بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

وفيه : انه انّما يتم في مثل اسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا خاصا ، ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت ان الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة اخرى ، كما لا يخفى. فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

(١) هذا الرابع ، لا ينبغي أن يعد من تصويرات الجامع ، فان مقتضاه : هو كون هذه الالفاظ بعد وضعها للصحيح التام اولا صارت حقيقة أيضا في الفاسد بواسطة الاستعمال ، ولا فائدة للقائل بالاعم في هذه الدعوى ، فانها لا تنفعه في التمسك بالاطلاق.

وعلى كل حال فحاصل هذا الرابع : هو ان هذه الالفاظ وضعت للصحيح التام الأجزاء والشرائط اولا ، ثم استعملت في الصحيح الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط بمناسبة اشتراكه معه في التأثير تنزيلا له منزلة الواجد لكل الاجزاء والشرائط للمشاركة في أثر واحد بنحو الحقيقة الادعائية ـ على ما يراه السكاكي في الاستعارة ـ ثم استعملت هذه الالفاظ ايضا في الفاسد على نحو استعمالها في الصحيح الفاقد لاجل المشابهة في الصورة لما هو الصحيح التام ، لا للمشاركة معه في التأثير ، فكما ان المشاركة في التأثير مع فقدان بعض الاجزاء تصحح الاستعمال الادعائي ، كذلك المشابهة في الصورة تصححه ايضا ، ثم لكثرة الاستعمال واستيناس الذهن صارت هذه الالفاظ حقيقة في الصحيح الفاقد ، وفي الفاسد المشابه ، فاذا يصح اطلاق هذه الالفاظ عليها كما يصح اطلاقها على الواجد التام.

وقد اورد عليه الماتن : بان هذا الوضع للتام اولا ، ثم الاستعمال في غيره : من المشارك في الاثر وفي الصورة انّما يتم في مركب معلوم الاجزاء ، كالمعاجين لا في الفاظ العبادات التي الصحيح منها مختلف ، وان كل ما فرضته صحيحا في حالة يكون فاسدا في حالة اخرى.

١٠١

خامسها ـ ان يكون حالها حال اسامي المقادير والاوزان ، مثل المثقال ، والحقّة ، والوزنة ... الى غير ذلك مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة. فان الواضع وان لاحظ مقدارا خاصا ، الّا انه لم يضع له بخصوصه ، بل للاعم منه ، ومن الزائد والناقص ، أو انّه وان خصّ به أولا ، الّا انه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية انهما منه قد صار حقيقة في الاعم ثانيا.

______________________________________________________

وحاصل ما يشير اليه في هذا الجواب : ان الاستعمال في الفاسد اذا كان للمشابهة في الصورة مع التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط لا تكون هذه المشابهة موجودة في جميع افراد الفاسد ، فان كل فرد من افراد الفاسد بحسب اختلاف الحالات يكون مشابها للصحيح في تلك الحال ، لا في الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، واذا لم تكن مشابهة فلا يصح الاستعمال بنحو الادعاء حتى يصير حقيقة بعد كثرته ، ولا ينبغي الايراد عليه بما ذكر ، لانه يمكنه ان يدعي : ان مراتب الحقيقة في الفاسد تندرج مع الصحيح ، فكل فرد من افراد الصحيح غير التام يصير اللفظ حقيقة فيه للاستعمال ، ويكون حقيقة في فاسده لمشابهته له ، ولا يلزمه ان يدعي : ان المشابهة منحصرة مع التام الواجد لجميع الأجزاء والشرائط.

نعم ، ينبغي ان يورد عليه : بأن هذا لا ينفع القائل بالاعم ، لان غاية هذا الادعاء : هو كون هذه الالفاظ يصح استعمالها في الفاسد اما ادعاء ، أو حقيقة بنحو الوضع التعيّني ، وعلى الأول ففي مقام الشك يحمل اللفظ على الصحيح ، لانه هو المعنى الحقيقي ، فلا يصح للاعمي التمسك بالاطلاق ، وعلى الثاني وهو الوضع التعيّني يكون اللفظ مشتركا بين الصحيح والفاسد فيكون مجملا فلا اطلاق.

١٠٢

وفيه : ان الصحيح ـ كما عرفت في الوجه السابق ـ يختلف زيادة ونقيصه ، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعم فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو التصوير الخامس للقائل بالوضع للاعم.

وحاصله : ان الالفاظ الموضوعة للمركبات المحدودة بحدود خاصة ، تارة يوضع اللفظ بازائها بلحاظ حدودها الخاصة على الدقّة بحيث يكون الناقص والزائد خارجا عما وضع له اللفظ ، كلفظ العشرة ، فانه قد وضع اللفظ فيها لهذا الحد الخاص بحيث تكون التسعة والاحدى عشر خارجتين عما وضع له اللفظ ، واخرى لا يلحظ في المركب من الوحدات الحدود على الدّقة ، كما في المقادير ، والاوزان ، فان الواضع للفظ الحقة او الوزنة وان لاحظ مقدارا خاصا الّا انه لم يضع اللفظ لذلك المقدار محافظا على الحدود بدقة ، بل وضعه لما هو الاعم من الزائد والناقص ، ولذا تصدق هذه الالفاظ على ما يزيد عنها بمقدار وعلى ما ينقص عنه بمقدار ، فان وزنة الحنطة ـ مثلا ـ تصدق على ما ينقص عن الوزنة الحقيقية بمقدار مائة حبة ـ مثلا ـ وعلى ما يزيد عليها بذلك المقدار.

اذا عرفت هذا ، فالأمر في الفاظ العبادات كذلك ، فان الواضع وان تصور التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، الّا انه لم يضع اللفظ بازائه ، بل وضعه لما هو الاعم من الزائد والناقص ، لما نرى من صدق الصلاة ـ مثلا ـ على التام وعلى الناقص عنه والزائد عليه ، وهذا حاصل ما افاده في المتن الى قوله : «أو انه».

