بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

فافهم (١).

تتمة : بناء على القول بالفور ، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا ، في الزمان الثاني ، أو لا؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول ، هو وحدة

______________________________________________________

التي ادركها العقل ، وهذا مراده من قوله : «فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة» : أي ان الامر المتعلق بالاطاعة لا داعي له سوى ما في الطاعة نفسها التي ادرك العقل ما يترتب عليها من حسن فعلها وقبح تركها وهذا مما يترتب على الاطاعة «ولو لم يكن هناك امر بها» من الشارع.

(١) لعله يشير الى ان ادراك العقل لحسن الفعل مختلف.

فتارة : يدرك حسنه وقبح تركه باستحقاق العقوبة عليه ، كما في الاطاعة ، فان العقل يدرك حسنها وان فعلها قيام بمراسم العدل في العبودية ، ويدرك قبح تركها وان تركها ظلم في سلطان المولى وخروج عن رسم العبودية والرقية ، ومثل هذا لا بد وان يكون امر الشارع فيه ارشاديا ، بل في خصوص الاطاعة قالوا : بلزوم التسلسل اذا كان الامر مولويا ، لوجوب اطاعة الامر المولوي ، فيكون للاطاعة اطاعة وهلم جرا.

واخرى : يدرك العقل حسن الفعل ، ولا يدرك قبح تركه واستحقاق العقاب عليها ، وفي مثل هذا مجال واضح للامر بها امرا الزاميا مولويا ، اذ لا غناء عن الامر المولوي بالامر الارشادي ، فانه ما لم يكن للعقل حكم بترتب استحقاق العقاب على ترك الفعل يكون مجال لتركه ، ويكون حينئذ مجال لحكم الشارع وامره به امرا مولويا ، ومقامنا من قبيل الثاني ، لأن العقل وان ادرك حسن المسارعة الّا انه لا يدرك أن في ترك نفس المسارعة ظلما من العبد في سلطان المولى ، بل الظلم في ترك الاطاعة اصلا ، لا في ترك المسارعة اليها فيبقى مجال لامر الشارع بالاسراع الى الطاعة مولويا.

٤٤١

المطلوب أو تعدده (١) ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبر جيدا (٢).

______________________________________________________

(١) حاصل هذه التتمة انه لو قيل بدلالة الصيغة على الفورية ، فهل مفادها فورا ففورا؟ : بمعنى ان المطلوب الذي دلت الصيغة على طلبه في وقته الذي يمكن اتيانه به تدل الصيغة على طلب اتيانه في ذلك الوقت فورا ففورا ، فاذا لم يأت به في اول ازمنة امكانه ففي الزمان الذي بعده ايضا السرعة اليه مطلوبة ، وهلم جرا الى ان يبلغ الى حد بحيث لو اتى به لا تصدق الفورية والمسارعة وهو آخر ازمنة امكان الاتيان به ، ولازم كون الطلب بهذا النحو انه له عصيانات متعددة ، فانه لو عصى الفورية في اول زمانها يمكنه اطاعتها في الزمان الثاني ، وهكذا في الزمان الثالث.

او ان مفادها الفورية من دون دلالتها على كونها فورا ففورا؟ ولازم ذلك انه لو عصى الفورية ولم يات بالمطلوب في اول ازمنة امكان الاتيان به يسقط الطلب ، فيرجع القول بها إلى ان المطلوب مضيق دائما الّا ان يدل الدليل على التوسعة.

والمبنى في كون المستفاد من الصيغة هو النحو الاول أو النحو الثاني ـ ان المستفاد من الصيغة تعدد المطلوب او وحدته.

وتوضيحه : ان الامر المتعلق بالطبيعة على نحو الفور هل يرجع الى طلب متعلق بالطبيعة ، وطلب متعلق بالفور؟ فهناك طلبان ومطلوبان ، ومفاد هذا هو فورا ففورا ، لأن طبيعة الفور لها طلب خاص بها ، ولطبيعة الفور مصاديق متعددة اول الازمنة ، ثم ثاني الازمنة ، وهكذا ، او ان المستفاد من الصيغة هو وحدة المطلوب ، وان المطلوب واحد وهو الطبيعة المقيدة بكونها عن فور ومسارعة ، وعلى هذا فلو لم يات بها في اول الازمنة ، لما امكن ان يأتي بها في الزمان الثاني ، اذ ليست الطبيعة في الزمان الثاني هي الطبيعة المقيدة بالفورية.

(٢) وحاصله : لو امكن ان يقال : بدلالة الصيغة على الفورية فلا دلالة لها على نحو كون الفورية مطلوبة في قبال الطبيعة المطلوبة لينتج تعدد المطلوب ، كما انه لا دلالة

٤٤٢

الفصل الثالث : الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ، ينبغي تقديم أمور (١):

أحدها : الظاهر أن المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا ، فإنه عليه يكون على وجهه قيدا توضيحيا ، وهو بعيد ، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، بناء على المختار ، كما تقدم من أن قصد

______________________________________________________

لها على كون الفورية قيدا للمطلوب لينتج وحدة المطلوب ، فغاية دلالة الصيغة ان متعلق هيئتها لا بد وان يأتي به فورا ، اما كون الفورية فيه على أي النحوين من تعدد المطلوب او وحدته فلا يستفاد ذلك من الصيغة.

