منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الناشر

والصلاة والسلام على أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

كدأب سماحته (قده) على رفد المكتبة الإسلامية دائما بأنفس الأسفار وأروعها ، وأغزرها مادة وعلما ومن جملة هذه المؤلفات العظيمة هو كتاب «منة المنان في الدفاع عن القرآن» ، الكتاب الذي قدّر له أن يكون من أعظم ما خطّه يراع سيدنا الشهيد المعظم (قده) ، فإلى جانب «ما وراء الفقه» و «موسوعة المهدي (عج)» وبقية كتبه ، يبرز هذا الكتاب كونه صيحة في علوم تفسير كتاب الله عزوجل. إلا أن الأيادي الآثمة تجرأت على الإسلام والمسلمين واختطفت منهم إمامهم ، وهكذا لم يكمل سماحته هذا السفر الجليل ، تماما كما توقع هو ، حيث قال إن أكثر المفسرين يبدءون من أول القرآن الكريم ثم يتوفون قبل أن ينجزوا تفسير آخر الكتاب العزيز ، بينما هو ابتدأ من أواخر سور القرآن إلى بدايته ، وكان مصيبا في نبوءته ، استشهد ولما يصل إلى تفسير كامل القرآن الكريم ، ولكنه أنجز القسم الذي فات معظم من حاول تفسيره قبله.

والكتاب طبع طبعة أولى بالنجف الأشرف ، واليوم تتشرف مؤسسة «دار الأضواء» في طباعته بالشكل الذي يليق بالكتاب ومؤلفه ، آملين أن نكون وفقنا في نشر تراث هذا العالم الرباني الجليل المظلوم.

نسأله التوفيق والمنّة منه تعالى.

السبت ٢٦ ذو القعدة ١٤٢٢ ه‍

الموافق ٩ شباط ٢٠٠٢ م

دار الأضواء

٥
٦

المقدمة

ـ ١ ـ

لا حاجة في البدء إلى الإلماع بتعريف القرآن الكريم ، فإنه لدى البشر أجمعين أشهر من أن يذكر ، ولدى المسلمين أقدس من أن يكفر ، كما قالت الخنساء في أخيها صخر :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

أو كما قال الشاعر الآخر :

وإذا استطال الشيء قام بنفسه

ومديح ضوء الشمس يذهب باطلا

ويكفينا من ذلك ما ذكره القرآن الكريم نفسه عن نفسه من المزايا. وما ذكره سيد البلغاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة من أوصافه ، فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى ذلك إن شاء.

والمهم الآن أن كلام الله سبحانه ، وهو أصدق القائلين وأعدل الفاعلين وأحكم الحاكمين ، كيف يمكن أن يناله السؤال والإشكال أو الوهم والاعتراض؟

حاشا لله سبحانه وتعالى عما يشركون.

كل ما في الأمر أن ذلك ، مما قد يحصل نتيجة جهل الفرد أو قصوره أو تقصيره ، أو نفسه الأمارة بالسوء.

٧

غير أنه يمكن القول بأن ذلك مما يحصل لغالب الأفراد بل كلهم ، مما قد يؤثر أحيانا حتى على عقيدة الفرد وإخلاصه ، أو يجعله في حيرة وتردد من أمره ، أو يدفنه في نفسه ويحاول عدم إظهاره للآخرين. لكي لا يكون مطعونا في دينه.

غير أن القرآن الكريم يحتوي على كثير من موارد الإجمال وصعوبة الفهم بلا إشكال. وقد يكون الفرد معذورا نسبيا فيما خطر في باله من السؤال ، ومخلصا في البحث عن الجواب. وقد لا يجد ضالته في التفاسير السائدة أو لا يجد نسخها بين يديه.

فإن التفاسير بالتأكيد لم تتعرض لكل المشاكل والأسئلة الواردة حول آي القرآن الكريم. بل وجدنا ذلك أيضا ، حتى في الكتب المخصصة لذلك ككتاب العكبري وكتاب القاضي عبد الجبار.

