بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

بقي أمور مهمة لا بأس بالاشارة اليها : الاول : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها ، فإنه معه لا مجال لها أصلا ، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (١)

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الاصل تارة يكون حكميا لا غير من دون الشك في الموضوع ، كما لو شك ـ مثلا ـ في حرمة شيء واباحته من ناحية نسخ الحكم الثابت له أو لا فيجري الاصل الحكمي وهو الاستصحاب للحكم الاولي سواء كان حرمة او حلية ، ولا مجرى معه للبراءة ، وهل تقدم الاستصحاب الحكمي على اصل البراءة لانه حاكم عليه او لوروده عليه او لغير ذلك ككونه توقيفا؟ ... يأتي بيانه ان شاء الله تعالى في مسألة تعارض الاصول.

واخرى : يكون الاصل الجاري موضوعيا كما لو شك في حرمة شيء وحليته من ناحية الشك فيما هو الموضوع لهما كالخمرية والخليّة ، وكان معلوم الحالة السابقة بان كان متيقن الخمرية أو الخليّة سابقا ، ومع جريان الاصل في الموضوع لا مجال لجريان الاصل في نفس الحكم ، بل الحكم يترتب على الموضوع الذي يجري فيه لاستصحاب ، لوضوح ان نسبة الموضوع الى حكمه نسبة السبب الى مسببه ، والاصل في السبب اما حاكم على الاصل في المسبب او وارد عليه ، بل حتى لو قلنا بعدم تقدّم الاصل السببي على المسببي لا بد من تقديم الاصل الموضوعي ، لان الحكم بالنسبة اليه نسبة العارض الى معروضه ، والغاية من جريان الاصل في المعروض لحوق عارضة به ، والّا يسقط الاصل في الموضوعات من رأس ، وان لم يكن هناك اصل جار في الحكم لان البناء على تحقق الموضوع تعبدا ان لم يكن بلحاظ ثبوت حكمة وترتبه عليه لا وجه لجريانه ، لوضوح لغوية التعبد بالموضوع حيث لا يلحقه الحكم وسيأتي ايضا بيانه في مبحث الاستصحاب ان شاء الله تعالى ، ويظهر من المصنف انه يرى وروده عليه.

١

فلا تجري ـ مثلا ـ أصالة الاباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية ، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية ، فأصالة عدم التذكية تدرجها فيما لم يذك وهو حرام إجماعا ، كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعمّ غير المذكى شرعا ، ضرورة كفاية كونه مثله حكما ، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الاوداج الاربعة مع سائر شرائطها ، عن خصوصية في الحيوان التي بها

______________________________________________________

فاذا عرفت هذا ... نقول : اذا شك في حرمة شيء وحليته لا مجال لجريان اصالة البراءة في الحرمة لا شرعا ولا عقلا فيما اذا كان هناك اصل موضوعي كالاستصحاب يعيّن ما هو الموضوع للحرمة او الحليّة.

اما شرعا فلوضوح كون رفع الحرمة المشكوكة بحديث الرفع انما يصح حيث لا يكون هناك ما يثبتها ، ومع جريان الاصل المثبت لما هو الموضوع للحرمة تكون الحرمة ثابتة لثبوت موضوعها ، ومع ثبوتها لا وجه لجريان اصل البراءة لرفعها.

واما عقلا فلان موضوع البراءة العقلية اللابيان ، والاصل المثبت للموضوع بيان تام فيرتفع موضوع البراءة العقلية ، فاتضح انه بجريان الاصل المثبت لموضوع الحرمة لا مجال لرفعها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لوضوح استحقاق العقاب عليها بعد ثبوتها بالاصل المثبت لموضوعها ، ولا البراءة الشرعية بعد ثبوت موضوع الحرمة بالاصل.

ومنه يتضح ايضا عدم جريان البراءة عقلا وشرعا مع جريان الاصل المثبت لحكم يوافقها ، كما لو كان المشكوك المتقدّم مسبوقا بالخليّة فانه مع استصحاب الخليّة تثبت الاباحة ، ولا مجال للشك فيها حتى نحتاج الى اثباتها بقاعدة الحل شرعا او البراءة عن الحرمة عقلا ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((انه انما تجري اصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك اصل موضوعي ... الى آخر الجملة)) وبقوله : ((لوروده عليها)) يظهر منه ان مختاره الورود.

٢

يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) بعد ما عرفت من انه مع جريان الاصل الموضوعي لا مجال لاصالة البراءة ولا لاصالة الاباحة قطعا ... يقع الكلام في انه فيما اذا شك في حليّة لحم حيوان للشك في قبوله للتذكية ام لا ، فهل هناك اصل موضوعي يثبت الموضوع للحرمة فيه ام لا؟

وتوضيح ذلك يحتاج الى بيان امور :

الاول : ان التذكية هل هي من المفاهيم العرفية وهي الذبح والنحر كما يظهر من صاحب القاموس ، او انها من الحقائق الشرعيّة كما يظهر من موارد استعماله في لسانه كقوله عليه‌السلام : (كل يابس ذكي) (١) وقوله عليه‌السلام : (ذكاة الارض يبسها) (٢) وقوله عليه‌السلام : (ذكاة الجنين ذكاة أمه) (٣) وغيرها من الموارد التي اطلق عليها الذكاة في لسان الشارع ، فان الظاهر ان استعمالها في هذه المقامات المختلفة ليس على سبيل المجاز.

