منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

الثاني : التمسك بإطلاق الآية من قوله : خفت موازينه. أي خفت خفة مطلقة وكاملة ، ووصلت إلى درجة الصفر والعدم.

فإن قلت : إنه مع الانعدام لا يسمى خفة باعتبار أن الخفة تدل على وجود شيء خفيف.

قلت : نعم ، لا شك أن شيئا ما موجود. لما قلناه من أن الشخص لا يخلو من الحسنات ، إلّا أن هذا لا ينافي انعدام قيمتها الأخلاقية. كما ورد في مثل قوله (١) : كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.

فإن قلت : فإن العكس أيضا صحيح ، بأن نفهم من الثقل : الثقل الكبير جدا ، بحيث قد لا يكون متناهيا. وعندئذ لا يدخل الجنة إلّا النوادر.

قلت : فيه عدة تعليقات :

الأول : إن التمسك بالإطلاق إلى حد ما لا نهاية بلا موجب. بل بمقدار ما هو مستحقه.

الثاني : إننا نعترف من أن من يدخل الجنة بدون حساب وعقاب قليل جدا.

الثالث : إن السياق ذكر الطرفين : الثقل والخفة. وترك الوسط. أي أن الكثرة وهم المحاسبون لم تذكرهم الآية الكريمة ، وفي ذلك محذوران :

الأول : إنه يمكن القول إن من يدخل الجنة بدون حساب صنفان :

أحدهما : من كان كذلك باستحقاقه. وثانيهما : من كان كذلك بالعفو والرحمة والشفاعة. وهي واسعة.

ومن يدخل النار أيضا صنفان : أحدهما : من تكون أصول دينهم فاسدة والثاني : من تكون فروع دينهم فاسدة. وهم أيضا كثيرون وخاصة مع الالتفات إلى قوله تعالى (٢) : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ). فيستجيب الله تعالى لها ،

__________________

(١) البحار ، ج ٩٢ ص ١٨٥.

(٢) ق / ٢٠.

٢٨١

فيدفع لها مزيدا من الطعام!!

إذن ، فيمكن القول إن الذين لا يحاسبون هم الثلث تقريبا من البشرية. إذن فالآية لم تهمل الأكثرية.

الثاني : إننا قد نتصور أن في الآية مفهوم مخالفة ، باعتبار دلالتها على الحصر. والصحيح أنه لا يوجد ما يدل على ذلك ، ولم تذكر الآية : كم من ثقلت موازينه أو من خفت.

الرابع : من التعليقات : ـ إن المتشرعة أخذوها ساذجة في الثقل والخفة ، ولكننا ينبغي أن ندقق فيها كما يدقق فيها يوم الحساب. كما ورد (١) في تفسير قوله تعالى (٢) : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ). فإذا دققنا عرفنا أن المراد هو ذلك من نتيجة الحساب وبعد تطبيق قواعد العدل الكلية ، لا الخفة والثقل اللذان يظهران لأول مرة.

وبالتالي نستطيع أن نقول : إن الآية مستوعبة لكل البشر ، وليس للبعض.

وترد هنا بعض الإشكالات :

الإشكال الأول : إن السياق دال على منع الخلو لإفادته الحصر. فيكون له مفهوم. وقد نفينا ذلك ، فما هو الوجه في ذلك؟

جوابه : إن استفادة منع الخلو من السياق ليس وجدانيا وإنما هو برهاني. وإلّا سقط عن الاعتبار.

وما يمكن أن يدعى له أحد طريقين : إما ظهور «أما» في الآية الكريمة. وإما صيغة الخفة والثقل باعتبار ظهورهما بالحدية. وكلا الطريقين نتيجته أن لا يكون هناك ثالث لهما.

إلّا أن كلا الوجهين لا يتم.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ج ١ ، ص ٣٦٤.

(٢) الرعد / ٢١.

٢٨٢

أما الطريق الأول : فإن إما لا تدل على الحصر إلّا مع نفي الثالث. فإذا كان هناك ثالث لم تدل على الحصر فقولنا : الإنسان إما عربي أو هندي. فهو لا يدل على الحصر ، لوجود أقسام أخرى للإنسان.

وأما الطريق الثاني : فلا يتم أيضا ، لأنه يوجد هناك ثالث لهما وهو التساوي. فلا يكون دالا على منع الخلو.