ويحصل ذلك من مناح متعددة من المؤلفين : أما باعتبار أنه إذا ذكر السؤال فإنه يفترض فيه القوة والدقة في الجواب ، وإذا فقدهما أعيب في بحثه. إذن ، فخير له أن يترك الالتفات إلى السؤال رأسا ، من أن يتورط في جواب ناقص.

أو قد يكون متشرعا ، باعتبار أن إثارة السؤال سيكون مضادا للقرآن الكريم لا محالة ، فيكون سببا لإثارة الشبهة لدى القارئ الاعتيادي ؛ فقد يلزم الحال ، أن هذا القارئ يكون قد فهم السؤال ولم يفهم الجواب ، ويكون المؤلف سببا لذلك ، فيتورط في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم ، لأنه يتحمل هذه المسئولية يوم القيامة ، كما في الحديث : «كسرته وعليك جبره» ، فخير له أن لا يثير الشبهة ، من أن يثيرها ولا يوفّق في حلها.

ومن هنا زادت الأسئلة المدفونة في النفوس ، والشبهات المعقودة في الرءوس ، حتى أصبحت مدخلا للضلال ولدعاة الكفر والإلحاد ، لأجل رد الناس عن دينهم وسحب يقينهم.

ومن هنا احتاج الأمر إلى قلب قوي وإلى عقل سوي ، من أجل

٨

التصدي إلى ذكر كل تلك الأسئلة ، وعرض كل تلك الشبهات ، مما يحتمل أن يثور في الذهن ضد أي آية من آيات القرآن الكريم ، والتصدي لجوابها بجدارة وعمق ، لكي يتم إغناء المكتبة الإسلامية العربية بهذا الفكر الذي لم يسبق إليه مثيل. بعد التوكل على الله والاستعانة به جلّ جلاله.

ـ ٢ ـ

لكن ينبغي الالتفات سلفا ، إلى أني لم أكتب هذا الكتاب لكل المستويات ، ولا يستطيع الفرد المتدني الاستفادة الحقيقية منه ، وإنما أخذت بنظر الاعتبار مستوى معينا من الثقافة ، والتفكير لدى القارئ.

وأهمها أن يكون في الثقافة العامة على مستوى طلاب الكليات ونحوه. وأن يكون من الناحية الدينية قد حمل فكرة كافية ، وإن كانت مختصرة عن العلوم الدينية المتعارفة كالفقه والأصول والمنطق وعلم الكلام والنحو والصرف ونحوها ، مما يدرس في الحوزة العلمية الدينية عندنا في النجف الأشرف.

فإن اتصف الفرد بمثل هذه الثقافة ، كان المتوقع منه أن يفهم كتابي هذا ، وإلّا ، فمن الصعب له ذلك. ولكن لا ينبغي أن يأنف من عرض ما لا يفهمه من الكتاب على من يستطيع فهمه وإيضاحه.

فإن لم يكن على أحد هذين المستويين فلا يجوز له شرعا أن يقرأ هذا الكتاب. لأنه يوجد احتمال راجح عندئذ أن يفهم السؤال ولا يفهم الجواب. فتعلق الشبهة في ذهنه ضد القرآن الكريم ، مما قد يكون غافلا عنه أساسا ، فيكون هذا الكتاب قد أدى به إلى الضرر بدل أن يؤدي به إلى النفع ، وبالتالي يكون قد ضحى بشيء من دينه في سبيل قراءة الكتاب. وهذا ما لا يريده الفرد لنفسه ، ولا أريده لأي أحد ، بل لا يجوز حصوله لأي أحد.

وأعتقد أن هذا التحذير ، كاف في الردع عن الاطلاع على هذا الكتاب

٩

من قبل الأفراد العاديين في الثقافة ، فإن حاول أحد منهم ذلك وحصلت له أية مضاعفات فكرية غير معهودة في دينه أو دنياه ، فلا يلومنّ إلّا نفسه ، وقد برأت الذمة منه. لأنني ذكرت ذلك الآن بوضوح ، وأقمت الدلالة عليه.

