بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

واحد من مسائلها ـ كمباحث الالفاظ وجملة من غيرها ـ لا يخص الادلة ، بل يعم غيرها ، وان كان المهم معرفة أحوال خصوصها ، كما لا يخفى (١).

ويؤيد ذلك تعريف الاصول : بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية (٢).

______________________________________________________

(١) وحاصله : انه اذا امكن ارجاع البحث في هاتين المسألتين الى البحث عن عوارض الادلة ، ولو بنحو ارادة الوجود العام للسنة ، ولو بنحو الحكاية ، إلّا انه بناء على كون الموضوع هو الادلة ، يلزم كون البحث في جملة من مباحث الالفاظ ليس بحثا عن عوارض الادلة الذاتية. فان البحث في ان الامر هل يفيد الوجوب لا يخص كون الامر واردا في كتاب ، أو سنة ، وانما يفيد الوجوب لكونه امرا صادرا من مولى الى عبد. فاذا الوجوب يعرض السنة والكتاب بواسطة امر اعم ، وهو كونه امرا ، لا لأنه في كتاب او سنة ، والعارض بواسطة امر أعم عرض غريب.

لا يقال : إن هذا انما يتم على مذاق المشهور في العرض الذاتي والغريب ، لا على مذاقه (قدس‌سره) ، فانه عنده من العوارض الذاتية ، ولكنه انما اورده عليهم لان المشهور القائلين : بان العارض بواسطة امر أعم عرض غريب ، هم القائلون : بان موضوع العلم هو الادلة الاربعة.

لانا نقول : إن الالتزام في العرض الذاتي بأن لا يكون بنحو الواسطة في العروض ، انما هو بالنسبة الى موضوع العلم ، لا موضوع مسائل العلم ، فان البحث فيها لا بد وأن يكون من عوارضها الذاتية ، والعارض بواسطة امر أعم ليس عرضا ذاتيا لموضوع المسألة. وفي المقام المبحوث عنه في العناوين الموجودة ، هو كون الامر دالا على الوجوب ، لانه صادر من المولى الى العبد ، والذي يترتب عليه الغرض : هو الامر الوارد في خصوص الكتاب والسنة لا مطلق الامر.

(٢) حاصل هذا التأييد : انهم عرفوا علم الاصول : بانه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام الشرعية ، فعلم الاصول عندهم هو كل قاعدة يترتب عليها

٢١

وان كان الاولى تعريفه : بانه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام ، او التي ينتهي اليها في مقام العمل ، بناء على ان مسألة حجية الظن على الحكومة ، ومسائل الاصول العملية (٢) في

______________________________________________________

الاستنباط ـ فتكون من علم الاصول ـ وان لم يكن موضوعها الادلة الاربعة ، ويستفاد هذا العموم من القواعد التي هي جمع محلى بالالف واللام ، وهو من صيغ العموم. فهذا التعريف ينطبق على ما اخترناه : من ان موضوع علم الاصول اعم من الادلة الاربعة. وانما ذكره تأييدا ، لا دليلا ، لان مذاقه في التعاريف كونها تعاريف لفظية لشرح الاسم ، ليست بالحد والرسم كما سيأتي التصريح منه في غير مورد من الكتاب.

(٢) وما ذكرناه ، هو السبب في تعبيره بالاولى ، دون الصواب وامثاله. واما السبب في عدوله عن تعريف المشهور هو ما يرد عليهم بوجوه من الايراد :

ـ منها ، تعريفهم له : بانه العلم ، وقد عرفت ان علم الاصول وساير العلوم هي نفس المسائل التي جمعها الغرض دون العلم بها.

ـ ومنها ، انه لا وجه لتقييد القواعد بالممهدة ، بل علم الاصول هو القواعد التي تقع في طريق الاستنباط ، سواء مهدت ام لا.

ـ ومنها ، ان مسائل علم الاصول لو كانت منحصرة فيما قالوا : وهي القواعد التي تقع في طريق استنباط الاحكام الشرعية ، للزم ان يكون حجية الظن الانسدادي ـ على الحكومة ـ خارجة عن مسائل علم الاصول ، لأن معنى الحكومة انه بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم العقل : بان الظن كالقطع ينجز لو اصاب ، ويعذر لو خالف ، فحجيته عقلية لا شرعية حتى تكون مجعولة ، فلا يكون هناك جعل شرعي ، لا للحكم ، ولا لطريق الحكم ، ويلزم ايضا خروج الاصول العملية في الشبهات الحكمية ، لان العقلية منها كقبح العقاب بلا بيان ، وهي البراءة العقلية لا تنتهي الى حكم شرعي ، بل الى المعذرية ورفع العقوبة عند العقل ، وكذلك الاحتياط العقلي ، فان مفاده حكم

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عقلي يرتب العقوبة على عدم الاحتياط لو لم يصادف الواقع ، وليس هذا بحكم شرعي.

واما الاصول العملية النقلية ، فهي بنفسها احكام شرعية ، لا انها توصل إلى استنباط حكم شرعي ، فان ما يستنبط منه الحكم الشرعي ، لا بد وأن لا يكون بنفسه حكما مستنبطا. فلذلك كله ، عدل عن تعريف المشهور إلى تعريفه : بانه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام ، او التي ينتهى اليها في مقام العمل ، ليعم على الاصول ما يستنبط به الحكم وما لا يستنبط به حكم ، ولكن اليه ينتهي الفاحص عن دليل الحكم بعد عدم الدليل على حكم سواء كان معذرا ، أم منجزا.

ولكن يرد على تعريفه ايرادان ايضا :

الاول : ان علم الاصول نفس القواعد التي بها يتمكن من الاستنباط ، لا انه الذي يعرف به القواعد التي يمكن ان تقع في طريق الاستنباط.