الإشكال الثاني : إنه يمكن ترجيح ما عليه المشهور من كون (أمه) يراد بها المعنى المجازي ونار حامية ، يراد بها المعنى الحقيقي. وذلك : باعتبار صيغة التعجب : وما أدراك ما هي؟

جوابه : أولا : إننا لا نسلم أنها للتعجب بل قد تكون للنفي أو للاستفهام على ما سيأتي.

ثانيا : إن التعجب لا ينحصر أن يكون من الأمر الحقيقي ، بل لعله من الأمر المجازي.

ثالثا : لو سلمناهما ، فلا يتعين أن يكون الأمر المتعجّب منه هو (أمه) أم (نارٌ حامِيَةٌ).

إذن يبقى التردد بين الأمرين ولا يتعين الأمر المشهوري.

إن قلت : كيف فسرنا ـ فيما سبق ـ : أمه بالوالدة وبالنفس الأمارة بالسوء ، مع أنها تدل على جهنم ، بحسب القرينة المتصلة وهي قوله تعالى : (نارٌ حامِيَةٌ).

قلت : يجاب ذلك بأمور منها :

أولا : يمكن أن نسلم كما سلم المشهور بالمعنى كأطروحة. فتكون نار حامية بمنزلة الخبر لأمه. وتكون أمه بمنزلة المبتدأ ، مستعملة مجازا. ونار حامية مستعملة بالمعنى الحقيقي.

ثانيا : إنه يمكن عكس المعنى. أي أن أمه مستعملة بالمعنى الحقيقي. و (نارٌ حامِيَةٌ) مستعملة مجازا. فالمعنى : والدته نار حامية بأحد وجهين :

٢٨٣

الوجه الأول : إن سلوكها بمنزلة النار الحامية ، كأن تكون عصبية جدا ، أو مؤذية ونحو ذلك.

الوجه الثاني : إن والدته في جهنم ، أي : ذات نار حامية. بتنزيل المظروف منزلة الظرف. وهي في جهنم حال كونها في الدنيا كما قال الله تعالى (١) : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها). فتكون سببا لضلال أولادها.

فقد دار أمر الاستعمال بين اثنين : الحقيقي والمجازي. والخيارات في ذلك عديدة :

منها : أن نقدم المتقدم لفظا.

ومنها : إجمال العبارة ، بعد تعارض المقتضيين.

ومنها : أن نقدم اللفظين (نارٌ حامِيَةٌ) على اللفظ الواحد ، (أمه) باعتبار أن قرينة اللفظين أولى.

ويجاب ذلك : أن اللفظين هل هما قرينتان لتتقدم على الواحدة؟ بل هما يشكلان مفهوما واحدا متكونا من القيد والمقيد. فتكون قرينة واحدة.

وكذلك (أمه) قرينة واحدة ، فيتعارضان ويسقط التفسير المشهوري.

سؤال : هل الخطاب في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ). للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لغيره؟

جوابه : من أكثر من وجه :

أولا : إنها من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة. فهو بالمباشرة خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالواسطة للمسلمين جميعا.

ثانيا : أن يكون المخاطب بالمباشرة هم المسلمون جميعا ، كما قال تعالى (٢) : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ...) وغيره.

فإن قلت : فإن كان الخطاب للعموم ، فينبغي أن يقول : ما أدراكم.

__________________

(١) الكهف / ٢٩.

(٢) الأنعام / ١١٤.

٢٨٤

قلت : إن المجموع كمجموع هو مفهوم انتزاعي ذهني لا معنى لتحمله المسئولية والتكليف. بل إن المكلف حقيقة هو الفرد. فيكون الخطاب انحلاليا إلى كل فرد. فيصح استعمال المفرد في خطابه.

سؤال : ما المراد بما في قوله تعالى : ما أدراك؟

جوابه : إن فيها احتمالات عديدة : التعجبية والاستفهامية والنافية. وعلى كل تقدير ، يمكن أن تكون مستعملة حقيقة أو مجازا. بناء على ما قلناه من إمكان استعمال الحرف مجازا. وبضرب تلك الثلاثة في هذين الاثنين تكون الاحتمالات ستة.

وعلى ذلك فالاحتمالات الرئيسية كما يلي :

أولا : التعجب. وهو أردأ الاحتمالات ، لأن التعجب سيكون من الإدراك لا من النار الحامية. كما هو مقتضى السياق. وعلى تقدير تسليمه ، فيكون المراد وجود الإدراك لا نفيه. ويكون التعجب من وجوده.

