بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ والمجاز الراجح : وهذا كالمجاز المتعارف بالنسبة الى المعنى الحقيقي فان المعنى الحقيقي ارجح منه ، إلّا انه يختص بكونه ارجح من بقية المجازات الأخر ، كاستعمال الاسد في الرجل الشجاع ، فانه ارجح من استعماله في الأبخر او في بعض الحيوانات المقاربة للاسد في الفتك او الشجاعة.

ـ والمجاز المشهور : وهو الذي يكثر استعماله حتى يكون اكثر من المعنى الحقيقي ، وهذا هو الذي وقع الخلاف فيه ، فذهب بعض الى تقديمه على المعنى الحقيقي ، وذهب بعض الى التوقف فيه فلا يقدمونه على الحقيقي ولا يقدمون المعنى الحقيقي ، وهو الذي ينبغي ان يكون مراد صاحب المعالم ، فان الظاهر من كلامه ان كثرة استعمال الصيغة في الندب في لسان الشارع اوجب التوقف في حمل كلام الشارع على الوجوب ، وان كانت الصيغة في نفسها موضوعة للوجوب.

الثاني : من الاجوبة ما أشار اليه في قوله : «مع ان الاستعمال».

وحاصل هذا الجواب : هو ان الوضع التعيني الحاصل بسبب الاستعمال لا يعقل ان يتحقق ، وهذا اشكال يذكر في الوضع التعيني ، فان الوضع التعيني معناه حصول العلقة بين اللفظ والمعنى بسبب كثرة الاستعمال ، واذا لم يكن اللفظ موضوعا بالوضع التعييني فلا بد وان يكون الاستعمال في المعنى غير الموضوع له مع القرينة ، ومتى كان الاستعمال مع القرينة لا يحصل بين اللفظ المجرد والمعنى علقة ، لأن الاستيناس الحاصل بين اللفظ والمعنى انما حصل بين اللفظ المصحوب بالقرينة ، لا بين نفس اللفظ غير المصحوب بالقرينة والمعنى ، والى هذا اشار بقوله : «مع ان الاستعمال وان كثر فيه الّا انه كان مع القرينة المصحوبة» ولم يكن بين نفس اللفظ المجرد والمعنى.

ومن هنا اتضح : ان هذا الاشكال كما يمنع الوضع التعيني كذلك يمنع من حصول المجاز المشهور الذي وقع الخلاف في كونه يقدم على المعنى الحقيقي او يتوقف فيه ، فانه اذا كان الاستعمال مع القرينة المصحوبة لا يكون الاستعمال في المعنى

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

المجازي وان كان اكثر من المعنى الحقيقي موجبا لكون المجاز مشهورا ، دون المجاز المشهور الذي يقدم على المعنى الحقيقي او يتوقف فيه هو المجاز الذي لا يكون مصاحبا للقرينة ، بل تكون القرينة فيه محذوفة يعتمد عليها المتكلم لشيوعها ، فهذا هو المجاز المشهور الذي وقع الخلاف فيه ، واما المجاز الذي يكثر استعماله على المعنى الحقيقي ولكن مع القرينة المصحوبة فليس هو المجاز المشهور الذي وقع الخلاف فيه ، والى هذا اشار المصنف بقوله : «وكثرة الاستعمال كذلك» : أي مع القرينة المصحوبة «في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا الخ».

الثالث : من الاجوبة ما أشار اليه بقوله : «وقد كثر ... الخ» وحاصل هذا الجواب الثالث هو النقض بكثرة استعمال العام في الخصوص ، فان العام بعد تخصيصه لا بد وان يكون مستعملا في الخاص ، واستعمال العام في الخاص من المجاز ، وتخصيص العمومات كثيرة حتى قيل : انه ما من عام الّا وقد خص ، ولم يتوقف صاحب المعالم ولا غيره في حمل العام على عمومه قبل انكشاف التخصيص وظهور القرينة الدالة على تخصيصه اللازم منها استعماله في الخاص ، فلا بد وان يكون كثرة الاستعمال في غير المعنى الموضوع له مع القرينة لا توجب نقلا ولا مجازا مشهورا يكون موضع الخلاف في تقديمه او التوقف فيه ، وهذا الجواب الثالث من المصنف الزامي لصاحب المعالم القائل : بان العام بعد تخصيصه يكون مستعملا في الخاص مجازا.

واما على مذهب المصنف الموافق لقول سلطان العلماء في ان العام بعد تخصيصه لا يكون مستعملا في الخاص ، بل هو باق على عمومه لأن التخصيص لا يمس الارادة الاستعمالية ، بل هو راجع الى تضييق الارادة اللبية فلا يكون هناك استعمال للعام في الخاص ، فلا مجازية ولا نقل ، لأن المجازية والنقل لا بد فيهما من استعمال اللفظ في غير الموضوع له ، واذا كان التخصيص راجعا الى الارادة اللبية دون الاستعمال لا يكون استعمالا للعام في الخاص ، فلا يرد هذا النقض وانما يرد على مذاق المشهور فهو الزامي.

٣٦٢

المبحث الثالث : هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل يغتسل ، ويتوضأ ، ويعيد ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها ، وليس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار ، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها الظاهر الاول ، بل تكون أظهر من الصيغة (١) ، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية

______________________________________________________

(١) عنون المصنف هذا المبحث اولا على نحو ما عنونه القوم ، وظاهر عنوانهم ان الجملة الخبرية التي اريد بها الطلب هي مستعملة في الطلب ، ولذا قال : الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ، فيظهر منهم ان الطلب مدلول للجملة الخبرية بالدلالة المطابقية.