وعلى كل فبناء على انها من الحقائق الشرعيّة فهل هي معنى بسيط يترتب على اسباب له عند الشارع فيترتب على الذبح بشرائطه ويترتب على يبس الارض ، ويترتب في الجنين على ذكاة أمه؟

او انها عبارة عن نفس هذه الامور التي اعتبرها الشارع كالنحر في الابل والذبح في غيره؟

__________________

(١) تهذيب الاحكام : ج ١ ، ص ٤٩.

(٢) راجع نهاية ابن الاثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة (ذكا).

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، باب ١٨ من أبواب الذبائح حديث ١٢.

٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أم على نحو كون الامور التي اعتبرها في التذكية كالتسمية واستقبال الكعبة اجزاء او شرائط؟

وعلى الاخير لا تكون التذكية امرا بسيطا مرتبا على اسباب له ، بل هي نفس تلك الاسباب ، وعليه فلا تكون تلك الاسباب اسبابا للتذكية بل هي نفس التذكية.

الثاني : انه لا اشكال في ان في بعض الحيوان خصوصية وهي القابلية والاستعداد لان تتحقق التذكية فيه وتؤثر ، وبعض الحيوان ليس فيه تلك الخصوصية والقابلية ، لوضوح تحققها في مثل الابل والغنم وعدم تحققها في مثل الكلب او المسوخ.

ولا يخفى ايضا ان آثار التذكية مختلفة ، فتارة تؤثر الطهارة والحلية لأكل اللحم كما هي في الغنم والإبل وساير ما هو مأكول اللحم ، واخرى تؤثر الطهارة فقط من دون حلية الاكل كما في الارنب والثعلب ، فان التذكية فيها طهارة لحمها واجزائها من دون الحليّة لاكلها لانها مما لا يؤكل لحمه.

الثالث : ان الشك في الحلية تارة للشبهة الحكمية ، واخرى للشبهة الموضوعيّة ، وقد تعرّض المصنف في اول كلامه للشك من ناحية الشبهة الحكمية ، واشار الى الشبهة الموضوعية في ذيل كلامه.

الرابع : ان الشك في الشبهة الحكميّة على انحاء :

ـ منها : ان الشك في الحليّة من جهة الشك في كون الحيوان واجدا للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه ـ بشرائطها ـ الحلية ، او انه ليس واجدا لتلك الخصوصية فلا تؤثر التذكية فيه الحليّة ، كما في الحيوان المتولد من كلب وشاة فانه يشك في حلّيته مع فرض ذبحه وتحقق ساير ما اعتبر من الامور الأخر كالتسمية والاستقبال.

ـ ومنها : ان يعلم بان التذكية تؤثر الطهارة ولكن الشك من جهة كون الحيوان واجدا لخصوصية الحلية للأكل ، او غير واجد لها كالحيوان المتولد من ثعلب وشاة مع العلم بكونه اما ثعلبا او شاة.

٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ ومنها : ان يشك في الحلية من جهة احتمال مانع عنها كالجلل والموطوئيّة ، فمع العلم بكون الحيوان من الغنم الواجد للخصوصية القابلة لتأثير الحلية والطهارة ، ولكن احتملنا كون الجلل مانعا عن تأثير التذكية فيه وكان الحيوان جلالا.

الخامس : ان المذكى الذي كان اثره الطهارة والحلية او الطهارة وحدها ، وغير المذكى الذي كان اثره النجاسة وحرمة الاكل ، هل هما متقابلان بتقابل التضاد؟ بان تكون التذكية معنى وجوديا ، وعدم التذكية ايضا معنى وجوديا وهي عنوان الميتة ، فيراد من عدم التذكية هو المثبتيّة ، وانما عبّر عن المعنى الوجودي بالعنوان العدمي وهو عدم التذكية او كونه غير مذكى لانهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما في الحيوان الذي زهقت روحه لانه اما مذكى او ميتة ، فعدم التذكية من الملازمات لعنوان الميتة ، ويصح الاشارة الى الملازم بالعنوان الآخر الملازم له.

او انهما من المتقابلين بتقابل العدم والملكة؟ بان يكون وصف التذكية وعدم التذكية من اللاحقين للذي له شأنية ان يكون ذكيا وغير ذكي وهو الحيوان الذي زهقت روحه ، فالحيوان في حال حياته لا مذكى ولا غير مذكى.

او انهما من المتقابلين بتقابل السلب والايجاب؟ وحيث ان تقابل السلب والايجاب مما لا يعقل ان يجتمعا وان يرتفعا فلا يخلو الشيء عن كونه مصداقا لاحدهما ولا يخلو عنهما شيء من الاشياء ، لوضوح ان تقابل البصر والعمى يجوز ان يخلو الشيء عنهما معا كالجدار فانه لا اعمى ولا بصير ، بخلاف البصر واللابصر فان الجدار وان لم يصدق عليه انه اعمى لكنه يصدق عليه انه لا بصر له ، وعلى هذا فالحيوان الحي حال حياته يصدق عليه انه غير مذكى.

اذا عرفت هذا ... فنقول : ان الشك في الحلية والحرمة في الحيوان اذا كان من جهة الصورة الاولى ، وهو ما كان الشك فيه من ناحية الشك في كونه واجدا للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه ذلك ، ام ليس واجدا لتلك الخصوصية فلا تؤثر فيه شيئا ، فان كان التقابل بين التذكية وعدم التذكية من تقابل التضاد لا مجرى لاصالة

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم التذكية لعدم العلم بها سابقا ، لوضوح عدم كون الحيوان حال حياته ميتا ، ومثله ما اذا كان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فانه لا مجرى فيه ايضا لاصالة عدم التذكية ، لما عرفت من انهما وصفان متقابلان لما له شأنية ان يكون مذكى وغير مذكى ، وهو الحيوان الذي زهقت روحه ، فالحيوان حال الحياة لا مذكى ولا غير مذكى ، فلا علم بعدم التذكية حال الحياة حتى يستصحب الى حال الموت.