فإنني ، وإن حاولت الإيضاح والتبسيط في البيان ، إلّا أنه بقي الغموض النسبي موجودا بلا إشكال ، لوضوح أن التبسيط الزائد المتوقع ، يقتضي التضحية بالمعاني الدقيقة واللطيفة ، وإنما تقوم بذلك : اللغة الاصطلاحية المتفق على دقتها وصحتها ، وليست هي لغة الجرائد كما يعبرون.

ـ ٣ ـ

هذا ، وقد يفهم القارئ اللبيب المتأمل ، أن في بيان الأمور المعروضة في هذا الكتاب بعض الفجوات ، وهي متعمدة بمعنى وآخر ، لعدم إمكان الاستيعاب التام وكونه تطويلا بلا طائل.

فحسب هذا الكتاب ، كما في العديد من كتبي السابقة ، أنها تفتح عين القارئ المتشرع على مجالات جديدة وعلى طرق من الفهم عديدة. وتجعل الطريق ـ بعد ذلك ـ قابلا للسير فيه لمن يرغب بذلك. ويبقى الأمر قابلا للتفلسف والزيادة ممن أوتي إلى ذلك سبيلا.

وإنني لا أعتقد لنفسي الكمال ولا لعقلي الجلال ، بل كلّه قيد الضعف والنقصان ، لو لا منّة المنّان ورحمة الرحمن وفيض الديان. وفي الحكمة : إن الله تعالى ينصر دينه على يد من لا خلاق له من خلقه.

ـ ٤ ـ

والأسئلة المعروضة في هذا الكتاب ، إنما هي بالمباشرة والدلالة المطابقية ، تعتبر ضد القرآن الكريم ، وتحتاج إلى ذهن صاف وبيان كاف لرفعها ودفعها. ويجب على القارئ الكريم أن يواكب النّص ، وأن يعطي وقته

١٠

ونفسه ليصل إلى النتائج الحاسمة ، وإلّا فخير له الإعراض عن هذا الكتاب بكل تأكيد.

هذا ، وقد اتخذت في جواب الأسئلة أسلوب الأطروحات ، على ما سوف أقول في معناها ، الأمر الذي استوجب في الأعم الأغلب ، أنني لم أعط الرأي القطعي أو المختار ، بل يبقى الأمر قيد التفلسف في الأطروحات. والمفروض أن أيا منها كان صحيحا ، كان جوابا كافيا عن السؤال. ويبقى اختيار الأطروحة الواقعية منها ، موكولا ظاهرا إلى القارئ اللبيب ، وواقعا إلى المقاصد الواقعية للقرآن الكريم.

وعلى أي حال ، فلا ضرورة دائما إلى البت بالأمر ، كأنك تلقي محاضرة في أمور قطعية محددة ، أو رياضية غير قابلة للنقاش ؛ ما دام أسلوبنا هذا كافيا في الدفاع ضد الشبهة وللجواب على السؤال.

بل إن هذا الأسلوب له عدة مزايا ، منها :

أولا : بقاء الباب مفتوحا لزيادة في التفلسف والتفكير ، كما سبق. فبدلا من ذكر ثلاث أطروحات مثلا ، يمكن ـ بعد ذلك ـ طرح خمس أو عشر ، مما لم يتيسر فوريا الالتفاف إليها أو الاعتماد عليها.

ثانيا : الإلماع إلى أن الأسئلة المعروضة ضد القرآن الكريم ، ليس لها جواب واحد ، بل يمكن أن يتحصل عليها عدة أجوبة ، ومن جوانب متعددة ، الأمر الذي لا يقتضي القناعة بمضمون القرآن وصحته ، بل القناعة أيضا بسقوط السؤال وذلته ، وأن السائل من التدني والإهمال ، بحيث لم يفهم شيئا من هذه الأجوبة والأطروحات ولم يلتفت إليها.

فيكون مجرد عرض السؤال مصداقا لقول الشاعر :

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة

أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

وهذه نتيجة صحيحة ولطيفة ، ضد كل المتعصبين ضد الدين من كفار وملحدين وفساق ومعاندين.