(١) عنون المصنف (قدس‌سره) مبحث الاجزاء بغير العنوان المعروف ، فإن عنوانه في الفصول يقتضي كونه من مباحث الامر ، لانه قال : اختلفوا في ان الامر بالشيء هل يقتضي الاجزاء الى آخر كلامه ، وقال في القوانين : قانون الحق ان الامر يقتضي الاجزاء.

والمصنف لم يجعله بمقتضى عنوانه من مباحث الامر ، بل جعل الاجزاء وعدمه من لواحق نفس الاتيان ، لأن الاجزاء مما يتسبب عن اتيان المامور به على الوجه الذي يحصل به تمام الغرض الذي دعا الى الأمر به ، ولا ربط للاجزاء بالامر ، فهو من لواحق نفس الاتيان ، ومثله ما في تقريرات الشيخ (قدس‌سره) قال فيها : اختلفوا في ان اتيان المامور به على وجهه يقتضي الاجزاء أو لا.

وعلى هذا فلا ينبغي عد الاجزاء من مباحث صيغة الامر ، بل هو من مسائل الاصول العقلية ، ولعلّه انما ذكرها في مباحث الصيغة لأن دليل الاجزاء في مرحلة اثباته انما هو اطلاق الامر ، فلذا ناسب ان تذكر في مباحث صيغة الامر.

٤٤٣

القربة من كيفيات الاطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا ، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب ، فإنه مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ، وهو ما ذكرناه ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) المحتملات بدوا في لفظ «وجهه» الماخوذ في العنوان ثلاثة :

الأول : كونه قيدا توضيحيا فيكون عبارة عن نفس المامور به ، فيكون المراد من قولهم : الاتيان بالمامور به على وجهه : أي بنفسه : فهو كما لو قالوا : الاتيان بالمامور به بنفسه.

ويرد عليه اولا : انه بعيد لأن الاصل في القيود الماخوذة في عناوين المباحث ان تكون تاسيسية لغرض يتوقف على ذلك القيد ، لا توضيحيّة.

وثانيا : انه لو كان توضيحيا للزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على مختار المصنف وجماعة من المحققين : من عدم امكان اخذ قصد القربة في المامور به ، فالمأمور به فيها مما لا بد في كونه سببا للاجزاء من الحاقه بقصد القربة ، وقصد القربة الذي يتوقف اجزاء المامور به عليه مما لا يمكن اخذه في المامور به لما تقدم من المحاذير ، فلا يكون اتيان المامور به مما يوجب الاجزاء مع اتيانه بجميع شرائطه وقيوده التي اخذت فيه شرعا ، وقصد القربة مما اخذ فيه عقلا لا شرعا ، لعدم امكان اخذه شرعا ، ولا وجه لخروجها عن حريم النزاع اذا امكن دخولها فيه ، واذا كان قيد على وجهه قيدا تاسيسيا لا توضيحيا تكون التعبديات داخلة في المبحث كما ستعرف ذلك.

الثاني : ان يكون المراد بعلى وجهه هو قصد الوجه الذي هو اتيان الفعل بداعي وجوبه او استحبابه.

ويرد عليه ـ ايضا ـ اولا : ان المعروف عند معظم الاصحاب الذين بحثوا في عنوان الاجزاء وحرّروه هو عدم اعتبار قصد الوجه ، اذ لا دليل عليه كما تقدم بيانه في

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التعبدي والتوصلي ، فلا وجه لاخذه في عنوان هو محل البحث والنزاع عند الكل ، الى هذا اشار بقوله : «مع عدم اعتباره عند المعظم».

وثانيا : انه لو كان المراد منه هو قصد الوجه لاختص مبحث الاجزاء بخصوص التعبديات لا مطلق الواجبات ، لوضوح انه لم يعتبر قصد الوجه عند من اعتبره الّا في خصوص العبادات ، والى هذا اشار بقوله : «وعدم اعتباره» الى آخر قوله «لا مطلق الواجبات».

وثالثا : انه للعبادات وغيرها من الواجبات شروط واجزاء كثيرة ، فلا وجه لاختصاص قصد الوجه من دون ساير شرائطها واجزائها لو كان قصد الوجه مما يعتبر في شرائط العبادة ، فاللازم انه لو كان قصد الوجه مما يعتبر في اتيان المامور به وافيا بتمام الغرض ـ ان يكون داخلا في عنوان يعمه وغيره ، والى هذا اشار بقوله (قدس‌سره) : «لا وجه لاختصاصه ... الى آخره».

الثالث : من الاحتمالات ان يكون المراد بعلى وجهه هو اتيان المامور به بجميع ما له دخل في ترتب الغرض الداعي الى الامر به عليه ، سواء كان مما اخذ فيه من الاجزاء والشرائط في لسان الشارع ، او كان مما اعتبر فيه عقلا من دون اخذه شرعا فيه كقصد القربة او الوجه بناء على القول به ، فانه على هذا لا يكون القيد توضيحيا كما في الاحتمال الاول ، ولا يكون مختصا بالتعبديات كما هو مقتضى الاحتمال الثاني. اما عدم كونه توضيحيا فلشموله لقصد القربة التي لا يمكن اخذها في المامور به ، فليس على وجهه هو نفس المامور به ، فليس النزاع في هذا المبحث في اتيان نفس ما امر به ، بل في اتيان ما امر به وما اعتبره العقل فيه : بان يكون الماتي به مشتملا على جميع ما له دخل في الغرض الداعي للامر به ، وان كان ذلك الشيء مما لا يمكن اخذه متعلقا للامر واما عدم اختصاصه بالتعبديات وبخصوص قصد الوجه فيها فواضح.

