بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحراق ، إلا ان مقاربتها للجسم شرط في تحقق اثرها : وهو احراقها للجسم ، لا ان المقاربة هي المحرقة للجسم ، بل المحرق له هو النار.

والشرط تارة يكون امرا وجوديا ، كالطهارة في كونها شرطا في افعال الصلاة ، واخرى امرا عدميا كالحدث فان عدمه شرط في حصول الاثر من افعال الصلاة ، والى الاول اشار المصنف بقوله : «تارة بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه إلى آخره» ، والى الثاني اشار بقوله : «وأخرى : بان يكون خارجا عنه ، لكنه كان مما لا تحصل الخصوصية المأخوذة فيه» أي المترقبة منه «بدونه ... الى آخره».

الثالث : ان لا يكون داخلا في حقيقته وقوامه ، ولا شرطا في تأثيره ، بل يكون خارجا عما هو جزؤه وشرطه ، ولكنه كان مما تتشخص به الطبيعة ، بناء على المشهور من كون تشخص الطبيعة بملازماتها لا بوجودها ، فتكون من اجزاء الفرد لا الطبيعة ويصدق على المتشخص بذلك : عنوان ما تعلق به الامر ، لوضوح صدق الطبيعة على فردها ، وهذه المشخصات الخارجة عن قوام الطبيعة وشرطها ربما يحصل بسببها مزية زائدة موجبة لتحقق الفرد الاكمل من افراد الطبيعة ، كالكون في المسجد ، فان الكون في المسجد ليس من اجزاء الطبيعة المأمور بها ، ولا من شروطها ، إلّا انه موجب لتحقق الفرد الاكمل من افراد الصلاة ، وربما يحصل بسببه نقص في الطبيعة ، كالكون في الحمام.

وهذا الذي يدخل في الفرد وتشخصه تارة يدخل في الفرد بنحو الشطرية ، واخرى بنحو الشرطية ، ويمكن ان يمثل للاول : أي لما يدخل في الفرد بنحو الشطرية بحضور القلب فانه له التأثير في الفرد الكامل من الصلاة ، وللثاني : وهو ما كان له دخالة في الكمال بنحو الشرطية كالكون في المسجد ، وربما لا يكون للداخل في الفرد خصوصية اصلا لا في كمال الصلاة ، ولا في نقصانها ، كالكون في الدار ، فان الصلاة في الدار لا توجب نقصانا في طبيعة الصلاة ولا كمالا فيها.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ان الاخلال بما هو داخل في الطبيعة جزء او شرطا موجب للاخلال بنفس الطبيعة وفسادها ، بخلاف ما كان داخلا في الفرد وفي تشخص الطبيعة ، فان الاخلال به ليس اخلالا بحقيقة الطبيعة ، لان المفروض عدم دخله فيها وانما الاخلال به إخلال بتلك الخصوصية ، لا اخلالا بنفس حقيقة الطبيعة المأمور بها.

وقد ذكر المصنف هذا الثالث بما فيه من التفاصيل بقوله : «وثالثة : بان يكون مما يتشخص به المأمور به ، بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه» ـ أي عنوان المأمور به ـ الى قوله : «كالصلاة في الحمام».

الرابع : ما يكون خارجا عن طبيعة المامور به جزء وشرطا ، وخارجا أيضا عن فرد المأمور به وما يتشخص به ، بل يكون شيئا قد تعلق الامر به في حال الصلاة ، فيكون مستحبا ظرفه الصلاة ليس بداخل في حقيقتها ، ولا في فردها ، بل هو مطلوب بنفسه له امر نفسي تعلق به ، إلا انه لا يطلب إلا أثناء الصلاة ، فالصلاة ظرف ومقدمة للامر به في اثنائها.

ومن الواضح : ان الاخلال بهذا الرابع لا يكون اخلالا بماهية الصلاة وحقيقتها ، ولا بفردها وخصوصية فردها ، فان القنوت مثلا ـ الاخلال به ليس اخلالا لا بالطبيعة ، ولا بفرد الصلاة ، وقد ذكر هذا الرابع بقوله : «ثم انه ربما يكون الشيء مما يندب اليه فيه بلا دخل له اصلا ... الى قوله : اذا عرفت هذا».

وبعد ان تبينت الاقسام الاربعة وآثارها : وهي ان الاخلال بالاول والثاني : أي بجزء الطبيعة المأمور بها وشرطها اخلال بنفس الطبيعة وموجب لفسادها ، وان الاخلال بالثالث : وهو جزء الفرد وشرطه اخلال بالفرد دون الطبيعة المامور بها ، وان الاخلال بالرابع لا اخلال بالطبيعة ولا بفردها.