ولا يخفى ان على هذا التصوير لو تم ينفع القائل بالاعم فيما هو المهم له من التمسك بالاطلاق.

اما على ما افاده بقوله : «أو انه ... الخ» فانه لا ينفع الاعم في ذلك ، لان حاصله : ان الالفاظ وضعت للتام اولا ، ثم استعملت في الاعم من الزائد والناقص كثيرا حتى صارت موضوعة له ايضا بالوضع التعيني ، وان كان الاستعمال مجازا

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالعناية ، او على نحو الحقيقة الادعائية بالتصرف في الامر العقلي بتنزيل الزائد والناقص منزلة التام ، فانه على هذا يكون اللفظ مشتركا بين الصحيح والاعم ، او بين الصحيح والفاسد ، ولا ينفع القائل بالاعم في التمسك بالاطلاق.

واورد عليه الماتن بما حاصله : ان هذا التصوير انّما يتم في مثل المقادير والاوزان الذي يكون التام فيها أمرا معينا معلوما يلحظ عند الوضع ، ثم يوضع اللفظ لما هو الاعم من الزائد عليه والناقص عنه ، ولا يتم هذا في مثل الفاظ العبادات التي صحيحها غير معلوم ولا معين ، ولا له حدود حاصرة ، فانه قد يكون ذا أجزاء كثيرة وقد لا يكون له الّا فعل واحد ، فكيف يلحظ الذي هذا حاله ويكون له نقصان وزيادة وهذا ما اورد الماتن بقوله : «وفيه ان الصحيح ، كما عرفت في الوجه السابق يختلف ... الخ».

ويرد عليه : اولا : ان الامر في الموازين والمقادير ليس كما يدعيه ، بل الالفاظ فيها موضوعة للحد المخصوص التام بشرط عدم الزيادة والنقصان ، ولذا يصح ان يقال : ان هذا المقدار حقة تنقص مائة حبة ، أو حقة ومائة حبة فيما لو زادت ، واطلاق الحقة عليها عند العرف من باب التسامح ، او من باب الخطأ في التطبيق ولا حجة للاطلاق العرفي في امثال ذلك ، فانه يرجع اليه في تشخيص المفاهيم لا في اطلاقها التسامحي ، بل اطلاقها التسامحي دليل المجازية إما في الاسناد ، أو في الكلمة ، ولعله : أي الاول ، وهو المجاز في الاسناد يرجع اليه كثير من موارد الاطلاقات عند العرف التي يقال في مقام الجواب عنها : انها من الخطأ في التطبيق.

وثانيا : بعد التسليم لما ادعي ، انه اخص من المدعى ، لأن اطلاق الفاظ المقادير على الزائد والناقص بعد تسليمه إنّما هو على النقص والزيادة فيما اذا كان مقدارا قليلا ، كما لو زادت الوزنة ، أو نقصت بمقدار قيراط ، أو مثقال ، لا في امثال العبادات التي الناقص منها والزائد كثيرا ما يكون مقدارا كثيرا.

١٠٤

ومنها : ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في الفاظ العبادات عامين ، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا ، لاستلزامه كون استعمالها في الجامع في مثل (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود الدين) و (الصوم جنّة من النار) مجازا ، او منع استعمالها فيه في مثلها ... وكل منهما بعيد الى الغاية ، كما لا يخفى على أولي النهاية (١).

______________________________________________________

(١) ملخص هذا الامر : ان الفاظ العبادات على الصحيح وعلى الأعم موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام ، وليست موضوعة لذوات الافراد بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، لوضوح ان الوضع العام والموضوع له الخاص لا يفارق الاشتراك في النتيجة ، فان الصحيحي يدعي : ان الموضوع له مجمل من ناحية مفهومه ، ولو كان موضوعا بالوضع العام والموضوع له خاص لكان مجملا من ناحية المراد. والقائل بالاعم يدعي الاطلاق في مقام نفي المشكوك ، ولو كان الموضوع له خاصا لكان الواقع في تلو الأوامر دائما فردا خاصا ، لا مفهوما عاما له اطلاق يتمسك به ، بل يكون من المجمل ايضا ، وهو ينافي الثمرة المترتبة على القول بالاعم.

ويلزم ايضا : ما اشار اليه في المتن بقوله : «لاستلزامه ... الخ» وحاصله : انه لو كان الموضوع له في العبادات خاصا لكان استعمال الصلاة ـ مثلا ـ في الجامع الصحيحي بناء على الصحيح من الاستعمال المجازي يحتاج الى عناية ، لان استعمال اللفظ الموضوع لذوات المصاديق في المفهوم العام الجامع لها استعمال في غير ما وضع له ، فلازم دعوى كون الموضوع له خاصا : هو ان قولنا الصلاة تنهى عن الفحشاء ، والصوم جنة من النار من الاستعمال المجازي ، لان اللفظ قد استعمل في المفهوم العام الصادق على كل صلاة صحيحة ، او صوم صحيح ، والالتزام به بعيد جدا ، بل غير صحيح ، لان الاستعمال المجازي يحتاج الى لحاظ علاقة وعناية ، ولا نرى من انفسنا لحاظ علاقة وعناية في هذا الاستعمال. وأبعد من دعوى المجازية في هذا الاستعمال

١٠٥

ومنها : ان ثمرة النزاع اجمال الخطاب على قول الصحيحي ، وعدم جواز الرجوع إلى اطلاقه في رفع ما اذا شك في جزئية شيء للمأمور به وشرطيته اصلا ، لاحتمال دخوله في المسمى ـ كما لا يخفى ـ.