٤٤٥

ثانيها : الظاهر أن المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان عنوان هذا المبحث اشتمل على الفاظ لا بد من تفسيرها ليتضح العنوان المبحوث عنه ، وقد تقدم الكلام في لفظ (على وجهه) وما المراد منه.

وفي هذا الثاني يتكلم في لفظ الاقتضاء وما هو المراد منه ، ولفظ الاقتضاء قد يطلق ويراد منه العلية والتاثير ، كما يقال : النار تقتضي الاحراق ، وقد يطلق ويراد منه الدلالة والكشف ، فيقال : البرهان الفلاني يقتضي كذا ، او الاطلاق في مقام يقتضي كذا.

فهل المراد من الاقتضاء في هذا العنوان هو التاثير والعلية ، أو الكشف والدلالة؟ والذي نسبه إلى نفس الاتيان كالمصنف لا بد وان يريد منه ـ حينئذ ـ هو العلية والتاثير ، لأن معنى كون الإتيان مقتضيا للاجزاء هو كون الماتي به المشتمل على كل ما له في تحقق الغرض الداعي الى الامر لا بد وان يسقط الامر عند الاتيان به ، لحصول الغرض الذي دعا اليه ، فالاتيان له التاثير بنفسه الى انتهاء امد الامر وسقوطه ، لحصول تمام الغرض الداعي الى الامر عن الاتيان بالمامور به على وجهه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «الظاهر ان المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتاثير» واشار الى ان الدليل على كون المراد منه هو العلية والتاثير نسبته الى نفس الاتيان في العنوان.

واما من نسبه الى الامر فقال هل الامر بشيء يقتضي الاجزاء؟ لا بد وان يريد منه الدلالة والكشف ، فانه لا معنى لأن يكون نفس الامر بشيء موجبا للتاثير في سقوط نفسه ، بل المراد منه انه يدل ويكشف على انه اذا اتى بالمامور به على وجهه يسقط حينئذ.

٤٤٦

إن قلت : هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر ، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره ، بنحو يفيد الاجزاء ، أو بنحو آخر لا يفيده (١).

______________________________________________________

(١) حاصل ان قلت : ان الاقتضاء بمعنى التاثير والعلية في السقوط ، لا بمعنى الدلالة والكشف انما يتم في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره ، كاجزاء الاتيان بالمامور به الواقعي عن نفس امره ، وكذلك الاتيان بالمامور به الاضطراري عن امره الاضطراري ، ومثلهما الاتيان بالمامور به الظاهري عن الامر الظاهري ، فان الداعي للامر بشيء هو ذلك الغرض الذي دعا الى الامر به ، فيكون الاتيان بالمامور به موجبا لانتهاء الامر به فيسقط ، واما كون الاتيان بمأمور به بامر علة وموجبا لسقوط امر آخر متعلق بشيء آخر فلا معنى له ، كاسقاط الاتيان بالمامور به الاضطراري او الظاهري للامر المتعلق بالمامور به الواقعي ، وانما يكون الاتيان بهما مسقطا للامر الواقعي لاجل دلالة دليلهما على ان متعلقهما واف بالغرض الذي في المامور به الواقعي ، أو بهما يتدارك الغرض فيه فيسقط الامر به حينئذ ، فاذا يكون الامر بهما هو الذي يدل على سقوط الامر الواقعي ، فالاقتضاء يكون بمعنى الكشف والدلالة في اسقاطهما للامر الواقعي لا بنحو التاثير والعلية.

فان قيل بدلالة الامر بهما على ذلك سقط الامر الواقعي باتيانهما ، وان لم نقل بدلالة دليلهما على ذلك لا يسقط الامر الواقعي ، بل لا بد من اتيان المامور به بالامر الواقعي بعد ارتفاع الاضطرار او ارتفاع الجهل ، اما في الوقت او خارجه : أي اما اعادة او قضاء ، وهذا مراده من قوله : «فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره» : أي ان دليل الامر الاضطراري والظاهري هل يدل على كون الاتيان بمتعلقهما وافيا بتمام الغرض في المامور به الواقعي ، او يتدارك بهما الغرض الذي فيه اولا. فان دل دليلهما على ان متعلقهما معتبر على نحو يكون وافيا بالغرض مثلا

٤٤٧

قلت : نعم ، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما ، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما ، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما ، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه ، وعدم دلالته ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا ، بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره ، فإنه لا يكون إلا كبرويا ، لو كان هناك نزاع ، كما نقل عن بعض (١)

______________________________________________________

افاد الاجزاء ، وان لم يدل دليلهما على ذلك لم يفد الاجزاء ، وهذا مراده من قوله : «بنحو يفيد الاجزاء او بنحو آخر لا يفيده».

(١) توضيحه ان النزاع : هو في ان ما تحمل لغرض الداعي للامر بشيء اذا اتى به المكلف فهل يسقط الامر به ام لا؟

وهذا النزاع بالنسبة الى اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره دليله العقل ، وبالنسبة الى كون الاتيان بالمامور به الاضطراري أو الظاهري مجزيا عن الامر المتعلق بالواقع دليله هو اطلاق الامر الاضطراري أو الظاهري ، فان كان لهما اطلاق في اجزاء المأمور به فيهما عن الامر الواقعي : بان يدل الاطلاق فيهما على كون متعلقهما متحملا لغرض المامور به الواقعي ، كما انه متحمل لغرض الامر بهما فيسقط الامر الواقعي بهما ، لاستيفاء الغرض او لتدارك الغرض باتيانهما عن الغرض الذي في المأمور به الواقعي ، واذا لم يكن للامر الاضطراري او الظاهري هذا الاطلاق لم يكن اتيانهما مجزيا عن الامر الواقعي وموجبا لانتهاء امده وسقوطه ، فالنزاع على كل حال في الاقتضاء بمعنى التاثير.