يتبين واضحا : ان ما كان مستحبا ظرفه الصلاة : أي الرابع لا يكون داخلا في مسمى العبادات ، لخروجه عن حقيقتها وفردها ، وكذلك ما كان خارجا عن حقيقتها وداخلا في حقيقة فردها أيضا يكون خارجا عن مسمى العبادات لفرض خروجه عن

١٤٢

الحادي عشر : الحق وقوع الاشتراك للنقل ، والتبادر ، وعدم صحة السلب بالنسبة الى معنيين ، او اكثر للفظ واحد (١) ، وإن أحاله بعض

______________________________________________________

واما الاول وهو الجزء ، والثاني وهو الشرط فلا شبهة في دخول الجزء في المسمى ، إلا انه اذا كانت موضوعة للصحيح : أي لما هو المؤثر بالفعل يكون القول : بخروج الشرط عن المسمى معناه القول : بوضعها للاعم ، ولذا قال : «لكنك عرفت : ان الصحيح اعتبارهما فيها» ، أي انها للمركب من الجزء والشرط معا ، لانه هو المؤثر بالفعل دون الجزء وحده.

(١) لا يخفى ان الخلاف في الاشتراك وقع في امكانه الوقوعي ، لا الذاتي ، فان امكانه الذاتي مما لا ريب فيه ، وهو كون الشيء ليس له من قبل ذاته ضرورة الوجود ، ولا ضرورة العدم في قبال الوجوب الذاتي : وهو كون الشيء له من قبل ذاته ضرورة الوجود في قبال الامتناع الذاتي : وهو كون الشيء له من قبل ذاته ضرورة العدم ، لوضوح انه لا يمكن ان يدعي عاقل ان الاشتراك واجب الوجود بالذات ، او ممتنع الوجود بالذات فان الدعوى على طرفيه من وجوبه وامتناعه انما هي بدعوى : انه يلزم من فرض تحققهما محال ، لا ان نفس تحققهما واجب بالذات او ممتنع بالذات.

والمصنف جعل الخلاف اولا في امكانه وقوعا وامتناعا ، فاستدل على إمكانه بنفس وقوعه وهو ادلّ دليل على الامكان.

واستدل على وقوعه في اللغة :

اولا : بالنقل ، والنقل ما لم يكن متواترا يبنى على حجية قول اللغوي ، إلّا انه يمكن دعوى التواتر في خصوص المقام. هذا بالنسبة الى الاشتراك في المفاهيم الكلية ، كاشتراك لفظ القرء بين الطهر والحيض ، ولفظ الجون بين الاسود والابيض. واما بالنسبة الى المفهوم الجزئي فوقوع الاشتراك في اسماء الاعلام محسوس ومشاهد بالوجدان.

١٤٣

لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الاخلال أولا ، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة ، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا ، لتعلق الغرض بالاجمال احيانا (١) ، كما أن استعمال المشترك في القرآن

______________________________________________________

وثانيا : بالتبادر ويمكن ان يكون مراده من التبادر : تبادر كل واحد من المعنيين الذين كان اللفظ مشتركا بينهما بشرط القرينة الصارفة فقط عن احدهما ، ويمكن ان يكون مراده من التبادر : هو أن اللفظ المشترك اذا اطلق ولم تكن قرينة صارفة فإنا نتبادر : ان المراد احدهما ، لا ان مفهوم احدهما هو الموضوع له اللفظ ، بل نتبادر من اللفظ انه وجود تنزيلي بالجعل والمواضعة لاحدهما المعين ، لكنا نجهله ، لعدم القرينة الصارفة.

والتبادر بهذا المقدار دليل على كون اللفظ موضوعا لكل واحد منهما.

وثالثا : بعدم صحة سلبه عن كل واحد منهما ، وما ذكرناه في التبادر جار في صحة السلب.

(١) قد ذكر صاحب كتاب تشريح الاصول (١) وجها لأحالته غير الوجه الذي اشار اليه المصنف.

وحاصله : ان الوضع ليس الّا جعل ملازمة بين اللفظ والمعنى بحيث يكون اللفظ هو العلة لاحضار المعنى ، وحينئذ نقول : إنه إما ان يحصل من الاشتراك ملازمة واحدة بين اللفظ وكلا المعنيين بحيث يخطران به دفعة واحدة وبانتقال واحد ، ويكون اللفظ ملازما لكلا المعنيين فليس هذا معنى الاشتراك ، بل معنى الاشتراك ان يكون اللفظ مخطرا لكل واحد من المعنيين ، كما لو كان لكل واحد منهما قد وضع له لفظ مخصوص وانه قد اعتبرت الملازمة بينه وبين كل واحد من المعنيين ، كما لو لم يكن قد وضع للآخر ، فحضور كلا المعنيين به معناه : الخلف ، وعدم الاشتراك.