وجواز الرجوع اليه في ذلك على قول الأعمّي في غير ما احتمل دخوله فيه ، مما شك في جزئيته أو شرطيته. نعم ، لا بد في الرجوع اليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان ، كما لا بد منه في الرجوع الى سائر المطلقات (١). وبدونه لا مرجع ايضا ، الّا البراءة ، او الاشتغال على

______________________________________________________

دعوى المنع عن صحة هذه الاستعمالات رأسا ، والى هذا اشار بقوله : «أو منع استعمالها فيه» ، لان هذه الدعوى واضحة البطلان ، لصحة هذه الاستعمالات قطعا. فهي بعيدة جدا ، ولذا قال : وكل منهما : أي من دعوى المجازية والمنع بعيد الى الغاية.

(١) ينبغي بيان مقدمة لتعيين مورد ترتب الثمرة وهي :

ان المتكلم اما ان يقطع انه في مقام بيان تمام مراده ، ولا بد من التمسك بالاطلاق في هذا المقام لنفي المشكوك ، سواء على الصحيح او على الاعم الّا انه على الصحيح الاطلاق مقامي ، وعلى الاعم الاطلاق كلامي ولفظي ، فلا ثمرة بين القولين.

واما ان يقطع انه في مقام الاهمال فلا يتمسك بالاطلاق على القولين ايضا ، وهو واضح ، فلا ثمرة.

وثالثة : لا يحرز أحد الامرين ، بل يشك انه في مقام البيان ام لا؟ ومورد الثمرة هذا المقام ، فان العقلاء حيث بنوا في مقام الشك في البيان بحمل المتكلم بكونه في مقام البيان ، فحيث يكون للفظ مفهوم معلوم يتمسك باطلاقه ، وحيث يكون الكلام مجملا وليس له مفهوم معلوم لا يكون للكلام اطلاق. وقد عرفت : انه على الاعم يكون الموضوع له في هذه الالفاظ امرا معلوما ومفهوما ومبينا.

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اما الاركان ، او معظم الاجزاء ، او ما فيه اقتضاء التأثير فيصح التمسك باطلاقه لنفي المشكوك ، وعلى الصحيح حيث ان الموضوع له فيها هو الصحيح : أي ما فيه فعلية التأثير ، وكلما شك في جزئية شيء او شرطيته في تحقق ما هو الصحيح والمؤثر بالفعل فيكون متعلق الامر مفهوما مجملا ، فلا يصح التمسك باطلاقه.

لا يقال : ان متعلق الامر على الصحيح ، وعلى الاعم لا بد وان يكون هو الصحيح ، إذ المولى لا يطلب الفاسد ، فلا ثمرة.

فانه يقال : انه اذا كان للفظ مفهوم معلوم فان بناء العقلاء وسيرتهم على حمل المتكلم على كونه في مقام بيان ما كان اللفظ ظاهرا فيه. فمورد السيرة العقلائية : هو ان يكون للفظ مفهوم مبين ، ومعنى حملهم للمتكلم على كونه في مقام البيان يرجع الى بنائهم : على ان الظهور اللفظي هو المراد له جدا وواقعا ، ولازم ذلك ان ما كان اللفظ ظاهرا فيه هو الصحيح ، اما اذا كان الصحيح هو الموضوع له اللفظ فانه يكون المفهوم امرا مجملا ، ولا ظهور للكلام في أمر بيّن حتى يكون موردا لحمل العقلاء المتكلم على إرادته جدا ، لظاهر كلامه ، فلا مورد لسيرة العقلاء في مقام الاجمال اللفظي.

فاتضح الفرق ، بين كون الصحيح هو المراد قطعا للآمر على الصحيح وعلى الاعم ، وبين كون الصحيح هو الموضوع له اللفظ ، فانه على الاعم يمكن احراز ان ما عدا المشكوك هو الصحيح المراد ، وهو امر مفهوم مبين ، بخلاف ما اذا كان الصحيح هو الموضوع له ، فانّا وان علمنا : بان المولى يريد الصحيح ، الّا ان ما يريده ليس امرا معلوما مبينا حتى ناخذ به ، فكون الصحيح هو المراد على كل حال ، لا يجعل الكلام مجملا مطلقا على الاعم وعلى الصحيح ، بل انما يكون مجملا حيث يكون الصحيح هو الموضوع له.

اذا عرفت هذه المقدمة ، واتضح مورد الثمرة ، نقول :

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

اختلفت كلماتهم فيها ، فالذي يظهر من الماتن : هو كون الثمرة اجمال الخطاب على الصحيح ، وعدم صحة التمسك بالاطلاق في رفع مشكوك الجزئية والشرطية ، وجواز الرجوع الى الاطلاق على الاعم في نفي المشكوك من الجزئية والشرطية ، في غير الجزء والشرط الذي احتمل دخولهما في المسمى مثلا : لو شك في تحقق معظم الاجزاء لا يرجع الى الاطلاق ، وبعد تحقق المعظم يرجع الى الاطلاق ، وينفي المشكوك به ، بخلافه على الصحيح ، فان ما وضع له اللفظ مفهوم مجمل لا اطلاق له ، لان الصحيح هو الذي وضع له اللفظ ، وهو غير معلوم ولا مبين ، فاذا شك في جزئية شيء فقد شك في تحقق الصحيح لو لم يأت بالمشكوك ، فلا يكون للخطاب اطلاق حتى يتمسك به وبنفي المشكوك.

فالمتحصل مما ذكره الماتن في بيان هذه الثمرة : هو اجمال الخطاب على الصحيح ، وعدم اجماله على الاعم ، ولازم الاول : عدم جواز الرجوع الى الاطلاق ، اذ لا اطلاق مع الاجمال ، ولازم الثاني جواز الرجوع الى الاطلاق ، لكون المفهوم الذي وضع له اللفظ مبينا.