غاية الامر ان الدال على التاثير بالنسبة الى اسقاط الامر المتعلق بنفس المامور به هو العقل في مرحلة اجزاء الاتيان بالمامور به الواقعي عن امره واتيان المامور به الاضطراري والظاهري عن امرهما ، والدال على تاثير الاتيان في اسقاط الامر الواقعي في الاتيان بالمأمور به الاضطراري والظاهري هو اطلاق دليلهما ، واختلاف الدليل الدال على كون المجزئ هو الاتيان وعدمه لا يوجب كون الاقتضاء في إجزاء

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي هو بمعنى الكشف والدلالة ، لا بنحو التاثير والعلية ، بل الاقتضاء في كلا المقامين بمعنى التاثير والعلية.

هذا هو الفرق الاول بين اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره ، وبين اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري او الظاهري عن الامر الواقعي ، وقد اشار بقوله : «غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما ... الى قوله ويكون النزاع».

والفرق الثاني : هو ما اشار اليه بقوله : «ويكون ... الى آخره».

وحاصله : ان الفرق بينهما ايضا : بان النزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره نزاع كبروي ، والنزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي نزاع صغروي ، لوضوح ان النزاع في وجود اطلاق في الامر الاضطراري يدل على اجزاء الاتيان بمتعلقه عن الامر الواقعي انما هو بعد الفراغ عن كون الاتيان بما فيه الغرض الداعي الى الامر موجبا لانتهاء أمد الامر وسقوطه ، فبعد تمامية هذه الكبرى يصح النزاع : في ان الامر الاضطراري والظاهري هل لهما اطلاق في كون متعلقهما باتيانه يحصل الغرض من المامور به الواقعي ، او يكون بحيث لا يبقى مجال لاستيفائه فيسقط الامر الواقعي ، او ليس لهما هذا الاطلاق؟

فالنزاع في اجزائهما عن الامر الواقعي صغروي بعد تمامية الكلام في الكبرى ، والّا فلو قلنا : بان الاتيان بنفس المامور به الواقعي لا يجزئ ولا يوجب سقوط امره ـ كما قال به ابو هاشم ومن تبعه ـ فلا يصح النزاع في اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي ، إلّا ان قول ابي هاشم واتباعه في عدم اجزاء الاتيان بالمامور به عن نفس امره شاذ ، وقد اشار (قدس‌سره) الى هذه الندرة والشذوذ بقوله : «لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض».

٤٤٩

فافهم (١).

ثالثها : الظاهر أن الاجزاء هاهنا بمعناه لغة ، وهو الكفاية ، وإن كان يختلف ما يكفي عنه ، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي ، فيسقط به التعبد به ثانيا ، وبالامر الاضطراري أو الظاهري (٢) الجعلي ،

______________________________________________________

(١) لعله يشير الى ما يمكن ان يقال : ان كون النزاع في اجزاء الاضطراري والظاهري عن الواقعي صغرويا لا ينبغي ان يعد من المسائل الاصولية ، فان المسألة الاصولية هي المسألة التي تكون نتيجتها امرا كليا يقع في طريق الاستنباط ، والنزاع في وجود اطلاق في دلالة الدليل الخاص وعدمه نتيجته امر جزئي فينبغي ان يكون من مسائل الفقه لا الاصول.

والجواب عنه : ان المدار في كون المسألة من مسائل الاصول هو كون نتيجتها امرا كليا ، ودلالة اطلاق الدليل ـ مثلا ـ على اجزاء المامور به الظاهري او الاضطراري عن الواقعي نتيجته امر كلي يقع في طريق الاستنباط.

(٢) لفظ الاجزاء من جملة ما اشتمل عليه العنوان ، ومعناه لغة وعرفا هو الكفاية ، وحيث ان البحث في موضعين : موضع اجزاء الاتيان بالمامور به على وجهه عن امره ، وموضع اجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي ، فحينئذ تكون الكفاية التي هي معنى لفظ الاجزاء مختلفة بحسب ما تضاف اليه.

فتارة : يضاف اجزاء الإتيان بالمامور به الواقعي ـ مثلا ـ الى امره فيفيد سقوط التعبد بالامر الواقعي ثانيا.

واخرى : يضاف إجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري والظاهري الى الامر الواقعي فيفيد سقوط القضاء في خارج الوقت ، فلا ينبغي ان يكون لهم اصطلاح جديد في لفظ الاجزاء بعد ان كان بما له من المعنى اللغوي ، وموارد استعماله في العرف يفيد الغرض المطلوب به في هذا المبحث ، فلا بد وان يكون تفسير القوم للفظ الاجزاء بغير الكفاية تفسيرا له باللازم.