ثانيا : النفي أو الاستفهام وعلى كلا التقديرين : إما أن يراد به التهويل أو التحقيق.

فإذا كان المراد به التهويل ، فقد ذكر الإدراك هنا بصفته طريقيا (لأجل التوصل إلى التهويل). فتقل أهمية الاستفهام أو النفي ، لأنه سؤال عن شيء غير مهم ، وإنما المهم هو مركز التهويل وهو النار الحامية.

وإن كان المراد به التحقيق ، يعني الاستفهام الحقيقي أو النفي الحقيقي ، فهو احتمال ضعيف بطبيعة الحال ، وإن كان يمكن عرضه كأطروحة ضعيفة.

ثالثا : أن يكون نفيا حقيقيا ، طرفه الأفراد الاعتياديون ، أي أنك في الدنيا لا تعلم ما في الآخرة.

أو أنه نفي حقيقي طرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولكن هذا غير مناسب معه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه مدينة العلم ، فتتعذر الدلالة المطابقية

٢٨٥

في حقه. بل المراد العلم الاستقلالي عن إرادة الله تعالى وتعليمه وهدايته. فيكون المراد النفي الحقيقي للعلم الاستقلالي. وهو صحيح.

رابعا : أن يكون استفهاما حقيقيا ، ولكن مدخوله ليس هو النار الحامية ، وإنما هو الإدراك. أي : كيف علمت ما هي؟

فإن قلت : إن هذا تناقض في نفسه ، لأنه خلاف قوله : نار حامية ، فيتعين أن لا يكون السابق عليه استفهاما حقيقيا.

جوابه : من وجهين :

أولهما : أن يكون نار حامية بمنزلة الجواب عن ذلك السؤال.

ثانيهما : أن يكون ذلك دخيلا في الاستفهام نفسه. ويكون المراد : الاستفهام عن سبب الإدراك لكونها نارا حامية. بحيث يكون اللفظ المتأخر قيدا للمتقدم.

سؤال : ما هي الهاء الموجودة في نهاية قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟).

جوابه : قال أبو البقاء العكبري (١) : والهاء في «هيه» هاء السكت. ومن أثبتها في الوصل أجرى الوصل مجرى الوقف لكي لا تختلف رءوس الآي.

أقول : إننا لا نعلم أن الوحي كيف نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه بدويا يحتمل فيه ثلاث أطروحات :

الأولى : وجود هاء السكت.

الثانية : إنها بفتح الياء بدون هاء.

الثالثة : إنها بالوقف على الياء. ومقتضى القاعدة في الوقت على الحرف هو سكونها.

فإذا لم نعلم أن هاء السكت نزلت بالوحي ، وإنما يحتمل أن الكتاب

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٢٨٦

كتبوها هكذا في الصدر الأول. إذن لا حاجة إلى أن نورط أنفسنا في تفسيرها والحديث عنها.

ويمكن القول : إنهم ربما أثبتوها لحفظ رءوس الآي (هاوية ، حامية ، ماهيه) ليستقيم النسق. ولكن مع ذلك نقول : إن النسق بدونها متحقق في الجملة بين الهاء والفتحة. فإن الفتحة بمنزلة الهاء عرفا ، وإن لم تكن كذلك حقيقة.

وأبو البقاء أخذ الأمر مسلما كأن الوحي نزل به ، طبقا لحجية القراءات. ونحن نعلم أننا إنما نحتاج إلى هاء السكت عند الوقف لا عند الدرج بين الآيتين.

وقال أبو البقاء (١) : ومن أثبتها في الوصل أجرى الوصل مجرى الوقف. إلّا أننا قلنا : إن الفتحة بمنزلة الهاء ، كما هو معلوم مع مد النّفس بالفتحة.

وعلى أي حال : فيمكن القول ـ كأطروحة ـ إن نهايات الآيات في هذه السورة أسماء فاعل بمعنى أسماء المفعول (مرضية ـ مهوية ـ محمية).

وقال العكبري أيضا (٢) : ونار حامية خبر مبتدأ محذوف أي : هي نار حامية.