وبعد تطابقهم على هذا اختلفوا في ان المعنى المطابقي لها هل هو الوجوب وانها ظاهرة فيه كظهور صيغة الامر في خصوص الطلب الوجوبي؟

أو انها لا ظهور لها في الطلب الوجوبي لانها لم تستعمل في معناها الحقيقي قطعا وانما هي مستعملة مجازا في غير معناها الموضوعة له فلا يتعين الوجوب لتعدد المجازات ، فانه كما يحتمل الوجوب كذلك يحتمل الندب ويحتمل ايضا الرجحان الجامع بين الوجوب والندب ، فلا تعين لخصوص الوجوب الّا بمعين خاص وقرينة تدل عليه ، والمفروض ان الكلام خال عن القرينة المعينة للوجوب ، فالقدر المتيقن هو عدم استعمالها في معناها الحقيقي وهو الاخبار والاعلام بثبوت النسبة خارجا والحكاية عن تحققها ووقوعها ، وانما هي مستعملة في الطلب ولكن لا يتعين الوجوب بخصوصه لتعدد الاحتمالات المجازية.

وقد وافق المصنف مدعى ظهورها في الطلب الوجوبي ، فقال : «الظاهر الاول بل تكون» في دلالتها على الوجوب «اظهر من الصيغة» في دلالتها عليه ، وليس ظهورها فيه لكونها مستعملة فيه مجازا وانه اقرب المجازات ، بل هي ظاهرة فيه مع انها مستعملة في معناها ، وهذا هو السبب في كونها اظهر من الصيغة في الدلالة على

٣٦٣

الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلا أنه ليس بداعي الاعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه ، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الانشائية ، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواع أخر ، كما مر (١).

______________________________________________________

الطلب الالزامي ، لأنها من الكناية التي هي ابلغ من التصريح وكدعوى الشيء ببينة ، واستدل على هذا بقوله : «ولكنه لا يخفى ... الى آخره».

(١) لا يخفى ان المصنف في هذا الكلام يريد التنبيه على خطأ القوم فيما تطابقوا عليه وهو : ان الجمل الخبرية في مقام دلالتها على الطلب قد استعملت مجازا في الطلب وتكون دلالتها عليه بالمطابقة ، بل الجمل الخبرية الدالة على الطلب لم تستعمل الا في معناها الموضوعة له وهو ثبوت النسبة في الخارج والحكاية عنه.

غاية الامر : ان الداعي لهذا الاستعمال ليس هو قصد الاعلام بثبوت النسبة في الخارج ، بل الغرض منه هو الطلب وارادة ايجاده ، فهي تدل على الطلب بالالتزام لا بالمطابقة ، ولازم هذا ان لا يكون هناك استعمال مجازي ، لأن الجملة مستعملة في معناها الحقيقي ، غايته ان الجملة الخبرية ـ المستعملة في غير مقام الطلب ـ تستعمل في الدلالة على ثبوت النسبة في الخارج بقصد الاعلام عن تحققها وثبوتها ، وفي مقام الطلب ـ ايضا ـ تستعمل في معناها لكن لا بقصد الاعلام والاخبار عن ثبوت النسبة ، بل بقصد الطلب والتحريك لايجادها ، فهي على هذا تدل على الطلب بالالتزام لا بالمطابقة ، فان الجملة الخبرية في مقام الطلب تستعمل في الحكاية عن ثبوت النسبة خارجا ، فان الامام عليه‌السلام يقول ـ مثلا ـ : الجنب يغتسل ، فهو يخبر عن وقوع الغسل من الجنب في الخارج ، وانما يكون الغسل مفروضا له التحقق حيث يكون مطلوبا بحيث يكون لا بد من وقوعه ، وانما يكون لا بد من وقوعه حيث يكون الطلب الزاميا ،

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فاذا الجملة الخبرية مستعملة في معناها لكن لا بداعي الاخبار والاعلام عن تحقق متعلقها ، بل بداعي سبب مفروغية التحقق الذي اخبر عنه بهذه الجملة هو الطلب الذي يكون التحقق والثبوت لا ينفك عنه ، وليس هذا الّا الطلب الالزامي الذي لا يرضى المولى بتركه ، ولو كان مما يرضى بتركه لما كان التحقق والثبوت مما لا ينفك عن الطلب.

فحينئذ تكون الجملة الخبرية المقصود بها الطلب اظهر في الدلالة على الوجوب والالزام من صيغة الامر ، لأنها بنحو الكناية ، والكناية ابلغ من التصريح ، لأنها كدعوى الشيء ببيّنة فانها اخبار عن ثبوت الملزوم لثبوت لازمه ، فالداعي للاخبار عن تحقق الغسل ـ مثلا ـ وانه مفروغ عن تحققه ولا بد من ثبوته ليس هو تحققه في الخارج حقيقة ، كما في الجملة الخبرية التي لا بداعي الطلب ، بل بداعي الاعلام عن تحقق المتعلق للاخبار في الخارج ، بل الداعي لفرض التحقق والمفروغية عنه هو وجود ما يكون مقتضيا وعلة لتحققه وهو الطلب ، ومن الواضح ان الطلب الذي لا ينبغي ان ينفك المتعلق عنه هو الطلب الالزامي.

فاتضح : ان الجملة الخبرية المستعملة بداعي الطلب اظهر في الدلالة على الوجوب ، لأن الصيغة غاية دلالتها ان الطلب فيها الزامي ، ولا دلالة فيها على كون الطلب الزاميا وامرا مفروغا عنه ، بخلاف الجملة الخبرية بداعي الطلب فانها تدل على مفروغية كون الطلب الزاميا ، لأن المفروغية عن تحقق المتعلق يلازمه المفروغية عن تحقق علته وهو الطلب الالزامي ، ولذا قال : (قدس‌سره) : «إلّا انه» : أي الّا ان استعمالها في معناها «ليس بداعي الاعلام» كما في ساير الجمل الخبرية «بل بداعي البعث بنحو آكد» والسبب في الآكدية ما اشار اليه بقوله : «حيث انه اخبر بوقوع مطلوبه» واخباره بوقوع مطلوبه والمفروغية عن وقوعه «في مقام طلبه» فيه دلالة واضحة و «إظهار منه بانه» لا يرضى الّا بوقوع المتعلق فيكون هذا النحو من الدلالة على الطلب الالزامي اكد من دلالة الصيغة عليه.

