منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

بل نرى أن أبرهة بعد أن سمع من عبد المطلب رضوان الله عليه ، قوله (١) : للبيت ربّ يحميه. لم يتعظ. واستمر على عزمه على هدم الكعبة. وجدد الحملة في اليوم الثاني.

سؤال : ما هو الوجه في تكرار الاستفهام في الآيتين ، ثلاث مرات قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ).

جوابه : ذلك لأجل التركيز على هدف السورة ، وأهمية المعنى. والتنبيه المتزايد للمخاطب المباشر ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمخاطب غير المباشر وهم المسلمون بل الخلق أجمعين. وتكرار الاستفهام من الجوانب البلاغية المهمة ، أي انتبهوا إن لم تكونوا منتبهين.

قوله تعالى : (وَأَرْسَلَ).

الواو هنا ـ حسب مشهور المفسرين ـ عاطفة ، وقال في الميزان (٢) : والآية التي تتلوها عطف تفسير على قوله : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ).

أقول : ويمكن أن يكون تفصيلا بعد إجمال. كأنه يريد ذكر تفاصيل الحادثة أو أسلوب التضليل والإفشال لجيش الفيل. وذلك بعد الإشارة الإجمالية له. ويكون المعنى : إنه جعل كيدهم في تضليل عن طريق إرسال الأبابيل.

فالواو وقعت بعد الإجمال وقبل التفصيل. وإذا كانت وظيفتها هكذا ، أمكن أن نجعل عدة أدوات محلها : إذ أرسل أو حين أرسل أو كما أرسل. فتكون كلها بمعنى واحد.

على أن قوله عن الواو إنها عاطفة ، لا يخلو من تسامح ، فإنها على أي حال ، من عطف جملة على جملة لا من عطف المفرد. وفي مثلها تسمى الواو استئنافية ولا يقال لها : عاطفة.

__________________

(١) الدرّ المنثور ج ٨ ، ص ٦٢٨.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٦٢.

١٨١

سؤال : من أي مادة صيغة لفظة : (أَبابِيلَ)؟.

جوابه : قال في الميزان (١) : الأبابيل ـ كما قيل ـ جماعة في تفرقة زمرة زمرة. وقال الراغب (٢) : متفرقة كقطعان الإبل.

أقول : أي إن العرب اشتقوا اسمها من الإبل لشبهها بقطعانه المتفرقة ولكن هذا قابل للمناقشة لأكثر من وجه :

الوجه الأول : إذا كان المطلب هكذا أمكن الاشتقاق منه : تأبل يتأبل ، أي أصبح مثل الإبل. ولم يشتق منه العرب. إذن ، لا توجد صلة اشتقاقية بين الإبل والأبابيل. وإنما المشابهة من أجل الصدفة لا غير.

الوجه الثاني : إنه لفظ خماسي أو سداسي. ولا يمكن الاشتقاق منه.

وعلى ضوء ذلك يمكن القول : إن العرب لم يكونوا مسبوقين بهذه اللفظة ، بل لعلها نازلة لأول مرّة في القرآن الكريم. ويكون استعماله على أحد الوجوه التالية :

الأول : أن تكون معرفة أو منقولة من لغة أخرى.

الثاني : أن تكون الكلمة نحتا فوريا أو شخصيا ، غير مستند إلى اللغة. هذا وإن كان في نفسه محتملا ، إلّا أن الكلمة عندئذ تكون غير موضوعة في اللغة وغير مفهومة عرفا.

الثالث : إنه اسم عرفي لنوع من الطير (العصافير) مسمى بذلك كأنه كنية كأبي بريص وأبي قردان.

الرابع : إن اسمها مأخوذ من صوتها الممدود : بيل ، فيكون أبابيل تعبيرا عن مقطعين من صوتها. أو بمعنى ذو الصوت المشابه لكلمة بيل.

الخامس : ما احتمله بعضهم من أن المراد بكلمة : بيل : المسحاة. وقد كان منقار هذا الطير عريضا كالمسحاة. فسميت أبابيل ، أي ذات المسحاة.

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المفردات مادة «أبل».

١٨٢

السادس : أن يكون تشبيها بالمسحاة من ناحية عرض ذيلها ، لا منقارها.

إن قلت : إنه على هذا يكون الأبابيل : اسم جنس يعبر عن نوع من الطير ، فينبغي دخول الألف واللام عليه : الطير الأبابيل. مع أنه ورد في الآية منكرا.

قلت : لأنه إن عرّف لكان مفاده إرسال كل أفراد هذا النوع إلى الجيش المعادي. مع أن الذي حصل هو أنه سبحانه أرسل بعض أفراد النوع. أو قل : أفرادا قليلة منه ، ومع ذلك حصل به هلاك الجيش كله. وهذا بحد ذاته معجزة.

سؤال : كيف أن طيرا مفرد وأبابيل جمع. مع أن القياس خلافه؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن طيرا اسم جنس بمنزلة الجمع. وهو أدل على الجمع من طيور ، لأن الأخير محدد بالكثرة والقلة ، بينما اسم الجنس غير محدد ، بل يصدق على أفراد لا متناهية. ومعه يكون اسم الجنس أقوى دلالة. ومنه قوله تعالى (١) : (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) ، أي ضيوفه.