سؤال : كل نار حامية ، فما اختصاص نار جهنم. ولما ذا وصفها بذلك ، مع عموم الوصف؟

جوابه : من وجوه :

الوجه الأول : أن يكون للتهويل ، فإن العرف يدرك أن كل نار حامية ، فإذا وصفت النار بأنها حامية ، فهم منها أنها أكثر حرارة من سائر النيران. وإلّا كان وصفها بذلك لغوا.

الوجه الثاني : إنها حامية بنسبة عالية جدا عن سائر النيران ، بحيث

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المصدر والصفحة.

٢٨٧

تكون سائر النيران تجاهها كالعدم ، كأنها باردة!!

الوجه الثالث : يمكن حملها على الحرارة المعنوية ، كحمى الوطيس في الحرب. ويكون المراد أنها معذّبة لساكنيها عذابا شديدا ، قال تعالى (١) : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها).

ولكننا ينبغي أن نلاحظ أن (حامية) ليست من الحرارة ، لأنه لا يوجد في اللغة «حماوة». وإنما مادتها من الحماية من السوء والشر والضلال.

فإن قلت : فكيف تكون النار حامية بهذا المعنى؟

قلت : لذلك عدة أطروحات ، نذكر منها :

أولا : إذا كان المراد بها نار جهنم نفسها ، فيمكن القول إن الله تعالى قد يرحم الفرد المذنب ، فيضعه في درك منها أقل من استحقاقه. ومعه يكون هذا الدرك حاميا له عن الدرك الذي يستحقه.

ثانيا : إذا كان المراد بها وصف أمه أي والدته ، في بعض الاحتمالات السابقة ، فإن الأم قد تكون عصبية المزاج ومضرة بولدها أو بناتها ، فيكون ذلك سببا لتربيتهم الدينية والمعنوية. إما لأنها عصبية إلى طرف الحق. وإما لأنها عصبية على طرف الباطل. إلّا أن حال أولادها عندئذ يكون في بلاء دنيوي. والبلاء الدنيوي سبب للتربية المعنوية في نفسه. أو قل : هو مقتضى للتربية ما لم يحصل المانع.

ثالثا : إذا كان المراد من النار الحامية : البلاء الدنيوي ، فهو سبب للتربية المعنوية ، كما قلنا قبل لحظة. مما يوجب كونه حاميا عن عقوبة الآخرة.

رابعا : إذا كان المراد بالنار الحامية ، ما يراه الفرد في القبر والبرزخ والقيامة من مصاعب ونيران. فقد ورد (٢) : أن الله تعالى قد يوجد مثل هذه المصاعب إلى عبده ليخفف عنه عذاب جهنم. أو قد لا يوجب دخوله

__________________

(١) النساء / ٥٦.

(٢) انظر نحوه في البحار ، ج ٦ ، ص ١٦٠.

٢٨٨

لها إطلاقا. ومن هنا تكون هذه النار حامية من جهنم.

ثم إن قوله : حامية ، هو من استعمال الثلاثي اللازم. بدلا من الرباعي المتعدي. ولو باعتبار استعمال الثلاثي متعديا مجازا. والمراد أنها محميّة لغيرها. وأما كونها حامية لنفسها ، فهذا معنى عاطل ، لأنها ليست فاعلة لإحماء نفسها. إلّا أن يكون اسم الفاعل قد استعمل بمعنى اسم المفعول أي محماة بفعل الله سبحانه أو بفعل مالك خازن النار ، أو بأمر قسيم الجنة والنار.

٢٨٩
٢٩٠

سورة العاديات

في تسميتها ، كما في أغلب السور ، عدة أطروحات :

أولا : العاديات : وهو المشهور.

ثانيا : السورة التي ذكرت فيها العاديات.

ثالثا : إعطاؤها رقمها في المصحف الشريف وهو : مائة.

قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً).

الواو للقسم ، وقلنا ـ في سورة العصر ـ : إن الخلق يقسم بالله تعالى ، والله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه. فالمسألة هنا اختيارية من قبله سبحانه.

فهو قسم لأجل التوصل إلى النتيجة و (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ). فالقسم لأجل التركيز والتأكيد على ذلك.

سؤال : ما هو معنى العاديات؟

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) : العدو : التجاوز ومنافاة الالتئام. فتارة يعتبر بالقلب ، فيقال : العداوة والمعاداة. وتارة بالمشي فيقال له : العدو. وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة ، فيقال : العدوان والعدو.

أقول : والعادي اسم فاعل من عدا وهو الركض. وهو على معنيين. مادي ومعنوي.