فينحصر جريان الاصل في عدم التذكية فيما اذا كانا متقابلين بتقابل السلب والايجاب ، لوضوح العلم بعدم التذكية حال الحياة فنستصحب الى حال ازهاق الروح ويترتب الاثر المترتب على زهاق الروح وعدم التذكية ، لاحراز احدهما بالوجدان والثاني بالاصل.

ويظهر من عبارة المصنف امور :

الاول : فرض الصورة الاولى ، وهي ما كان الشك في حلية الحيوان من جهة الشك في وجدانه للخصوصية والقابلية وعدمها ، واليه اشار بقوله : ((فلا تجري مثلا اصالة الاباحة)) والتعبير ب (مثلا) للاشارة الى ان التذكية قد يكون اثرها الاباحة والطهارة ، وقد يكون اثرها الطهارة فقط دون الاباحة ، ففي مثل الحيوان المتولد من كلب وشاة ـ بناء على انه اما كلب او شاة ـ فانه حينئذ يكون اثر التذكية فيه ـ لو تمت ـ الاباحة والطهارة ، واثر عدم التذكية النجاسة والحرمة ، ومع جريان اصالة عدم التذكية لا تجري اصالة الاباحة ((في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية فانه)) يكون من الحرام حتى فيما ((اذا ذبح مع)) تحقيق ((سائر الشرائط المعتبرة في التذكية)).

الثاني : انهما من المتقابلين بتقابل السلب والايجاب ، لقوله (قدس‌سره) : ((فاصالة عدم التذكية تدرجها)) أي تدرج الحيوان المذبوح مع تحقق ساير الشرائط للذبح عدا الخصوصية والقابلية التي كان الشك في حليته وعدم حليته من اجلها وانه واجد لتلك الخصوصية ام لا ، فبأصالة عدم التذكية تندرج في الحرام ، وتأنيث الفعل

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والضمير في تدرجها ، اما الضمير فباعتبار كونه ذبيحة ، واما الفعل فقوله في ذيل كلامه : ((فالاصل عدم تحقق التذكية)).

فاتضح : ان مختار المصنف في الصورة الاولى جريان اصالة عدم التذكية وهي الاصل الموضوعي ، وبسبب هذا الاصل يندرج الحيوان المذبوح في عنوان غير المذكى ، وعليه يترتب الاثر وهي النجاسة والحرمة ، كما ان الطهارة والاباحة في آثار الحيوان المذكى ، ولا مجال مع جريان هذا الاصل الموضوعي لجريان اصالة البراءة أو الاباحة ، لما عرفت من كون الاصل الموضوعي اما واردا عليها او حاكما.

الثالث : ان الحرمة في لسان بعض الاخبار والآيات مترتبة على عنوان غير المذكى ، ولا يضر مع ترتبها على هذا العنوان العام ترتبها في لسان بعض الاخبار على نفس عنوان الميتة التي هي عنوان وجودي اخص من عنوان غير المذكى ، لاختصاص ظهورها فيما مات حتف أنفه ، ومع ترتب الاثر على هذا العنوان العام لا حاجة الى التكلف في تعميم عنوان الميتة لان يساوق العنوان العام وهو غير المذكى ، كما تكلف لذلك الشيخ (قدس‌سره) في رسائله ، واليه اشار بقوله : ((وهو حرام)) أي ان عنوان غير المذكى حرام ((اجماعا)) آيات واخبارا وهو في الحرمة (كما اذا مات)) الحيوان ((حتف انفه فلا حاجة الى)) ان نتكلف ((اثبات ان الميتة تعم غير المذكى شرعا ضرورة كفاية كونه)) أي كفاية كون عنوان غير المذكى ((مثله)) أي مثل عنوان الميتة ((حكما)).

ثم اشار بقوله ـ : ((وذلك بان التذكية انما هي عبارة عن فري الاوداج الاربعة مع ساير شرائطها)) ككون الذابح مسلما والتسمية والاستقبال بالمذبوح وان يكون ذلك ((عن خصوصية في الحيوان التي بها)) أي بفري الاوداج مع الشرائط والخصوصية ((يؤثر فيه الطهارة وحدها)) كما في الثعلب والأرنب ((او مع الحلية)) كما في الغنم والبقر وغيرهما من مأكول اللحم ، فان تلك الامور تؤثر فيه حلية اكل لحمه وطهارته ـ الى امرين :

٧

نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية ، فأصالة الاباحة فيه محكمة ، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلا أصالة الاباحة ، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام (١).

______________________________________________________

الاول : كون التذكية عنده من الحقائق الشرعية وانها ليست امرا بسيطا بل هي نفس هذه الامور ، لقوله : ((انما هي عبارة عن فري الاوداج ... الى آخره)).

الثاني : انه اذا كان عنوان غير المذكى مما يترتب عليه الاثر وهو الحرمة والنجاسة او النجاسة وحدها مثل عنوان الميتة ، فباستصحاب عدم التذكية في حال الحياة يترتب عليه الاثر المترتب على عنوان غير المذكى المحرز بالقطع بعد زهاق روحه ، ولذا الحق كلامه بقوله : ((ومع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها)).