الوجه الثاني : إنهما متماثلان في الإفراد. لأن أبابيل اسم لكل فرد من هذه الطيور. وكلاهما ـ أي طير وأبابيل ـ اسم جنس. لذا قال : ترميهم. ولم يقل : يرمونهم.

فإن قلت : لما ذا قال ترميهم؟

قلت : لوجهين :

أولا : إن الجمع بمنزلة المؤنث في الذوق العربي ، فيتعين التأنيث.

ثانيا : إننا لو تنزلنا عن تعين التأنيث ، كان المتكلم مخيرا بينهما. ومن المعلوم أن ترميهم ، فاعله لا يعقل ويرمونهم لمن يعقل ، لوجود واو الجماعة. فيتعين الأول أيضا. ولا أقل من أنه اختار الأولى أكيدا.

__________________

(١) الذاريات / ٢٤.

١٨٣

ولكن هذا الوجه (وهو كونهما متماثلين في الإفراد) قابل للمناقشة بنص أهل اللغة (١) ، على أنه جمع. وقيل لا واحد له وقيل إن مفرده : بال أو بول أو بيل.

ولكن يمكن الإيراد عليه : إنه يمكن القول : إننا نسمي الواحد منها أبابيل ، كما نسمي فردا من الملائكة : ملائكة ، ولا نقول : ملك ، وهو مطلب عرفي ، لأن العرف يختار ما هو الأسهل له. فهذا لا يدل على أن المراد بالأبابيل في الآية الجمع ، وإن كان جمعا لغة.

الوجه الثالث : إن محل «أبابيل» من الإعراب ، لا يخلو من أربعة احتمالات ، تصورا : وهي أن تكون خبرا أو صفة أو حالا أو بدلا. وما قيل من لزوم التجانس في الإفراد والجمع ، إنما يصدق على المبتدأ والخبر وعلى الصفة والموصوف. وليس المورد منهما.

ولكنه : إما أن يكون حالا ، بمعنى : جماعات متفرقين ، وليس التطابق بالإفراد والجمع ، ضروريا بين الحال وصاحبه.

وإما أن يكون بدلا ، إذا كان «علم جنس» ولا بأس أيضا بعدم التطابق بين البدل والمبدل منه.

وهنا نكتة لا ينبغي الإعراض عنها ، وهي : إن هذه السورة رغم صغرها ، استعملت ألفاظا غير عربية عديدة ، وهي : الفيل والأبابيل ، والسجيل ، ونسبتها إلى السورة ككل كبيرة. بل هي أكبر نسبة من أي من سور القرآن الكريم.

وهذا الاستعمال وأمثاله ، لا ينافي عربية القرآن الكريم ، لأن هذه الألفاظ كانت سائدة ومستعملة بين العرب. فاتصفت بكونها عربية ، فاستعملها القرآن بهذه الصفة.

مضافا إلى أنه يمكن القول : بأن استعمالها تطبيق من تطبيقات قوله تعالى (٢) : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، أي استعمال عدة لغات في القرآن الكريم.

__________________

(١) راجع لسان العرب وغيره.

(٢) الأنعام / ٢٨.

١٨٤

سؤال : كيف يمكن لهذه الحيوانات غير المدركة ، أن تهلك هذا الجيش العظيم؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إنها يمكن أن لا تكون حيوانات فعلا ، بل هي خلق آخر ، على شكل طير أبابيل ، وهي مدركة وليست قاصرة ، كأن تكون جنا أو ملائكة. كما روي (١) : إن كل طير في منقاره حجر وفي رجليه حجران. وإذا رمت بذلك مضت وطلعت أخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه ، ولا عظم إلّا أوهاه وثقبه. وفي رواية أخرى (٢) : إنها كانت تحاذي رأس الرجل ثم ترميها على رأسه ، فيخرج من دبره ، حتى لم يبق منهم أحد.

فهذا التسديد في العمل ، ليس من وظيفة الطير المعروف حقيقة.

الوجه الثاني : إنهم ـ بالرغم من كونهم حيوانات ـ فإنهم موجهون بالمعجزة والتسديد الإلهي ، حفظا للبيت العتيق ، حيث أمروا بحسب غرائزهم بذلك ، فأنتجت فشل جيش الفيل.

الوجه الثالث : وهو ما يمكن أن يجاب به الماديون وأضرابهم. بأن نقول : إنه ثبت أن بعض الحيوانات كالطير الزاجل يمكن أن ترسل إلى مسافات بعيدة حاملة معها رسائل ونحوها. وأن كثيرا من أنواع الحيوانات الداجنة كالقطط والدجاج والماعز ، تهتدي لبيوت أصحابها. فليكن هذا الطير شيئا من هذا القبيل.