__________________

(١) مادة «عدا».

٢٩١

والمعنى الأول : له عدة تطبيقات :

الأول : الأفراس الراكضة نحو الحرب.

الثاني : الإبل الذاهبة إلى منى يوم العيد.

الثالث : الحجاج الذاهبون من موقف إلى موقف.

الرابع : المسافرون الذي يركبون العاديات (الإبل) في أي سفر.

والمعنى الثاني : أي العدو المعنوي وتطبيقه : شحذ الهمة للاستهداف لأجل نتيجة معينة. وله مصاديق عديدة دنيوية وأخروية ، كطلب العلم وطلب رضاء الله وطلب الجنة.

هذا إذا أخذناها من العدو وهو الركض.

أما إذا أخذناها من الاعتداء ، وهو ـ حسب فهمي ـ أعم من السوء والخير ، وإن كان عرفا أقرب إلى السوء. وذلك بأن يراد به تحميل المسئولية تحميلا ضخما ومهما ، سواء كان بالخير أو بالسوء.

فيكون له عدة مصاديق ، ومصاديقه بالسوء : المعتدون أو الأعداء. قال تعالى (١) : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ). وهو في الآيتين اسم فاعل ، إلّا أنه هنا جمع وهنا مفرد.

وكذلك من مصاديقها : بلاء الدنيا من حيث انتسابها إلى الأسباب كالمرض والفقر وظروف التقية. فإنه نحو من تحمل المسئولية ـ كما قلنا ـ. أما من حيث انتسابها إلى الله تعالى فهو خير ، لأنها من أجل الامتحان واختبار الصبر.

سؤال : ما هو الحديث في قوله : ضبحا؟

جوابه : قال في الميزان (٢) : الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها. وهو المعهود المعروف من الخيل.

__________________

(١) البقرة / ١٧٣.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٥.

٢٩٢

وقال الراغب في المفردات (١) : قيل : الضبح صوت أنفاس الفرس تشبيها بالضباح وهو صوت الثعلب. وقيل : هو حفيف العدو ، وقد يقال ذلك للعدو. وقيل : الضبح كالضبع ، وهو مدّ الضبع في العدو. وقيل : أصله إحراق العود ، وشبه عدوه به كتشبيهه بالنار في كثرة حركتها.

أقول : من الواضح أن الراغب لم يجزم بشيء من هذه الآراء ، وإنما عرضها كأطروحات مصححة للمعنى. كما يمكن أن يكون المراد الرطوبة الخارجة من فم الفرس عند الركض. واستشكل المشهور على هذا القول لأن الإبل والإنسان لا تخرج منه رطوبة ، بل يجف فمه عند العدو. فمع تعين هذا الوجه ، يتعين أن يكون المراد بالعاديات الجياد.

سؤال : ما هو إعراب : ضبحا؟

جوابه : لذلك عدة أطروحات :

الأولى : ما قاله العكبري عنها (٢) : مصدر في موضع الحال ، أي : والعاديات ضابحة.

الثانية : منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل من غير لفظه.

الثالثة : منصوب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره اضبحي ضبحا. أي اركضي ركضا. وفرقها عن الثانية أنها هنا تصح لو كانت معرفة وهناك تصح لو كانت نكرة. كأنه قال هنا : اركض الركض.

وكلا الأطروحتين الأخيرتين قابل للمناقشة :

أما الأول ، فلأنه لا يصح مفعولا مطلقا إلّا بتقدير أمر قبله ، أي اضبحي ضبحا ، وهو هنا مما لا يصح لأنه مناف للقسم. فلو صدق للزم إلغاء القسم. وإنما قد يصح إذا كان على نحو النداء ، يعني يا أيها العاديات اضبحي ضبحا.

__________________

(١) المفردات مادة «ضبح».

(٢) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٢٩٣

وأما الثاني : فلأنه يلزم منه التكرار بالمعنى ، لأن العاديات بمعنى الراكضات. فيكون معنى الركض مأخوذا في كلا اللفظتين : العاديات وضبحا. وهو خلاف الظاهر. فإن المفروض تعدد المعنى كما لو فهمنا من الضبح الرطوبة الخارجة من فم الفرس. فيكون حالا أو في موضع الحال ، كما قال العكبري.

