بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا ، كما في صفاته تعالى ، على ما أشرنا إليه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه ، كما في الاضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها ، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء ، وتكون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضميمة ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما ، وقائما به عينا ، لكنه بنحو من القيام ، لا بأن يكون هناك اثنينية ، وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتحاد والعينية ، وكان ما بحذائه عين الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة ، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ، ولو بتأمل وتعمل من العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على مصاديقها.

وبالجملة : يكون مثل العالم ، والعادل ، وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد ، وكيفية التلبس بالمبدإ ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره ، فلا وجه لما التزم به في الفصول ، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى ، كما لا يخفى ، كيف ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها ، ففي مثل ما إذا قلنا : إنه تعالى عالم ، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام ، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك

٢٨١

المعنى ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإما أن لا نعني شيئا ، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة ، وكونها بلا معنى ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان قوله : «في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه» هو متعلق «بوقع الخلاف» وجملة : «بعد الاتفاق الى المشتق» مقحمة بين المتعلق والمتعلق.

وحاصله : ان القوم اتفقوا على اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتق ، وقد عرفت ان الذي لا بد منه في المغايرة هي المغايرة المفهومية وهذا المقدار موضع وفاق ، وقد عرفت ايضا ان هذه المغايرة لا تستوجب النقل او التجوز في اجراء الصفات عليه تبارك وتعالى.

ووقع الخلاف بينهم في انه هل يعتبر في صدق المشتق على ما يجري عليه صدقا حقيقيا ان يقوم المبدأ بالموضوع الذي يجري عليه؟

أو انه لا يعتبر في صدق المشتق على الموضوع صدقا حقيقيا ان يقوم به مبدأ المشتق؟

وفصل صاحب الفصول في انه في غير صفاته تعالى يعتبر القيام ، وفيه لا يعتبر القيام ، لأن صفاته غير قائمة به ، بل هي عينه ، فانه ذكر وجهين في لزوم النقل او التجوز في اجراء صفاته تبارك وتعالى عليه.

الوجه الاول : ما تقدم في الامر الرابع من لزوم المغايرة الوجودية بين المبدأ وما يجري عليه المشتق ، وقد تقدم الكلام فيه وان المغايرة المعتبرة هي المغايرة بحسب المفهوم ، ولا يقتضي اجراء الصفات عليه تعالى من هذه الجهة نقلا ولا تجوزا.

الوجه الثاني : ما تعرض المصنف لرده في هذا الامر ، وحاصل ما ذكره صاحب الفصول : هو انه يعتبر قيام المبدأ بالموضوع في اجراء الوصف عليه حقيقة وفي واجب الوجود ـ تعالى شانه ـ لا قيام للمبدا به ، فان قيام شيء بشيء يقتضي الاثنينية ولا اثنينية بينه وبين صفاته بل هي عينه تبارك وتعالى ، فلا بد من النقل أو التجوز في

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

صفاته من هذه الجهة ايضا ، وسيأتي في التحقيق الذي ذكره المصنف ما يتضح به فساد هذا الوجه ايضا ، ولا موجب للتفصيل الذي ادعاه صاحب الفصول.

واستدل القائلون بعدم اعتبار صدق المشتق على ما يجري عليه قيام مبدأ المشتق به : بانه لا اشكال ولا ريب في ان الضارب والمؤلم يصدقان صدقا حقيقيا على من أوجد الضرب والالم ، ومن الواضح ان الضرب والالم ليسا بقائمين بالضارب والمؤلم ، بل هما قائمان بالمضروب والمؤلم.

واختار المصنف قدس‌سره وفقا لاجلة الاساطين انه لا بد من قيام المبدأ بالموضوع في صدق المشتق عليه صدقا حقيقيا. وفي التحقيق الذي ذكره لبيان معنى القيام الذي هو شرط في صدق المشتق على ما يجري عليه يتضح فساد القول بعدم اشتراط القيام ، ويتضح فساد تفصيل ما ذكر في الفصول.