سؤال : إن فاعل ترميهم ، هو الأبابيل. وفاعل : جعلهم ، هو الله سبحانه ، والسياق ينبغي أن يكون واحدا ، فلما ذا قال : فجعلهم ولم يقل : فجعلتهم؟

__________________

(١) الميزان ، ج ٢٠ ص ٣٦٣.

(٢) الميزان ج ٢٠ ، ص ٣٦٣.

١٨٥

جوابه : أولا : إن الأفعال في السورة كلها منسوبة إلى الله : فعل ويجعل وأرسل وجعلهم. إلّا ترميهم فإنه يعود إلى الأبابيل. لأن الله بهذا السبب جعلهم كعصف مأكول. وهذا هو هدف هذه السورة ، وهو بيان الانتقام الكبير بإرسال الأبابيل.

ثانيا : إن القرآن قد نسب الكثير من معلولات الأسباب إلى نفسه. قال تعالى (١) : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). وقال (٢) : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً). وقال (٣) : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). وقال (٤) : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ). والفاعل الحقيقي في كل هذه الآيات هو الله سبحانه.

والقرآن في هذه الآيات يعترف بالأسباب ويعترف بفعل الله تعالى. أي إن كلها نتيجة لفعل الأسباب ، وهي ـ في نفس الوقت ـ كلها نتيجة لفعل الله سبحانه. وهذا ما ثبتت صحته منطقيا وفلسفيا وعرفانيا. وليس الآن مجال شرحه.

والنتيجة : هي أنه مرة نسب الفعل إلى السبب وهو الأبابيل. فقال : ترميهم. وأخرى نسبه إلى نفسه فقال : فجعلهم. وكان بالإمكان نظريا ، أن يجعل كلتا النسبتين إليه سبحانه أو كلتيهما إلى الأبابيل. إلّا أنه اختار ما هو ألطف بلاغيا وعرفانيا.

وبتعبير آخر : إن الفعل فعل الله أصلا ، وهو الذي أوجد النتيجة إلّا أن الوسط أو الخريطة أو السبب هو ما أشير إليه في صدر السورة. وهو الأبابيل.

قوله تعالى : (تَرْمِيهِمْ).

__________________

(١) القمر / ١٣.

(٢) الإسراء / ١٠٣.

(٣) الواقعة / ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) الواقعة / ٧٢.

١٨٦

قال العكبري (١) : وترميهم. نعت لطيرا. والكاف مفعول ثان.

أقول : لأن الجمل بعد النكرات صفات. وجعل تأخذ مفعولين أي : جعل الله إياهم كعصف مأكول.

وقوله : والكاف مفعول ثان. يعني في قوله : كعصف ، وهو لا يخلو من تسامح. لأن حرف الجر لا يكون مفعولا ، بل الاسم هو المفعول الثاني ، وهو العصف المجرور بالكاف.

وهنا يمكن أن نضم إلى ذلك عدّة أفكار :

أولا : إن الجار والمجرور ليس بنفسه مفعولا به. بل يحتاج إلى متعلق ، وهو محذوف أو مقدر ، وهو المفعول الثاني.

ثانيا : إن وجود الجار والمجرور وعدمه يتبادلان. وذلك : في المنصوب بدل المجرور ، ويسمى المنصوب بنزع الخافض. أي بتقدير حرف الجر ويمكن أن يكون العكس أي الاستغناء عن النصب عن طريق وجود حرف الجر المناسب له. والآية من هذا القبيل.

فبالرغم من دخول الكاف الجارة عليه ، لم يخرج عن كونه مفعولا ثانيا ، فيكون منصوبا محلّا. ويكون وجود الكاف كعدمها. فكأنه قال : فجعلهم عصفا مأكولا.

ثالثا : إن نواصب المفعولين ليس بالضرورة ، أن تنصب مفعولين ، بل قد تنصب مفعولا واحدا ، إن أراد المتكلم ذلك ، والله تعالى اختار مفعولا واحدا. وأما الثاني فهو جار ومجرور.

وبتعبير آخر : إننا إنما نحتاج إلى المفعولين عند عدم الدلالة على المعنى. وأما إذا صحّ المعنى وتمّ ، فلا حاجة إلى وجود المفعول الثاني. فقد حذف للدلالة عليه. بل إن وجوده يجعل اللفظ سمجا. فيكون القرآن قد اختار في التعبير أفضل الفردين ، لأنه تشبيه بلاغي لطيف.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

١٨٧

رابعا : إن الجار والمجرور ، سد مسد المفعول الثاني. أو نقول : إنه قد أوضح معناه ودل عليه.

خامسا : قالوا : إن الكاف تأتي اسما بمعنى مثل. فيصح ما قاله العكبري من كونها مفعولا ثانيا.

إلّا أن هذا غير تام لأكثر من وجه واحد :

أولا : إنه يحتاج إلى شاهد لغوي سابق من شعر أو نثر.

ثانيا : إن الكاف حرف. فما هو محل إعراب مدخوله؟ إن قلت : إنه مضاف إليه. فهذا مما لا يمكن أن يقبله مدعي هذا القول. فإنه لا يوجد مثل ذلك في الأسماء الحرفية ، لو صحّ التعبير ، كالضمائر وأسماء الإشارة ، أي أن يكون لها مضاف إليه.