الثاني : ان علم الاصول اذا كان المترتب عليه الاستنباط والانتهاء في مقام العمل يلزم أن لا يكون الغرض المترتب على مسائل علم الاصول واحدا ، بل متعددا ، وتعدد الغرض يوجب تعدد العلم ، فلازمه ان يكون علم الاصول علمين.

ثم انه لا وجه لاختصاص الخروج بالظن الانسدادي على الحكومة والاصول العملية ، فان مسألة حجية الخبر الواحد تكون خارجة عن تعريف المشهور ، لان الحجية إما بمعنى جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الخبر سواء كان نفسيا ، ام طريقيا ، فهو بنفسه حكم مجعول شرعي ، لا انه يستنبط به حكم شرعي ، واما بمعنى جعل المنجزية والمعذرية فهي ايضا مجعول شرعي وان لم يكن الجعل من جعل الحكم المماثل لمؤدى الخبر.

٢٣

الشبهات الحكمية من الاصول كما هو كذلك ، ضرورة انه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات (١).

الأمر الثاني ـ الوضع : هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ، ناشئ من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى. وبهذا المعنى صح تقسيمه الى التّعييني والتّعيّني ، كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

(١) لان الشبهات الحكمية : هي التي لا يرجع فيها الى الاصول العملية الّا بعد الفحص واليأس عن الدليل ، بخلاف الشبهات الموضوعية ، فان الرجوع الى الاصول فيها غير منوط بالفحص واليأس ، ولذلك كانت الشبهات الحكمية مما تختص بالمجتهد ، بخلاف الموضوعية ، فانها مما تعم المجتهد والمقلد ، ولذلك كانت الشبهات الحكمية مما يبحث عن المرجع فيها في علم الاصول ، دون الشبهات الموضوعية.

(٢) لا يخفى ان المحتملات في الوضع ثلاثة :

الاول : ان يكون امرا مباشريا للواضع ، وهو نفس اعتبار كون اللفظ حاكيا عن المعنى ووجودا تنزيليا له ، فيكون وجود اللفظ وجودا بالذات لنفسه ، ووجودا ثانويا وتنزيليا للمعنى ، وهذا أمر متقوم بنفس المعتبر. وعلى هذا فالوضع : هو تخصيص اللفظ بالمعنى.

الثاني : ما اختاره الماتن ، وهو كون الوضع : هو الاختصاص والارتباط بين اللفظ والمعنى سواء حصل الاختصاص من وضع الواضع وانشائه للوضع وتخصيصه اللفظ بالمعنى ، ام حصل من كثرة الاستعمال بحيث صار للفظ ارتباط خاص بالمعنى يوجب حضوره عند حضور اللفظ.

وبالمعنى الاول ، لا ينقسم الى التعييني والتعيني ، لانه اذا كان هو نفس اعتبار المعتبر لا يعقل ان يحصل من كثرة الاستعمال ، لانه يحتاج الى معتبر يعتبره ، وكثرة الاستعمال لا يقوم بها الاعتبار. نعم ، بالمعنى الثاني حيث انه نفس الارتباط والاختصاص ، فهو كما يحصل من اعتبار الواضع يحصل من كثرة الاستعمال ، ولذا

٢٤

ثم ان الملحوظ حال الوضع اما يكون معنى عاما فيوضع اللفظ له تارة ولأفراده ومصاديقه اخرى ، وإما يكون معنى خاصا لا يكاد يصح الّا

______________________________________________________

اشار الى انه ينقسم الى تعييني وتعيّني. وعلى الثاني ايضا لا يكون امرا مباشريا للواضع ، بل هو يتسبب اليه بانشائه.

الثالث : ان الوضع : هو تعهد الواضع باظهار المعنى وابرازه بهذا اللفظ عند ارادة احضاره ، ولا يخفى بعد الاخير :

ـ لأن اللفظ بعد وضعه للمعنى يراه الشخص انه هو المعنى ، لا أنه شيء قد تعهد بابراز المعنى به.

ـ وثانيا : انه يلزم ان يكون وضع جميع الالفاظ عاما والموضوع له فيها خاصا ، لان الموضوع له ليس هو نفس المعنى ، بل هو المتعهد بابرازه باللفظ ، وقد صرح القائل بالالتزام به.

ـ وثالثا : انه لا ينقسم الى تعييني وتعيّني ، إذ ليس في التعيّني تعهد من الواضع.

ولا يخفى انه على الاحتمال الثاني في الوضع : وهو كونه نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى بحيث يوجب خطور المعنى بواسطة اللفظ من دون قرينة. فالمعنى الحقيقي يكون أعم مما حصلت العلقة بين اللفظ والمعنى من اعتبار الواضع ، او من كثرة الاستعمال ، لانه لا اشكال في انه بعد كثرة الاستعمال تحصل علقة بين اللفظ والمعنى توجب كون اللفظ بحيث متى حضر يحضر المعنى به من دون قرينة اصلا. وهذا هو معنى كونه حقيقة فيه.

ثم ان الفرق بين الاختصاص والتخصيص ، هو الفرق بين الايجاد والوجود ، فان هذه العلقة باعتبار كونها صادرة من المعتبر تكون ايجادا وتخصيصا ، وباعتبار حصولها بنفسها بعد الاعتبار تكون اختصاصا ، فلا داعي لان يكون الوضع مختصا بالعلقة بما انها صادرة من الواضع ، بل تكون نفس العلقة هي الوضع ليعم الوضع التعيّني ايضا.

٢٥

وضع اللفظ له دون العام ، فيكون الاقسام ثلاثة. وذلك لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فانه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فانه بما هو خاص لا يكون وجها للعام ، ولا لسائر الافراد ، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ، ولو بوجه.