إلّا أن هذه الكبرى غير تامة ، لأن التكرار وإن كان غالبا سمجا ، ولكن مع ذلك قد يكون صحيحا ، كما في المفعول المطلق. فيكون احتمال كونه مفعولا مطلقا باقيا إلى هذا الحد من التفكير.

ثم إن معنى الآية الكريمة : العاديات تضبح ضبحا. له نحو من الحثّ السياقي ، وإن لم يكن أمرا مقدرا. فكأنه تشجيع على العدو والضبح ، فله إفادة الأمر وإن لم يكن أمرا.

إن قلت : أمر العاديات بأن تعدو ، هو من تحصيل الحاصل ، وهو لغو أو مستحيل.

قلت : جوابه من عدة وجوه :

الوجه الأول : أن نفسر الضبح بغير العدو وهو الركض. بل نفسره بأنفاس الفرس أو برطوبة فمها. فينسد السؤال.

الوجه الثاني : أن نقول إنه أمر بزيادة العدو وسرعته ، بحيث يكون العدو السابق عليه منزلا منزلة العدم.

الوجه الثالث : إنه لو كان المنظور في عنوان العاديات ، هي كونها متصفة فعلا بذلك ، كان أمرها محالا ، بعد التنزل عن الوجوه السابقة ، إلّا أنه يمكن القول إن النظر في هذا العنوان إلى الذات لا إلى الصفة ، يعني ذوات العاديات لا بصفتها عاديات. وهو استعمال عرفي أحيانا ، باستعمال الإشارة إلى الذات بالصفة الغالبة لها أو الأهم فيها.

فإن قلت : يمكن أن تكون ضبحا مفعولا به للعاديات باعتبارها اسم فاعل ، فهو يعمل في نصب المفعول.

٢٩٤

قلت : هذا لا يتم لعدة وجوه.

أولا : إن عدا لازم. فإذا تعدى ينبغي أن يكون بحرف ، لا بالمباشرة ، تقول : عدا عليه. والحرف غير موجود.

ثانيا : إن هذا مفعول به. فما هو فاعله؟ له أحد تقديرين كلاهما رديء : ١ ـ أن يكون ضميرا تقديره هي. ٢ ـ أن يكون اسم الفاعل مستغنيا بالمفعول به عن الفاعل. وهو رديء أيضا ، إذ لا يكون أهم من الفعل. وتلك صفة لا تكون للفعل ، فكيف تكون له.

ثالثا : إنه بعد التنزل عن الوجهين السابقين ، فإنه يكون فرض المفعول به معناه : أن العدو أو الاعتداء على الضبح نفسه. وهو سخف في التفكير.

سؤال : عن معنى قوله تعالى : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً).

جوابه : قال العكبري (١) : قدحا مصدر مؤكد ، لأن الموري : القادح.

أقول : أي يكون مفعولا مطلقا ، كأنه قال : القادحات قدحا. والأطروحات التي قيلت في «ضبحا» تقال هنا أيضا :

أولا : إنها مفعول به لفعل مقدر ، كأنه قال : اقدحي قدحا. والتقدير خلاف الأصل ، ولا يتعين إلّا مع الانحصار.

ثانيا : إنها مفعول به للموريات. ولا يرد الإشكال السابق ، لأن أورى متعد بنفسه. ولكن ترد عليه الإشكالات الأخرى.

ثالثا : إنها مصدر سد مسد الحال. أي الموريات إيراء أي حال كونهم كذلك.

سؤال : هل أن الموريات والقادحات بمعنى واحد ، كما سبق أن سمعنا من العكبري في قوله : لأن الموري القادح. فإن المادتين إن كانتا بمعنى واحد ، كان السياق بمنزلة التكرار.

وهو رديء ، لأن الكلمتين متتابعتان لا فاصل بينهما. فيمكن أن يغني أحدهما عن الآخر.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٢٩٥

جوابه : أنهما ليسا بمعنى واحد ، بل بمعنيين لعدة وجوه :

الوجه الأول : إن أورى النار أي أشعلها فارتفع لهبها يعني : أججها. وأما القدح فهو إيجادها بعد العدم عن طريق إيجاد الشرار. فقد ذكر العلة بعد المعلول.

الوجه الثاني : أن نحمل مادة الموريات على الاقتضاء ومادة القدح على الفعلية. كما لو أمرنا شخصا عمله الإشعال بالإشعال.