وإن قلنا : إن مدخوله مجرور بالحرف ، فله لازم باطل. لأنه يكون بالنسبة إلى ما قبله اسما وبالنسبة إلى ما بعده حرفا. وهذا جزاف من الكلام.

وعلى ذلك فمن الصعب أن نعتبر الكاف اسما بمعنى : مثل. فيكون تصحيح كلام العكبري من هذه الناحية متعذرا.

سؤال : ما هو السجّيل؟

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) : السّجل الدلو العظيمة. وسجلت الماء فانسجل أي صببته فانصب. وأسجلته أعطيته سجلا.

أقول : إنه حسب فهمي فإن سدل وسجل ، ومؤداهما واحد في اللغة. وحاصله : تسليط جاذبية الأرض على الجسم. فسدل تستعمل للجمادات ، مثل : سدل الستار. وسجل تستعمل للمائع ، كسجل الماء أي صبّه.

وأضاف الراغب (٢) والسجلّ ، قيل : حجر كان يكتب فيه ، ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا. قال تعالى : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ).

__________________

(١) المفردات / مادة سجل.

(٢) المصدر والصفحة.

١٨٨

أقول : أي محل التسجيل. كما نسمي الدفاتر سجلا. وقوله تعالى (١) : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). فيه أطروحتان للفهم :

الأولى : السجل : مكان المكتوب أو ظرفه. مثل الجرّارة تطوى في داخلها الكتب. وهذا هو الفهم المشهور.

الثانية : الكتب هي نفس الكتابة. والجمع منها بمعنى : الكتابات. والسجل : أي شيء من ورق أو طين ، يطوي الكتابات في داخله. والكتاب بمعنى الكتابة موجود في اللغة. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ورد أنه أمر أحد أصحابه فقال : تعلم كتاب يهود. أي لغتهم وكتابتهم. قال : فتعلمتها في ثلاثة أيام.

هذا ، وقد وردت لفظة السجيل في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع. أحدها في هذه السورة ، والأخريات في سورة هود آية (٨٢) ، وفي سورة الحجر الآية (٧٤) ، لوصف الانتقام من قوم لوط : قال تعالى (٢) : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ).

وفي هذه الآية عقوبتان : الأولى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها). والثانية : (أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ). فقد يقال : إن العقوبة الأولى تكفي للقضاء عليهم ، فلا معنى للإمطار بالحجارة ، بعد أن يجعل عاليها سافلها.

وجوابه : من وجهين كلاهما نسوقهما كأطروحة محتملة :

الوجه الأول : إنه ليس المراد من جعل عاليها سافلها المعنى المادي على ما روي في رواية ضعيفة السند (٣) بل المراد المعنى المعنوي ، وهو : إذلال أعزائها وسلب السلطة عن متوليها. فالمعجزة المادية هي الرجم بالحجارة ، وليس الانقلاب الحقيقي للأرض.

__________________

(١) الأنبياء / ١٠٤.

(٢) هود / ٨٢.

(٣) انظر الميزان : ج ١٠ ، ص ٣٤٩.

١٨٩

الوجه الثاني : إن الله تعالى جمع بين العقوبتين زيادة في النكاية عليهم. لأنهم كانوا شديدي الفسق ، ومتجاهرين باللواط. فقلب الأرض ورجمها ، ليس حقدا ، بل تسجيلا إعلاميا لأجل إفهام الآخرين من الناس ، بأنهم يستحقون ذلك ، وبالتالي يؤدي إلى هداية الآخرين وتفقههم.

وقال تعالى (١) : في سورة الحجر : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

فأشار سبحانه إلى نفس القصة ولكن بألفاظ أخرى. وعاليها سافلها بالمعنى المادي أو المعنوي على ما مرّ.

والمراد من : مشرقين : وقت إشراق الشمس. ولا معنى لأن يكون المراد به المكان ، لأن كل مكان فهو شرق لغيره.

سؤال : ذكر في سورة هود عقوبتين ، وفي سورة الحجر ثلاث عقوبات. فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟

جوابه : لعدة وجوده :

أولا : إنه ليس في الآية التي في سورة هود مفهوم مخالفة ، بحيث ينفي حصول شيء آخر : فما لم يذكر فيها لا يعني عدم وجوده.

ثانيا : إن الصيحة المذكورة في سورة الحجر ، هي نفس انقلاب الأرض. لا عقوبة ثالثة. ويدعمه الترتيب بالفاء ، كأن الصيحة هي صوت انقلاب الأرض ، فهي معلول وليس علة.

ثالثا : أن نحمل (عالِيَها سافِلَها) في سورة الحجر ، على المعنى المعنوي. ومعه لا يكون هناك دليل على أنهم ماتوا جميعا من الصيحة. بل يمكن أنهم أغمي عليهم ، ثم قضي عليهم بالرجم.

هذا وقد ورد لفظ مشابه للسجّيل نطقا ومعنى في القرآن الكريم وهو

__________________

(١) آية ٧٢ ـ ٧٥.