نعم ، ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه ، فيوضع له اللفظ ، فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما. وهذا بخلاف ما في وضع العام والموضوع له الخاص ، فان الموضوع له ـ وهي الافراد ـ لا يكون متصورا الّا بوجهه وعنوانه ، وهو العام. وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه ، وتصوره بنفسه ، ولو كان بسبب تصور امر آخر (١).

______________________________________________________

(١) هذا تقسيم للوضع في مرحلة الامكان وسيأتي الكلام فيه في مرحلة الوقوع.

اما الكلام في المرحلة الاولى ، فهو أن الوضع في مرحلة التصور بدوا أربعة :

ـ الوضع العام والموضوع له العام

ـ والوضع العام والموضوع له الخاص

ـ والوضع الخاص والموضوع له الخاص

ـ والوضع الخاص والموضوع له العام

الّا ان هذا تصور بدوي ، وبعد التأمل يقضي البرهان محالية القسم الرابع. أما إمكان الاقسام الثلاثة فواضح ، لان الملحوظ للواضع إما ان يكون امرا عاما ، أو خاصا.

وعلى الاول ، فاما ان يضع الواضع اللفظ بازاء ذلك المعنى العام الذي تصوره فيحصل القسم الاول ، واما أن لا يكون غرضه من تصور هذا المعنى العام الوضع له بخصوصه ، بل انما لحظه ، لان الذي يريد الوضع له لا يمكن ان يتصوره ، فان غرض الواضع ان يدل اللفظ على معنونات ذلك العنوان العام ، وحيث ان المعنونات

٢٦

ولعل خفاء ذلك على بعض الاعلام وعدم تميزه بينهما ، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع ـ وهو ان يكون الوضع خاصا مع كون الموضوع له عاما ـ مع انه واضح لمن كان له ادنى تأمل (١).

______________________________________________________

لا يمكن ان تتصور بانفسها لعدم انتهائها بالنسبة الى الممكن ، لذلك يتصورها بوجهها العام ، وهو عنوانها ويضع اللفظ بازاء معنوناتها فيحصل القسم الثاني.

وعلى الثاني ، وهو ان يكون الملحوظ خاصا ويوضع اللفظ بازاء ذلك الخاص المتصور للواضع ، كوضع الاعلام ، ووقوعه فضلا عن امكانه واضح.

واما القسم الرابع ، فهو أن يتصور المعنى الخاص ويجعله وجها وعنوانا للمعنى العام : بأن لا يكون العام مرئيا بنفسه اصلا ، وانما يرى بوجهه وهو الخاص ، واما اذا كان تصور الخاص سببا لان يتصور العام بنفسه ، فهو خلاف الفرض ، بل الفرض ان لا يكون الموضوع له متصورا اصلا ، الّا بالوجه والعنوان ، لا بنفسه ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص ، فان الخاص لم يتصور بنفسه اصلا ، وانما يصوّر بوجهه وعنوانه ، وهو العام.

فاذا تبين هذا ، ظهر محاليّة هذا القسم ، لان الوجه والعنوان ، وهو مرآة المرئي به لا يعقل ان يكون اضيق من المرئي به ، فان المحكي اذا كان اوسع من الحاكي فالزائد على الحاكي ان وضع له بلا وجه ، ولا حكاية فهو خلف ، وان فرضت الحكاية فهو خلف واضح ايضا.

وبعبارة اخرى : ان الخاص هو الحصة والتشخص ، والحصة جزئي من جزئيات الكلي ، والتشخص مما يخص فردية الخاص ولا ربط له بالكلي.

(١) وحاصله : انه نشأ توهم امكان القسم الرابع ، من الخلط بين كون الخاص وجها للعام ، وبين كونه موجبا للانتقال ولتصور العام بنفسه ، فان الخاص ، هو عبارة عن الحصة الخصوصية الفردية ، ولا شبهة ان الخصوصية الفردية ليست وجها للعام ، وأما الحصة فلا تحكي الّا عن نفسها لا عن العام ولا عن حصة اخرى.

٢٧

ثم انه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كوضع الاعلام. وكذا الوضع العام والموضوع له العام ، كوضع اسماء الاجناس. وأما الوضع العام والموضوع له الخاص (١) ، فقد توهم انه وضع الحروف

______________________________________________________

نعم لو كان العام والكلي الطبيعي نسبته الى الافراد نسبة الاب الواحد والاولاد ـ كما يدعيه الرجل الهمداني ـ لامكن ان تكون الحصة وجها للعام ، ولكن قد ثبت ان نسبة الكلي والافراد نسبة الآباء والاولاد ، فكل حصة تحكي عن ابيها ، لا عن كل الآباء وهو العام والكلي كما هو واضح.