٣٦٥

لا يقال كيف ويلزم الكذب كثيرا ، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

فإنه يقال : إنما يلزم الكذب ، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام ، لا لداعي البعث ، كيف وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذبا ، إذا قيل كناية عن جوده ، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ ، فإنه مقال بمقتضى الحال (١)

______________________________________________________

وعلى كل فالحال في الجملة الخبرية الدالة على الطلب هو كالحال في الصيغ الانشائية الايقاعية التي يكون الداعي لاستعمالها في معانيها دواعي أخر غير دواعيها الحقيقية ، وقد عرفت انها لم تستعمل في المعاني التي ذكروها لها بل هي دائما مستعملة في معانيها ، وانما الاختلاف في الدواعي ، فالداعي للاستفهام في مقام الانكار ليس هو طلب الفهم بل الانكار ، والفرض ان مخالفته للقوم في المقام وانهم أخطئوا في توهم انها مستعملة في الطلب بنحو المجاز قد سبق نظيره في الصيغ الانشائية من مخالفته لهم ، وانها لم تستعمل مجازا في غير معانيها الموضوعة لها.

وقد تبين مما ذكره هنا ايضا : انه لو أعرض عن هذا التحقيق ، وقال بمقالة القوم :

من كونها مستعملة مجازا في الطلب ـ لكان الطلب الالزامي هو اقرب المجازات ، لانه الذي يناسب ملازمته ثبوت المتعلق في الخارج ، فاذا خرجت الجملة عن معناها الحقيقي وهو ثبوت المتعلق في الخارج ، فالانسب ان تكون مستعملة فيما يلازم ثبوته ثبوت المتعلق في الخارج وتحققه ، وليس هو الّا الطلب الالزامي.

(١) هذا ايراد على ما ذكره : من التحقيق في كون الجملة الخبرية ـ المراد بها الطلب ـ مستعملة في معناها ، ودلالتها على الطلب بالدلالة الالتزامية الكنائية ، فان لازم استعمالها في معناها هو دلالتها على ثبوت متعلقها في الخارج والحكاية عنه ، ومن الواضح ان الحكاية عن تحقق الشيء في الخارج يدور صدق القضية وكذبها مدار

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تحقق المحكى عنه وعدم تحققه ، فاذا لم يتحقق كانت القضية كاذبة واذا تحقق كانت صادقة ، ومن البديهي ان الجمل الخبرية التي اريد بها الطلب لا يتحقق متعلقها في الخارج دائما ، وانما يتحقق متعلقها اذا كان المكلف مطيعا ، اما اذا كان عاصيا فلا يكون متعلقها متحققا في الخارج ، فكيف يقصد الامام عليه‌السلام الحكاية في الجملة الخبرية؟ مع ان متعلقها قد لا يتحقق ، فان لازم ذلك وهو عدم تحقق المتعلق كون كلامه عليه‌السلام غير مطابق ولا موافق للواقع ، وليس الكذب في القضية الّا عدم مطابقتها للواقع ، ولا يعقل الكذب عليهم عليهم‌السلام ، وانما يلزم هذا حيث تكون مستعملة في معناها الخبري الحكائي ، واما اذا كانت مستعملة مجازا في الطلب نفسه بنحو المطابقة فلا يلزم الكذب لعدم الحكاية ، بل تكون مستعملة في الانشاء والايقاع ، ولا كذب ولا صدق في القضايا الانشائية كما هو اوضح.

وحاصل الجواب الذي اشار اليه بقوله : «فانه يقال» ان الكذب والصدق وان كان هو المطابقة واللامطابقة ، إلّا ان المطابقة واللامطابقة اللتين يدور مدارهما الصدق والكذب هما المطابقة واللامطابقة بحسب غرض المتكلم في الجملة الخبرية ، فان كان غرض المتكلم في الجملة الخبرية هو الاخبار والاعلام عن تحقق الجملة وعدم تحققها كان الكذب والصدق يدور مدار ثبوت الجملة وعدم ثبوتها في الخارج ، وان كان الغرض ليس الاخبار والاعلام ، بل الغرض هو الدلالة على كون الداعي له هو الطلب فالقضية صادقة دائما لفرض تحقق الطلب في المقام.

والذي يدلك على ان الصدق والكذب والمطابقة واللامطابقة مرتبطان بالقصد هو صدق الكناية في قول القائل : زيد مهزول الفصيل او كثير الرماد في مقام مدحه والاخبار عن كرمه ، وان لم يكن له فصيل ولا رماد اصلا اذا كان زيد كريما ، وكذب الكناية اذا لم يكن كريما ، فصدقها وكذبها يدور مدار المعنى الالتزامي وهو الكرم دون المعنى المطابقي وهو هزال الفصيل أو كثرة الرماد ، مع ان المدلول المطابقي فيهما هو هزال الفصيل أو كثرة الرماد الذي قد دلت الجملة الخبرية على ثبوته وتحققه في

٣٦٧

هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان ، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره ، فافهم (١).

______________________________________________________

الخارج ، ولكن حيث كان القصد فيهما ليس هو الاخبار والاعلام عن هذا الثبوت ، بل الغرض هو اللازم وهو الكرم كان الصدق والكذب يدور مدار ثبوت الكرم وعدم ثبوته ، لا مدار تحقق كثرة الرماد أو الهزال في الخارج وعدم تحققه.