(١) هذه الصورة الثانية وهي ما اذا كان الشك في ترتب الاباحة على التذكية مع العلم بقبول الحيوان للتذكية ، وان اثرها طهارته بعد الذبح قطعا كما في غير المسوخ من الحيوان كالأرانب فان التذكية فيها هي طهارة الحيوان بعد الذبح ، فالمتولد من الارنب والشاة ـ مثلا ـ بعد فرض العلم بأنه اما شاة أو أرنب يعلم قطعا بقبوله للتذكية وانها تؤثر فيه الطهارة قطعا ، ويتمحض الشك فيه في الاباحة وعدمه ، ومختار المصنف في هذه الصورة جريان اصالة الاباحة فيه فيحل اكل الحيوان المشكوك كونه ارنبا او شاة بواسطة اصالة الاباحة.

وتوضيح ذلك : انه قد عرفت ان مختار المصنف ان التذكية هي نفس فري الاوداج بشرائطه المعتبرة فيه ، وليست هي امرا بسيطا يترتب على هذه الامور ، ولا اشكال ايضا في ان الخصوصية في الحيوان ليست بعض الامور التي تتركب منها التذكية بناء على انها نفس هذه الامور ، وليست من اسباب التذكية بناء على ان التذكية امر بسيط يترتب على هذه الاسباب.

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنه مما لا اشكال فيه ان للخصوصية والقابلية دخلا في ترتب الآثار على التذكية من حلية الاكل والطهارة بنحو من الانحاء ، ولو بنحو الاعداد لان تؤثر هذه الامور المعنى البسيط الذي اثره الطهارة او مع الحلية ، أو لأن يترتب على نفس هذه الامور الطهارة أو الحلية ، ولذا كان في صورة الشك فيها يجري الاصل الموضوعي ويترتب عليه ان الحيوان من غير المذكى كما مر ، فهي وان كانت خارجة عن نفس التذكية او عن اسبابها ، إلّا أنها لها دخل في ترتب الاثر عليها ولو بنحو الاعداد لان يكون الحيوان مما للتذكية اثر فيه.

فالوجه في جريان اصالة الاباحة في هذه الصورة دون الاصل الموضوعي هو ان المفروض كون الحيوان مما يقبل التذكية ، فالخصوصية نفسها لا شك فيها حتى يكون مجال للاصل الموضوعي وهو اصالة عدم التذكية ، فانه بعد العلم بقبوله لاصل التذكية لا وجه للشك في اصل التذكية بعد حصول تلك الامور في حال زهوق روح الحيوان ، فلا مجرى للاصل الموضوعي اذ لا شك فيه ، وانما الشك في انه في مثل هذا الحيوان هل يترتب عليها الطهارة فقط ، او هي مع اباحة الاكل فيتمحض الشك في نفس الاباحة من دون جريان اصل في الموضوع الوارد أو الحاكم على اصالة الحل ، فلا مانع من جريان اصالة الاباحة وتثبت بواسطتها حلية الاكل.

لا يقال : انه بعد ان كانت الخصوصية مختلفة في الحيوان ، فانها في بعض الحيوان يكون اثر التذكية فيه الطهارة والحلية كما في الغنم المذكى ، وفي بعض الحيوان تؤثر التذكية الطهارة فقط من دون حلية الاكل كما في الارنب المذكى ، فيستكشف من هذا ان هناك خصوصيتين ، ولكن في بعض الحيوانات الخصوصيتان معا كما في الغنم ، وفي بعضها خصوصية واحدة كما في الارنب ، فالعلم باحد الخصوصيتين لا ينافي الشك في الخصوصية الاخرى ، وعليه فيجري الاصل الموضوعي في الخصوصية الثانية المشكوكة ويترتب عليه حرمة الاكل ، فلا مجال لجريان اصالة الاباحة ايضا في هذه

٩

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ، كما إذا شك ـ مثلا ـ في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها ، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة ، ومعها لا مجال لاصالة عدم تحققها ، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالاصل أنه كذلك بعده (١).

______________________________________________________

الصورة كما في الصورة الاولى ، إلّا ان الاثر للاصل الموضوعي في هذه الصورة هي حرمة الاكل دون النجاسة.

فانه يقال : ان نفس الخصوصية والقابلية في الحيوان امر بسيط ، والبسيط لا تعدد فيه وانما تعدد الاثر للتذكية ، فان الشارع رتب عليها ، تارة الطهارة والحلية معا ، واخرى رتب عليها الطهارة فقط ، ولما كان نفس الخصوصية لا شك فيها مع بساطتها لفرض العلم بوجودها فلا مجرى للاصل الموضوعي فلا مانع من جريان اصالة الاباحة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((نعم لو علم بقبوله التذكية)) فلا مجرى للاصل الموضوعي في الخصوصية للعلم بوجودها ((و)) حينئذ لو ((شك في الحلية فاصالة الاباحة محكمة)) لعدم وجود الاصل الموضوعي الوارد أو الحاكم عليها في موردها ، ويتمحض الشك في حلية هذا الحيوان مع فرض كونه من المذكى ، فلا مجال لاصالة عدم التذكية لتدرجه في غير المذكى بعد فرض كونه من المذكى ، وتجري اصالة الاباحة بعد عدم الاصل الموضوعي المانع عن جريانها ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فانه حينئذ انما يشك في ان هذا الحيوان المذكى)) هل هو ((حلال او حرام ولا اصل فيه)) على الفرض ((إلّا اصالة الاباحة)) فتجري فيه اصالة الاباحة وتثبت بواسطتها اباحة لحمه ((كسائر ما شك في انه من الحلال او الحرام)) فتأمل.