ويمكن ان يناقش في بيان الثمرة بهذا النحو ، وحاصل المناقشة :

ان الرجوع إلى الاطلاق لا يدور مدار اجمال الخطاب وعدمه ، بل يتمسك بالاطلاق على الاعم ، وان كان ما وضع له اللفظ فيه مجملا ، فانه لو قيل : بان هذه الالفاظ موضوعة لما فيه اقتضاء التاثير ، لا فعلية التأثير فان الموضوع له ايضا يكون امرا مجملا ، من حيث المفهوم ، ولا يعرف الّا بكونه له اقتضاء التأثير في النهي عن الفحشاء ، ومعراجية المؤمن ، لا ان الموضوع له هو ما ذكره : من الاركان أو معظم الاجزاء ، أو غير ذلك ، ولكن مع ذلك يمكن التمسك بالاطلاق ، لأن الموضوع له وان كان مجملا من حيث المفهوم ، الّا انه مبيّن من حيث الصدق ، فانا نعلم ان ما نأتي به من هذه الاجزاء التي نعرفها يصدق عليها ما هو الموضوع له لفظ الصلاة ـ مثلا ـ ويتحد معها المفهوم الذي وضعت له ، وان لم نعرف ما هو الموضوع له تفصيلا ،

١٠٨

الخلاف في مسألة دوران الامر بين الأقل والاكثر الارتباطيين. وقد انقدح بذلك : ان الرجوع الى البراءة أو الاشتغال (١) في موارد اجمال الخطاب ،

______________________________________________________

فنتمسك بالاطلاق ، ونقول : امرنا بالصلاة ، وهذه صلاة قطعا ، فلو أراد غير هذه المصاديق لبيّنها ، فما وضع له اللفظ على الاعم وان كان مجملا من حيث المفهوم ، الّا انه مبين من ناحية الصدق ، وهذا كاف في التمسك باطلاقه ، بخلاف ما اذا كان الموضوع له فيها هو الصحيح ، فان الموضوع فيها مجمل من حيث المفهوم ، ومجمل من حيث الصدق لعدم احراز ان ما نأتي به هو صلاة صحيحة لفرض الشك في شيء نحتمل دخوله فيما هو الصلاة الصحيحة ، فلا مجال للتمسك بالاطلاق.

فينبغي ان يكون بيان الثمرة : هو جواز التمسك بالاطلاق على الاعم ، وعدم جوازه على الصحيح ، لا إجمال الخطاب وعدمه.

وينبغي ان يعلم ايضا : ان التمسك بالاطلاق منحصر بالقول بوضعها للاعم ، اما اذا لم نقل به سواء قلنا بالوضع للصحيح ، ام كنا من المتوقفين ، لا يمكننا التمسك بالاطلاق.

(١) قد ذكر بعضهم ثمرة الخلاف بين الصحيح والاعم : وهي الرجوع الى البراءة على الاعم ، والى الاشتغال بناء على الصحيح ، وان قلنا بالرجوع الى البراءة في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، لان الرجوع الى البراءة في الارتباطيين انما هو فيما كان المأمور به نفسه دائرا بين الاقل والاكثر ، وهذا انما يتم على القول بالاعم ، فانه عليه يكون نفس هذه الاجزاء هي المأمور به. واما بناء على الصحيح فالمأمور به امر بسيط يترتب على هذه الافعال ، وهذه الافعال بالنسبة اليه محققات ومحصلات ، فاذا شك في شيء منها لاحتمال دخله في ترتب ما هو المطلوب ، فلا بد من الاتيان به ، لأنه من الشك في محقق المأمور ، لا في المأمور به.

فالثمرة ـ حينئذ ـ : هي الرجوع الى البراءة على الاعم ، على القول بها في الارتباطيين ، فيما لم تحرز مقدمات الاطلاق ، والرجوع الى الاشتغال على الصحيح.

١٠٩

او اهماله على القولين ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع الى البراءة على الاعم ، والاشتغال على الصحيح (١) ، ولذا ذهب المشهور الى البراءة مع ذهابهم الى الصحيح (٢).

وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.

قلت : وان كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى اعطاء درهم في البر ، فيما لو اعطاه لمن صلى ، ولو علم بفساد صلاته ، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم

______________________________________________________

وقد انكر المصنف هذه الثمرة ، وقال : بلزوم الرجوع الى البراءة على كل من القولين الصحيح والاعم ، وليس الصحيح الموضوع له اللفظ بالنسبة الى هذه الافعال نسبة المحصل والمحقق ، بل هو متحد معها في الوجود اتحاد الطبيعي والفرد ، فمورد البراءة في الصحيح نفس هذه الافعال والمركبات ، والصحيح كالاعم في جريان البراءة عند من يقول بجريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين ، والّا فالاشتغال عند من يقول به في تلك المسألة ، وقد مرت المناقشة ـ منّا ـ للماتن في هذه الدعوى عند اشكاله على الشيخ في الجامع التركيبي والبسيط. نعم ، بناء على الجامع المفهومي في الصحيح يكون مجرى البراءة ، فان هذه الافعال والمركبات بنفسها هي الموضوع لها اللفظ.

(١) فانه على الصحيح يكون الخطاب مجملا ، واما على الاعم فانّما يكون مجملا لا اطلاق له في موارد الاهمال كما عرفنا.

(٢) حاصله : ان المشهور ذهبوا الى البراءة في المقام ، وقد صرحوا : بان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح ، وهم في مورد الشك في المحقق والمحصل يقولون بالاشتغال. فحينئذ لا بد وان لا يكون المقام عندهم من الشك في المحصل ، والّا لقالوا في المقام بالاشتغال ، لا البراءة. فيظهر منهم ان الصحيح الموضوع له اللفظ متحد مع هذه الافعال.

١١٠

على الاعم ، وعدم البر على الصحيح (١) ، الّا انه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة ، لما عرفت : من أن ثمرة المسألة الاصولية : هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية. فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) من جملة ما ذكر من الثمرات بين الصحيح والاعم : هي النذر ، وحاصلها : انه لو نذر الناذر ان يعطي من صلى درهما ، فبناء على ان الموضوع له هو الاعم يبر بالنذر فيما لو اعطى الدرهم لمن صلى صلاة فاسدة ، وبناء على انها موضوعة للصحيح لا تبرأ ذمته الّا باعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة.