١٩٠

السجين. وكلاهما من أصل غير عربي. قال تعالى (١) : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ).

سؤال : فما هو معنى سجين؟

جوابه : قال الراغب (٢) : السّجين : اسم لجهنم بإزاء علّيّين. وزيد لفظه تنبيها على زيادة معناه. وقال الرازي (٣) في هامش العكبري : إن سجينا اسم للأرض السابعة ، وهو فعيل من السجن.

أقول : كأطروحة : إن سجّين صيغة مبالغة من «سجن». فالسجن بالكسر هو المكان والسجين بالتخفيف ، مكينه أي المسجون. والسجين بالتشديد صيغة مبالغة ، باعتبار أن السجن له مراتب تختلف شدة وضعفا والصعب منه سجّين ، أي شديد السجن.

إن قلت : إنه اسم لجهنم نفسها ، وليس لمن يسجن فيها ويعذب.

قلت : هو من تسمية المكان بالمكين ، فالمكان هو جهنم ، والمكين هو من يعذب فيها. لأنها سبب عذابهم.

وهذه اللفظة ، أعني سجين ، وردت في القرآن مرتين ، كلتاهما في سورة المطففين. قال تعالى (٤) : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ). وهي تقابل عليين ، كما قال الراغب (٥) ، لقوله في نفس السورة (٦) : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ).

وفي قوله : في سجين ، إشارة إلى المكان المدلول عليه بفي. ومحل

__________________

(١) المطففين / الآيات ٧ ـ ٨ ـ ٩ ...

(٢) المفردات مادة «سجن».

(٣) ج ٢ ، ص ١٤٦.

(٤) آية ٧ و ٨ و ٩ من السورة.

(٥) المفردات مادة «سجن».

(٦) الآيات ١٨ و ١٩ و ٢٠ من السورة.

١٩١

إعراب الجملة : «كتاب مرقوم» هو كونه خبرا لمبتدإ محذوف تقديره : سجين.

ومن هنا ينشأ إشكال ، وحاصله : إنّ سجين في الآية السابقة بمعنى المكان. وهي بمعنى الكتاب ، لأنه يقول بعد التقدير : سجين كتاب مرقوم. فما جوابه؟

أقول : إنه نشأ الإشكال على ضوء التقدير باعتبار كونه هو المبتدأ المحذوف : سجين. أما لو كان التقدير هو كتاب مرقوم ، فهو استفهام لتعظيم شأنه وبيان حرمته ، فينتهي السياق بقوله : ما أدراك ما سجين. ثم يقول بعد ذلك : إن كتاب الفجار هو كتاب مرقوم. ولا حاجة إلى رجوعه إلى سجين. وإن كان سجين أقرب لعوده إليه. ولكن ينشأ الإشكال معه. وما يقال في سجين يقال في عليين.

ولكن مع ذلك نقول : إن هذا الكلام من قبيل المجاز ، لأنه ليس في جهنم كتاب مرقوم ، أي مكتوب. وإنما : إما أن نفهم من كتاب مرقوم : أي كتابة مكتوبة ، كأنهما لفظان مترادفان. أو أن نفهم من الكتاب : المجلد الذي فيه اقتضاء الكتابة أو أوراق الكتابة.

وما ذكر في الآية رمز للكتاب التكويني. وهو قد رقم وسجّل بالإرادة التكوينية. ما هو؟ هو نفس عملنا : عمل الفجار وعمل الأبرار.

وعلى ضوء كل ما تقدم نقدم السؤال الآتي :

سؤال : ما هي المقارنة بين السجيل والسجين؟

جوابه : إنه يوجد بينهما نحو تشابه ، ونحو اختلاف.

فوجه التشابه : إن كليهما سبب للعذاب. ومن ناحية إثباتية : (كلامية أو بلاغية) فقد استعمله القرآن الكريم من أجل إرهاب القارئ وتخويفه ، مضافا إلى إظهار عظمة الله سبحانه ، وإبراز أهمية البيت الذي حصل الدفاع عنه.

ووجه الاختلاف في المعنى : إن السجيل عبارة عن حجر ، والسجين

١٩٢

عبارة عن جهنم وما يحصل فيها. وكلاهما سبب للعذاب ، وتعبير عن غضب الله سبحانه.

ويتحصل من ذلك عدة نتائج :

فإننا قد نزعم أن أحدهما عين الآخر ، هو هو. كأنه قال : ترميهم بحجارة من سجين وقد استعمل اللام اختيارا.

ويترتب على ذلك بعض النتائج المحددة ، منها : إن الحجارة إذا كانت من سجين ، فهي قاتلة بالضرورة ، لأنها ليست طينا ، لعدة احتمالات :

أولا : أن نقول : إنها حجارة من نفس جهنم. مع افتراض أن الطير قد أخذها من جهنم ورمى بها الجيش المعادي. لكن هذا لا يتم إلّا بافتراض أنهم لم يكونوا طيرا بل خلقا آخر على صورة الطير ، وهم متسلطون على الدنيا والآخرة ، فإن جهنم في الآخرة ، فقد أخذوا الحجر من الآخرة ورموه في الدنيا ، باعتبار كونهم مخولين من قبل الله سبحانه بذلك.