(١) بعد أن فرغ عن مرحلة الامكان ، شرع في مرحلة الوقوع ، ولا اشكال في وقوع القسم الاول ؛ وهو الوضع العام والموضوع له العام ، كوضع اسماء الاجناس وغيرها من الطبائع والماهيات الكلية. وفي القسم الثالث : وهو الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كوضع الاعلام وسائر الجزئيات الخارجية. واما القسم الثاني : وهو الوضع العام والموضوع له الخاص فقد ذهب المشهور إلى وقوعه ، وانه وضع الحروف واسماء الاشارة والموصولات وغيرها ، وانكره الماتن ، وفاقا لما ينسب لبعض القدماء : من ان الموضوع له في الحروف وغيرها عام كالوضع وحالها حال اسماء الاجناس ، وانه لا فرق بين (من) و (في) و (الابتداء) و (الظرفية) ، وان الموضوع له في الكل واحد من حيث ذاته وماهيته. سوى ان الفرق بينهما : ان الواضع اشترط في مقام الوضع ان ماهية الظرفية إن اريد احضارها بنحو الاستقلال ، ولم تكن منظورة بنحو الآلية ، فالموضوع لها لفظ الظرفية. وإن لوحظت آلة ومتعلقة بالغير ، وانها امر واقع بين الكوز والماء ـ مثلا ـ ، فالموضوع لها لفظ (في) ، وهكذا في ساير ما ادعي انه موضوع بالوضع العام والموضوع له خاص ، فانه خلط نشأ بين الآلية والاستقلالية ، وتوهم سببه تخيل ان الآلية في معاني الحروف موجبة لاختلاف ماهية الحروف عن سائر الاسماء العامة ، والبرهان يقضي بان الماهية والذات في كليهما واحدة ، وان الآلية لا يعقل ان توجب اختلافا في ذات ما هو الموضوع له. نعم ، لا يجوز استعمال

٢٨

وما الحق بها من الاسماء ، كما توهم أيضا ان المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما (١).

والتحقيق ـ حسبما يؤدي اليه النظر الدقيق ـ ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الاسماء ، وذلك لأن الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا ، فمن الواضح ان كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك ، بل كليا ، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا اضافيا ، وهو كما ترى ، وان كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا ، حيث انه لا يكاد يكون المعنى حرفيا الّا اذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به ، ويكون حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج الّا في الموضوع ، كذلك هو لا يكون في الذهن الّا في مفهوم آخر ، ولذا قيل في تعريفه : بأنه «ما دل على معنى في غيره» ، فالمعنى وان كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ ، بحيث يباينه اذا لوحظ ثانيا كما لوحظ اولا ، ولو كان اللاحظ واحدا. الّا ان هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه ، والّا فلا بد من لحاظ آخر

______________________________________________________

الموضوع في احدهما في الموضوع له في الآخر ، لان الواضع بعد اشتراط شرطه في مقام الوضع قسم الماهية العامة الى قسمين بمميز خارج عن مقام ذات الماهية ، فلذلك لا يجوز استعمال (في) ـ مثلا ـ في مقام (الظرفية) ، ولا (الظرفية) ، في مقام (في). أما نفس المعنى والماهية ففي كليهما واحد لم يختلف اصلا ، لعدم معقولية اختلافه ، كما سيأتي البرهان عليه.

(١)لا يخفى انه اذا كان الموضوع له في الحروف خاصا ، فلا بد وان يكون المستعمل فيه فيها ايضا خاصا ، واذا كان الموضوع له فيها عاما فدعوى ان المستعمل فيه فيها خاص واضحة البطلان ، لعدم داع معقول لأن يضع الواضع اللفظ لمعنى عام ويستعمله دائما في الخاص.

٢٩

متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة ان تصور المستعمل فيه مما لا بد منه في استعمال الالفاظ ، وهو كما ترى ، مع انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات (١) ، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها حيث لا موطن له الّا

______________________________________________________

(١) وحاصله ، بتلخيص : ان كل ممكن موجود لا بد وان يكون فردا لمقولة من المقولات العشرة ، والفرد عبارة عن الحصة من النوع مع خصوصية الفردية. وقد حقق في محله : ان المعاني من حيث ذاتها كلية ، وانما تكون جزئية بالتشخص ، وهو الوجود ، فلفظ (من) ـ مثلا ـ بعد ان كان معناه العام هو الابتداء الذي كان وجها له بالوضع ، وان الموضوع له كما يدعيه المدعي : هو المعنى الخاص الجزئي لهذا المعنى العام ، وجزئية هذا المعنى العام ، اما للوجود الخارجي ، او للوجود الذهني ، وكلا من هذين لا يعقل ان يكون هو الموضوع له ، او المستعمل فيه الحرف.

أما الجزئي الخارجي ، فلوضوح ان المستعمل فيه لفظ (من) كثيرا ما يكون كليا ، فان الآمر اذا قال لعبده : سر من البصرة الى كذا ، فان العبد يمكنه ان يوجد الابتداء من البصرة من أي نقطة من نقاطها ، ويكون ممتثلا لامر المولى وموجدا للمأمور به ، فلا بد وان يكون المأمور به كليا له افراد متعددة ، كل واحد منها مصداق المأمور به ، كسائر الطبائع العامة المأمور بها ، وليس هذا الاستعمال مجازيا من استعمال اللفظ الموضوع للفرد الخاص في كليّه ، لانا لا نرى في هذا الاستعمال لحاظ علاقة اصلا ، ولاجل هذا التجأ بعض الفحول ـ وهو صاحب الهداية ـ الى تأويل كلامهم ، وان مرادهم : ان الموضوع له في الحرف ليس هو الجزئي الخارجي الحقيقي ، بل مرادهم الجزئي الاضافي.

وأما ان تكون الجزئية في المعنى الحرفي ، هي الجزئية الذهنية لان المعنى كلي ، واذا قيد بالوجود الذهني وتشخص به يكون جزئيا ، كما يكون جزئيا لو تشخص بالوجود الخارجي ، فان التشخص كما حقق في محله بنفس الوجود ، لا بعوارض الموجود ، واذا كانت الجزئية المدعاة : بان الحرف موضوع لها هي هذه ، وان الموضوع له في

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الحرف هو الجزئي الذهني ، لانه بالتصور يوجد فاذا وجد فهو جزئي ، لما عرفت : من ان التشخص يساوق الوجود.

فنقول : ان اللحاظ الذي اوجب جزئية هذا المعنى الكلي ، إما ان يكون هو اللحاظ الاستعمالي ، او لحاظ غيره ، فان كان الاول ، فيلزم الخلف على التحقيق ، والدور على المشهور.