الوجه الثالث : أن نحمل الموريات على القليل من النار والقدح على الكثير منها عكس ما قلناه في الوجه الأول. ولكن يمكن فهم ذلك كأطروحة بعد ضم مقدمتين :

الأولى : إن القدح بمعنى مطلق النار لا خصوص الشرار.

الثانية : إن القدح هو الشرار ، ولكن زيادة النار تحتاج إلى قدح جديد (مجازا أو حقيقة). فيحمل معنى القدح على النار المتزايدة ، يكون ترقيا من الأقل إلى الأكثر ، وليس تكرارا.

فإن قلت : إنه بغض النظر عما قلناه ثالثا ، لما ذا تقدم ذكر المعلول على العلة ، وكان الأنسب العكس أي قدح فأورى.

قلت : يجاب بأحد وجهين :

أولا : حفظا للنسق القرآني والسياق اللفظي معا.

ثانيا : إنه ليس فيها فاء دالة على الترتيب ليدل على تأخر العلة عن المعلول. ولذا يكون باختياره تقديم أيا منهما شاء.

بل ما وقع أنسب ، لأنه ابتداء بما هو أهم وهو النار العالية ثم يكرر بيان سببه وهو القدح البسيط.

سؤال : عن معنى قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً).

جوابه : المغيرات اسم فاعل من أغار وهو الهجوم بدون سابق إنذار. وكان معروفا لدى العرب وعليه قوت الغالب منهم. وهو ينتج القتل

٢٩٦

والسرقة. إلّا أنه يمكن التجريد عن الخصوصية للإخبار عن كل حرب ومنازلة ، فإنها إغارة على أي حال ، وهذا كما يتفق بالسلاح القديم ، قد يحصل بالسلاح الحديث أيضا.

والصبح له عدة احتمالات :

أولا : الفجر ، وهو الذي يفسر به قوله تعالى (١) : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ). أي الفجر ، مع احتمال كونه من استعمال الخاص بالعام.

ثانيا : طلوع الشمس.

ثالثا : انكشاف الحال قبل الطلوع عند استيقاظ العصافير والدجاج والذباب.

رابعا : أول النهار ، كما سنسمع من الراغب.

خامسا : طلوع الحمرة المشرقية ، وهو ما يظهر من الراغب في المفردات. حيث قال (٢) : الصبح والصباح أول النهار. وهو وقت ما احمرّ الأفق بحاجب الشمس. قال تعالى : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ـ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ).

أقول : وهو طلوع الحمرة المشرقية ، وتكون في نصف الوقت بين طلوع الفجر وطلوع الشمس تقريبا.

سؤال : لما ذا قيد الإغارة بالصبح؟

جوابه : لأكثر من وجه :

الأول : إنه قيد غالبي يمكن تجريده عن الخصوصية. وتركيز الأهمية عرفا في هذه القضية على الإغارة لا على وقتها.

الثاني : إن وقت الصبح مناسب للإغارة والحرب ، من أكثر من ناحية :

أولا : لغفلة العدو فيه ونوم أهله.

__________________

(١) التكوير / ١٨.

(٢) المفردات مادة : «صبح».

٢٩٧

ثانيا : إنه يبقى للجماعة المغيرة زمان كاف لتنفيذ الهدف ، خلال نهار كامل ، قبل أن يحجز بينهما ظلام الليل.

سؤال : عن معنى قوله تعالى : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً).

جوابه : النقع والقتير والعثير والقتام ، هو الغبار. والخيل حينما تضرب على الأرض الرملية فإنها تثير غبارا كثيرا.

قال الشاعر في مدح أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) :

جبريل نادى معلنا

والنقع ليس بمنجلي

والمسلمون قد أحدقوا

حول النبي المرسل

لا سيف إلّا ذو الفقار

ولا فتى إلّا علي

والمراد بالفاعل في الآية : فأثرن ـ فوسطن ـ على المشهور : الخيل المهاجم للعدو.

ونون النسوة إما أن يعود على العاديات ، وهي مؤنث مجازي ، أو إلى الذات المؤنثة الحقيقية ، ويراد بها الخيل.

والضمير «به» وقد أعيد مرتين ، ويوجد في مرجعه احتمالان :

أولا : الضبح ، كما هو ظاهر الميزان (٢). وهو نحو من الإسناد المجازي.

ثانيا : الصبح ، فتكون الباء بمعنى في. ويرد عليه : إن الباء ظاهرها السببية لا الظرفية ، وصرفها عن الظاهر خلاف الظاهر.