٤٥٠

فيسقط به (١) القضاء ، لا أنه يكون هاهنا اصطلاح ، بمعنى إسقاط التعبد

______________________________________________________

وعلى كل فقد فسر بعضهم لفظ الاجزاء بما يسقط التعبد بالمامور به ثانيا ، وهذا التفسير بظاهره لا يشمل اجزاء الاضطراري والظاهري عن الواقعي ، بل هو ظاهر في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امر نفسه ، فان ظاهر قوله : «ثانيا» ان الاول الذي اتى به هو عين الثاني الذي يسقط الامر به بعد اتيان الاول ، ولا معنى للاقتصار في هذا البحث على اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره.

وبعضهم فسر الاجزاء بما يسقط به القضاء ، ولا بد وان لا يريد من القضاء معناه المعروف : وهو الاتيان في خارج الوقت ، اذ لا معنى لاهمال الاعادة في الوقت ، فلا بد وان يريد من القضاء هو الاتيان مطلقا سواء كان في الوقت او خارجه ، وعلى هذا يكون عاما للموضعين : اجزاء المامور به عن امره ، واجزاء المامور به الظاهري والاضطراري عن الواقعي ، إلّا أنّك قد عرفت ان معنى الاجزاء لغة هو الكفاية وهي تختلف بحسب ما تضاف اليه ، فان اضيفت الى نفس الامر المتعلق بالمامور به افادت سقوطه ، وان اضيفت الى امر متعلق بغيره افادت سقوط ذلك الغير ايضا فتعم الموضعين : اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره ، واجزاء الاتيان بالمامور به الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي ، فلا داعي لاصطلاح جديد ونقله الى معنى : وهو سقوط القضاء ـ كما بيناه ـ فلا بد وان يراد من هذا التفسير باللازم الذي هو المهم للقضية في هذا البحث.

(١) يمكن ان يكون الجعلي راجعا الى الاضطراري والظاهري ، فيكون معناه : ان الاتيان بالاضطراري والظاهري الذي جعل في حال عدم تنجز الامر الواقعي ، إما لعدم القدرة عليه كما في الاضطرار عليه او للجهل به ، كما في موارد الاوامر الظاهرية ويمكن ان يكون الجعلي راجعا لخصوص الظاهري فيكون معناه : ان سبب اجزاء الظاهري عن الواقعي انما هو بسبب التوسع في الجعل في الأوامر الظاهرية :

٤٥١

أو القضاء (١) ، فإنه بعيد جدا (٢).

رابعها : الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار ، لا يكاد يخفى ، فإن البحث هاهنا في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا ، بخلافه في تلك المسألة ، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بدلالة أخرى. نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه ، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء ، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها ، بخلاف هذه المسألة ، فانه كما عرفت في أن الاتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء ، أو لا يجزي ، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا. إذا عرفت هذه الامور ، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (٣):

______________________________________________________

باعتبار الشرطية ـ مثلا ـ اعم من الطهارة الواقعية او الظاهرية ، كما سيأتي قريبا ـ إن شاء الله ـ.

(١) يشير به الى التفسير الثاني.

(٢) قد عرفت سبب البعد.

(٣) لا يخفى انه لا وجه لتوهم عدم الفرق بين هذه المسألة ومسألتي المرة والتكرار ، وتبعية القضاء للاداء ، لاختلاف العناوين اختلافا تاما ، إلّا انه حيث كان الغرض من البحث في هذه العناوين هو النتيجة المترتبة على البحث ، ونتيجة البحث في المرة والتكرار هو الاجتزاء بالاتيان مرة واحدة على القول بالمرة ، وتكرار العمل ثانيا على القول بالتكرار ، والبحث في مسألة الاجزاء ايضا نتيجته على القول بالاجزاء هو اتيان العمل مرة واحدة ، وعلى القول بعدم الاجزاء تكرار العمل ثانيا ، فلذلك توهم عدم الفرق بين المسألتين.

٤٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ومثله وجه توهم عدم الفرق بين مسألة تبعية القضاء للاداء ، ومسألة الاجزاء ، فان القول بتبعية القضاء للاداء نتيجته انه لم يات بالمامور به في وقته فالامر يدل على اتيانه في خارجه ، واذا لم نقل بالتبعية فاذا لم يات بالمامور به في وقته فلا دليل لنفس الامر على اتيانه في خارجه ، وفي مسألة الاجزاء في اجزاء الامر الاضطراري والظاهري عن الواقعي ايضا النتيجة كذلك ، فان قلنا : باجزاء الامر الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي معناه : انه مع عدم الاتيان بالامر الواقعي في وقته لا يؤتى به في خارجه ، وان قلنا : بعدم اجزائهما عن الامر الواقعي معناه : انه مع عدم اتيانه في وقته يؤتى به في خارجه.

واما البحث في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره فلا وجه لتوهم الربط بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء ، لأن موضوع مسألة التبعية هو عدم اتيان المامور به في وقته ، وفي مسألة الاجزاء عن امره الموضوع للبحث هو فرض اتيان المامور به في وقته ، فلا وجه للتوهم اصلا.

وعلى كل فالفرق بين مسألة الاجزاء ومسألة المرة والتكرار : هو ان البحث في مسألة الإجزاء في ان الاتيان بالمامور به بعد معرفة ما هو المامور به بجميع شئونه هل يسقط الامر بالاتيان به ام لا؟ واما البحث في المرة والتكرار ففي ان المامور به ما هو هل المرة أو التكرار؟ وهل ان الصيغة تدل بنفسها على المرة أو التكرار ، أو تدل بواسطة القرائن العامة على المرة والتكرار؟ وهذا مراده من قوله : «أو بدلالة اخرى» لوضوح ان القرائن الخاصة لو دلت على المرة أو التكرار فلا كلام لاحد في ذلك ولا نزاع ، وقد اشار (قدس‌سره) الى هذا الفرق بقوله : «فان البحث هاهنا في ان الاتيان ... الى آخره».