وقد اورد عليه الشيخ الاعظم : بان النذر يتبع قصد الناذر ، فان كان قد قصد ان يعطي الدرهم لمن صلى ، ولو فاسدا تبرأ ذمته باعطائه له ، وان كان لفظ الصلاة موضوعا للصحيح. غاية الامر : ان في هذه العبارة قد استعمل لفظ الصلاة في الاعم استعمالا مجازيا. وان قصد اعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا فلا تبرأ ذمته الّا باعطائه لمن صلى صحيحا ، وان كان لفظ الصلاة موضوعا للاعم.

نعم ، لا يكون الاستعمال بناء على الاعم مجازا ، فان استعمال اللفظ الموضوع للعام في احد افراده من باب كونه مصداقا له لا يكون من الاستعمال المجازي.

ويرد عليه : ان مرادهم : هو ان الناذر قد نذر ان يعطي الدرهم لمن أتى بمسمى الصلاة ، فان كان مسمى الصلاة هو الاعم تبرأ ذمته باعطائه من صلى فاسدا ، وان كان مسمى الصلاة هو الصحيح فلا تبرأ ذمته الّا باعطاء من صلى صحيحا ، ولا يكون للناذر قصد بنفسه ، ولا نظرة لا الى الصحيح ولا الى الاعم ، بل يكون قصده الاتيان بأحد المسمى لهذا اللفظ.

(٢) حاصله : انه لا ينبغي ان يكون النذر ثمرة لهذه المسألة ، ولا لسائر المسائل الاصولية ، فان ثمرة المسألة الاصولية هي ما وقعت نتيجتها في طريق الاستنباط ، ومعنى وقوعها في طريق الاستنباط : هي ان تكون نتيجتها كبرى للقياس الذي ينتج الحكم الشرعي ، مثلا : البحث عن مقدمة الواجب ، فان نتيجته هي الملازمة بين وجوب

١١١

وكيف كان ، فقد استدل للصحيحي بوجوه :

أحدها : التبادر ، ودعوى : ان المنسبق الى الاذهان منها هو الصحيح ، ولا منافاة بين دعوى ذلك ، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات ،

______________________________________________________

الشيء ووجوب مقدمته : أي كون مقدمة الواجب بحكم الملازمة واجبة ، فيقال : هذه مقدمة واجب ، وكلما كان مقدمة لواجب ، فهو واجب بحكم الملازمة ، فهذه المقدمة تكون واجبة ، ومثل حجية الخبر ، فان المسألة الاصولية تثبت حجية خبر الواحد ، فيقال : صلاة الجمعة مما قام الخبر على وجوبها ، وكل ما قام الخبر على وجوبه فهو واجب ، فصلاة الجمعة واجبة.

اما اذا كانت نتيجة المسألة الاصولية هو تنقيح الصغرى واثباتها ، لا الكبرى ، فلا تكون نتيجتها استنباطية ، بل تكون نتيجة تطبيقية ـ كما في المقام فان نتيجة كون الوضع للصحيح أو للاعم ينقح الصغرى للكبرى المبرهن عليها في الفقه ، وهي وجوب براءة ذمة الناذر بوجود مصداقه ، ومتعلقه ، فيقال : ان الاعم هو المصداق لنذر الناذر ، وكلما كان مصداقا لنذر الناذر تبرأ ذمة الناذر باعطائه ، ومثل هذه النتيجة تطبيقية ، لأنها تحرز المصداق للكلية المستنبط حكمها في الفقه ، فلم يحصل بها الّا تطبيق الحكم المستنبط على مصداقه ، ونتيجة المسألة الاصولية ، لا بد وان تكون هي السبب في استنباط الحكم ، لا محققة للموضوع الذي كان حكمه مستنبطا ، كما في مسألة الملازمة ، ومسألة حجيّة الخبر ، فان كلا من صلاة الجمعة ، والسفر الى الحج لم يكن لهما حكم مستنبط ، بل استنبط حكمهما بواسطة الملازمة ، وبواسطة حجيّة الخبر.

وبعبارة اخرى : ان المسائل الاصولية : هي التي يستنبط الحكم بواسطتها ، فهي الاصل لاستنباط الحكم ، لا ان تكون ثمرتها تحقيق الموضوع الذي قد استنبط حكمه ، ومسألة النذر من الثاني ، لا من الاول ، فلا ينبغي أن يكون تحقيق موضوع النذر من ثمرات المسائل الاصولية.

١١٢

فان المنافاة انما تكون فيما اذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه. وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه (١).

______________________________________________________

(١) استدل القائل بوضع هذه الالفاظ للصحيح بالتبادر : بان التبادر من هذه الالفاظ عند اطلاقها هو الصحيح ، والتبادر علامة الحقيقة.

وقد اورد عليه : بان الصحيحي معترف باجمال الموضوع له في هذه الالفاظ ، ومع الاعتراف بالاجمال ، وان الموضوع له مفهوم غير متضح ، كيف يدعي التبادر ، فان التبادر لازمه دلالة اللفظ عند الاطلاق على معنى معين.

وقد أجاب عنه المصنف : بانه لا يلزم في التبادر الى المعنى الموضوع له اللفظ ان يكون الموضوع له امرا مبينا من جميع الوجوه ، بل يكفي في التبادر تعيين المعنى وتشخيصه ، ولو بوجه من وجوهه ، مثلا : بعد العلم بان الصحيح ما تترتب عليه معراجية المؤمن ، والنهي عن الفحشاء ، وبالفعل نطلق اللفظ فيتبادر منه مفهوم وجهه وعنوانه انه معراج المؤمن ، وناه عن الفحشاء.