(١) هذه هي الصورة الثالثة ، وهي ما اذا كان الشك من ناحية وجود المانع الموجب لارتفاع الخصوصية في الحيوان المعدة لأن تؤثر التذكية فيه ، فاذا شك في ان الجلل في الحيوان هل يؤثر في رفع قابليته وخصوصيته ام لا؟ .. فالاصل الجاري فيه هو

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الاصل الموضوعي لكن المثبت لقبول التذكية ، وعليه يترتب الاثر من الطهارة او الحلية ايضا ، ولا مجال لاصالة الاباحة لما مر من ان جريان الاصل الموضوعي سواء كان اثره الحرمة والنجاسة او كان اثره الطهارة والحلية لا مجال معه لجريان اصالة الاباحة ، وفي هذه الصورة الثالثة يجري الاصل الموضوعي ولكنه مثبت لقبول التذكية لا لعدمها كما في الصورة الاولى ، ولا كالصورة الثانية الذي كان لا مجرى فيها للاصل الموضوعي والجاري فيها اصالة الاباحة.

وينبغي ان لا يخفى : ان الشك في كون الجلل مانعا عن الحلية من باب الفرض ، لكون مانعيته عنها من المسلمات وان الجلال مما لا يحل اكل لحمه ، ولكن في طهارته بالذبح بشرائطها مجال للشك.

وعلى كل حال فتوضيح الحال فيه ان الاصل : تارة يجري في بقاء خصوصيته المتيقنة قبل جلله وهو اصل موضوعي باستصحابه تثبت للحيوان المذبوح بشرائطه تحقق الخصوصية حال زهاق الروح ، ويترتب عليها اثرها وهو الطهارة ـ هنا ـ فقط ، وهذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي ، لتحقق نفس الخصوصية والقابلية قبل الجلل ويشك في ارتفاعها بالجلل فتستصحب الى حال الذبح.

واخرى : يكون الاصل الجاري تعليقيا وهو استصحاب طهارة هذا الحيوان بالتذكية قبل الجلل ، بأن يقال : هذا الحيوان كان بحيث يطهر بفري الاوداج وساير الشرائط قبل الجلل ، ويشك في بقائه على تلك الحال بعد الذبح لاحتمال عدمه بالجلل فيستصحب ويترتب عليه اثره.

وفيه أولا : ان هذا الاصل صحته مبنية على القول بصحة جريان الاستصحاب التعليقي.

وثانيا : انه من قبيل المسبب بالنسبة الى الخصوصية التي هي مجرى للاستصحاب بنفسها ، ومع جريان الاصل في السبب لا وجه لجريان الاصل في المسبب ، لأن من آثار بقاء الخصوصية في الحيوان هو طهارة الحيوان المذبوح.

١١

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان ، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا

______________________________________________________

وثالثة : يستصحب نفس طهارة بدنه قبل الجلل ، وهذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي ، ويشك في ارتفاعها عند الذبح لاجل الجلل ، فان الذبح بالنسبة الى الحيوان غير الجلال تأثيره بالنسبة الى حلية الاكل تأثير حدوث ، لوضوح انه لا يجوز اكل الحيوان الحي ، وانما يجوز اكل الحيوان المذبوح بواسطة تأثير الذبح في حدوث الحلية له بعد الذبح ، واما بالنسبة الى طهارة بدنه فالذبح انما يؤثر في بقاء طهارة بدنه بعد زهاق الروح ، فالتذكية بالنسبة الى طهارة بدن الحيوان لا تؤثر احداث الطهارة ، وانما اثرها بالنسبة الى الطهارة هو إبقاؤها واستمرارها ، وليست نفس طهارة بدن الحيوان من آثار الخصوصية ، لوضوح تحقق الطهارة في بعض الحيوان الميت حتف انفه وهو ما لا نفس له.

فاتضح ان استصحاب نفس طهارة بدن الحيوان قبل الجلل استصحاب تنجيزي ، وليس من آثار نفس الخصوصية حتى يكون استصحابه من قبيل السبب والمسبب.

وقد اشار المصنف الى الاستصحاب بالنحو الاول وهو استصحاب نفس الخصوصية بقوله : ((فاصالة قبولها)) أي اصالة قبول الحيوان للتذكية المتيقن لفرض تحقق الخصوصية فيه قبل الجلل ، فاصالة بقاء هذه الخصوصية ((معه)) أي مع الجلل لاحتمال ارتفاعها به ((محكمة ومعها)) أي مع جريان هذا الاصل الموضوعي المثبت لبقاء قبول التذكية ((لا مجال لاصالة عدم تحققها)) أي عدم تحقق التذكية.

واما قوله (قدس‌سره) : ((فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري ... الى آخر الجملة)) فيحتمل ان يكون اشارة الى الاستصحاب التعليقي ، ويحتمل ان يكون اشارة الى الاستصحاب التنجيزي وهو طهارة بدن الحيوان قبل الجلل ، والمراد من قوله : ((يطهر)) هو استمرار بقاء الطهارة.

١٢

شك في طروء ما يمنع عنه ، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

(١) لما فرغ من حال الشك في الحيوان بالنسبة الى الشبهة الحكمية ، اشار الى حال الشك في الحيوان بالنسبة الى الشبهة الموضوعية ، وقد اشار الى صور ثلاث فيها :

الاولى : ان يشك في كون هذا المذبوح هل هو واجد للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه مع تحققها ، ام ليس بواجد لتلك الخصوصية فلا يكون للذبح بسائر شرائطه اثر فيه ، كما لو شك في ان هذا المذبوح هل هو شاة او من المسوخ ككونه قردا او غير ذلك من المسوخات؟

ومن الواضح ان هذا الشك من الشك في الشبهة الموضوعية للعلم بكون لحم الشاة المذبوحة حلالا ولحم القرد المذبوح حراما ، فالشك في حرمة هذا الحيوان وحليته نشأ من الجهل بكونه شاة او قردا.

