، فتكون ما استفهامية مبتدأ. و (أدراك) خبره. والمعنى : كيف تستطيع أن تدرك القارعة.

وإذا كانت تعجبية كانت إنشائية أيضا ، ويكون المعنى : ما أعظم إدراكك للقارعة.

وعلى كلا التقديرين الأولين ، لا يصح استعمال ما ، لأنها لما لا يعقل. ومن لا يعقل لا يكون سببا للإدراك ، وإنما يكون المناسب استعمال : من. إلّا أن المقصود هو امتناع الإدراك بأي سبب متصور أو منظور من الأسباب الدنيوية. فتكون ما نافية ، والمعنى : أنت عاجز عن إدراك القارعة بالتسبيب المنظور. وحينئذ تكون ما الثانية اسما موصولا مفعولا به.

سؤال : ما المراد بالقارعة؟

٢٦٠