وبعبارة اخرى : انا لا ندعي ان المتبادر من هذه الالفاظ مفهوم مبين من كل وجه ومعلوم بنفسه وبشخصه ، بل المتبادر منها مفهوم مبين بوجه من وجوهه وهو انه به تحصل معراجية المؤمن ، والنهي عن الفحشاء ، فلا يضر الاجمال في دعوى التبادر وقد اشار المصنف الى هذا الايراد وجوابه بقوله : «ولا منافاة بين دعوى ذلك» أي التبادر «وبين كون الالفاظ ... الخ».

نعم ، لو لم تكن هذه الالفاظ مبينة اصلا ، ولا بوجه من الوجوه لما صح دعوى التبادر ، إلّا أنّك عرفت انها مبينة بوجوه كثيرة ، ككونها معراج المؤمن ، وقربان كل تقي ... ، وغير ذلك من وجوهها. هذا ، ولكن لا تخلو دعوى التبادر في اثبات ان هذه الالفاظ موضوعة للصحيح عند الشارع من شيء ، لأن المدعى : وهو كون الالفاظ موضوعة عند الشارع للصحيح ، فلا بد وان تكون متبادرة كذلك عند الشارع. واما تبادر غير الشارع للمعنى الصحيح منها فهو يدل على انها كذلك عنده ، لا عند

١١٣

ثانيها : صحة السلب عن الفاسد بسبب الاخلال ببعض اجزائه ، او شرائطه بالمداقة ، وان صح الاطلاق عليه بالعناية (١).

______________________________________________________

الشارع ولا يثبت تبادر الشارع لنا الّا بنقل استعمالاته في مقام التبادر ، وليس فيما بايدينا نقل يتكفل استعمال الشارع في مقام التبادر ، بل لا يعقل ان يكون للشارع نفسه استعمال تبادري ، لأن الاستعمال التبادري انما يكون للشاك فيما وضع له اللفظ ، والشارع هو الواضع ، فلا يكون شاكا فيما وضع له. واما تبادر غير الشارع فهو يثبت الحقيقة عند غير الشارع ، ولعل هذه الالفاظ قد حصل لها وضع عند غير الشارع في الصحيح لكثرة استعمالها فيه عندهم. وعلى كل ، فاثبات انها موضوعة عند الشارع للصحيح بواسطة تبادرنا اثبات للمعلول بغير علته.

لا يقال : ان مدعي التبادر يدعي تحققه في كل زمان الى القهقرى حتى نصل الى زمان الشارع نفسه ، وفي زمانه يكون تبادر اصحابه وملازميه المتلقين لمعاني هذه الالفاظ منه دليل على كونها موضوعة للصحيح عنده.

فانه يقال : نعم ، لو ثبتت هذه الدعوى زمانا بعد زمان ، وانها في كل زمان لم يحصل لها وضع تعيني بسبب كثرة الاستعمال لثبت المطلوب ، إلّا انه أنى لهم باثبات ذلك.

(١) صحة السلب التي تنفع الصحيحي وتثبت ان اللفظ ليس موضوعا للاعم هي صحة الحمل بالشائع عن الفرد الفاسد ، فان هذه الالفاظ لو كانت موضوعة للاعم لما صح سلبها بالحمل الشائع عن الفرد الفاسد ، لوضوح ان ما وضع للاعم لا يصح سلبه عن بعض مصاديقه وافراده ، فاذا صح سلب الالفاظ عن الفرد الفاسد دلت هذه الصحة على ان اللفظ لم يوضع لمعنى عام يصدق على هذا الفرد صدقا شايعا ، والّا لما صح سلبه بالحمل الاولى عن كل فرد من افراده ، لوضوح ان المفهوم الذي وضع له ليس هو الفرد.

١١٤

ثالثها : الاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار للمسميات ، مثل (الصلاة عمود الدين) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جنة من النار) .... الى غير ذلك. أو نفي ماهيتها وطبائعها ، مثل (لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب) ونحوه ، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا ، وارادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى ، ونفي الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر لا يصار اليه ، مع عدم نصب قرينة عليه (١) ، بل واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى

______________________________________________________

نعم ، صحة الحمل بالحمل الاولي على الصحيح دليل على الوضع له ، وانما لم يدعيها الماتن لأنها لا تنفعه الّا جدلا ، لأن صحة الحمل بالحمل الاولي لا تنافي دعوى صحة الحمل الاولي على الاعم ، لجواز كون اللفظ مشتركا بين الخاص والعام ، وهذا الاشتراك وان كان لا ينفع المدعي للاعم ، لعدم تحقق الثمرة ، وهو التمسك بالاطلاق ، فان ثبوت الاشتراك يوجب الاجمال من ناحية المفهوم لا غير ، إلّا انه هناك اجمالان : اجمال من ناحية المفهوم على الصحيح ، واجمال من ناحية المراد للاشتراك بين الخاص والعام ، ولعله لذلك سلك ما ينفع الصحيحي من السلب عن الفرد الفاسد بحسب الحمل الشائع ـ كما ذكرنا ـ.

إلّا انه لا يخفى انه يرد على هذه الدعوى عين المناقشة ـ التي تقدمت ـ في دعوى التبادر : من ان صحة هذا السلب ، هل هي عندنا او عند الشارع ، والنافع لمدعي الصحيح هي الثانية ، ويستحيل عادة اثباتها ، والاولى تدل على كون هذه الالفاظ حقيقة في الصحيح عندنا لا عند الشارع الى آخر ما تقدم بيانه.

(١) الاخبار التي ذكرها الماتن طائفتان.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الطائفة الاولى : هي التي دلت على اثبات آثار الصلاة ، كقوله عليه‌السلام : الصلاة عمود الدين ، ومعراج المؤمن ، والصوم جنة من النار (١) وامثال هذه الاخبار.