ومقامنا من هذا القبيل فان الغرض في الجملة الخبرية هو تحقق الطلب بها والمفروض تحققه والدلالة عليه بنحو آكد من دلالة الصيغة عليه ، كما عرفت فلا يلزم الكذب.

(١) حاصل ما ذكره فيما سبق هو ان الجملة الخبرية لها دلالة التزامية على ان الطلب الذي هو الداعي لها هو الطلب الذي لا يرضى المولى بتركه وهو الطلب الالزامي ، فالعرف يرى الملازمة بين الجملة الخبرية ـ التي جيء بها لا لأجل الاخبار والاعلام بل بداعي الطلب ـ والطلب الالزامي ، بحيث ينتقل من مجرد سماع الجملة الخبرية التي سيقت لاجل الطلب الطلب الالزامي.

والآن يريد ان يتنزل عن هذه الدعوى وانه سلم ان العرف لا يفهم هذه الملازمة ، بحيث من مجرد سماع الجملة الخبرية بداعي الطلب ينتقل الذهن الى الطلب الالزامي ، وانما يفهم من هذه الجملة الخبرية هو الطلب من دون خصوصية الالزام ، فليس في المقام دلالة التزامية لفظية.

لكنه يمكن اثبات الطلب الالزامي دون الندبي ببركة مقدمات الحكمة.

وحاصلها : انه اذا كان المولى في مقام البيان : بان الغرض من هذه الجملة هو الطلب ، ولم ينصب قرينة خاصة لفظية او حالية على خصوص الوجوب او الندب ،

٣٦٨

المبحث الرابع : إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ، قيل : بظهورها فيه ، إما لغلبة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده أو أكمليته ، والكل كما ترى ، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر.

وأما الاكملية فغير موجبة للظهور ، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة

______________________________________________________

إلّا انه لا بد وان يريد احدهما واقعا ، فحينئذ نقول : انه اذا اراد الوجوب لا يكون ناقضا لغرضه ، واذا كان يريد الندب يكون ناقضا لغرضه ، لأن العلة التي لا تنفك بحسب الاقتضاء عن تحقق هذه الجملة الخبرية في الخارج هو الطلب الوجوبي ، واما الطلب الندبي فحيث ان لازمه الاذن في عدم الامتثال يكون منفكا بحسب الاقتضاء والعلية عن تحقق الجملة الخبرية وثبوتها في الخارج ، فاذا كان الغرض من هذه الجمل هو الطلب وكان في مقام بيان ما يريده يتعين بحسب هذه النكتة ان يكون مريدا للوجوب ، فلو كان مع ذلك يريد الندب لكان ناقضا للغرض ، فهذه النكتة اذا لم تكن عند العرف بحيث توجب الدلالة الالتزامية لكانت موجبة لتعيين الوجوب من بين ساير المحتملات ، حيث يكون المولى بصدد البيان وانه يريد فردا خاصا من افراد الطلب.

ثم عقب هذا بقوله : «فافهم» ويمكن ان يكون اشارة الى ان هذه الدقة ، وهي ان الذي لا ينفك عن تحقق الجملة الخبرية هو خصوص الطلب الالزامي لا يتكل عليها في مقام البيان اذا لم تكن ملازمة عند العرف بين الجملة الخبرية والطلب الالزامي ، بحيث من سماع هذه الجملة ينتقل الى الطلب الالزامي. فاما ان تكون الجملة الخبرية دالة دلالة التزامية لفظية على الطلب الالزامي ، والّا فهذه المناسبات التي لا يفهمها العرف الّا بعد التامل والتعمل لا يصح الاتكال عليها في مقام البيان.

٣٦٩

أنس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير وجها له ، ومجرد الاكملية لا يوجبه ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) حاصل هذا المبحث ان الصيغة كما ذكر سابقا تدل على الوجوب للتبادر ، فهي ظاهرة في الوجوب ظهورا وضعيا بنحو شرط الوضع كما تقدم بيانه.

اما اذا لم نقل بالتبادر فهل هناك شيء آخر يوجب ظهور الصيغة في الوجوب ام لا؟

وقد ذكر له وجوه ثلاثة كلها مخدوشة ، وحاصل هذه الوجوه : هي دعوى انصراف الصيغة الى الطلب الوجوبي ، ولكن السبب الموجب مختلف.

فالوجه الاول : للانصراف وظهور الصيغة في خصوص الوجوب هو دعوى غلبة الاستعمال ، وان استعمال الصيغة في الطلب الالزامي اكثر من استعمال الصيغة في الطلب الندبي.

وهذا الوجه يمكن المناقشة فيه اولا من جهة الصغرى مع تسليم الكبرى ، وهو ان غلبة الاستعمال توجب استيناس الذهن لكثرة حصوله في الذهن بسبب كثرة الاستعمال فيه ، واستيناس الذهن بالمعنى يوجب حضوره وانصراف الذهن اليه عند سماع اللفظ الذي كثر استعماله في ذلك المعنى ، الّا ان الصغرى ممنوعة لأن استعمال الصيغة في الوجوب ليس باكثر من استعمالها في الندب ، اذا لم يدّع مدّع ان الاستعمال في الندب اكثر.

ويمكن ايضا منع الكبرى بدعوى ان مطلق اكثرية الاستعمال لا توجب الانصراف ، بل لا بد من بلوغها الى مقدار بحيث يستأنس الذهن به ، ولم يعلم بلوغها الى هذا المقدار الموجب للاستيناس الذي يلزمه انصراف الذهن الى المعنى بمجرد سماع اللفظ.