وحجر جهنم قاتل بلا شك ، كما يروي في قوله تعالى (١) : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ). عن الصادق عليه‌السلام (٢) : لو أن حلقة واحدة من السلسلة وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها.

ثانيا : أن نقول : إن سجيل لم يرد بها جهنم وإنما هي حارة إلى حد تشبه حرارة جهنم ، فتلقى على جسد الإنسان فتقتله.

ثالثا : أن تكون هذه الحجارة سريعة جدا. والسرعة هي المؤثرة في القتل. كما لو تصورنا أن سرعتها أكثر من سرعة الضوء.

والقدرة هذه ، إما أنها أتت من نفس هذا الحيوان. أو أنها حدثت بعد انفصالها من منقاره بقدرة الله سبحانه. فتدخل في سرعتها من أحد الجانبين وتخرج من الجانب الآخر.

__________________

(١) الحاقة / ٣٢.

(٢) انظر تفسير الصافي ج ٢ ، ص ٧٤٠.

١٩٣

رابعا : أن تكون قنبلة تحملها الطير ، تسقط على الفرد وتقتله. أو نقول : إنها لا تحملها الطير بل الأجهزة الخاصة المناسبة لها. والأبابيل ليس طيرا بل جيشا مضادا يقف أمام جيش أبرهة.

ولكن مثل هذا الوجه مخالف لظاهر القرآن ، فلا يكون حجة. لما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن (١) : ما خالف قول ربنا زخرف باطل. اضرب به عرض الجدار ، مضافا إلى اليقين التاريخي ، بعدم وجود مثل هذا الجيش المحارب في الجزيرة العربية ، وعدم وجود مثل هذا السلاح أيضا.

هذا وقد ذكر القاضي عبد الجبار (٢) في هذا الصدد سؤالين :

سؤال : كيف يصح في الطير الصغير أن يرسل الحجر ، فيؤثر في الناس ، التأثير الذي ذكره تعالى في هذه السورة؟

جوابه : من وجوه :

الوجه الأول : بأن يزيد الله تعالى في قوة الطيور بحيث يؤثر ذلك الحجر ذلك التأثير العظيم.

الوجه الثاني : أن يكون الله تعالى عند رمي الطير ، جعل فيه الانحدار الشديد بحيث يؤثر هذا التأثير.

أقول : الوجه الأول لا يكفي ، وذلك : لأن قدرة الطير لا يعني قدرة الحجارة من الطين ، بحيث تكون قاتلة!. والوجه الثاني غير تام بمجرده أيضا.

إلّا أن نذكر له وجهين آخرين : وهما :

الأول : ما ذكرناه سابقا من السرعة الشديدة للحجر وفي الطائر. كأن تكون كسرعة الضوء. وبالتالي تخرق الجسم البشري.

الثاني : وجود الحرارة العالية جدا في الحجارة ، باعتبارها من (سجّين).

__________________

(١) انظر الوسائل كتاب القضاء ج ١٨ ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) تنزيه القرآن عن المطاعن ـ ص ٤٨٠.

١٩٤

فلا تكون قابلة للانطفاء فتبقى متوقدة إلى حال خروجها. ولا تنالها رطوبة جسم الإنسان.

ويمكن الجمع بين هذين الوجهين أعني السرعة والحرارة. ولو لا ذلك ، لما كان لما قال القاضي عبد الجبار أي أثر.

سؤال : ما هو العصف ، في قوله تعالى : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ؟).

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) العصف والعصفة الذي يعصف من الزرع. ويقال لحطام النبت المتكسر عصف قال : والحب ذو العصف والريحان ـ كعصف مأكول ـ ريح عاصف. وعاصفة ومعصفة تكسر الشيء فتجعله كعصف. وعصفت به الريح ، تشبيها بذلك.

أقول : يتحصل من ذلك : إن عاصفة بمعنى كاسرة لما تمر عليه ، من النبات ، وذلك في الريح الشديدة.

وقال في الميزان (٢) : العصف ورق الزرع والعصف المأكول ورق الزرع الذي أكل حبه ، أو قشر الحب الذي أكل لبه.

أقول : أي إن العصف هو ورق الزرع ، كورق الحنطة والشعير. وقوله : قشر الحب الذي أكل لبه ... فيه تسامح. وحقه أن يقال : هو الحب الذي أكل لبه ، يعني ما بداخل قشره.

هذا ، ويمكن الجمع بين الوجهين ـ التكسر والحب ، بالحب المتكسر ، لأن الحب يتكسر بعدة أمور طبيعية وعرفية. أهمها : حين ينبت منها النبات. مضافا إلى تقشيره من أجل طحنه وأكله. وكذلك النوى غير المأكول ، فإنها كلها تتعصف بنباتاتها.

سؤال : لما ذا لم يقل : فجعلهم عصفا مأكولا؟

جوابه : في هذا الوجه نقطتا ضعف :

__________________

(١) المفردات مادة «عصف».