وكيفية الاستدلال بهذه الطائفة : ان الظاهر منها ان الآثار المذكورة هي آثار لطبيعة الصلاة على نحو الاطلاق والسريان لكل افراد الصلاة ، لا انها آثار طبيعة الصلاة على نحو القضية المهملة ، فحينئذ ، نقول : ان كانت الصلاة موضوعة لما له هذه الآثار ، ثبت ان الموضوع له فيها هو الصحيح فانه هو الذي تترتب عليه هذه الآثار دون الاعم ، وإلّا : أي واذا لم تكن الصلاة موضوعة لذي الاثر ، بل كانت موضوعة للاعم لزم اما استعمال الصلاة في المقام في خصوص ما له الاثر وهو الصحيح مجازا ، وهو خلاف الظاهر ، فان المجاز يحتاج الى لحاظ العلاقة ، ولا نرى لحاظ علاقة في المقام ، أو أن هذه الالفاظ مستعملة في الاعم ، ولكن الآثار ثابتة بنحو القضية المهملة ، لا السريان والاطلاق ، وقد عرفت انها خلاف الظاهر ، وانها ظاهرة في ان هذه الآثار ثابتة بنحو الاطلاق لكل ما هو صلاة ، أو ان هذه الالفاظ مستعملة في الاعم ، ووصف الصحة مستفاد من دال آخر ، وليس في المقام وصف الصحة ، ولا دال قد دل عليه. فاذا انتفت هذه الامور الثلاثة بقي الأول : وهي كونها موضوعة لخصوص الصحيح.

ويرد على هذا الاستدلال : اولا : انه لم يدل على اكثر من ان لهذه الاستعمالات ظهورا في ان المراد من الفاظها هو الصحيح ، والظهور عند العقلاء حجة في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الاستدلال ، إلّا ان نقول بمقالة علم الهدى : ان الاستعمال علامة الحقيقة ، ولكن التحقيق : ان الاستعمال اعم من الحقيقة والمجاز.

وبعبارة اخرى : ان اصالة الحقيقة التي هي من الاصول العقلائية انما هي في مقام الشك في المراد ، لا في الاستعمال ، ولا ريب ان المراد في المقام معلوم ، وهو الصحيح ،

__________________

(١) الكافي ج ٤ : ٦٢ / ١ باب ما جاء في فصل الصوم والصائم من كتاب الصيام.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والشك في الاستعمال ، فلا مجرى لاصالة الحقيقة. مضافا الى امكان دعوى وجود القرينة على الاستعمال في الصحيح ، وهو هذه الآثار ، فان الأعمّي لو ادعى : أن هذه الآثار قرينة على الاستعمال المجازي في الصحيح لم تكن جزافا.

وثانيا : ان الاستدلال بعد تسليمه انما يدل على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو خصوص الصحيح ، حيث يكون الظاهر من هذه الاخبار ترتب هذه الآثار على المسميات بالفعل ، فان الترتب الفعلي يلازم الصحيح ، اما لو كان الظاهر من هذه الاخبار اثبات هذه الآثار للمسميات بنحو الاقتضاء ، لا الفعلية ، فلا يدل على ان المسمى بهذه الالفاظ هو الصحيح ، بل لعله يكون دليلا على الاعم. فاذا كان المتحصل من هذه الأخبار أن المقتضي لهذه الآثار هو هذه المسميات ، لا ان المسميات هي العلة التامة لهذه الآثار ، كما انه ليس ببعيد دعوى : ان القضايا التي تدل على آثار الاشياء انما تدل على ثبوتها لها بنحو الاقتضاء ، لا الفعلية ، كقولك : السنا مسهل ، والنار محرقة ، فانها تدل على أن السنا مقتض للاسهال ، والنار مقتضية للاحراق ، فهي لبيان ان للسنا اقتصاء للاسهال ، وللنار اقتضاء للاحراق ، لا انها علة تامة بالفعل لهذه الآثار ، والامر في هذه الاخبار جار على هذا النحو ، فلا دلالة لها على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح ، اذا لم تدل على ان الموضوع له فيها هو الاعم.

الطائفة الثانية : الاخبار التي دلت على نفي طبيعة الصلاة بنفي بعض اجزائها ، كقوله عليه‌السلام : (لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب) (١) .. وامثال هذه الاخبار الدالة على نفي طبيعة المسمى بهذه الالفاظ بمجرد عدم جزء من أجزاء هذا المركب ، فانها تدل على ان المسمى بهذه الالفاظ هو هذا المركب الذي ينتفي بانتفاء احد اجزائه ، ولا شبهة انه

__________________

(١) مستدرك الوسائل المجلد الاول : ٢٧٤ / ٥ باب ١ من أبواب القراءة.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

هو الصحيح ، فان الاعم لا تنتفي الطبيعة فيه بانتفاء احد هذه الاجزاء كالفاتحة وامثالها.

وتوضيح الاستدلال بهذه الطائفة من الاخبار على ان الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح : ان الظاهر من هذه التراكيب ان المنفي بها هو الطبيعة المسماة بهذا اللفظ ، فالمستفاد منها نفي الحقيقة ، وان الخبر المقدر فيها هو موجود ، لا وصف الصحة ، ولا وصف الكمال.

فالتقدير : انه لا صلاة موجودة الّا بفاتحة الكتاب ، ولازمه انتفاء وجود الصلاة مع عدم الفاتحة.

فظاهر هذه القضية : انه ليس هناك قيد آخر منفي غير نفي الطبيعة وحدها ، فهنا ظهورات : ظهور هذه التراكيب في نفي الحقيقة ، وكون الحقيقة المنفية هي مسماة اللفظ ، وكون الخبر المحذوف هو موجود.