وتوضيح ذلك : ان اللحاظ الاستعمالي متعلق بالمعنى الذي اريد استعمال اللفظ فيه وكل متعلق ـ بالكسر ـ متأخر بالطبع عن المتعلق ـ بالفتح ـ ، فهذا اللحاظ الاستعمالي بما انه متعلق يكون متأخرا ، وبما انه المعنى المستعمل فيه او قيده فهو مقوّم له ينبغي ان يكون متقدما ، لانه متعلق ، والمتعلق متقدم كما عرفت.

وبعبارة اخرى : ان اللحاظ الاستعمالي بما انه امر تعلقي ، فهو يحتاج الى ما يتعلق به ، وهو المستعمل فيه ، فوجود اللحاظ والاستعمال متوقف على المستعمل فيه ، فلا بد وأن يتأخر بالطبع عنه ، وحيث ان هذا اللحاظ قد فرض كونه مقوما للمستعمل فيه ، فلا بد وان يكون متقدما لتقدم المستعمل فيه بالطبع على اللحاظ والاستعمال ، فيلزم ان يكون شيء واحد متقدما ومتأخرا ، وهذا هو الخلف.

وأما انه ليس بدور ، لان الدور : هو فرض موجود متوقفا على موجود ، وذلك الموجود المتوقف عليه يكون ايضا هو متوقفا على هذا الذي توقف عليه ، وفي المقام ليس كذلك ، بل هو موجود واحد ، وهو اللحاظ الاستعمالي بما انه متعلق ينبغي ان يتأخر ، وبما انه متعلق ينبغي ان يتقدم ، وليس في المقام موجودان كل واحد منهما متوقف على الآخر. وقد اشار الى هذا المحذور بقوله : «إلّا ان هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه» هذا اذا قلنا : بانه ليس الّا لحاظ واحد ، وهو اللحاظ الاستعمالي. وما اذا قلنا : بان اللحاظ الذي هو داخل في الموضوع له ، او المستعمل فيه ليس هو اللحاظ الاستعمالي ، فلا بد وان يكون لنا حال الاستعمال لحاظان : اللحاظ الذي هو داخل في الموضوع له ، او المستعمل فيه ، واللحاظ الاستعمالي.

٣١

الذهن (١) فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد والغاء الخصوصية (٢) هذا مع انه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف ، الّا كلحاظه في نفسه في الاسماء. وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها ، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف ، كما لا يخفى.

وبالجملة : ليس المعنى في كلمة (من) ، ولفظ الابتداء ـ مثلا ـ الّا الابتداء ، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا ، كذلك لا يعتبر

______________________________________________________

ففيه ، اولا : انه خلاف الوجدان ، لانا لا نجد في انفسنا لحاظين حال الاستعمال ، وقد اشار الى هذا في المتن بقوله : «وهو كما ترى».

وثانيا : انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات ، لان الماهية التي يكون وجودها وفعليتها بالتشخص الذهني ، غير الماهية التي يكون تشخصها وفعليتها بالوجود الخارجي ، وهما متباينان ، ولا يصدق المباين على المباين ، فان كل فعلية تأبى عن الفعلية الاخرى ، واما التي لا تأبى الصدق على الخارج والذهن فهي الماهية نفسها من غير تقييد ، فلا بد في مقام الاستعمال ، بناء على التقييد بالذهن من التجريد والغاء خصوصية الذهن لتبقى الماهية بنفسها ، فتصدق على الخارج ، فأي داع للواضع ان يضع اللفظ لمعنى مقيد بما لا بد من تجريده عنه في مقام الاستعمال؟. وهذا الايراد الثاني كما يرد لو تعدد اللحاظ ، كذلك يرد ما لو كان اللحاظ واحدا ، فان المقيد بالذهن لا يصدق على الخارج. والى هذا اشار بقوله : «مع انه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات».

(١) لا يخفى ان الاصطلاح في الكلي العقلي : هو المعنى المتقيد بالكلية ، لا كل معنى تقيد بأمر ذهني هو كلي عقلي ، ولكن الماتن جعل كل متقيد بالذهنية كليا عقليا.

(٢) لوضوح ، ان المطلوب للامر هو ايجاد الابتداء الخارجي ، لا ايجاد الابتداء الذي تصوره الامر نفسه ، فانه غير مقدور للمكلف ، وعلى فرض كونه مقدورا ، فان الغرض لم يتعلق به ، فلا بد من التجريد والغاء الخصوصية الذهنية.

٣٢

في معناها لحاظه في غيرها وآلة. وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته ، فليكن كذلك فيها (١).

ان قلت : على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة (من) ، ولفظ الابتداء مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الاسماء الموضوعة لمعانيها ، وهو باطل بالضرورة ، كما هو واضح.

قلت : الفرق بينهما ، انما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره ـ كما مرت الاشارة اليه غير مرة. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال احدهما في موضع الآخر ، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت

______________________________________________________

(١) هذا الايراد الثالث ، وهو ايضا غير مختص بتعدد اللحاظ ، بل يرد حتى مع عدم التعدد ، وحاصله : انه كما ان المعنى اذا كان آليا وحرفيا لا بد من لحاظه ، كذلك فيما كان استقلاليا واسميا لا بد من لحاظه ، فاذا كان لحاظه في مقام الآلية موجبا لجزئيته فليكن لحاظه في مقام الاستقلالية موجبا لجزئيته ، لوضوح انه ما لم يلحظ المعنى لا يعقل ان يتحقق استعمال اصلا ، فاذا كان اللحاظ في الآلية موجبا للجزئية ، فليكن اللحاظ في الاستقلالية موجبا لذلك ايضا. ولا ريب عندهم في عدم دخول اللحاظ في مقام الاستقلالية في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه. وقد صرحوا : بأن الوضع في الابتداء عام والموضوع له عام ، ولكن الوضع في (من) عام والموضوع له خاص ، ولم يعرف ويتضح السبب من جزئية المعنى الحرفي دون الاسمي ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وبالجملة ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء الى آخره فليكن كذلك فيها».