فإن قلت : ولكن استعمالها بمعنى في جائز ، إما حقيقة أو مجازا ، كما هو مقرر في علم الأصول.

قلت : ولكنه مع ذلك خلاف الظهور الأولي للآية. فإن ظهورها بالسببية أوضح. وعندئذ لا يكون مرجع الضمير هو الصبح بل شيء آخر ، كالعدو أو القتال. أي بسببه.

__________________

(١) تذكرة سبط ابن الجوزي ، ص : ٣٠.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٥.

٢٩٨

وإن قلت : إن فهم القتال من السياق ، وإن كان ممكنا ، إلّا أنه يحتاج إلى نحو من التقدير.

قلت : يمكن الاستغناء عن معنى القتال ، إلى معنى العدو وهو مذكور في الآية في مادة (العاديات). والعدو يثير النقع ، فيرتفع الإشكال مع حفظ الباء للسببية.

وقوله تعالى : فوسطن ، أي توسطن في داخل الجمع وخلاله وفي قلبه. والمراد به كتيبة العدو ، كما في الميزان (١). وقال : أو المعنى فتوسطن جمعا ملابسين للنقع. أقول : على معنى أن تكون «به» قيدا لما بعدها ، وهو الجمع لا لما قبلها. فتأمل.

قال (٢) : وقيل المراد توسط الآبال جمع منى. وأنت خبير بأن حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الذين يفيضون من جمع إلى منى ، خلاف ظاهرها جدا. أقول : سيأتي عما قليل بعض الكلام عن ذلك ، فانتظر.

والآن لا بد من تطبيق معاني الآيات ، على المعاني الخمسة للعاديات : بعد أن توضحت لنا تفاصيل المعاني. وذلك كما يلي :

المعنى الأول : وهو المشهور جدا بين المفسرين ، بما فيهم صاحب الميزان حيث قال (٣) : وقيل والمعنى : فأقسم بالخيل الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح.

المعنى الثاني : الإبل الذاهبة إلى منى ، أو إلى أي مكان. ويفترض أنها لا تمشي الهوينا بل تؤمر بالركض وتحثّ عليه للوصول إلى الهدف في أسرع وقت. فنطبق ذلك على تفاصيل الآيات :

(ضبحا) : والضبح كما عرفنا ، صفة للخيل ، ولكن يمكن أن يكون صفة للإبل مجازا.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٦.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) المصدر والصفحة.

٢٩٩

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) : فإن الإبل ليس فيها نعل لتقدح الأرض. فلا بد من حمله على المجاز. لأن القدح بمعنى قدح العود الذي يدل على الحرارة ، والسرعة أيضا تنتج الحرارة. فتكون قابلة للانطباق على الإبل والأفراس معا.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يمكن تجريدها عن خصوصية الإغارة الحربية إلى كل مجيء بهمة وبسرعة ، فهو بمنزلة الغارة.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) ويكون المراد به الإبل. فرقها عن الفرس أن الفرس ترجع رجليها إلى الخلف ، فتثير غبارا غليظا. وهو غير موجود للإبل. غير أن الغبار موجود في الجملة ، على أي حال.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) ، يحتمل فيها جمع الناس ، إذا حملناها على مطلق السفر ، ويحتمل فيها الأرض التي تسمى جمع. ولها ثلاثة أسماء : جمع والمزدلفة والمشعر.

ومن فسر العاديات بالإبل ، فسر (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) بالذهاب إلى منى في صبح عيد الأضحى. قال صاحب الميزان (١) : وقيل المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. والسنة أن لا ترتفع حتى تصبح. أقول : ولكن حسب تفسيرنا يكون ذلك واضح الإشكال. لأن جمع هو المشعر. فيكون المراد أنهم دخلوا المشعر لا أنهم خرجوا منه.

فإن قلت : فكيف يكون زمن الصبح؟ قلت : إن دخول المشعر يكون في الصبح ، من الفجر إلى طلوع الشمس.

المعنى الثالث : الناس الحجاج. والنتيجة واحدة مع الوجه السابق. لأن الحجاج لا يكونون راجلين بل راكبي الإبل. فهنا نقصد الراكب ، وهناك قصدنا المركوب (وهو الإبل).

المعنى الرابع : السالكون طريقة الهداية والرحمة. ونطبقه على تفاصيل الآيات :

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٠٠