الوجه الثاني : هو كثرة وجود الواجبات بالنسبة الى الافراد الندبية فكثرة الوجود توجب ظهور اللفظ في الاكثر وجودا.

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا الوجه مخدوش كبرى وصغرى ، اما الكبرى فلان كثرة الوجود لا توجب الظهور اللفظي انصرافا ، فان الموجب للانصراف هو استيناس الذهن بحضور المعنى كثيرا عنده مستفادا من اللفظ ، واما كثرة الوجود فلا توجب استيناسا للذهن وربطا شديدا بين اللفظ والمعنى ، واما الصغرى فممنوعة ايضا لوضوح ان افراد الندب المستفاد من الصيغة اذا لم يكن اكثر من افراد الوجوب المستفاد منها فهو ليس باقل من الوجوب.

الوجه الثالث : ان الموجب للظهور هو كون الوجوب اكمل من الندب ، فان الوجوب هو تاكد الارادة بحيث لا يرضى بتركه ، ومن المعلوم ان شدة الوجود وتاكده كمال في الوجود.

وهذا الوجه ممنوع كبرى لا صغرى ، فانا نسلم ان الارادة الوجوبية آكد واشد واكمل في الوجود من الارادة الندبية ، ولكن نمنع كون الاكملية توجب الظهور ، فان الظهور مربوط بعالم الالفاظ والاستعمال ، ولا ربط له باكملية الوجود ، وقد اشار المصنف الى الوجوه الثلاثة بقوله : «قيل بظهورها» : أي الصيغة «فيه» : أي في الوجوب «اما لغلبة الاستعمال فيه» : أي في الوجوب وهو الوجه الاول «او لغلبة وجوده» : أي وجود الوجوب وهو الوجه الثاني «او اكمليته» وهو الوجه الثالث ، وقد اشار الى المناقشة في هذه الوجوه بقوله : «والكل كما ترى».

وقد ناقش في الاول والثاني بمنع الصغرى ، فقال : «ضرورة ان الاستعمال في الندب وكذا وجوده» : أي وجود الندب «ليس باقل لو لم يكن اكثر» فاغلبية الاستعمال في الوجوب ممنوعة ، وكثرة وجود الوجوب ايضا ممنوعة ، فان الندب اذا لم يكن اغلب استعمالا واكثر وجودا فلا اقل من تساويه مع الوجوب استعمالا ووجودا ، وناقش في الوجه الثالث فقال : «اما الاكملية فغير موجبة للظهور ... الى آخر كلامه».

٣٧١

نعم فيما كان الآمر بصدد البيان ، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان ، كاف في بيانه (١)

______________________________________________________

(١) وحاصله انه اذا لم نقل بكون الصيغة ظاهرة في الوجوب للتبادر ، أو لما مر من الوجوه يمكن ان نقول : ان الصيغة لها الظهور في الوجوب لمقدمات الحكمة.

وحاصلها : انه اذا كان الآمر في مقام البيان ، وعلمنا بانه يريد فردا من افراد الطلب ولا قرينة لفظية أو حالية تعينه ، نقول : انه لا بد وان يريد بالصيغة هو الطلب الوجوبي دون الطلب الندبي ، لأن الفرق بين الطلب الوجوبي والندبي بعد اشتراكهما في اصل الطلب : هو ان الطلب الوجوبي يزيد على الجامع بشدة الارادة وتأكدها ، فزيادته من جنس ما به الاشتراك بينه وبين الندب ، فحقيقة فصله الذي به يمتاز عن الندب من نفس طبيعة جنسه وهو اصل الطلب والارادة ، والطلب الندبي هو المرتبة الضعيفة من الطلب بحيث لم تبلغ مرتبة الشدة التي لا يرضى المولى تركها ، ففصله الذي يمتاز به عن الوجوب هو عدم تاكد الارادة وعدم شدتها ، فالوجوب حقيقته نفس الطلب لكن بمرتبة شديدة والمرتبة الشديدة هي من طبيعة الطلب ، والندب حقيقته طلب وعدم شدة وتاكد ، ففصله امر عدمي وفصل الوجوب امر وجودي من نفس حقيقة الطلب.

فاذا تمت هذه المقدمة نقول : بعد ان كان المولى يريد فردا من الطلب ، فاذا كان مريد الفرد الوجوبي لا يحتاج الى ضم شيء الى حقيقة الطلب لبيان فصل الوجوب ، لما عرفت ان فصله من نفس طبيعة الطلب ، فتكون الدلالة على الطلب كافية فيه ، بخلاف ما اذا كان مريدا للندب فانه يحتاج الى ان يضم الى الطلب شيئا خارجا

عن حقيقة الطلب وهو الامر العدمي ، وحيث ان المفروض انه لم ينصب دالا على هذا العدم ، فلو كان مريدا له لكان ناقضا لغرضه ، فيتم الظهور للصيغة في الوجوب

٣٧٢

فافهم (١).

المبحث الخامس : إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا ، فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل. لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات (٢).

______________________________________________________

ببركة مقدمات الحكمة ، وهذا الذي ذكرناه هو مراده من قوله : «فان الندب كانه يحتاج الى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك» : أي يحتاج الى ضم الفصل العدمي للطلب ، وهو عدم تاكد الارادة الذي لازمه عدم المنع من الترك وهو «بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد» لما عرفت من ان فصله من نفس طبيعته ، فان فصله هو شدة الطلب وتاكده ، فلا يحتاج الى ضم شيء خارج عن حقيقة الطلب الى الطلب فيما اذا كان مراده الفرد الوجوبي «فاطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق» ـ بالكسر ـ «في مقام البيان كاف في بيانه».