وحاصل التحقيق : ان المراد من قيام المبدأ بالموضوع الذي يجري عليه المشتق هو كونه متلبسا بالمبدإ ، وكون المبدأ حاصلا للموضوع الذي يجري عليه ، وتلبس الموضوع بالمبدإ وقيامه به وحصوله له مختلف على انحاء ، فتارة يكون سبب اختلاف التلبسات من ناحية الهيئات كهيئة اسم الفاعل وهيئة اسم المفعول باقسام المفاعيل ، فان هيئة الضارب تدل على ان الموضوع فاعل الضرب ، فتلبسه به تلبس فاعلي للضرب وواقع منه ، وهيئة اسم المفعول تدل على ان تلبسه به تلبس مفعولي وان الضرب واقع عليه ، واخرى يكون السبب في اختلاف التلبسات هي المواد وان تلبس الموضوع بالمواد مختلف على انحاء :

ـ فمن المواد ما يكون السبب في تلبس الفاعل بها هو ان يكون مصدرا لها وعلة لها ، كالضرب فان معنى قيام المبدأ به وتلبسه به وحصوله هو انه المصدر للضرب وعلته ، فالقيام في مثل هذه المادة قيام صدوري.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ ومن المواد ما يكون تلبس الفاعل بها بنحو ان يكون الفاعل محلا لها كمات زيد ومرض وامثال ذلك ، فان زيدا لم يصدر الموت وانما كان محلا له فالتلبس تلبس حلولي.

ـ ومن المواد ما يكون التلبس بها لكون المبدأ حاصلا لما يجري عليه المشتق ومحصلا له كما في قولنا : الماهية موجودة فان السبب في جري الموجود عليها هو كون المبدأ الذي هو الوجود حاصلا للماهية ومحصلا لها.

ـ ومن المواد ما يكون التلبس بها للموضوع الذي تجري عليه لكون حصول المبدأ اعلى درجات الحصول ، كما في قولنا : الوجود موجود ، والسواد اسود فانه اذا كان سبب صدق الاسود على الجسم لكون السواد حاصلا له فحصول الشيء لنفسه وذاته اعلى درجات الحصول ، فالسواد اولى بصدق الاسود عليه من الجسم الذي حصل له السواد ، وكذلك في صدق الموجود على الوجود فان الموجود يصدق على الماهية لكون الوجود محققا لها ومحصلا اياها ، فصدق الموجود على ما هو تحقق بنفسه وتحصل بذاته اولى.

ـ ومن المواد ما يكون السبب في التلبس بها هو كون الموضوع والمبدأ مفهومين يؤخذان من شيء واحد في الخارج ، فان العالم يصدق على الموضوع لحصول الانكشاف له ، فصدقه على من كان ذاته عين الحضور والانكشاف اولى ، فان ذاته التي يؤخذ منها مفهوم واجب الوجود هي عين الانكشاف والحضور ، ومن الواضح ان مفهوم واجب الوجود غير مفهوم الحضور والانكشاف ، وهذا مراده من قوله : «او انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا كما في صفاته تعالى».

ـ ومن المواد ما لا يكون لها وجود بذاتها في الخارج وليس للمبدا تحقق بنفسه ، بل الموجود في الخارج ما هو منشأ الانتزاع ، وهذا النحو على قسمين : فانه تارة يكون السبب في الانتزاع هو كون منشأ الانتزاع متحيثا بحيثية واقعية اقتضت الانتزاع كانتزاع الفوق مما هو متحيث بحيثية واقعية ، فان ما هو فوق باعتبار اضافته الى ما هو

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تحت حيثية واقعية ، ولكن الموجود في الخارج ذات ما هو فوق وحيثية اضافته الى ما هو تحت ليست شيئا له ما بحذاء في الخارج ، إلّا انه امر واقعي لا اعتباري ، نظير حيثية امكان الممكن ، واخرى تكون هذه الحيثية ليست واقعية بل اعتبارية ، كرقية الرق وزوجية الزوج فانه مضافا الى انه ليس لهذه الحيثية ما بحذاء في الخارج ان هذه الحيثية ليست امرا واقعيا ، بل هي امر اعتباري وهذا النحو الاخير مراده من قوله : «وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة» فان المحمول بالضميمة ما كان له ما بحذاء في الخارج فيكون منضما الموضوع الى الذي يحمل عليه ، كالسواد والبياض ، والكم كطول الشيء وعرضه.

فاتضح مما ذكرنا : فساد قول المستدل لعدم اعتبار القيام لصدق الضارب والمؤلم مع انه لا قيام للمبدا بالضارب والمؤلم. ووجه الفساد : ان المبدأ قائم بالفاعل الّا ان قيامه به بنحو الصدور ، لما عرفت من اختلاف انحاء التلبسات واختلاف كيفياتها في قيامها بما يجري عليه المشتق.

واتضح فساد تفصيل صاحب الفصول : من ان قيام المبدأ الذي هو شرط صدق المشتق على ما يجري عليه انما هو في الممكن ، واما في الواجب فلا قيام وانه لا بد من التأويل بالنقل او التجوز في صفاته تعالى.