الفرق الثاني انه لا ملازمة في النتيجة بين القول بالمرة والقول بالاجزاء ، فانه يمكن ان يقال ـ هناك ـ بدلالة الصيغة على ان المامور به والمطلوب هو المرة من الطبيعة ، وان يقال ـ هنا ـ بعدم اجزاء الاتيان بالطبيعة مرة واحدة. نعم القول بالتكرار الدائمي في

٤٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تلك المسألة ، والقول بعدم الاجزاء هنا متوافقان في مقام العمل لا في الملاك ، فان الملاك في تلك المسألة للتكرار هو ان المطلوب المدلول عليه بالصيغة متكرر ، وفي هذه المسألة التكرار انما هو لعدم اجزاء الاتيان بما هو المطلوب في سقوط الامر.

وبعبارة اخرى : ان التكرار هناك لتعدد الاوامر فكل مامور به يسقط امره ، وفي هذه المسألة التكرار انما هو لعدم سقوط الامر الواحد ، فالامر الاول بنفسه باق ، لا ان هناك اوامر متعددة يسقط بكل مامور به اتى به امره المتعلق به ، ويكرر العمل لاسقاط الامر الثاني ، وهلم جرا ، والى هذا اشار بقوله : «نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه».

واما الفرق بين مسألة تبعية القضاء للاداء ، ومسألة الاجزاء :

فأولا : ما عرفت من انه لا موجب للتشابه في اجزاء الاتيان بالمامور به عن امره ، وعدم اجزائه عنه ، لاختلاف الموضوع ، فان الموضوع في تلك المسألة هو عدم الاتيان بالمامور به في وقته ، والموضوع في هذه المسألة هو الاتيان به في وقته. نعم ، في مسألة اجزاء الاضطراري والظاهري عن الامر الواقعي وعدمه لو انكشف الخلاف بعد مضي الوقت مجال لدعوى التشابه.

وثانيا : ان البحث في مسألة تبعية القضاء للاداء انما هو في ان المدلول عليه بالصيغة هل هو الطبيعة المقيدة بالوقت فالمطلوب واحد؟ أو ان المدلول عليه فيها متعدد وان الطبيعة بنفسها مطلوبة ، وكونها في الوقت مطلوبا آخر؟ فالنزاع في دلالة الصيغة ، والبحث في هذه المسألة ليس في دلالة الصيغة ، بل في ان الاتيان بما دلت عليه الصيغة هل يسقط الامر الواقعي فيجزي؟ او لا يسقطه فلا يجزي؟ فلا ربط ولا علقة بين المسألتين.

٤٥٤

الاول : إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزي عن التعبد به ثانيا ، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه ، لاقتضاء التعبد به ثانيا (١).

نعم لا يبعد أن يقال : بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا ، بدلا عن التعبد به أولا ، لا منضما إليه ، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة ، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض ، وإن كان وافيا به لو اكتفى به ، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه ، فلم يشربه بعد ، فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد ، وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا ، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب

______________________________________________________

(١) يحكم العقل حكما جزميا بسقوط الامر المتعلق بالمامور به الواقعي ، وكذلك الامر الاضطراري المتعلق بالمامور به الاضطراري ، ومثلهما الامر الظاهري المتعلق بالمامور به الظاهري اذا اتى بالمامور به بجميع ما له دخالة في حصول الغرض به ، لانه لو لم يسقط مع تحقق الغرض الداعي له فبقاؤه يكون من بقاء المعلول بلا علة ، واما ان يكون بقاؤه لعدم تحقق الغرض وهو خلف ، لأن المفروض انه قد اتى بالمامور به المتحمل للغرض بجميع ما له دخالة في تحقق الغرض ، ولا ينبغي التعليل لبقاء الامر بلزوم تحصيل الحاصل ، لأن الكلام في امكان بقائه وعدمه ، لا في مقام انه لو بقى للزم ان يكون الطلب للغرض الحاصل من تحصيل الحاصل ، ولان تحصيل الحاصل المحال هو ايجاد الموجود لا ايجاد مثل الموجود.

وعلى كل فالعقل يحكم بلزوم سقوط الامر ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لا مجال مع موافقة الامر باتيان المامور به على وجهه» : أي بجميع ما له دخالة في تحقق الغرض منه «لاقتضاء التعبد به ثانيا» لأن المفروض ان الداعي للطلب هو الغرض ، وقد فرض حصوله باتيان المامور به.

٤٥٥

حدوثه ، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر ، كما كان له قبل إتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض ، فلا يبقى موقع للتبديل ، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل ، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة ، فله إليه سبيل (١).

______________________________________________________

(١) قد مر بيانه في مبحث المرة والتكرار.