(١) لعله يشير الى ان هذا الوجه مما لا يفهمه الخواص من اهل العلم فضلا عن العرف من غير اهل العلم ، فلا يصح الاتكال عليه في مقام البيان ، فان الذي يصح للمولى الاتكال عليه في مقام البيان ما يفهمه عامة الناس ، لا خواص الخواص.

(٢) لا يخفى ان التعبدية امر زائد على الطبيعة المتعلق بها الامر ، فان قصد الامتثال الذي هو المعنى القربي اللاحق لطبيعة الصلاة شيء زائد على نفس طبيعة الصلاة ، فالامر المتعلق بالصلاة بقصد القربة غير الامر المتعلق بالصلاة من دون اخذ القربة فيها.

فاذا فرضنا إمكان اخذ القربة في الصلاة المتعلق بها الأمر ، وورد الامر بالصلاة من دون اخذ القربة فيها ، واحتملنا اخذ القربة فيها كان هناك مجال لنفي هذا الاحتمال بالاطلاق : بان نقول : المولى في مقام البيان ، ولم ياخذ القربة ، فلا بد وان

٣٧٣

إحداها : الوجوب التوصلي ، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ، فإن

______________________________________________________

لا تكون دخيلة في متعلق الامر ، والّا لكان المولى ناقضا لغرضه ، فيصح لنا التمسك بالاطلاق لنفي اخذ القربة.

واما اذا فرضنا عدم امكان اخذ القربة في متعلق الامر ، لما سيأتي من الادلة على امتناع ذلك ، فلا يصح التمسك بالاطلاق لنفي دخالة قصد القربة في امتثال الامر الذي تعلق بالصلاة ، لما هو المعروف : من انه اذا لم يمكن التقييد لم يمكن الاطلاق ، لأن معنى التمسك بالاطلاق ان يقال : انه لو لم يذكره لكان ناقضا لغرضه ، وهذا انما يتاتى فيما يمكن ان يذكره المولى في ضمن خطابه في متعلق امره ، اما فيما لم يمكن ان يجعله من متعلقات امره فلا معنى لأن يقال : انه لو لم يأخذه لكان ناقضا لغرضه ، فتقابل الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، ولا بد ان يكونا في مقام له قابلية لأن يؤخذ ولان لا يؤخذ ، اما في ما لا يمكن ان يؤخذ فلا معنى للتمسك بنفيه بالاطلاق ، واذا لم يمكن التمسك بالاطلاق ، فاذا شككنا في التعبدية والتوصلية فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول ، اذ هي المرجع بعد عدم امكان التمسك بالاطلاق ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ان اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا» لوضوح ان قصد القربة امر زائد ، فاذا كان مما يمكن اخذه والمفروض انه لم يؤخذ فالاطلاق ينفيه «فيجزي اتيانه» : أي اتيان متعلق الصيغة «مطلقا» وهذا معنى التمسك بالاطلاق ، ومعناه ان متعلق الامر ـ مثلا ـ هو الصلاة فيحصل الامتثال باتيانها سواء قصد القربة ام لا ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولو بدون قصد القربة اولا» : أي أو انه لا مجال للاطلاق لعدم امكان التقييد بقصد القربة واخذه في متعلق الامر ، وعليه فلا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول فيما احتمل قصد القربة فيه ، وهذا مراده من قوله : «فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته الى الاصل».

٣٧٤

الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد في سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى (١).

ثانيتها : إن التقرب المعتبر في التعبدي ، إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره (٢) ، كان مما يعتبر في الطاعة

______________________________________________________

(١) هذه المقدمة الاولى لبيان الفرق بين التوصلي والتعبدي.

والتوصلي : هو الواجب الذي يكون الغرض الداعي لامر المولى به مترتبا على وجود المتعلق للامر في الخارج ، سواء اتى بهذا الواجب بقصد القربة ام لا ، كدفن الميت ـ مثلا ـ فان الغرض الداعي للامر بالدفن هو مواراة الميت ، فاذا حصلت المواراة حصل الغرض سواء كانت المواراة بقصد القربة ام لا ، فيسقط الامر بالدفن لحصول الغرض الداعي الى الامر بالدفن بمجرد حصول المواراة والدفن.

والواجب التعبدي : هو الذي يكون الغرض الداعي للامر به لا يحصل بمجرد وجوده ، بل لا يحصل الغرض منه الّا اذا اتى به بداعي القربة.

وظهر مما ذكر : ان وصف التوصلية والتعبدية اولا وبالذات مما يلحق متعلق الوجوب وهو الواجب ، واما الوجوب فوصفه بالتعبدية والتوصلية وصف له بحال متعلقه.

(٢) اتيان الشيء بداعي القربة والتقرب الى الله تبارك وتعالى يقع على انحاء.

ـ منها : اتيانه بداعي امتثال امره المتعلق بالشيء ، وهو محل الكلام في المقام : من امكان اخذه في متعلق الامر ام لا.

ـ ومنها : اتيانه بداعي كون المولى اهلا لأن يعبد ويخضع له ، وهذا يتوقف على احراز كونه مما يصح ان يعبد به الله ويخضع له به ، وهو ما كان عبادة بذاته ، لوضوح انه ليس كل شيء مما يصح ان يخضع لله به وان يعبد به الله.

ـ ومنها : اتيانه بداعي حسنه ، وهو ايضا انما يصح حيث ينطبق على الشيء عنوان يكون به من مصاديق العدل في عبودية العبد بالنسبة الى مولاه.

٣٧٥

عقلا (١) ، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا ، وذلك لاستحالة أخذ ما

______________________________________________________

ـ ومنها : اتيانه بداعي المصلحة ، ولا يخلو هذا من اشكال ، فان المقرب الى المولى لا بد وان يكون مما يضاف الى المولى ، ونفس المصلحة ما لم ينطبق عليها عنوان يضاف الى المولى لا تكون مقربة ، واذا انطبق عليها عنوان آخر مضاف الى المولى فذلك العنوان هو المقرب.