ووجه فساده : انه قد اتضح مما ذكر انه من اعلى درجات القيام ، فان العالم من له العلم ، والعلم هو الانكشاف ووصف الممكن به لعروض الانكشاف له اقل درجة ممن كان حصول الانكشاف له ، لأن ذاته عين حقيقة الانكشاف ، فالعالم ـ مثلا ـ بما له من المفهوم الموضوع له وهو من له الانكشاف يصدق على الممكن والواجب صدقا واحدا. غاية الامر : ان كيفية التلبس بالانكشاف في الممكن بسبب انضمام الصورة العلمية اليه ، وفي الواجب لان ذاته عين الانكشاف.

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فان قلت : العرف يفهم من العالم من انضم اليه العلم دون من كان العلم عين ذاته ، وكذلك الاسود من انضم اليه السواد لا نفس السواد ، فلا يصح اطلاق العالم عليه تعالى ، ولا الاسود على السواد.

قلت : العرف انما يرجع اليه في تعيين مفهوم العالم والاسود فيشخص العرف ان العالم من له العلم والاسود من له السواد ، واما كيفية التلبس التي اقتضت كون الواجب مصداقا ، وكون السواد مصداقا فلا يرجع فيه الى العرف ، فربما يدرك العرف المصداقية والتلبس وربما لا يدرك المصداقية ، بل يكون المدرك للمصداقية هو العقل بتأمل وتدقيق ، ولذا قالوا : ان العرف حجة في تعيين المفاهيم لا المصاديق.

فان قلت : القيام والتلبس يحتاج الى اثنينية ، قائم ومقام به ، ومتلبس به ومتلبس واذا لم يكن انضمام لا يكون قيام ولا تلبس.

قلت : نعم لازم مفهوم المشتق ان هناك متلبسا ومتلبسا به ولا يلزم ان تكون هذه الاثنينية خارجية : بان يكون المتلبس غير المبدأ المتلبس به في الخارج ، بل يكفي ان تكون هذه الغيرية الموجبة للاثنينية اعتبارية.

وتوضيح ذلك : ان لازم مفهوم الاسود ان يكون مصداقه من له السواد ، ولا اشكال ايضا ان مفهوم السواد غير مفهوم الاسود ، فاذا صح في تامل من العقل ان يكون الاسود صادقا على مفهوم غير مفهوم الاسود ، ولو بان يكون ذلك المفهوم هو مفهوم السواد ، لانه اذا صح للعقل ان ينتزع الاسود ممن له السواد في الخارج مع انه غير السواد يصح له ان ينتزع من السواد بنحو من الاعتبار انه له السواد ، لأن السواد عند العقل اولى بان ينتزع منه انه له السواد من الجسم المنضم اليه السواد ، فالاثنينية في السواد والاسود اعتبارية ، والاثنينية في الجسم والاسود خارجية ، والقيام والتلبس يحتاج الى اثنينية ولو اعتبارية ولا يحتاج الى اثنينية خارجية ، فاذا صح هذا الاطلاق والمصداقية في السواد والاسود صح الاطلاق في الواجب وصفاته بطريق اولى ، لوضوح اختلاف مفهوم الواجب ومفهوم العالم بصورة واضحة ، وان

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كان مصداق الواجب هو مصداق العالم خارجا ، فالاثنينية واضحة وان لم تكن خارجية ، ولذا قال قدس‌سره : «ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما وقائما به عينا» : أي خارجا «لكنه بنحو من القيام لا بان يكون هناك اثنينية» : أي اثنينية خارجية ، واما الاثنينية الاعتبارية فموجودة قطعا ، ولذا فسر الاثنينية بقوله : «وكان ما بحذائه غير الذات» وهي الاثنينية الخارجية لأنها هي التي يكون ما بحذاء المبدإ في الخارج غير ما بحذاء المتلبس فيه «بل بنحو الاتحاد» : أي بل القيام بنحو الاتحاد «والعينية» في الخارج «وكان ما بحذائه» : أي المبدأ «عين الذات» والقيام والتلبس بنحو من الاعتبار فالاثنينية اعتبارية.

ولما فرغ المصنف من تحقيق معنى القيام والتلبس وانه مختلف وعلى انحاء ، واتضح منه فساد مذهب صاحب الفصول وغيره ذكر برهانا في رد صاحب الفصول بقوله قدس‌سره : «كيف ولو كانت بغير معانيها ... الخ» وهذا البرهان ذكره القوم في مسألة اشتراك الوجود.