وحاصله : ان الغرض المترتب على اتيان المامور به مختلف ، فتارة يكون المامور به علة تامة لحصوله ، كما مثل له باهراق الماء في فم المولى ، فان الغرض الداعي الى طلب الماء هو رفع العطش بشربه ، فاذا امر المولى عبده باهراق الماء في فمه فاهرق العبد الماء في فم المولى لا بد وان يسقط الامر الداعي لطلب اهراق الماء في فمه ، لانه باهراقه في فمه يرتفع العطش الداعي للطلب ، فلا محالة يسقط الامر ، ولا مجال لبقائه لانه من بقاء المعلول بلا علة ، واما اذا كان المامور به هو احضار الماء والغرض منه رفع عطش المولى : بان يشربه المولى بنفسه ، فلا يكون احضار الماء الذي هو المامور به علة تامة لحصول الغرض ، بل يتوسط بينه وبين الغرض الذي هو رفع العطش ارادة المولى للشرب وشربه له ، فيكون المامور به له اقتضاء في رفع العطش ، ولا يكون علة تامة اذا احضر العبد الماء ، فلا يسقط الامر بمجرد احضار الماء ، اذ المقتضى بنفسه ما لم يحصل له معه تمام شرائط التأثير لا يؤثر ، وما لم يشرب المولى الماء لا يؤثر احضار الماء في رفع العطش ، ولكن حيث كان المامور به نفس احضار الماء فللعبد ان يقتصر على هذا الاحضار ، لانه يمكن ان يرتفع به عطش المولى لو شربه ، وحيث ان الغرض بعد لم يحصل فللعبد ان يبدل الماء الذي احضره بماء آخر غيره.

والدليل على ان له التبديل هو انه لو اهريق الماء قبل ان يستعمله المولى ، فان العقل يلزم العبد باحضار ماء غيره من دون ان يامر المولى مرة اخرى باحضار الماء ،

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولو كان الامر يسقط بمجرد الاحضار لما الزم العقل العبد باحضار ماء ثان من دون ان يامر المولى بالاحضار ثانيا.

وبعبارة اخرى : ان الغرض الداعي الى الامر ما لم يحصل لا يعقل سقوط الامر الذي كان العلة له الغرض ، ولو امكن سقوطه قبل حصول الغرض الذي هو العلة له لما امكن ان يحدث الامر من رأس ، لأن المفروض ان العلة للامر هو تحصيل غرضه بما امر به ، فلو جاز ان يسقط الامر من دون تحصيل غرضه وحال عدم تحقق الغرض الذي هو العلة للامر لما جاز ان يحدث الامر من أصله ، لأن مرجع ذلك الى كون تحصيل الغرض ليس هو العلة للامر وهو خلف. فهذا برهان على ان الامر الأول لم يسقط ، لا انه امر آخر حدث باهراق الماء ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي اليه والّا لما اوجب حدوثه» فدل ما ذكرناه على أن للعبد تبديل ما أتى به بفرد آخر ، ويكون الحال في جواز تبديل ما اتى به بفرد آخر كالحال في جواز التبديل قبل الاتيان به واحضاره ، فكما ان للعبد بضرورة العقل جواز ان يبدل الماء بماء آخر قبل ان يحضره عند مولاه ، كذلك له ان يبدله بماء آخر بعد احضاره ، والمناط في ذلك هو كون المامور به ليس بعلة تامة لحصول الغرض ، والى هذا اشار بقوله : «كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه».

اذا عرفت هذا فان دل الدليل على انه بنحو العلة التامة فلا معنى لتبديل الامتثال ، وان دل الدليل على انه بنحو الاقتضاء فله تبديل الامتثال ، وان لم يعرف من الدليل انه على أي نحو فله التبديل برجاء واحتمال ان يكون من قبيل الثاني ، لوضوح القطع : بانه لا مانع عن التبديل ، لانه اذا كان الاتيان علة تامة فقد سقط الامر ويقع ما اتى به لغوا ، وربما يحصل له ثواب الانقياد حيث يكون التبديل لانه احسن من الفرد الاول ، واذا كان الاتيان بالمامور به له رتبة الاقتضاء في ترتب الغرض فيقع الفرد الثاني امتثالا للامر ، لعدم سقوطه بالاتيان الأول ، والى هذا

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

اشار بقوله : «بل لو لم يعلم انه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله اليه سبيل» : أي فله الى التبديل ووقوع ما أتى به امتثالا للامر سبيل ، هذا.

ولكن قول المصنف : لا يبعد ان يقال ، لا بنحو الجزم ربما يكون اشارة الى عدم معقولية التبديل ، وانه لا بد وان يكون المامور به دائما علة تامة للغرض الداعي الى الامر ، اذ لا يعقل ان يكون الغرض الداعي الى الامر بشيء غرضا لا يترتب على اتيانه ، بل على شيء آخر ، وما ذكره من المثالين : الامر باحضار الماء ، والامر باهراق الماء في الفم وان الغرض في كليهما واحد وهو رفع العطش فغير مسلم ، بل هناك غرضان ، والغرض من الامر باحضار الماء غرض غير الغرض من الامر باهراق الماء في الفم ، فان الغرض من الامر باحضار الماء ليس هو رفع العطش ، بل تمكن المولى مما يرفع به العطش ، والتمكن قد ترتب على نفس الاحضار فلا بد من سقوط الامر بالاحضار ، بخلاف الامر باهراق الماء في الفم فان الغرض منه ايصال الماء الى الحلق ، وكل امر تعلق بشيء لا بد وان يكون الداعي الى الامر بذلك الشيء هو ما يتحمله ذلك الشيء من الغرض الذي هو الداعي لتعلق الامر به ، واما الغرض الذي لا يتحمله ذلك الشيء فلا يعقل ان يكون هو الداعي للامر به ، اذ العلة الغائية للشيء ما ترتبت على نفس ذلك الشيء ، لا ما ترتبت على غيره ، فان المترتبة على غيره علة غائية لغيره لا له.