ـ ومنها : اتيانه بداعي المحبوبية ، واحراز المحبوبية اما بان يكون الشيء عبادة بذاته ، كالخضوع له والشكر والحمد لجنابه بما ينبغي ان يخضع ويشكر ويحمد به ، واما بان يكون متعلقا لامره فيستكشف محبوبيته من تعلق امره به.

والحاصل ان الكلام في التعبد بمعنى قصد امتثال امره المتعلق بالشيء والاتيان بالواجب بداعي هذا الامر ، وانه هل يمكن اخذه في متعلق الامر أو لا يمكن؟

(١) وحاصل ما يريده المصنف ان عنوان قصد امتثال امر المولى المتعلق بالشيء مما يعتبره العقل في عنوان الاطاعة : أي ان الاطاعة عند العقل مقيدة بقصد الامتثال ، فلا اطاعة عنده حيث لا يقصد الامتثال ، فقصد الامتثال مما يشترطه العقل في تحقق عنوان الاطاعة ، واما كونه مما يمكن ان يأخذه في متعلق امره فسيأتي الكلام في امكان ذلك وعدم امكانه.

ثم لا يخفى ان الاطاعة لها معنيان :

احدهما : ما به يحصل الامان من العقاب ، والاطاعة بهذا المعنى يشترط في صدقها على المأتي به قصد الامتثال ، فان الامن من العقاب يحصل بايجاد ما فيه الغرض ، فاذا كان الغرض يترتب على ذات المأتي به في الخارج ، كما في التوصليات تحصل الاطاعة من دون قصد الامتثال.

ثانيهما : الاطاعة بمعنى ما يستحق به العبد المدح والثواب ، والاطاعة بهذا المعنى مما يشترط فيها قصد الامتثال عند العقل ، لوضوح ان العبد لا يستحق المدح والثواب إلّا باتيان ما يضاف الى المولى ، ويكون عدلا في مقام العبودية ، وفي غير العبادة

٣٧٦

لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشيء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا (١) ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر ، لا يكاد يمكن

______________________________________________________

الذاتية انما يضاف الشيء الى المولى باتيانه بقصد امتثال امره المتعلق بذلك الشيء ، فمراد المصنف بقوله : «كان مما يعتبر في الطاعة عقلا» هي الاطاعة بالمعنى الثاني ، لا بالمعنى الاول.

(١) ان في اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر وجوها من الاشكال :

الاول : ما اشار اليه بقوله : «وذلك لاستحالة الى آخره» وحاصله : انه لا يعقل ان يأمر المولى بشيء ويأخذ في ضمن كلامه وامره قصد الامتثال ، بان يقول : صلّ بقصد امتثال هذا الامر ، للزوم الدور او غائلة الدور وهو التقدم والتاخر.

وبيانه : ان الامر في مقام تحققه يتوقف على متعلقه ، لوضوح ان الامر من الاشياء التعليقية فلا يعقل تحققه من غير متعلق ، لعدم معقولية تحقق الامر من دون شيء يكون متعلقا للامر ، فالامر محتاج ومتوقف في مقام تحققه الى مامور به يتعلق به ، والامر من غير مامور به لا يوجد.

فاتضح ان الامر يتوقف على المتعلق والمامور به ، فمتعلّقه له التقدم عليه ، ولا ريب ان متعلق الامر اذا كان الصلاة ـ مثلا ـ مع قصد امتثال الامر يكون بعض متعلق الامر هو قصد امتثاله ، وقصد امتثال الامر انما يكون له ثبوت وتحقق حيث يكون امرا ، ثم يكون له قصد الامتثال ، فقصد امتثال الامر يكون متاخرا عن الامر ومتوقفا على ثبوت الامر ، وقد تقدم ان تحقق الامر وثبوته يتوقف على ما يتعلق به ، فاذا كان ما يتعلق به ولو بعضه متوقفا عليه لزم توقف الشيء على نفسه ، ولزم تقدم الشيء على نفسه لما عرفت من توقف الامر على متعلقه ، فاذا توقف متعلقه عليه لزم كون الامر متوقفا على شيء ، ذلك الشيء يتوقف على نفس الامر ، فحينئذ يكون تحقق الامر متوقفا على نفسه ، لتوقفه على ما يتوقف عليه ، ومعنى هذا لزوم كون الامر متقدما في مقام تحققه على تحقق نفسه.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا فرق على ما ذكرنا بين كون الامر من مقولة الارادة والشوق النفساني ، فانه في مقام تحققه في مرتبة الشوق يتوقف على المتعلق له في افق الشوق ، فلا يعقل ان يكون متعلقه في افق الشوق متوقفا عليه او يكون من قبيل البعث والتحريك ، فان البعث كالشوق يحتاج الى المتعلق فلا يعقل ان يتوقف متعلقه في مقام البعث والتحريك عليه.

وايضا لا فرق في محالية اخذ قصد الامتثال في متعلق الامر بين اخذه بنحو الشرطية أو اخذه على نحو الشطرية والجزئية ، أما اخذه على نحو الشرطية فبأن يكون تقيّده داخلا واما نفس القيد فهو خارج : بان يكون متعلق الامر هو الصلاة المقيدة بقصد امتثال الامر ، واما نفس الامر وامتثاله فهو خارج عن المامور به ، كالطهارة وتقيّد الصلاة بها فان المامور به هو الصلاة عن طهارة ، واما نفس الطهارة فليست من اجزاء الصلاة ، وكذلك قصد الامتثال يكون بنفسه خارجا عن نفس الصلاة ولكن تقيد الصلاة به داخلا ، فان الصلاة المقيّدة بما هي مقيّدة هي متعلق الامر فيلزم تقدمها عليه لأنها متعلق له ، وحيث فرضت مقيّدة والمقيّد يتوقف على قيده ، وقد فرض ان القيد نفسه هو قصد الامر ، وقصد الامر لا يتحقق الّا بالأمر فيأتي الدور وغائلته.