٣٣

بما لا مزيد عليه : ان نحو ارادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوماته (١).

______________________________________________________

(١) قد تقدم : الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي عند المصنف ، وان السبب في عدم صحة استعمال احدهما في الآخر مخالفة شرط الواضع ، وان عدم صحة استعمال لفظ موضوع لمعنى في معنى آخر تارة يكون لتباين ذات المعنيين ، واخرى لمخالفة شرط الواضع ، وبسبب هذا الشرط لا يكون لفظ (من) والابتداء من المترادفين. هذا غاية تقريب ما أراده المصنف.

ولكن يمكن ان يقال : ان مقالة المشهور : من كون الوضع في الحروف وبعض الاسماء عاما ، والموضوع له خاصا فيهما غير خال عن وجه وجيه ، وان المعنى الاسمي والحرفي متباينان ذاتا ، وليس عدم صحة استعمال احدهما في الآخر لمخالفة شرط الواضع ، بل الفرق بينهما : ان المعنى الحرفي غير قابل لان يكون الوضع فيه عاما والموضوع له عاما ، ولا بد ان يكون الموضوع له فيه خاصا والوضع عاما لا من حيث انه جزئي خارجي ، ولا من حيث كونه جزئيا ذهنيا ، وليس حاله حال العرض الذي يحتاج في وجوده الى الغير لا في ماهيته وذاته ، فان العرض هو الماهية التي اذا وجدت تكون في الموضوع ، اما في نفس ذاته وماهيته فليس محتاجا الى الموضوع ، بل حال المعنى الحرفي حال الوجود الرابط الذي في اصل ذاته وحقيقته محتاج الى الطرفين.

وتوضيح ذلك : ان نسبة المعاني الى ما في الخارج على نحوين : فانها تارة تكون نسبة الطبيعي والفرد ، واخرى تكون نسبة العنوان الى المعنون والفرق بينهما : ان الطبيعي نفسه موجود في ضمن الفرد ، وهو عبارة عن الحصة المضافة ، كما قال السبزواري :

والحصة الكلي مقيدا يجىء

تقيد جزء وقيد خارجي (١)

__________________

(١) منظومة السبزواري ، الالهيات : ص ٢٧ / حجري.

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

واخرى لا يكون المعنى له هذه النسبة ، بل تكون نسبته الى الخارج نسبة العنوان الى المعنون ، ويكون الموجود في الخارج معنون ذلك العنوان لا نفسه. والمعنى الحرفي من قبيل الثاني ، لا الاول ، لان مدلول لفظ (من) أو (في) هو النسبة الواقعة بين المبتدأ به وهو السير ، والمبتدأ من عنده وهو البصرة ، والنسبة الواقعة بين الظرف وهو الكوز ، والمظروف وهو الماء ، وليس مدلول (من) و (في) مفهوم الابتداء ومفهوم الظرفية حتى يكون الفرق بينهما بالاستقلالية والآلية ، وحيث ان مدلول الحرف هو النسبة وهي بذاتها وماهيتها تعلقيّة ، ولا يعقل تصور ماهيتها إلّا بالطرفين. فاذا ماهيتها وذاتها تعلقية وليس حالها حال العرض الذي يحتاج في وجوده لا في ماهيته الى الغير ، فانهم قسموا الموجود الى اربعة اقسام :

ـ الموجود في نفسه ، بنفسه : وهو الواجب (١).

ـ الموجود في نفسه ، بنفسه ، لغيره : وهو الموجود الجوهري (٢).

ـ الموجود في نفسه ، بغيره : وهو العرض (٣).

ـ الموجود لا في نفسه ، في غيره ، لغيره : وهو الوجود الرابط ، كوجود النسب التي هي المعاني الحرفية.

ولا يخفى أن ما ليس له ماهية يمكن تصورها بنفسها لا يكون له طبيعي نسبته اليه نسبة الطبيعي الى الفرد ، بل يكون له دائما عنوان يمكن ان يرى بذلك العنوان ، لوضوح ان الطبيعي هو الذي يمكن لحاظه بنفسه من دون أي فرد من افراده. والمعنى الحرفي لا يعقل فيه ذلك ، لانه ان لم يتصور طرفاه لا يمكن ان تحصل ذاته ، لانها بحقيقتها امر تعلقي ، وان تصور الطرفان كان جزئيا ذهنيا ، بل لانه ليس له طبيعي عام يكون نسبته اليه نسبة الطبيعي والفرد ، بل المتصور دائما عنوانه والموضوع له المعنون.

واتضح ايضا : ان سعة المعنى الحرفي وحقيقته انما هو بحسب طرفيه ، فربما يكون له افراد متعددة ، وربما لا يكون له الّا فرد واحد ، ولعل هذا مراد من قال : ان المعنى الحرفي جزئي اضافي.

__________________

(١) الاولى ان يقال : الموجود في نفسه ، لنفسه ، بنفسه : وهو الواجب.

(٢) وكذلك : الموجود في نفسه ، لنفسه ، بغيره : وهو الموجود الجوهري.

(٣) ومثله الموجود في نفسه ، لغيره ، بغيره : وهو العرض.

٣٥

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته ، وان اتفقا فيما استعملا فيه فتأمل (١).