وحاصل ما ذكره المصنف من البرهان : هو انه اذا قلنا : الله عالم او غيره من الصفات الجارية عليه تعالى كقولنا : قادر وحي ، فاما ان يراد من هذه الصفات اطلاقها عليه بما لها من هذه المعاني العامة المفهومة منها فهو المطلوب ، وعليه فلا يكون هناك نقل ولا تجوز ، لأن العالم ـ مثلا ـ قد اطلق بما له من المعنى العام وهو من ينكشف لديه الشيء ، وهو بهذا المعنى يطلق عليه تعالى وعلى غيره فلا نقل ولا تجوز ، غايته : ان الانكشاف في غيره انضمامي وفيه تعالى عين ذاته.

واما ان يطلق العالم عليه تعالى بغير هذا المفهوم العام وهو من ينكشف لديه الشيء ، وحينئذ فاما ان يكون في مقام اطلاقنا عليه هذا اللفظ قد قصدنا من هذا اللفظ معنى او لم نقصد شيئا ، فان قصدنا بهذا اللفظ شيئا وذلك لا بد ان يكون غير من ينكشف لديه الشيء ، وحينئذ يكون المقصود ما يقابل من ينكشف لديه الشيء ، ومن المعلوم ان مقابل ما ينكشف له شيء هو من لا ينكشف لديه الشيء وهذا عين

٢٨٧

والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ، وهو كما ترى ، وبالتأمل فيما ذكرنا (١) ، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة

______________________________________________________

الكفر ، لأن من لا ينكشف لديه الشيء هو الجاهل تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ ، واما ان لا نقصد بهذه الالفاظ معنى اصلا فلا يحصل من مخلوق لخالقه مدح ولا شكر ولا إطراء ولا ثناء ، لأنها الفاظ تطلق بلا معنى وهي صرف لقلقة لسان فاين الاوراد والاذكار والسلوك اليه بالثناء والاطراء عليه ومعرفة جماله وكماله ونعوته القدسية واسمائه الحسنى؟ وهذا باطل بالضرورة.

ولكن لا يخفى ان هذا يرد على من انكر اشتراك الوجود في اطلاق الموجود عليه تعالى ، ولا يرد على صاحب الفصول ، لانه يقول انها تطلق عليه بمعنى وهو غير المعنى العام الذي هو الانضمامي ، بل تطلق عليه بعد النقل والتجوز من المعنى الانضمامي الى المعنى الاتحادي ، فالعمدة في رده ما تقدم : من انه لا نقل ولا تجوز وان انحاء القيام والتلبس مختلفة على ما قدمنا تفصيله.

(١) حاصله : ان العلة في النقل او التجوز في هذه الالفاظ عما وضعت له من المعنى عند صاحب الفصول هو صدقها على الممكن ، فلا بد وان تصدق عليه تعالى بغير المعنى الذي صدقت به على الممكن ، وقد عرفت ان صدقها على الممكن بما انه المنكشف لديه الشيء فانه لا بد وان تصدق عليه تعالى بما لها هذا المعنى وهو المنكشف لديه الشيء ، والّا لكانت اما جهلا تعالى عنه ـ أو لقلقة لسان وان الاختلاف بين الممكن ليس في ناحية مفاهيم هذه الالفاظ ، بل في مصداق التلبس ، فان مصداقه في الممكن يكون بنحو الانضمام وفي الواجب بنحو الاتحاد ، فالمرتبة بين الممكن والواجب محفوظة كلفظ الوجود فانه بمفهومه الواحد يصدق على الواجب والممكن ، ولكن مصداقه في الممكن عين الفقر والامكان ، ومصداقه في الواجب عين الغنى بالذات والوجوب بالذات ، فما جعله صاحب الفصول سببا للتجوز ، والنقل

٢٨٨

بين الطرفين (١) فتأمل (٢).

السادس : الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة ، التلبس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في العروض ، كما في الماء الجاري ، بل يكفي التلبس به ولو مجازا ، ومع هذه الواسطة ، كما في الميزاب الجاري ، فاسناد الجريان إلى الميزاب ، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز ، إلا أنه في الاسناد ، لا في الكلمة ، فالمشتق في مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي ، ولا منافاة بينهما أصلا ، كما لا يخفى.

ولكن ظاهر الفصول بل صريحه ، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة ، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة ، ولهذا صار محل الكلام بين الاعلام ، والحمد لله ، وهو خير ختام (٣).