(٢) ج ٢٠ ص ٣٦٨.

١٩٥

الأولى : إنه لم يجعلهم كذلك بنحو الحقيقة. بل جعلهم كعصف مأكول ، أي مثل العصف ، والجثث المتناثرة ، ليست عصفا مأكولا ، بل كالعصف.

الثانية : إننا مع التنزل عن الوجه الأول ، يمكن أن نقول : فجعلهم عصفا مأكولا مجازا. ولكن تأتي مسألة حفظ النسق ووحدة السياق اللفظي. وهو مقتضى الحكمة والفصاحة.

سؤال : كيف نتصور العصف المأكول؟

جوابه : ما فهمه المفسرون ، بما فيهم صاحب الميزان ، من أنها جثث ساقطة على الأرض. ويؤيده النقل الخارجي التاريخي.

أقول : ولكن بذلك لم يحصل تقطع وعصف. ويجيب المشهور بأن التقطع حصل في الجيش ، باعتبار فشله وتقطع أفراده وهو نحو من التقطع المعنوي.

والذي أفهمه أكثر من ذلك : إن الجسد الواحد منها كأنه أصبح قطعا قطعا. كالشجرة الواحدة المتكسرة ، ويؤيده وصفه بالمأكول.

مضافا : إلى أننا لو فهمنا من العصف الأغصان المتكسرة ، كفى أن يكون كل واحد منهم قد انقطع إلى قطعتين أو أكثر. ولكن إذا فهمنا من العصف : الحب والنوى ، وهي صغيرة بطبيعة الحال ، فلا بد أن نتصورهم صاروا قطعا صغيرة ، وإن لم تكن بحجم الحنطة نفسها ، فإن التعبير مجازي على أي حال ، والمهم أن الجسم أصبح عشرات القطع فلا يرى هنالك جيش وجثث ، بل لحم متناثر.

هذا ، وللمأكول تقسيمان :

التقسيم الأول : المأكول حقيقة ، كما في حب الحنطة. والمأكول مجازا ، أي على شكل ما كان مأكولا.

التقسيم الثاني : المأكول فعلا ، وهو المطبوخ ، فيما يحتاج إلى الطبخ ، والمأكول اقتضاء. أي كونه قابلا للأكل.

١٩٦

وبضرب اثنين في اثنين ، تصبح الأقسام أربعة :

القسم الأول : القطع المأكولة مجازا ، فإن العصف هو القطع الصلبة كالحجر والخشب. إلّا أن هذه قطع لينة ، لأنها أجساد بشرية.

القسم الثاني : القطع المأكولة حقيقة ، كاللحم المقطع المأكول. وهذا تشبيه مباشر. وفيه إشعار بالتشبيه بالحيوانات.

القسم الثالث : الحب المأكول مجازا. فإن لحومهم متناثرة وغير مأكولة وإنما عبّر بذلك لكون منظرها كأنها لحوم مطبوخة.

القسم الرابع : الحب المأكول حقيقة.

وقد ظهر وجه الشبه في المأكول فعلا. وفيه منظر شديد لم يفهمه المفسرون ، لأنهم فهموا أن الجثث سليمة ، مع أنها لا تبدو كذلك ، باعتبار قوله : كعصف مأكول. فإن هذا لا يتم عادة في حجر واحد في كل إنسان واحد.

إن قلت : إنكم رجحتم في معنى العصف بأنه الأجزاء المتكسرة والنبات المتقطع. والحب مصداق منها. باعتباره أجزاء صغيرة من النبات. بينما قال تعالى في سورة الرحمن (١) : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ). فوصف الحب بأنه ذو العصف. فيكون من وصف الشيء بنفسه. وهو باطل.

قلت : جوابه من عدة وجوه :

أولا : نحن لم نقل إن العصف هو الحب بشرط لا عن الزيادة. بل هو مطلق الأجزاء المتكسرة من النبات. فيرجع المعنى ـ ولو مجازا ـ إلى المعنى المصدري وهو التكسر.

ثانيا : أن نقول : إن الحب هو كل قطعة مستقلة من الثمار. كالتفاح والرقي وغيرهما ، وليس معناه منحصرا بالحب الصغير كالعنب والتمر والحنطة والشعير. ومعه يكون الحب ـ بهذا المعنى ـ : ذو العصف أي ذو

__________________

(١) الرحمن / ١٢.

١٩٧

حب في داخله. فنحمل معنى الحب على إحدى الحصتين ونحمل معنى العصف على الحصة الأخرى.

ثالثا : إنه بعد التنزل عن الوجه الثاني باختيار القول بأن الحب هو خصوص الحب الصغير ، كالحنطة والشعير ولا يوجد في داخلها حب آخر ولكننا مع ذلك ، يمكن أن نفهم منه : الحب ذو التكسر.

وإذا تكسر الحب ظهر لبه ، أي نفهم من الحب لبه والعصف قشرة. كما يمكن العكس ، وإن كان الأول أرجح على أي حال.