وقد ظهر مما ذكرنا في الصورة الاولى من الشبهة الحكمية ان اصالة عدم التذكية هنا محكمة ايضا لفرض صدق عدم التذكية عليه في حال الحياة ، فان هذا الحيوان سواء كان شاة او قردا هو من غير المذكى في حال حياته ، ونشك بارتفاع ذلك عنه في حال زهاق روحه بالذبح ، فانه لو كان شاة يكون مرفوعا ، ولو كان قردا لكان باقيا فنستصحب كونه غير مذكى الى حال زهاق روحه بالذبح ويحصل ما هو الموضوع للحرمة ، وهو مركب من امرين زهاق الروح وعدم التذكية ، وقد احرز الاول بالوجدان والثاني بالاصل.

الصورة الثانية : ان يعلم كون الحيوان مما يقبل التذكية ككونه شاة ، ولكن يشك في تذكيته للشك في تحقق ما اعتبر في التذكية ، كما لو شك في انه ذبح او خنق او انه ذبح بالحديد او بغير الحديد ـ بناء على اشتراط الحديدية في آلة الذبح ـ او كون الذابح مسلما او غير مسلم.

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد ظهر مما ذكرنا : ان الحال في هذه الصورة كالحال في الصورة الاولى لصدق عدم التذكية على الشاة حال حياتها فتستصحب الى حال زهاق الروح ويترتب الاثر وهو الحرمة ، وقد اشار الى هاتين الصورتين معا بقوله : ((ومما ذكرنا)) وهو ما ذكره في الصورة الاول من الشبهة الحكمية من اصالة عدم التذكية ((ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان)) كما في صورة تردد المذبوح بين كونه غنما او قردا او في صورة الشك في حلية الشاة المذبوحة للشك في كون الذبح بالحديد او بغيره مثلا ((وان اصالة عدم التذكية محكمة)) في الصورتين لانه في كلتيهما قد شك في تحقق التذكية تارة لاجل الخصوصية واخرى للشك في شرائطها ، ويجمعهما معا كون الشك من ناحية تحقق ما هو معتبر في التذكية ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فيما شك فيها)) أي في التذكية ((لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا)) من الخصوصية ومن شرائط التذكية.

الصورة الثالثة : ان نعلم بكون الجلل مانعا عن قبول التذكية وموجبا لرفع الخصوصية في الحيوان المحلل الاكل ، ولكنه نشك في ان هذا الحيوان المذبوح هل طرأ عليه الجلل المانع ام لا؟ ولا اشكال في هذه الصورة من ان الاصل هو بقاء تلك الخصوصية للعلم بها حال الحياة ، والشك في ارتفاعها بالجلل فنستصحب بقاءها الى حال الذبح ، ويترتب عليها تحقق الحلية بالذبح ، والى هذا اشار بقوله : ((كما أن اصالة قبول التذكية محكمة)) في هذه الصورة وهي ما ((اذا شك في طروء ما يمنع عنه)) أي القبول لها ((فيحكم بها)) أي بالتذكية ((فيما احرز الفري)) للاوداج ((بسائر شرائطها)) وجدانا ((عداه)) أي عدا عدم هذا المانع ، ويرتفع اثر هذا الشك باستصحاب بقاء الخصوصية الى حال الذبح ، فان من آثارها حلية المذبوح وعدم الاعتناء باحتمال هذا المانع.

١٤

الثاني : إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي (١).

______________________________________________________

فتحصل مما ذكرنا جريان الاصل الموضوعي المثبت للحرمة في الصورتين الاوليين وجريان الاصل الموضوعي المثبت في الصورة الثالثة ، فلا مجال لجريان اصالة الاباحة في هذه الصورة كلها ، تارة للاصل المخالف لها واخرى للاصل الموافق حكما لها.

(١) حاصل ما اشار اليه في هذا الامر هو حسن الاحتياط شرعا وعقلا ، وترتب الثواب عليه ، وانه لا استثناء فيه في كل ما احتمل وجوبه او حرمته سواء كان من العبادات او من غيرها.

اما حسن الاحتياط شرعا ، فلورود الامر به في لسان الشارع كثيرا كما مرت الاشارة اليه في ادلة الاخباريين ، والامر به شرعا اما مولوي او ارشادي ، فان كان مولويا فلازمه كونه حسنا ، اذ لا يعقل امر الشارع مولويا بغير ما هو حسن عنده ، وان كان ارشاديا الى حسنه عقلا فارشاد الشارع الى ما هو حسن عند العقل يدل ايضا على امضائه لهذا الحسن العقلي وصحته عنده.

واما حسن الاحتياط عقلا ، فلوضوح ان الطاعة من مصاديق العدل والحسن عند العقل ، ولا ريب ايضا ان اتيان العبد بما يحتمل وجوبه أو حرمته ـ أي ترك ما يحتمل حرمته ـ عند مولاه من مصاديق اطاعة العبد لمولاه ، بل هي عند العقل اكمل الطاعات وافضل مراتب الانقياد ، لان الانقياد لاحتمال امر المولى ابلغ في الاطاعة والالتزام بمراسيم العبودية من الاطاعة لما علم انه مما امر به المولى.

واما ترتب الثواب عليه ، فلوضوح انه بعد ما عرفت انه حسن شرعا وعقلا ، وانه من اكمل الطاعات وافضل الانقيادات لا مناص من استحقاق العبد للثواب على ما هو افضل الطاعات.

١٥

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب ، من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (١).