واوضح من ذلك : اذا اخذ قصد الامر بنحو الشطرية والجزئية : بان يكون قصد امتثال الامر جزء المامور به ، فان المامور به بجميع اجزائه له التقدم على الامر المتعلق به والامر يتوقف عليه ، فلا يعقل ان يكون بعض المامور به متوقفا على نفس الامر ، وقد فرض ان بعض المامور به هو قصد امتثال ذلك الامر وهو يتوقف على الامر ، فيكون الامر متوقفا على ما يتوقف عليه ، والى هذا اشار بقوله : «لاستحالة اخذ ما لا يكاد يتاتى الّا من قبل الامر بشيء» وهو قصد امتثال الامر ، فانه لا يتأتى ولا يتحقق قصد امتثال الامر بالصلاة الّا بعد تحقق الامر بالصلاة ـ مثلا ـ فمثل هذا لا يعقل اخذه «في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا او شطرا» كما عرفت بيانه.

٣٧٨

إتيانها بقصد امتثال أمرها (١).

وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر ، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي ، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة ، والتمكن من

______________________________________________________

(١) ظاهر هذا العبارة انها تفريع على ما ذكره من الاستحالة ، وانه اذا لم تكن نفس الصلاة من دون اخذ قصد الامتثال متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال امرها ، لعدم معقولية الامر بها كذلك ، إلّا انه يمكن ان يشير الى وجه آخر من الاستحالة ذكره في حاشيته على الرسائل.

وحاصله : انه كما يلزم الدور في مقام تعلق الامر في افق تحققه وثبوته ، وهو ما اشار اليه بقوله : «لاستحالة اخذ ما لا يكاد يتاتى ... الى آخره» ـ كذلك يلزم تحقق الدور وغائلته في مقام الامتثال.

وتوضيحه : ان الامر في مقام كونه فعليا ومحركا للعبد تتوقف فعليته على تحقق موضوعه ، مثلا : الامر باكرام زيد لا يكون فعليا الّا اذا كان زيد متحققا ، والامر بشرب الدواء لا يكون فعليا الّا اذا كان الدواء متحققا ، فتتوقف فعلية الامر بالصلاة الماخوذ فيها قصد امتثال الامر على تحقق ما هو موضوع للامر وهو الصلاة وقصد امتثال الامر ، ولا يكون قصد امتثال الامر ممكن التحقق الّا بعد تحقق نفس الامر حتى يكون له قصد الامتثال ، فتتوقف فعلية الامر على نفسه وهو الدور ، فلذا قال (قدس‌سره) : «فما لم تكن نفس الصلاة» من دون قصد الامتثال «متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها» وامتثالها «بقصد امتثال امرها» ، اما اذا كانت الصلاة مأخوذا فيها قصد الامتثال فلا يكون الامر بها فعليا لتوقف فعليته على قصد الامتثال المتوقف قصد الامتثال على نفس الامر وهو الدور.

٣٧٩

إتيانها كذلك ، بعد تعلق الامر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر (١) ، واضح

______________________________________________________

(١) توضيح هذا التوهم ان الدور الذي اشار اليه المصنف انما يلزم حيث يكون الماخوذ في الصلاة قصد امتثال هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها ، اما اذا لم يكن الماخوذ فيها هو قصد امتثال هذا الامر الشخصي ، بل الماخوذ في الصلاة هو قصد امتثالها بداعي الامر ، والملحوظ هو طبيعة الامر لا هذا الامر الشخصي حتى نبتلي بالدور المذكور.

وتصور الصلاة مقيدة بقصد اتيانها بداعي طبيعة الامر ممكن في مرحلة تصورها كذلك ، فاذا تصورناها كذلك يتعلق بها الامر الشخصي بها مقيدة بداعي الامر ، لأن الماخوذ فيها ليس قصد امتثاله بخصوصه حتى يلزم الدور ، بل قصد امتثالها بامر ما ، وبعد تصورها كذلك وتعلق الامر بها يستطيع المكلف ان ياتى بها بداعي هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها مقيدة بداعي الامر.

واستشعر هذا المتوهم بايراد يرد عليه فدفعه.

وحاصل الايراد : انه يلزم المحذور من ناحية القدرة ، وبيانه : ان الامر الفعلي لا يتعلق بشيء الّا اذا كان مقدورا ، وهذه الصلاة التي تصورناها مقيدة بقصد الامر ليتعلق بها هذا الامر الشخصي غير مقدور اتيانها بداعي الامر قبل تعلق هذا الامر الشخصي بها ، وانما يمكن اتيانها بداعي الامر بعد تعلق هذا الامر الشخصي بها فيقصده المكلف في مقام الامتثال ، فهو انما يستطيع قصده بعد تعلقه ، ففي حال التعلق الصلاة المقيدة بقصد الامر غير مقدورة.

فاجاب عنه : بان القدرة التي هي شرط في فعلية التكليف هي القدرة في ظرف الامتثال ، لا في ظرف التعلق ، والمفروض انه في ظرف الامتثال يستطيع المكلف من اتيانها بقصد الامر ، ويقدر ان يقصد اتيانها بداعي هذا الامر الشخصي الذي تعلق بها ، وقد اشار الى ما ذكرنا من امكان تصورها مقيدة بقصد الامر وتعلق الامر بها

٣٨٠