______________________________________________________

فان قلت : ان الطبيعي لمعنى (من) ـ مثلا ـ هو الابتداء ، ونسبة الابتداء الى (من) نسبة الطبيعي الى الفرد.

قلت : الابتداء ليس هو الطبيعي ل (من) ، لان (من) موضوعة لتدل على النسبة القائمة بين المبتدأ به ، والمبتدأ من عنده ، والمتحمل لمبدأ ما به الابتداء هو السير ، وهو من مقولة الحركة ، والمتحمل لمبدأ ما منه الابتداء ، هو البصرة ، و (من) مدلولها النسبة القائمة بين ما به الابتداء ، وما منه الابتداء.

(١) توضيح المطلب : ان الجمل على ثلاثة انواع :

ـ منها ما يختص بالاخبار ، ولا يستعمل في الانشاء ابدا ، كضرب زيد ، وزيد قائم.

ـ ومنها ما يختص بالانشاء ، ولا يستعمل في الاخبار ابدا ، كصيغتي الامر والنهي.

ـ ومنها ما يستعمل تارة في الاخبار ، واخرى في الانشاء ، كبعت ، وملكت فانها تستعمل في الاخبار عن وقوع البيع والتمليك ، واخرى في انشاء البيع والتمليك ، ومثل ايدك الله ، فانها تستعمل للاخبار عن تأييد الله ، وتستعمل للانشاء بقصد الدعاء. وهذه الثالثة هي محل الكلام.

ثم لا يخفى ان الاحتمالات في المقام ثلاثة :

الاول : دخول قصد الحكائية والانشائية في الموضوع له.

الثاني : خروجهما عن الموضوع له اصلا.

الثالث : دخولهما بنحو الاشارة الى ما وضع له : بان يكون قصد الحكاية في الاخبارية مشيرا الى وضع بعت للمعنى في مقام الاخبار ، وقصد الانشائية مشيرا الى وضع بعت للمعنى في مقام قصد ايجاده وثبوته باللفظ.

٣٦

ثم انه قد انقدح مما حققناه : انه يمكن ان يقال : ان المستعمل فيه في مثل اسماء الاشارة والضمائر أيضا عام ، وان تشخصه انما نشأ من قبل طور

______________________________________________________

ولازم الاحتمال الاول : المحالية ، والدور الواضح ، فان قصد الحكاية هو الداعي للاستعمال ، فهو متعلق بالاستعمال ، ولازمه التأخر عن الاستعمال ، والاستعمال متعلق بالمعنى المستعمل فيه ، فهو متأخر عن المستعمل فيه ، فالحكاية متأخرة عن المستعمل فيه بمرتبتين ، فلو دخلت في المستعمل فيه لكانت متقدمة بحكم دخولها في المستعمل فيه والموضوع له ، وحيث انها متوقفة على الاستعمال ، لأنها متعلقة به ، فهي لا تتحقق ولا توجد الّا متعلقة بالاستعمال ومتأخرة عنه ، والاستعمال حيث انه متعلق بالمعنى المستعمل فيه فهي إذا متأخرة ومتوقفة على ما يتأخر ويتوقف على المعنى والمستعمل فيه ، وإذا كانت داخلة في المستعمل فيه لزم الدور ، لأنها متوقفة على الاستعمال المتوقف على المستعمل فيه ، الذي من جملته نفس الحكاية لفرض دخولها في المستعمل فيه. فحينئذ تتوقف الحكاية على الاستعمال المتوقف على المستعمل فيه الذي منه الحكاية ، فتتوقف الحكاية على ما يتوقف عليها ، وهو الدور الواضح.

ولازم الاحتمال الثالث : تعدد الوضع في لفظ (بعت) ، لانها تكون موضوعة لمعناها في مقام الحكاية ، وموضوعة لمعناها ايضا بوضع آخر في مقام قصد انشائه. وهذا وان كان ليس محالا ، إلّا انه بعيد.

فيتعيّن الاحتمال الثاني : وهو لفظ (بعت) موضوعة لمعنى واحد بوضع واحد ، والحكاية والانشاء من دواعي الاستعمال. اما معنى (بعت) فهو ثبوت نسبة البيع وتحققها للمتكلم ، فتارة يقصد الحكاية عن هذا الثبوت فتكون خبرية ، واخرى بقصد ايجاد البيع بها وانتسابه إلى المتكلم فتكون انشائية. واظن انه لذلك عبّر المصنف بقوله : «لا يبعد» ، ولم يقل : لا بد ان يكون الاختلاف في الخبر والانشاء ايضا كذلك : أي كالاستقلالية والآلية في خروجهما عما وضع له لفظ الاسم والحرف ، ولعله يشير بقوله : «فتأمل» ، إلى هذا الفرق بين المقامين الداعي للتعبير ب «لا يبعد».

٣٧

استعمالها ، حيث ان اسماء الاشارة وضعت ليشار بها الى معانيها ، وكذا بعض الضمائر ، وبعضها ليخاطب بها المعنى. والاشارة والتخاطب يستدعيان التشخص ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه وقع الخلاف في وضع اسماء الاشارة.

ـ فذهب المشهور ، إلى انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص.

ـ وذهب الماتن ، الى انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.

وتوضيح المطلب ، وبيان الحق فيه يتوقف على بيان احتمالات في المعنى الموضوع له اسماء الاشارة.

الاول : ان تكون موضوعة لمفهوم المشار اليه ، ولازمه الترادف بين لفظ (هذا) ومفهوم المشار اليه ، وهو واضح البطلان. اولا : لعدم الترادف بينهما وجدانا. وثانيا : ان مفهوم المشار اليه وما هو معناه بالحمل الاولي ليس بمشار اليه ، بل المشار اليه ما كان مشارا اليه بالحمل الشائع.