نعم ربما يكون الغرض المترتب على المامور به له مقدمية الى غرض آخر ، ولكن المفروض ان ما به يقوم الغرض الآخر لم يؤمر به العبد ، وما امر به العبد هو المتحمل للغرض الداعي للامر به ، وكونه شيئا مقدميا لغرض آخر لا يكون فارقا ، فان الكلام في سقوط الامر المتعلق بالمامور به ، وحيث ترتب عليه الغرض الداعي للامر به فلا بد من سقوطه ، والّا كان من بقاء المعلول بلا علة ، واما التبديل قبل الاحضار فلوضوح انه إنما جاز لأن الغرض الداعي للامر لم يحصل وهو تمكن المولى ، ولا يحصل التمكن الّا بعد الاحضار ، ففرق بين التبديل قبل الاحضار ، والتبديل بعد الاحضار.

٤٥٨

ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة ، وأن الله تعالى يختار أحبهما إليه (١).

______________________________________________________

وأما حكم العقل بلزوم إحضار الماء لو اهريق الماء قبل استعمال المولى فلتجدد الامر بالاحضار ، لأن المفروض علم العبد : بان امر المولى بالاحضار للتمكن من استعماله في رفع العطش ، وحيث لم يستعمله والعطش موجود فيعلم العبد بتجدد الامر بالاحضار.

(١) ورد في جملة من الاخبار استحباب اعادة الصلاة جماعة لمن صلى اولا منفردا ، وفي هذه الاخبار فقرات تدل بظاهرها على عدم سقوط الامر بمجرد اتيان الصلاة للمنفرد ، فانه ورد فيها (انه يعيدها ويجعلها الفريضة ويختار الله احبهما اليه) ، وفي بعضها : (يحسب له افضلهما واتمهما) ، فان ظاهر قوله عليه‌السلام : (يجعلها الفريضة (١)) : أي يقصد بها امتثال الامر الوجوبي ، ولازمه عدم سقوط الامر بمجرد الاتيان منفردا ، وايضا ظاهر قوله عليه‌السلام : (يختار الله احبهما اليه) ان الذي يقع به الامتثال هو الاحب ، ولو كان الامتثال واقعا بمجرد الاتيان الاول لما كان مجال لاختيار الاحب ، ومثله قوله عليه‌السلام : (يحسب له افضلهما واتمهما) ، فان الظاهر ان المحسوب للعبد واحد منهما لا كلاهما ، ولو كان الامر يسقط بمجرد الاتيان الاول لما كان مجال لامكان ان يحسب له الاتيان الثاني ، مع ان الظاهر امكان حساب الاتيان الثاني ، فامكان احتسابه دليل على عدم سقوط الامر بمجرد الاتيان الاول ، فهذه الفقرات تدل على امكان تبديل الامتثال بالامتثال.

وحيث عرفت عدم امكان تبديل الامتثال بالامتثال ، فلا بد وان يكون المراد بقوله عليه‌السلام : (يجعلها الفريضة) هو جعل عنوانها عنوان الظهر أو العصر ، لا جعل عنوانها عنوان النافلة وان كانت هي مستحبة لا واجبة.

__________________

(١) الوسائل ج ٥ : ٤٥٥ / ١ باب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة.

٤٥٩

الموضع الثاني : وفيه مقامان :

المقام الاول : في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري ، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا ، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة ، وفي خارجه قضاء ، أو لا يجزي تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء ، وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه ، وأخرى في تعيين ما وقع عليه (١).

فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار ، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار ، وافيا بتمام المصلحة ، وكافيا

______________________________________________________

وان المراد من اختيار احبهما اليه هو ان الله يعطيه ثواب افضلهما ، وحيث ان المعادة هي الصلاة التي وقعت على نحو الانفراد فالثانية تزيد عليها بفضل الجماعة ، فالثانية تشتمل على الاولى وزيادة فلا معنى لاختيار ما به الاشتراك بينهما ، بل الاختيار لما فيه الفضيلة والزيادة.

وان المراد بحساب افضلهما واتمهما انه للاولى الانفرادية درجة من الثواب ، وحيث ان هذه الدرجة تزيد وتنتقل من حدها الى الحد القوي باتيان الصلاة ثانيا جماعة ، فقد زاد الحد الاول واندمج في الحد الاعلى ، فلذا يحسب له افضلهما واتمهما ، وهذا الوجه يمكن ان يكون وجها ايضا لاختيار الأحب اليه تعالى.

(١) اجزاء المامور به الاضطراري عن الامر الواقعي حيث انه شيء آخر غير المامور به الواقعي ، واجزاء شيء عن شيء لا بد من التكلم فيه في مرحلتين : في مرحلة الثبوت ، والاثبات : بان يكون المامور به الاضطراري قابلا لأن يكون مجزيا عن المأمور به الواقعي ، وان يدل دليل على كونه مجزيا ، والاولى مرحلة الثبوت ، والثانية مرحلة الاثبات ، واشار الى الاولى بقوله : «في بيان ما يمكن ان يقع عليه ... الخ» واشار الى الثانية بقوله : «واخرى في تعيين ما وقع عليه».

٤٦٠