______________________________________________________

واما عدم الاستثناء وانه حسن مطلقا حتى في العبادات فلما سيأتي من عدم صحة الاشكال على الاحتياط في العبادات وعبارة المتن واضحة ، وقوله فيما اذا احتاط واتى او ترك بداعي احتمال الامر والنهي فانه تفسير للامتثال بعنوان الاحتياط ، فان معنى كون الامتثال امتثالا احتياطيا هو كون المكلف قد اتى وتحرك عن احتمال الامر او ترك لاحتمال النهي.

(١) حاصل الاشكال انه لا يمكن الاحتياط في العبادات ، فما شك بكون الوجوب المحتمل على فرض تحققه عباديا لا يمكن الاحتياط فيه ، لان الاحتياط في العبادة لا يكون إلّا بكون المأتي به عباديا ، وهو لا يعقل ان يتحقق إلّا بقصد القربة.

ولا يخفى ان معنى الامر بالاحتياط في مقام محتمل الوجوب العبادي لازمه اخذ الامر في متعلق الامر ، لبداهة ان قوله ائت بمحتمل الوجوب عبادة : أي أقصد في مقام الاتيان التقرب باتيانه بداعي الامر المحتمل ، وهذا هو المحذور الذي يشير اليه الماتن ، وربما قيل انه هناك محذور آخر في المقام وهو انه من الواضح ، لتوقف قصد القربة على قصد امتثال الامر ، لا يتأتى قصد امتثال الأمر الا بعد العلم بالامر والجزم به ، ومع فرض كون العبادة محتملة لا علم ولا جزم بالامر فلا يتأتي الاحتياط فيها.

ولا يخفى ان الوجوب العبادي المحتمل : تارة يدور امره بين كونه واجبا او مباحا ، والاشكال في هذه الصورة هو في امكان الاحتياط فيه من ناحية لزوم اخذ الامر في الامر ، ومن جهة توقفه على العلم بالامر.

واخرى يدور امره بين كونه واجبا او حراما. وفيه مع الاشكال المذكور انه لا حكم للعقل ولا للشرع بحسن الاحتياط ، بل لا يعقل الاحتياط ، لان الاحتياط

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اتيان ما هو حسن ومحبوب على كل حال ، ومن الواضح ان محتمل الوجوب والحرمة لا يقطع باتيانه انه اتيان ما هو حسن ومحبوب على أي حال اما لحسنه بذاته او لحسنه بعنوان الاحتياط لفرض انه محتمل الحرمة ، ومحتمل الحرمة محتمل القبح والمبغوضية.

فتبين ان الاحتياط انما يكون حسنا حيث يكون مما يقطع بانه لا قبح فيه ولا مبغوضية ، فلا يرى العقل حسن الاتيان بما احتمل كونه مبغوض المولى ، ويلزم تركه لو كان واصلا وان احتمل كونه محبوبا له ايضا ، ويلزم اتيانه لو كان واصلا.

وثالثة : يدور امره بين كونه واجبا او مكروها ، والحال في هذه الصورة هو الحال في صورة الدوران بين الوجوب والاباحة في تمحض الاشكال من ناحية عدم تأتي قصد القربة ، لان احتمال الكراهة مع فرض كونه مرخصا فيه فعلا لا يمنع عن حسن الاحتياط عند العقل ، فيما كان الطرف الآخر هو احتمال لزوم الاتيان بالفعل لو كان واصلا.

وقد اتضح مما ذكرنا : ان اشكال عدم تأتي قصد القربة مطّرد في هذه الصور كلّها.

ورابعة : يدور امره بين كونه واجبا عباديا او مستحبا ، وكذلك في هذه لا اشكال بحسن الاحتياط لانه لم يؤخذ في الاحتياط قصد الامر ، لفرض كونه امرا عباديا مفروغا عنه ، والامر الاحتياطي قد تعلّق بما هو مفروض كونه عبادة ، ولم يتعلّق الامر الاحتياطي باتيانه بداعي الامر ، بل الامر الاحتياطي تعلّق بذات ما هو مفروض كونه عبادة ، ولا اشكال ايضا من جهة عدم العلم والجزم ، لفرض العلم والجزم بوجود الامر إما وجوبيا او استحبابيا ، ولا تحتاج العبادة الى اكثر من قصد الامر المفروض تحققه ، فان الاشكال اما ان يكون من ناحية عدم تأتي قصد الامر لعدم امكان اخذ الامر ، او من جهة عدم تأتي قصد الوجه ، لان مرجع اشتراط العلم والجزم الى اشتراط الاتيان بقصد الوجه ، ولا يتأتي في محتمل الوجوب قصد الوجه.

١٧

وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال ، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا ، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته (١)؟

______________________________________________________

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : ((وربما يشكل)) الحكم بحسن الاحتياط في محتمل الوجوب مطلقا وان كان عباديا ، بانه لا وجه ((في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر)) في العبادة المحتملة ((بين الوجوب وغير الاستحباب)) وهي الصور الثلاث المتقدمة لاطّراد اشكال عدم تأتي قصد القربة فيها ، وان اختصّت الصورة الثانية باشكال آخر ، واما في مقام الدوران بين الوجوب والاستحباب فقد عرفت عدم الاشكال لتأتي قصد القربة قطعا ، وعلى كل فالاشكال فيما عدا هذه الصورة الاخيرة في جريان الاحتياط في العبادة هو ((من جهة ان العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بامر الشارع تفصيلا)) كما لو علم بانه واجب او مستحب بعينه ((او اجمالا)) كما لو علم بانه اما واجب او مستحب ، وفيما لم يعلم بالامر لا تفصيلا ولا اجمالا فلا مجال لحسن الاحتياط لعدم امكانه في العبادات المحتملة كما عرفت.