١١

ثالثا : إننا ـ بهذه الطريقة ـ لا نكون ممن فسر القرآن برأيه لكي نهلك ، وإنما يكون ذلك لمن بتّ بالأمر وجزم بأحد الوجوه.

وأما إذا عرض الأمر في عدة أطروحات ومحتملات ، فقد أبرأ ذمته من الجواب وأرشد القارئ إلى الصواب. بدون أن يكون قد تورط في المضاعفات.

هذا ، وأعتقد أن الأعم الأغلب من أساليب هذا الكتاب هو مما اصطلحنا عليه بالأطروحة ، سواء سميناه فعلا ، خلال حديثنا هنالك بالأطروحة أم لا. فإذا قلنا مثلا : إن في جواب ذلك عدة وجوه أو محتملات أو مناقشات ، ففي الحقيقة يصلح كل وجه منها أن يكون أطروحة كافية في بيان الجواب.

ـ ٥ ـ

بقي لدينا الآن ضرورة تعريف الأطروحة ، وأنها ليست مجرد احتمال مهما كان حاله. ولكنها ذات أهمية معينة. وقد سبق في عدد من أبحاثي أن عرفتها بتعريفين منفصلين. كلاهما صادق ، إلّا أن الثاني أدق من الأول.

فقد عرفتها أولا : بأنها فكرة محتملة ، تعرض عادة فيما يتعذر البت فيه من المطالب ، ويحاول صاحبها أن يجمع حولها أكبر مقدار ممكن من القرائن والدلائل على صحتها. لكي يرجح بالتدريج على أنها الجواب الصحيح.

وعلى هذا ، لا يتعين أن تقع الأطروحة في مجال الجواب على سؤال ، بل يمكن أن يبيّن بها الفرد أي شيء يخطر في البال.

ولكن لا ينبغي أن ندعي أن كل المحتملات بالتالي تصلح أن تكون أطروحة بهذا المعنى ، بل ما يصلح لها ، هو ما يمكن للفرد تكثير القرائن على صحته وتجميع الدلائل على رجحانه. وإلّا لم يكن أطروحة ، بل

١٢

احتمالا. ومن الواضح جدا أنه ليس كل المحتملات على هذا المستوى.

وهذا هو معنى الأطروحة الذي سرت عليه في كتب موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام ، فيما كان يعنّ من المصاعب التاريخية والعقائدية والحديثية ، وغيرها.

إلّا أنني عرّفتها ثانيا : بأنها الاحتمال المسقط للاستدلال المضاد. من باب القاعدة القائلة ، إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال.

من حيث إن الاستدلال لا بد وأن يكون قائما على الجزم ومنتجا لليقين بالنتيجة. إذن فأية فكرة طعنت في ذلك واستطاعت إزالة اليقين به ، كافية في الجواب على السؤال وإسقاط الاستدلال.

فمثلا ، فيما يخص كتابنا هذا ، فإن كل سؤال سيكون بمنزلة الاستدلال ضد القرآن الكريم ، من حيث فتح فجوة في مضمونه أو الاعتراض على أسلوبه ، وحاشاه. ومن ثم تكون الأطروحات كافية لإسقاط ذلك الاستدلال وإماتة ذلك التفكير.

وهذا هو المهم بغض النظر عن البت بأي وجه من تلك الوجوه ، والأخذ بأي من الأطروحات ، إلّا ما قد يحصل من ذلك صدفة ، مما يواجهنا فيه ظهور معتبرة ونحوه ، وأي من تلك الأطروحات تمت فقد تمّ الجواب وانتفى الاستدلال المضاد.

هذا ولا ينبغي لنا هنا أن نقارن بين هذين التعريفين ، فإنه تطويل بلا طائل ، بل نوكله إلى فطنة القارئ اللبيب.