______________________________________________________

الموجب للاختلاف في المفهوم هو بنفسه سبب لعكسه من لزوم الاتحاد في المفهوم والاختلاف في المصداق.

(١) اما الخلل في استدلال القائلين باعتبار القيام فلعله لانهم لم يوضحوا كيفية القيام والتلبس ، فان المفهوم الواحد ربما يكون قيامه انضماميا وربما يكون اتحاديا ، واما الخلل في استدلال القائلين بعدم اعتبار القيام والتلبس فقد ظهر واضحا مما ذكرنا.

(٢) لعله يشير الى ان القوم لم يختلفوا ، وان القائلين باعتبار القيام يريدون منه التلبس وانحاء التلبسات مختلفة ، والقائلين بعدم اعتبار القيام يريدون عدم اعتبار القيام بنحو الانضمام او بنحو الحلول ولا يريدون انكار اصل اعتبار القيام.

(٣) توضيح هذا الامر انه لا اشكال في ان انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا لا بد فيه من تلبس الموضوع بمبدإ ذلك المشتق تلبسا حقيقيا ، والّا فلا يكون الانطباق حقيقيا.

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم لا يخفى ايضا ان المجاز على قسمين : مجاز في الكلمة ومجاز في الاسناد ، ولازم المجاز في الكلمة ان يكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له ، كاستعمال الاسد في الرجل ، ولازم المجاز في الاسناد هو استعمال اللفظ فيما وضع له ، والتصرف في الاسناد بادعاء انه من مصاديقه ـ كما ذكره السكاكي في الاستعارة ـ.

اذا عرفت هذا نقول : انه اذا لم يكن انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا بل كان انطباقا مجازيا لا يلزمه ان يكون لفظ المشتق قد استعمل في غير ما وضع له ، بل يمكن ان يكون مستعملا فيما وضع له وكان المجاز مجازا في الاسناد لا في الكلمة ، ففي قولنا : الميزاب جار قد استعمل جار في معناه الذي وضع له وادعي : ان الميزاب من افراد ما له الجريان ، فالمجاز في دعوى : كون الميزاب له الجريان وأنه من افراد ما له الجريان ، فاسناد الجاري الى الميزاب اسناد الى غير ما هو له ، لأن الذي له الجريان حقيقة هو الماء الذي في الميزاب لا الميزاب نفسه.

فظهر مما ذكرنا : انه لا يعتبر في استعمال المشتق في معناه حقيقة تلبس الموضوع بمبدئه حقيقة ، وانما يعتبر تلبسه به حقيقة في انطباق المشتق عليه حقيقة لا في استعماله ، وهذا هو مراده : من قوله قدس‌سره : «انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة» : أي في جريه على الذات واستعماله في معناه حقيقة «التلبس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في العروض» الواسطة في العروض في المقام : هو كون التلبس بالعرض والمجاز ، وغير الواسطة في العروض هو التلبس فيكون قوله : «بلا واسطة في العروض» شرحا للتلبس الحقيقي : أي لا يشترط في استعمال المشتق في معناه حقيقة التلبس الحقيقي ، وانما يشترط التلبس الحقيقي في الانطباق حقيقة لا في الاستعمال في معناه حقيقة ، ويكفي التلبس المجازي وعلى نحو الواسطة في العروض في استعمال لفظ المشتق في معناه ، كما عرفت في المجاز في الاسناد ، ولذا قال قدس‌سره : «بل يكفي التلبس به ولو مجازا ومع هذه الواسطة» : أي بواسطة في العروض «كما في الميزاب الجاري» فان الجاري مستعمل في معناه مع كون تلبس الميزاب بالجريان تلبسا

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

مجازيا وعلى نحو الواسطة في العروض : أي ليس تلبسا حقيقيا ولذا قال : «فاسناد الجريان الى الميزاب وان كان اسنادا الى غير ما هو له» : أي اسنادا مجازيا وبالعرض والمجاز الّا ان هذه المجازية والتصرف ليس في استعمال لفظ الجاري في معناه ، بل الجاري مستعمل في معناه والتصرف في ادعاء كون الميزاب من افراده ، وهو المعبر عنه بالمجاز في الاسناد ، وليس من المجاز في الكلمة الذي لازمه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، والمصنف يدعي : ان ظاهر الفصول انه يشترط في استعمال لفظ المشتق في معناه حقيقة تلبس ما يجري عليه المشتق بمبدإ المشتق حقيقة وهو مراده من قوله : «بل صريحه» : أي صريح الفصول «اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة» : أي يعتبر اسناد مبدإ المشتق حقيقة الى الموضوع في مقام استعمال المشتق في معناه حقيقة ، ولذا عقبه بقوله : «وكانه من باب الخلط ... الخ» : أي ان هذا الاشتراط سببه الخلط بين المجاز في الكلمة الذي معناه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، والمجاز في الاسناد الذي لازمه استعمال اللفظ في ما وضع له والتصرف في غير الاستعمال.