(١) لا يخفى ان المصنف قد اشار الى وجوه اجيب بها عن هذا الاشكال لا يصح عنده الجواب بها : منها ما اشار اليه بقوله : ((وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي)).

وتقريب هذا الجواب : انه لا اشكال في حسن الاحتياط عند العقل ، وكلما كان حسنا عند العقل كان حسنا عند الشارع ايضا ، للملازمة بين ما يراه العقل وما يراه الشرع ، اما لان الشارع رئيس العقلاء فمرجع ما يرونه الى ما يراه ، أو لان ما ادركه العقل من الحسن الشارع اولى بادراكه منه ، وعلى كل فما يراه العقل حسنا يراه الشارع حسنا ايضا ، وما كان عند الشارع حسنا لا بد من الامر به على طبق حسنه ، لان الحسن عند الشارع علة تامة لامره به ، فأمر المولى معلول للحسن.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فاتضح مما ذكرنا : ان الاحتياط في محتمل الوجوب ممكن لتحقق الامر به قطعا فتتأتى فيه قصد القربة.

واتضح ايضا : ان حسن الاحتياط عقلا هو الكاشف عن الامر به كشفا لميّا وهو كشف العلة عن المعلول ، وقد اشكل المصنف على هذا الجواب باشكالين :

الاول : ما اشار اليه بقوله : ((ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به)) وسيوضحه في اشكاله على الجواب الثاني عن هذا الاشكال ، وبيانه : ان الامر الذي ينفع قصده في وقوع متعلقه عباديا هو الامر المولوي دون الامر الارشادي ، وعلى فرض الالتزام بان ما يراه العقل يراه الشرع فيكون حسنا ايضا عنده ، الّا انه لا يلزم من ذلك الامر به من الشارع مولويا ، بل امره به لا يكون إلّا ارشاديا كامر الشارع بالاطاعة ، لوضوح انه بعد حكم العقل بذلك وجعله للداعي الى اتيانه لا يبقى مجال للامر المولوي الذي لا يكون الابداعي جعل الداعي ، وبعد جعل الداعي من العقل لا مجال لجعل الداعي من الشارع.

فحاصل هذا : انّا لا نسلّم ان الحسن العقلي كاشف عن الامر المولوي المتوقف عليه قصد القربة.

الثاني : ما اشار اليه بقوله : ((بداهة توقفه ... الى آخر الجملة)) وتوضيحه : انه لو سلّمنا كون الحسن العقلي كاشفا عن الامر المولوي لكنه يكون كاشفا في غير المقام ، اما في المقام فلا حكم من العقل بالحسن حتى يكون كاشفا عن الامر ، لوضوح انه يلزم من حكم العقل بحسن الاحتياط في محتمل الوجوب الدور ، لاستلزامه توقف الشيء على نفسه ، لان حسن الاحتياط عند العقل هو حكم من الاحكام المتعلقة بموضوعها ، ومن الواضح ان كل حكم بالنسبة الى موضوعه هو من قبيل العارض بالنسبة الى المعروض ، ومن الجلي توقف العارض على معروضه ، فالحسن بما انه حكم وعارض لموضوعه وهو الاحتياط فهو متوقف على الاحتياط ، فاذا كان الاحتياط ممكنا من قبل ذاته امكن ان يلحقه الحكم عليه بالحسن ، واذا لم

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن الاحتياط ممكنا لا يعقل ان يلحقه الحكم عليه بالحسن ، فحسن الاحتياط موقوف على امكان الاحتياط ، والاحتياط انما يكون ممكنا في المقام حيث يتأتى من المكلف قصد القربة ، وتأتي قصد القربة منه يتوقف على الامر بالاحتياط ، ومن الواضح ان الامر بالاحتياط متوقف على حسن الاحتياط لانه معلول له كما عرفت ، فحسن الاحتياط يتوقف على امكان الاحتياط توقف العارض على معروضه ، وامكان الاحتياط يتوقف على الامر بالاحتياط ، والامر بالاحتياط يتوقف على حسن الاحتياط ، فانتهى الامر بالواسطة الى توقف حسن الاحتياط في المقام على نفسه وهو الدور ، فحسن الاحتياط انما يكون علة للامر في غير المقام ، وهو فيما اذا كان امكان الاحتياط ثابتا بذاته للاحتياط ، ولا يكون متوقفا على الامر به كما في المقام ، والى هذا اشار بقوله : ((وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال)) في المقام ((ولو قيل بكونه)) أي ولو قيل بكون حسن الاحتياط ((موجبا لتعلق الامر به)) أي بالاحتياط ((شرعا)) بنحو ان يكون الامر مولويا ولم نناقش في ان حسن الاحتياط لا يستلزم الامر المولوي كما مر ، لكنه انما يكون موجبا للامر المولوي في غير المقام ، اما في المقام فلا يعقل ذلك لاستلزامه الدور ((بداهة توقفه)) أي توقف حسن الاحتياط ((على ثبوته)) أي على ثبوت الاحتياط لانه عارض على الاحتياط ، ومن الواضح ((توقف العارض على)) ثبوت ((معروضه فكيف يعقل ان يكون)) العارض ((من مبادئ ثبوته)) أي من مبادئ ثبوت معروضه ، فان العارض اذا كان من مبادئ ثبوت معروضه يستلزم الدور ، لوضوح توقف ثبوت العارض على ثبوت معروضه ، فاذا كان ثبوت معروضه متوقفا على ثبوت العارض كان ثبوت العارض متوقفا على ثبوت نفسه.

٢٠