وإنما نقتصر هنا إلى الإشارة إلى إمكان الجمع بين هذين التعريفين. من حيث إن الاحتمال مهما كان صفته وقيمته يكون مسقطا للاستدلال لا محالة ، ما دام مرتبطا بموضوع السؤال. كما هو منطوق التعريف الثاني ، إلّا أن هذا لا يعني تحول معنى الأطروحة إلى مجرد الاحتمال. بل تبقى الأطروحة هو ذلك الاحتمال المحترم الذي يمكن أن نجمع حوله أقصى مقدار متيسر من الدلائل والإثباتات. وبذلك يكون أشد إسقاطا للاستدلال بطبيعة الحال. وهذا ما توخيناه فعلا في المباحث الآتية.

١٣

ـ ٦ ـ

هذا ، وقد عبّر بعض فضلاء طلابي عني بأني قد أخذت خلال هذه المباحث ، بأسلوب (اللاتفريط) في القرآن الكريم ، وهذا واضح من بعض المباحث الآتية.

ولعل أول تطبيق لهذا الأسلوب ، هو ما ذكرته في كتابي ما وراء الفقه ، في الفصل الخاص بالقرآن الكريم من كتاب الصلاة (١). حيث ذكرت ما محصله : إن القرآن يمكن أن يكون محتويا على اللحن بالقواعد العربية ومخالفتها وعصيانها ، كما هو المنساق من بعض آياته ، وذلك لأن مقتضى قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، هو احتواء القرآن الكريم على كل علوم الكون ظاهرا وباطنا.

ومن العلوم أن هذا الكون الذي نعرفه يحتوي على النقص كما يحتوي على الكمال ، وفيه الخير والشر ، والقليل والكثير. إذن ، فيمكن التمسك بإطلاق تلك الآية الكريمة ، لاحتواء القرآن على كل ما في الكون ، بما فيه ما نحسبه من النقائص والحدود.

ولا ضير في ذلك ، ما دامت هذه الصفة تعدّ كمالا له ، من حيث الاستيعاب والشمول واللاتفريط.

فكما يحتوي القرآن الكريم ، على الفصاحة والبلاغة ، وهذه هي الصفة الأساسية فيه ، فقد يحتوي أيضا ، بل من الضروري أن يحتوي على ضدها ، لأنه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). وكما يحتوي على اللغة العربية ، وهي سمته العامة ، ينبغي أن يحتوي على لغات أخرى ، وكما يحتوي على الظاهر العرفي ، ينبغي أن يحتوي على الباطن الدّقّي ، وهكذا.

وبهذا يتبرهن أسلوب اللاتفريط المأخوذ لفظه من الآية المشار إليها. وهو

__________________

(١) ج ١ ، ق ٢ ، ص ١٣٠.

١٤

باب واسع يمكن على أساسه صياغة كثير من الأطروحات لكثير من المشاكل التي قد تثار في عدد من المواضع أو المواضيع. وينسد الاعتراض عليها بأن فيها اعترافا بنقص القرآن العظيم.

ـ ٧ ـ

هذا ، وسيجد القارئ بعض ما يمكن أن نسميه بالأطروحات الشاذة أو الآراء النادرة. مع محاولة التأكيد عليها والتركيز فيها.

فقد يحصل الاستغراب من ذلك. وخاصة بعد أن التفتنا إلى أن أمثال هذه الأسئلة والبيانات ، تحتاج إلى أطروحات واضحة وأجوبة مقنعة.

والواقع أن هذه الأطروحات الشاذة ، لم أطرحها وحدها كجواب كاف ، بل طرحت معها دائما أطروحات كافية في الجواب ، بحيث لا تبقى في الذهن شبهة أو إشكال ، ولكن مع ذلك قلت : إن هذه الأطروحة الشاذة أو تلك ، هي كافية أيضا للجواب لمن يقتنع بها أو يستند إليها.

والفائدة الرئيسية التي توخيناها من وراء عرض مثل هذه الأطروحات ، هي فتح عين القارئ اللبيب ، وإلفاته إلى إمكان تجاوز الفكر التقليدي أو المتعارف في كثير من أبواب المعرفة ، لا في جميعها بطبيعة الحال ، بل في تلك النظريات المشهورة التي تعصّب لها الناس وأخذ بها المفكرون بدون أن تكون ذات دليل متين أو ركن ركين. وأن كثيرا من العلوم المتداولة ، تحتوي على شيء من ذلك ، وخاصة في مجال القواعدة العربية ، كالنحو والصرف وعلوم البلاغة.