ولا يخفى انه اذا كان ما يقوله الفصول هو انه يشترط في استعمال المشتق في معناه حقيقة تلبس الموضوع بمبدإ المشتق حقيقة ، فالحق مع المصنف لما عرفت : من ان في المجاز ـ في الاسناد ـ اللفظ مستعمل في معناه حقيقة مع ان الموضوع لم يتلبس بالمبدإ حقيقة ، واذا كان مراد صاحب الفصول انه يشترط في انطباق المشتق على موضوعه انطباقا حقيقيا تلبس الموضوع بمبدإ المشتق تلبسا حقيقيا فالحق مع صاحب الفصول ، لان المجاز في الاسناد وان كان استعمال اللفظ فيه استعمالا حقيقيا الّا ان الانطباق فيه ليس انطباقا حقيقيا ، لضرورة انه يشترط في الانطباق الحقيقي التلبس الحقيقي.

٢٩١
٢٩٢

المقصد الاول

فى الأوامر

٢٩٣
٢٩٤

المقصد الاول

في الأوامر

وفيه فصول :

الاول : فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات ، وهي عديدة (١):

الاولى : إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة (٢).

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

(المقصد الاول : في الاوامر)

(١) رتب المصنف هذا الكتاب مشتملا على مقدمة وتبتدي بموضوع علم الاصول وتنتهي بانتهاء مسألة المشتق ، ومقاصد وتبتدي بالاوامر وتنتهي بالتعادل والتراجيح ، وخاتمة تتعلق بالاجتهاد والتقليد.

والكلام ـ الآن ـ في المقصد الاول وهو يتضمن البحث في ضمن فصول :

الفصل الاول : في المباحث الراجعة لمادة الامر ، ومراده من مادة الامر لفظ الامر ، والبحث فيه قد كان في جهات.

(٢) الظاهر ان هذه المعاني السبعة التي ذكرها المصنف : وهي الطلب ، والشأن ، والفعل المطلق ، والفعل العجيب ، والشيء ، والحادثة ، والغرض ، وزاد عليها في القوانين معاني أخر ادعى ان لفظ الامر يدل عليها ، وظاهرهم في هذا التعبير كون لفظ الامر مشتركا بينها اشتراكا لفظيا ، لانه لو كان مشتركا معنويا لما كانت هذه معاني للامر ، بل تكون افرادا للمعنى الجامع ، مضافا الى ان المصنف صرح في كون مختاره اشتراك لفظ الامر بين الطلب والشيء ، ويبعّد الاشتراك المعنوي ايضا ان من جملة المعاني التي ذكروها الشيء ، وليس هناك جامع اعم منه ، لان الشيء اعم الالفاظ فلا يكون هناك جامع يعمه مع بقية المعاني التي ذكروها له ، ولو كان حقيقة في بعضها مجازا في البقية لنبهوا عليه ، ولما صحّ ان يعدّ من معاني لفظ الامر.

٢٩٥

ـ ومنها الطلب ، كما يقال ، أمره بكذا.

ـ ومنها الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا.

ـ ومنها : الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (١).

ـ ومنها : الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا).

ـ ومنها : الشيء ، كما تقول : رأيت اليوم أمرا عجيبا.

ـ ومنها : الحادثة ، ومنها الغرض ، كما تقول : جاء زيد لامر كذا.

ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أن الامر في جاء زيد لامر كذا ما استعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دل على الغرض ، نعم يكون مدخوله مصداقه ، فافهم (٢) ،

______________________________________________________

نعم ، لو كان غرضهم ذكر موارد الاستعمال لا غير لما كان ظاهرا في الاشتراك اللفظي.

(١) ذكر هذا مثالا للفعل المطلق ، ولكن سياق الآية بملاحظة ما قبلها يدل على ان الامر فيها لم يرد منه الفعل ، بل اريد منه الطلب فان الآية هكذا (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) والظاهر من الاتباع في المقام هي الاطاعة ، فلا بد وان يكون لفظ الامر فيما قبلها اريد منه معنى الطلب ، ولا اشكال ان لفظ الامر فيما بعدها هو المراد منه فيما قبلها ، واما كون الاتباع قد يستعمل فيمن يفعل مثل فعل من سبقه بفعل فيقال : اتبعه في فعله فلا ننكره ، إلّا ان الاتباع في المقام حيث كان من رعية الى ملكها كان ظاهرا في ان معنى الاتباع هو الاطاعة.