السؤال الآخر : الذي ذكره القاضي عبد الجبار في كتابه (١) :

كيف يصح ذلك ، ولم يكن في الزمان نبي. وهذا من المعجزات العظام؟

جوابه : إنه لا بد من نبي في الزمان يكون هذا الأمر معجزة له. وقد كان قبل نبينا أنبياء بعثوا إلى قوم مخصوصين. فلا يمتنع أن يكون هذا الأمر ظهر على بعضهم. كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خالد ابن سنان : ذلك نبي ضيعه قومه. وقال في قس بن ساعدة : إنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة لقلة من قبل عنه. فهذه طريقة الكلام في هذا الباب.

أقول : يمكن أن نقبل نبوة هؤلاء كأطروحة. ولكن ذلك لا يكون جوابا على سؤاله الرئيسي : لكبرى معينة ، وحاصلها : إن النبي يجب أن يكون صاحب معجزة ، بحيث يصدق ، بحسب التسبيب أنه أوجدها بدعاء ونحوه. وكلاهما لم يتسببا إلى وجود تلك المعجزة ، أعني القضاء على الجيش المعادي. فتكون الصغرى مخدوشة ، وإن صحت الكبرى.

إلّا أن الصحيح هو الطعن بالكبرى التي أخذها القاضي عبد الجبار مسلمة ، وهي انحصار حصول المعجزة بوجود النبي. وإنما نحتاج إلى المعجزة لنصرة الحق ، وهو الذي حصل فعلا ، انتصارا للبيت الحرام ، والكعبة المشرفة.

__________________

(١) تنزيه القرآن عن المطاعن ـ ص ٤٨٠.

١٩٨

سورة الهمزة

في تسميتها أطروحات :

الأولى : الهمزة. وهو المشهور.

الثانية : الحطمة ، كما في بعض المصادر.

الثالثة : السورة التي ذكرت فيها الهمزة أو الحطمة.

الرابعة : رقمها في تسلسل المصحف وهو : ١٠٤.

سؤال : قال الله سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). فما هو الويل؟

قال الراغب (١) : قال الأصمعي : ويل : قبح. وقد يستعمل على التحسّر. وويس : استصغار وويح ترحم. ومن قال : ويل واد في جهنم ، فإنه لم يرد أن ويلا في اللغة هو موضوع لهذا. وإنما أراد : من قال الله تعالى ذلك فيه ، وقد استحق مقرا في النار وثبت ذلك له.

أقول : مرجع ذلك إلى أن هذه الكلمات غير موضوعة لمعان محددة في اللغة. وإنما تستعمل لدى وجود عواطف نفسية معينة. فويل له ...

يستعمل لدى التقبيح. وهو التهديد بالقبح أو الشهادة بالشين. وقد تستعمل للتحسّر لما فات من أمر. وويس ، وهو صوت آخر يستعمل لدى الاستصغار ، وهو الاحتقار والإهانة. وويح وهو صوت آخر يستعمل للترحم وهو الشفقة والرأفة. وهذا مضمون كلام الأصمعي.

غير أن هذا الأخير قابل للمناقشة ، لأن ويح للتهديد مثل ويل. كل ما

__________________

(١) مادة (ويل).

١٩٩

في الأمر أننا قد نستعملها قبل حصول الحادث المفروض ، فيكون تهديدا لحصوله. وقد نستعملها بعده ، فيكون إشعارا على أنه كان مستحقا لحصوله. كما قد يكون مقصود المتكلم إظهار التألم عليه من الحادث الحاصل ، وإن كان مستحقا له ، أو بغض النظر عن استحقاقه له.

وعلى أي حال ، فالاستعمال القرآني هنا ، للدلالة على التنبؤ والتهديد بحادث استقبالي ، وهو العقاب الأخروي. أو للدلالة على استحقاق العقاب.

قال تعالى : (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).

في هذين اللفظين عدة أسئلة :

سؤال : في صيغتهما من حيث كونهما مفردا أو جمعا.

جوابه : أن كليهما محتمل. فإن كانت جمعا ، فعلامة التأنيث التي فيه. باعتبار أن الجمع مناسب للتأنيث في اللغة العربية. إلّا أنه يدل على إفراده اسم الموصول الذي بعده ، ويجعله كالنص في ذلك.

وأما الهاء ، فباعتبار كونها صيغة مبالغة بمعنى اسم الفاعل. والهاء زيادة في التأكيد ، كعلامة وإفهامة.

سؤال : ما هو الوجه في تأنيث الهمزة واللمزة. مع أنه ليس المقصود بهما عودهما إلى مؤنث.

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : عودهما إلى مرجع كلي ، والكلي بمنزلة الجمع. والجمع يناسب التأنيث.

الوجه الأول : عودهما إلى مرجع كلي ، والكلي بمنزلة الجمع. والجمع يناسب التأنيث.

الوجه الثاني : ما قلناه قبل قليل من أن المراد زيادة التأكيد.

الوجه الثالث : ما قاله العكبري (١) : الهاء في الهمزة واللمزة للمبالغة.

أقول : والتأكيد ، والمبالغة ، يرجع محصلهما إلى معنى عرفي واحد.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٠