فإن أمثال هذه العلوم مشحونة بالنظريات التي احترمها أصحابها وأخذوها وكأنها مسلّمة الصحة ، وبنوا عليها نتائج عديدة. في حين يبدو للمتأمل زيفها وبطلانها مع شيء من التدقيق. ويكفي من أطروحاتنا هذه أن تكون صالحة لإسقاط الاستدلال بأمثال تلك النظريات والأفكار.

وعلى أي حال ، فهذه الأطروحات ، بصفتها مخالفة للمشهور العظيم

١٥

من المفكرين ، ستكون شاذة ومثيرة للاستغراب. وأما إذا لوحظت بدقة وموضوعية ، فستكون كسائر الأطروحات الصالحة للجواب عن السؤال التي هي بصدده.

ـ ٨ ـ

ومما ينبغي أن نلتفت هنا إليه أيضا : إن الاتجاه الواضح لكل المؤلفين تقريبا هو أن يعطي المؤلف للقارئ كل ما يعرف. ويحاول أن يسجل في كتابه كل شاردة وواردة مما يرتبط بموضوعه.

الأمر الذي ينتج أكيدا ، أننا نستطيع أن نقيّم المؤلف من خلال الاطلاع على كتابه ، لا أننا نقيّم الكتاب بغض النظر عن مؤلفه. لأن المفروض أن المؤلف ذكر كل ما يعرفه فيه. فلو كان يعرف أمورا أخرى لذكرها. وحيث إنه لم يذكرها إذن فهو لم يعرفها. ومن هنا تظهر الحدود الرئيسة لثقافة المؤلف لا محالة.

ولعل هذا ، إلى حد ما ، هو الاتجاه الذي كتبت به موسوعة الإمام المهدي عليه‌السلام ، تأثرا بالاتجاه الواضح للمؤلفين كما أشرنا. ولأن الحقائق المبينة كلما كانت أكثر وكلما كان الاطلاع عليها أوسع لدى الآخرين ، كان ذلك أكثر فائدة وأوسع همة ، وبالتالي فهو أرجح في الدين وأرضى لرب العالمين.

إلّا أن هذا الأسلوب مما تمّ رفضه من قلبي أكيدا ، بعد ذلك ، انطلاقا من الحكمة القائلة : إن الحكمة ينبغي لها أن تخفى عن غير أهلها. فإذا أصبح الكتاب مطروحا في السوق ، وبيد تناول الجميع ، كانت النتيجة على خلاف ذلك بكل تأكيد. وقديما قيل : إن الكذب حرام ، ولكن الصدق ليس بواجب. وقيل : إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

وعلى أي حال ، فلا يجوز للفرد أن يقول كل ما يمكن أن يقال ، بل من الضروري أن يقتصر على ما ينبغي أن يقال.

١٦

فإذا عطفنا ذلك إلى المشاكل والأطروحات التي سبق أن استقرأناها ، عرفنا كيف كان تأليف هذا الكتاب صعبا ومعقدا على المؤلف ، بحيث يكون المؤلف فيه بين حدّي السكين أو بين طابقي الرحى ، أو بين المطرقة والسندان ، كما يعبرون.

وهذا المأزق مما لا مناص منه ، كما لا خلاص منه إلّا برحمة من الله ولطف ، إذ من الواضح أن عمق الكلام قد يستلزم وصول الحكمة إلى غير أهلها ، وأن قلة الكلام قد يستلزم ضمور الدليل وضحالة الفكرة ، الأمر الذي يقتضي بقاء الشبهة وعدم حصول الجواب الوافي عن السؤال. وبالتالي عدم الدفاع الحقيقي والكامل عن القرآن الكريم. وكلا هذين الأمرين المتنافيين ظلم حرام.