(٢) لا يخفى ان اشتباه المصداق بالمفهوم يكون في مقامين :

الاول : ان يكون لفظ موضوعا لمعنى له مصاديق ، ثم يدعي مدع : انه قد وضع ايضا لاحدها بالخصوص ، فيقال في مقام الرد عليه : انه اشتبه عليه المصداق

__________________

(١) هود : الآية ٩٧.

٢٩٦

وهكذا الحال في قوله تعالى فلما جاء أمرنا يكون مصداقا للتعجب ، لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن (١). وبذلك ظهر ما في

______________________________________________________

بالمفهوم ، كما لو ادعى احد ان لفظ الميزان موضوع لذات الكفتين مع الاعتراف بانه موضوع اولا لكل ما يوزن به.

الثاني : ان يكون لفظ موضوعا لمعنى له مصداق ولذلك المصداق لفظ وضع له فيدعي مدع : ان هذا اللفظ الموضوع لذلك المصداق موضوع لذلك المفهوم الصادق عليه ، كما في المقام فان لفظ الغرض موضوع لما هو غرض بالحمل الاولي وله مصاديق ومن مصاديقه ما هو موضوع له لفظ الامر ، فادعى : ان لفظ الامر موضوع للغرض ، فلذا قال المصنف : ان الامر في قولهم : جاء لامر كذا ليس بموضوع لمفهوم الغرض ، بل هو موضوع للشأن ـ مثلا ـ أو للشيء وقد صار هذا الذي وضع له لفظ الامر مصداقا للغرض كما دل على ذلك اللام ، ووقوعه مصداقا للغرض بواسطة اللام سبب اشتباههم : بان مفهوم الغرض مما وضع له لفظ الامر ، والحال انه لم يوضع لمفهوم الغرض ولا لمصداق الغرض بما انه مصداق الغرض ، بل وضع له باعتبار كونه شأنا أو شيئا أو فعلا. وقوله : «فافهم» لعله اشارة الى ان المعروف في استعمال قولهم : انه من اشتباه المصداق بالمفهوم هو المعنى الاول.

(١) لا يخفى ان هذا من اشتباه المصداق بالمفهوم بالمعنى الاول ، فان لفظ الامر في قوله تعالى : (جاءَ أَمْرُنا)(١) لم يستعمل في الفعل العجيب ، بل استعمل في معناه وهو الفعل أو الشيء ، وهذا المستعمل فيه صار مصداقا لكونه فعلا عجيبا بسبب اضافته اليه تعالى وانه فعله ـ جل وعلا ـ بل يمكن ان يقال : انه لم يستعمل في المقام الّا بمعنى الطلب ايضا حيث ان الانتقام منهم صار قضاء الزاميا ، فناسب ان يستعمل فيه

__________________

(١) هود : الآية ٨٢.

٢٩٧

دعوى الفصول ، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين (١) ، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللغة (٢).

وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ، ومجاز في غيره (٣) ، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه

______________________________________________________

باعتبار كون الامر هو الطلب الالزامي ، وقد جاء مثل هذا في جملة من موارد الانتقام في القرآن.

(١) مختار صاحب الفصول ان الامر مشترك لفظي بين الطلب والشأن.

ويرد عليه : انه لا يصح ارادة الشأن فيما لو راى فعلا ، فيقول : رأيت امرا ، فان الشأن لا يطلق على الفعل.

واذا تم ما يقوله المصنف : من كونه مشتركا بين الطلب والشيء يكون استعماله في الشأن باعتبار انه من مصاديق الشيء ، فيكون من باب اشتباه المصداق بالمفهوم.

(٢) اما كون لفظ الامر مشتركا بين الطلب وغيره فلعل الدليل عليه اختلاف الجمع ، فان الامر بمعنى الطلب يجمع على اوامر ولا يجمع على امور ، والامر لغير معنى الطلب يجمع على امور ، ولا يجمع على اوامر واختلاف الجموع دليل على تعدد المعنى الموضوع له.

واما كون المعنى الثاني هو الشيء فربما يبعده ان الامر لا يطلق على الاعيان ، وانما يطلق على الافعال ، فان من راى حيوانا او شجرة لا يصح ان يقول : رأيت امرا ، ولو كان الامر بمعنى الشيء لصح ذلك ، واما قوله : «في الطلب في الجملة» فلما سيأتي ان الامر هو خصوص الطلب من العالي الى السافل.