فان قلنا : ان الموضوع له فيها هو الصحيح سلمت هذه الظهورات من التصرف فيها ، ولو كان الموضوع له فيها هو الاعم لزم التصرف ، اما في استعمال اللفظ في الصحيح مجازا ، وهو خلاف الظاهر ، أو أن المقدر المحذوف هو لفظ صحيح ، فيكون اللفظ دالا على الاعم ، والقيد مستفاد من الخبر. وهذا ايضا خلاف الظاهر ، أو ان المنفي هو كمال الطبيعة ، لانفسها ، وهذا ايضا خلاف الظاهر ، فمع المحافظة على هذه الظهورات تكون النتيجة : ان الموضوع له اللفظ هو الصحيح ، لا الاعم.

ويرد على هذا الاستدلال :

اولا : ان غايته هو كون الصلاة في مثل هذه التراكيب مستعملة في الصحيح ، والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، فان اصالة الحقيقة المتبعة عند العقلاء ، انما هي في مقام الشك في المراد ، لا الاستعمال ، مضافا الى وجود القرينة على الاستعمال في الصحيح ، وهو هذا النفي المستعمل لنفي الحقيقة ، ولا تكون الحقيقة منفية الّا بان يراد من اللفظ الموضوع للاعم هو الفرد الصحيح.

١١٨

في مثل (لا صلاة لجار المسجد الّا في المسجد) مما يعلم أن المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية ، لا على الحقيقة ، والّا لما دل على المبالغة. فافهم (١).

______________________________________________________

وثانيا : ان هذا الاستدلال لو تم لدل على ان الموضوع له لفظ الصلاة هو المرتبة العليا الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، وهو اخص من المدعى ، فان المدعى : كون الصلاة موضوعة للصحيح ، لا لخصوص المرتبة العليا ، بل مناف لغرض الصحيحي : من دعوى الاجمال فيما هو الموضوع له. مضافا الى ان هذا الاستدلال بهذه الطائفة ، لو تم لدل على ان استعمال الصلاة الصحيحة في فاقدة بعض الاجزاء مجاز ، كما ربما يكون الفاقد لبعض الاجزاء ، بل لجملة منها مهمة صحيحا ايضا.

فينبغي ان يكون لفظ الصلاة قد استعمل فيه مجازا ، ولعله اشار الى جملة هذه المناقشات بقوله : «فافهم» ، وان كان قد اشار الى بعضها صريحا بحاشيته على قوله : فافهم.

(١) هذا جواب عما ربما يقال : من ان استعمال هذه التراكيب في نفي الصفة ، لا في نفي الحقيقة شايع مستعمل ووارد حتى في لسان الشارع ، كما في مثل قوله : «لا صلاة لجار المسجد الّا في المسجد» (١) فانه من المعلوم ان المنفي في مثلها هو صفة الكمال ، لا الحقيقة ، والّا لكانت الصلاة في غير المسجد ممن جاره المسجد باطلة ، ولا يلتزم ببطلان الصلاة احد ، واذا لم تكن هذه التراكيب دالة على نفي الحقيقة لا يتم الاستدلال بها على كون الموضوع له فيها هو الصحيح ، لأن من مقدماته كون هذه التراكيب لنفي الحقيقة.

فاشار المصنف الى الجواب عن هذا بما حاصله : ان الاستعمال في امثال التركيب المذكور ايضا لنفي الحقيقة لا لنفي الصفة ، غايته بعد قيام الدليل على صحة الصلاة

__________________

(١) الوسائل ج ٣ : ٤٧٨ / ١ باب ٢ من أبواب أحكام المساجد.

١١٩

رابعها : دعوى القطع : بأن طريقة الواضعين ، وديدنهم وضع الالفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية اليه. والحاجة وان دعت احيانا ـ الى استعمالها في الناقص أيضا ، إلّا انه لا يقتضي ان يكون بنحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.

والظاهر ان الشارع غير متخط عن هذه الطريقة. ولا يخفى ان هذه الدعوى وان كانت غير بعيدة الّا انها قابلة للمنع ، فتأمل (١).

______________________________________________________

في غير المسجد يكون قرينة على انه لم يرد نفي الحقيقة حقيقة وواقعا ، بل اريد نفي الحقيقة ادعاء ، والدليل على ان المراد نفي الحقيقة ادعاء : انه بعد قيام الدليل على صحة الصلاة تكون هذه التراكيب مما يستفاد منها المبالغة ، ولو كانت مستعملة في نفي الصفة ، لا نفي الحقيقة لما دلت على المبالغة ، فدلالتها على المبالغة دليل على ان المراد نفي الحقيقة لكن ادعاء ، لا حقيقة حتى تكون دالة على المبالغة.

(١) هذا هو الدليل الرابع على كون الموضوع له في هذه الالفاظ هو الصحيح ، لا الاعم.

وحاصله : انا استقرينا طريقة العقلاء فيما كان لهم مركب ذو أثر ، فان طريقتهم على وضع اللفظ للمركب التام المؤثر ، وهو الصحيح ، والشارع رئيس العقلاء ، فلا يتخطى طريقتهم في وضع الالفاظ لهذه المركبات المخترعة له ، فلا بد وان يكون قد وضع اللفظ لخصوص الصحيح فيها وانما كانت طريقة العقلاء في مركباتهم ذات الاثر تدعو إلى الوضع للصحيح ، لأن حاجتهم الغالبة هي ارادة المؤثر ، وهو الذي يحتاجون إلى افهامه والدلالة عليه ، وهذه الحاجة هي التي تدعوهم للوضع للصحيح المؤثر ، فاتباع الحكمة في اعمال العقلاء تدعو إلى وضع الالفاظ في المركبات لخصوص المؤثر التام الصحيح ، وهم وان احتاجوا في بعض الاحيان إلى استعمالها في الناقص وغير المؤثر ، إلّا انها حاجة غير غالبة ، والحكمة تدعو الى الوضع الى ما فيه الحاجة الغالبة.

١٢٠