فأبتهل إلى الله بحق أوليائه الطاهرين ، أن يغفر لي ما قد يكون بدر مني في هذا الكتاب من أحد هذين الشكلين من الظلم أو من أشكال أخرى من الشطح في الكلام وكونه على غير المرام. وخاصة أن المورد هو الدفاع عن الكتاب الكريم وعقيدة ديننا الحنيف. إن الله ولي كل توفيق ، وهو أرحم الراحمين.

فإذا علمنا أن هذا الكتاب ، قد تمّ تسطيره بناء على هذا المسلك ، كما أن الدرس والمحاضرات التي استخلص منها هذا الكتاب ، قد اتبعت فيها ذات الأسلوب. ومع ذلك فقد حذفت بعض الأمور التي قلتها في الدرس ولم أسجلها في هذا الكتاب زيادة في الحذر وتركيزا في الاحتياط. وأمري وأمر القارئ بعدئذ إلى الله تعالى. بل دائما إلى الله تعود الأمور.

ـ ٩ ـ

هذا ، ولا ينبغي أن يلحق هذا الكتاب ، بكتب التفسير العام ، فإنه ليس كذلك إطلاقا. وقد تجنبت فيه عن عمد كل ما يرتبط بالتفسير المحض ، لو صحّ التعبير. إلّا ما نحتاج إليه أحيانا على سبيل الصدفة. وعلى القارئ الكريم أن يرجع في التفسير إلى مصادره وما أكثرها. إذ لعل تفاسير القرآن

١٧

في كل فرق الإسلام تزيد على المائة بمقدار معتد به. ولا حاجة إلى تكرار ما قالوه منها.

وإنما يلحق هذا الكتاب بحقل الكتب التي اختصت بمشاكل القرآن لو صح التعبير. ومنها المصادر التي اعتمدتها في البحث ، ككتب العكبري والرازي والقاضي عبد الجبار والشريف الرضي وغيرهم.

ويفترض أن يكون المنهج هنا ، هو التعرض إلى أي سؤال أو مشكلة ، قد تخطر في الذهن بغض النظر عن نوعيتها. بخلاف المصادر الأخرى التي حاولت الاختصاص ببعض الحقول ، كالجانب اللغوي أو الجانب العقلي ، أو غيرهما.

ومن هنا نجد في هذا الكتاب حديثا من كل نوع : من الفقه والأصول وعلم الكلام والنحو والصرف وعلوم البلاغة وشيء من التفسير. مضافا إلى بعض العلوم الطبيعية ، كالفيزياء والفلك والتاريخ وغيرها.

ـ ١٠ ـ

وسيجد القارئ الكريم أنني بدأت من المصحف بنهايته ، وجعلت التعرض إلى سور القرآن بالعكس.

فإن هذا مما التزمته في كتابة هذا نتيجة لعاملين ، نفسي وعقلي.

أما العامل النفسي : فهو تقديم الطرافة في الأسلوب وترك التقليد للأمور التقليدية المشهورة ، فيما يمكن ترك التقليد فيه.

وأما العامل العقلي : فلأن التفاسير العامة ، كلها تبدأ من أول القرآن الكريم ، طبعا. فتكون أكثر مطالبها وأفكارها قد سردته فعلا في حوالي النصف الأول من القرآن الكريم. وأما في النصف الثاني فلا يوجد غالبا إلّا التحويل على ما سبق أن ذكره المؤلف.

الأمر الذي ينتج أن يقع الكلام في النصف الثاني من القرآن مختصرا

١٨

ومقتضبا. مما يعطي انطباعا لطبقة من الناس ، أنه أقل أهمية أو أنه أقل في المضمون والمعنى ، ونحو ذلك.

في حين أننا لو عكسنا الأمر ، فبدأنا من الأخير ، لاستطعنا إشباع البحث في السور القصيرة ، وتفصيل ما اختصره الآخرون ، ورفع الاشتباه المشار إليه. فإن لم نكن بمنهجنا هذا قد استنتجنا أكثر من هذه الفائدة لكفى.