(٣) لا يخفى ان المعنى الاصطلاحي لا يحتاج الى نقل الاتفاق ، بل يثبت بدعوى واحد من ارباب الفن المطلعين ، فيمكن ان يكون دعوى الاتفاق منهم انما هو لبيان انه ليس مطلق الطلب موضوعا له لفظ الامر ، بل خصوص الطلب بالقول

٢٩٨

الاشتقاق ، فإن معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا ، مع أن الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر (١).

______________________________________________________

المخصوص : أي الطلب بالصيغة ، فيكون الاتفاق المذكور على ما هو الموضوع له في اللغة لا المعنى المنقول اليه بحسب الاصطلاح.

(١) حاصله : انه اذا كان لفظ الامر موضوعا للقول المخصوص وهو افعل لا يمكن الاشتقاق منه ، لان الذي يقبل الاشتقاق هو المبدأ القابل لتوارد النسب عليه ، فاذا كان غير قابل لتوارد النسب اما لكونه شيئا لا تتوارد عليه النسب كالشجر والحجر والانسان ، او كان بذاته قابلا لتوارد النسب عليه ولكنه وردت عليه احدى النسب فلا يكون بعد ورودها عليه قابلا لورود نسبة اخرى ، فلا يكون قابلا للاشتقاق كالفعل واسم الفاعل ـ مثلا ـ والمصدر المشهور فانه بعد ان وردت عليه نسبة لا يكون قابلا لورود نسبة اخرى ، فان المصدر المشهور فيه نسبة ناقصة ، ولذا فليس هو مبدأ للمشتقات ، بل هو احد المشتقات ، واذا كان لفظ الامر موضوعا للقول المخصوص الذي هو مشتق من المشتقات لا يكون قابلا للاشتقاق منه ، فان المعنى القابل للاشتقاق هو الشيء القابل لتوارد النسب ، فما يكون غير قابل لتوارد النسب أو كان قابلا ولكن اخذ حظه : بان وردت عليه إحدى النسب لا يكون معنى قابلا للاشتقاق ، وهذا مرادهم : من كون المبدأ القابل للاشتقاق ما كان معنى حدثيا.

ولا يخفى ان الاشتقاق عندهم من لفظ الامر ببناء الافعال منه كأمر ويأمر واسم الفاعل كآمر وساير مشتقاته انما هو بالمعنى الذي قالوا : انه حقيقة فيه وهو القول المخصوص الذي يرى المصنف انه عندهم هو المعنى المصطلح وليس الاشتقاق من لفظ الامر باعتبار كونه حقيقة في الطلب.

٢٩٩

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه (١) ، نعم القول المخصوص أي صيغة الامر إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر ، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

وكيف كان ، فالامر سهل لو ثبت النقل (٢) ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة (٣) ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز. وما ذكر في الترجيح ، عند تعارض هذه الاحوال ، لو سلم ، ولم يعارض بمثله ، فلا دليل على الترجيح به ، فلا بد مع

______________________________________________________

(١) فيكون قولهم الطلب بالقول لتعيين الحصة الخاصة من الطلب ، والقول بنفسه خارج عما هو الموضوع له لفظ الامر جزءا وقيدا ، فالموضوع له على هذا هو الحصة الخاصة من الطلب وهو مدلول الصيغة لا غير ، واحسن شيء يعرف به المدلول هو الدال.

(٢) حاصله : ان المنشأ بالقول المخصوص : أي صيغة افعل حيث تصدر من العالي يكون المنشأ بها هو من مصاديق ما وضع له لفظ الامر ، لأن الالفاظ موضوعة لمفهوم الطلب المقيد ، والفرد لذلك المفهوم الموضوع له هو مصداق لما هو الموضوع ، وذلك الفرد يحصل بانشائه بالصيغة ، فما ينشا بالصيغة يكون فردا ومصداقا لما هو الموضوع له لفظ الامر الموضوع اما لمفهوم الطلب المطلق أو لمفهوم خاص من الطلب ، وليس المنشأ بالصيغة هو مدلول ما وضع له لفظ الامر : أي الامر ليس بموضوع لنفس الصيغة ، بل الطلب مدلول ما وضع له لفظ الامر.

(٣) قد عرفت فيما تقدم ان الطلب بالقول ليس معنى اصطلاحيا ، بل هو لغوي عندهم.

٣٠٠