الثاني : ان تكون موضوعة لما هو بالحمل الشائع مشار اليه : أي ما هو مصداق المشار اليه ، ولكن : بان تكون الاشارة اليه بنفس لفظ هذا. وهذا باطل ايضا ، لان اللفظ حيث به يكون الاستعمال فهو متأخر ومتعلق بالمعنى ، والمعنى بما هو معنى اللفظ متقدم عليه ، فلا يعقل ان يكون كونه معنى اللفظ متوقفا على نفس اللفظ والمفروض ان كون المعنى مشارا اليه هو المستعمل فيه للفظ ، وكونه مشارا اليه لا يكون الّا بنفس اللفظ. وهذا محال ، كما تقدم مشروحا في امثاله : من ان الاستعمال وشئونه لا يعقل دخوله في المستعمل فيه ، ولا يعقل ان يتوقف المستعمل فيه على الاستعمال وما هو من اطواره وشئونه.

الثالث : ان يكون الموضوع له هو المفرد المذكر ، ولكن الواضع اشترط ان لا يستعمل (هذا) في مفهوم المفرد المذكر الّا بعد أن يشار اليه بغير لفظ (هذا) باشارة خارجية ، ـ كيد وامثالها ـ ، أو اشارة ذهنية ، فيكون الفرق بين المفهوم المفرد المذكر

٣٨

فدعوى : ان المستعمل فيه مثل (هذا) و (هو) و (اياك) انما هو المفرد المذكر ، وتشخصه انما جاء من قبل الاشارة او التخاطب بهذه الالفاظ اليه ، فان الاشارة او التخاطب لا يكاد يكون الّا الى الشخص او معه ، غير مجازفة (١).

______________________________________________________

وبين (هذا) هو شرط الواضع لا غير. هذا هو رأي الماتن ، ولذلك ادعى : ان الوضع فيها عام والموضوع له فيها ايضا عام ، وهو مفهوم المفرد المذكر.

ويرد عليه : ان لازم ذلك الترادف بين لفظ (هذا) ومفهوم المفرد المذكر ، والوجدان لا يساعد على ترادفهما.

وثانيا : ان ما وضع له لفظ الاشارة على هذا يكون نكرة ، لان المعرفة ما كان المفهوم الموضوع له متميزا ، لا أن يكون مفهومها نكرة ويحصل التشخص والتمييز بشيء خارج عما وضع له اللفظ ، فانه يكون لفظ (هذا) كلفظ رجل ، غاية الامر انه قد حصل التعيين لمصداقه بشيء خارج عما هو مفهومه والموضوع له.

الرابع : ان يكون الموضوع له لفظ (هذا) مصداق المشار اليه بعد تعيينه ، والاشارة اليه ، اما بالاشارة الخارجية ، او الذهنية. وعلى هذا ، فلا بد ان يكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا ، لان مصداق المشار اليه غير مفهوم المشار اليه ، ويكون مفهوم المشار اليه عنوانا ، وما هو بالحمل الشائع متعينا ومشارا اليه معنون هذا العنوان ، والموضوع له لفظ (هذا) معنون هذا العنوان وما هو مشار اليه بالحمل الشائع ، وهو غير المتصور حال الوضع. واللازم في الوضع العام والموضوع له الخاص لا يحتاج الى اكثر من هذا.

(١) هذا خبر ومبتدؤه ، قوله : فدعوى. ثم لا يخفى ان الكلام في الضمائر والاسماء الموصولة ، عين الكلام في اسماء الاشارة ، غايته ان الضمائر موضوعة للمتعين بالتعين الذهني لسبق ذكره ، او غير ذلك من اسباب التعين ، والموصول موضوع للمتعين بالصلة فلا تغفل.

٣٩

فتلخص مما حققناه : ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه ، سواء كان تشخصا خارجيا ، كما في مثل اسماء الاشارة ، او ذهنيا كما في اسماء الاجناس والحروف ونحوهما ، من غير فرق في ذلك اصلا بين الحروف واسماء الاجناس. ولعمري ، هذا واضح ، ولذا ليس في كلام القدماء : من كون الموضوع له او المستعمل فيه خاصا في الحروف عين ولا أثر ، وانما ذهب اليه بعض من تأخر ، ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيات الموضوع له ، او المستعمل فيه ، والغفلة من ان قصد المعنى من لفظه على انحائه لا يكاد يكون من شئونه ، واطواره ، والّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك. فتأمل في المقام ، فانه دقيق. وقد زل فيه اقدام غير واحد من اهل التحقيق والتدقيق.

الثالث ـ صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له ، هل هي بالوضع ، او بالطبع؟ ... وجهان ، بل قولان : اظهرهما انها بالطبع ، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ، ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ، ولو مع ترخيصه. ولا معنى لصحته الا حسنه. والظاهر ان صحة استعمال اللفظ في نوعه ، او مثله من قبيله ، كما تأتي الاشارة الى تفصيله.

الرابع ـ لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ وارادة نوعه به ، كما اذا قيل : ضرب ـ مثلا ـ فعل ماض ، او صنفه ، كما اذا قيل : زيد في (ضرب زيد) فاعل (١) ، اذا لم يقصد به شخص القول او مثله ، كضرب في المثال فيما

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان زيدا باعتبار كونه لفظا ماهية من الماهيات ، وطبيعة من الطبائع لها نوع : وهو طبيعي لفظ زيد ـ مثلا ـ الصادق على لفظ زيد ـ مثلا ـ مطلقا سواء كان في جملة ، أو وحده ، وسواء أكان في جملة خاصة ، ام لا ، ولها صنف : وهو لفظ زيد

٤٠