إلّا أن هذا لا يعني بطبيعة الحال ، بدء السور من نهاياتها. بل إن السير القهقرى هذا ، إنما هو باعتبار السور لا باعتبار الآيات. فنبدأ في كل سورة من أولها. وننتهي إلى آخرها. ثم نبدأ بالسورة التي قبلها وهكذا.

وهذا لا يعني الخدشة بترتيب المصحف المتداول ، وخاصة بعد أن نلتفت إلى ما سيأتي من أطروحات أسماء السور ، حيث سنعطي لكل سورة رقمها في المصحف. وسيكون له وجاهته واحترامه ، ولعله سيكون أفضل تلك الأطروحات.

غير أنني أعتقد أننا لو أوردنا النظر إلى ترتيب النزول بدقة ، لم نحصل على طائل ، لأن أخباره كلها ضعيفة ، وليس فيها من المعتبر إلّا النادر جدا. إذن فترتيب القرآن الكريم بطريقة النزول ، مما لا يمكن إيجاده الآن بحجة شرعية تامة.

إلّا أن هذا مما لا ينبغي أن يهمنا كثيرا ، مع اشتهار المصحف المتعارف ، وإقراره جيلا بعد جيل من قبل علماء المسلمين ، وانتهاء بالجيل المعاصر للأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

ـ ١١ ـ

هذا ، ولا ينبغي إهمال أسماء السور في هذه المقدمة عن شيء من الحديث ، من حيث إننا لا نعلم من الذي استعملها ووضعها لأول مرة. كما نعلم أنها مختلفة من حيث الأهمية والصحة.

فإن بعضه وإن كان جيدا في المعنى كسورة الحمد والتوحيد ، إلّا أن

١٩

بعضه ليس كذلك ، كذكر الحيوانات : البقرة والفيل ، أو ذكر الكافرين والمنافقين ، أو باسم غير موجود لفظه في السورة كالأنبياء والممتحنة. وغير ذلك ، إلّا أنه لا سبيل اليوم إلى إحداث بعض التغيير.

ومن هنا أمكننا أن نعرض لأسماء السور عدة أطروحات لا تحتوي على ذلك التغيير الكثير :

الأطروحة الأولى : الاسم المشهور أو المتعارف في المصاحف المتداولة.

الأطروحة الثانية : إنه قد يوجد أحيانا اسم آخر غير مشهور أو أكثر من اسم ، قد أطلقته عليه بعض المصادر. فنسجله في هذه الأطروحة.

الأطروحة الثالثة : أن نسير على غرار أسلوب السيد الشريف الرضي قدس‌سره في تسمية السور في كتابه : مجازات القرآن. حيث كان يقول : السورة التي ذكرت فيها البقرة والسورة التي ذكرت فيها النساء.

وبالرغم من أن كتابه كله لم يصل إلينا ، وإنما وصلنا جزء بسيط منه ، قد لا يتعدى السور الأربع الأولى من القرآن الكريم. ومن ثم لا نعلم ما الذي فعله في جميع السور. إلّا أنه على أي حال ، فتح لنا بابا واسعا من هذه الجهة ، وأسّس لنا قاعدة يمكن العمل عليها في أغلب السور.

الأطروحة الرابعة : أن نسمي السورة باللفظ الوارد في أولها كما يسير عليه العرف الاجتماعي في بعض السور. ك (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ). و (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). وغيرها.

الأطروحة الخامسة : أن نترك تسمية السور ، ونستعيض عنه برقمها من المصحف. كما يقترح البعض. من حيث إنه متكون من ١١٤ سورة ، فلكل سورة رقم معين ، يصلح أن يكون عنوانا لها. وهو نحو من الفكر التجريدي الرياضي تجاه القرآن الكريم. من حيث الميل إلى ترقيم آياته وأجزائه وأحزابه وسوره وكلماته وحروفه وغير ذلك.

وعلى أي حال ، فبهذا النحو ، لا تتساوى السور في الأطروحات. بل قد تزيد فيها وقد تنقص ، حسب ما هو متوفر في كل منها.

٢٠