__________________

(١) وهو العلامة النهاوندي في تشريح الأصول : ص ٤٧ حجري.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإما ان يحصل بواسطة الاشتراك ملازمة بين اللفظ ، وأحد المعنيين على الترديد. فهذا ايضا خلف ، لان المفروض ان الملازمة بينه وبين كل واحد من المعنيين ، لا بينه وبين أحد المعنيين على الترديد.

وإما ان يحصل بواسطة الاشتراك ملازمتان مستقلتان ويكون اللفظ ملازما لكل واحد من المعنيين بملازمة لا ربط لها بالملازمة الأخرى اصلا ، ولا بد حينئذ ان يحصل من إطلاقه انتقالان دفعة لما عرفت : من ان معنى الوضع الذي معناه جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى هو كون اللفظ علة لاحضار المعنى ، ولا بد من عدم تخلف المعلول عن علته ، فلازم ذلك : ان يحصل باطلاقه انتقالان مستقلان دفعة واحدة لا ترتب بينهما ولا تلازم وهو محال.

والجواب عنه : انا نختار الشق الاخير ، ولا يلزم ما ذكره : من حصول الانتقالين المستقلين دفعة واحدة ، فان معنى الوضع وجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى ليس معناه جعل اللفظ علة تامة لاحضار المعنى ، بل لازمه كون اللفظ مقتضيا لإحضار المعنى به ويتوقف حضور المعنى به على الشرط : وهو عدم القرينة على المعنى المجازي ، وعلى القرينة الصارفة في المشترك عن بقية المعاني.

وأما ما ذكره المصنف لمدعي الاحالة ، فحاصله :

ان الغرض الداعي لوضع الالفاظ للمعاني : هو التفهيم بها ، وهذه هي الحكمة في وضع اللفظ للمعنى ، ويلزم من الاشتراك الإخلال بالتفهيم الذي هو الغرض من الوضع ، لأن اللفظ اذا صار مشتركا يحتاج افهام المعنى به الى القرينة ، وربما تخفى القرائن فيكون اللفظ المشترك مجملا وهو مناف لحكمة الوضع.

وقد اجاب عنه المصنف ، اولا : بأن الاتكال على القرائن الواضحة التي لا خفاء فيها أمر ممكن ، ولا ملازمة بين القرائن والخفاء ليلزم خلاف حكمة الوضع : من الاخلال بالتفهيم.

١٤٥

ليس بمحال كما توهم لأجل لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن ، والاجمال في المقام لو لا الاتكال عليها وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى ـ جل شأنه ـ كما لا يخفى ، وذلك لعدم لزوم التطويل فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر ، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض ، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه ، وقد اخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه قال الله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١).

______________________________________________________

وثانيا : نمنع كون الاجمال مخلا بالحكمة فان المتكلم كما يتعلق غرضه بالكلام الواضح المفهم المبين ربما يتعلق غرضه ـ احيانا ـ بالاجمال وجعل كلامه ذا احتمالات.

(١) وحاصل هذه الدعوى : هو المنع عن استعمال اللفظ المشترك في خصوص الكتاب الكريم ، لا عن أصل وقوعه وتحققه ، بل ربما يظهر من مدعيها القول : بوقوعه وتحققه ، لانه منع استعماله ، لا وقوعه ، لكنه لا يصح استعماله في القرآن لمانع مختص لخصوص استعماله به.

وملخص ما ذكر مانعا : هو أن القرآن هو المعجز في البلاغة فلا يعقل ان يكون فيه تطويل بلا طائل أو اختصار مخل ، واستعمال المشترك يلزم منه اما التطويل بلا طائل كما اذا استعمل اللفظ المشترك مع القرينة فان القرينة تطويل دعا اليه استعمال اللفظ المشترك ، فلو استعمل بدله لفظ غير مشترك لحصل الاستغناء عنها ، واما ان يلزم الاجمال والاختصار المخل وذلك إذا استعمل لفظ المشترك من دون الاتكال على القرينة.

وكلا الامرين يتنزه عنهما الكلام البليغ ، فضلا عن مثل الكتاب الكريم الذي هو في أعلى وأقصى مراتب البلاغة.

١٤٦

وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات لأجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ المركبات فلا بد من الاشتراك فيها وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني لاستدعائه الاوضاع غير المتناهية ، ولو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه ، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية وجزئياتها وان كانت غير متناهية ، إلا ان وضع الألفاظ بازاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بازائها كما لا يخفى ، مع أن المجاز باب واسع ـ فافهم (١).

______________________________________________________

والجواب عنها إنا أولا : نختار الشق الأول ، ونقول : انه يستعمل المشترك مع الاتكال على القرينة ولكن لا يلزم التطويل بلا طائل ، كما لو كانت القرينة بنفسها مقصودة لوقوعها ـ مثلا ـ جزء في الجملة كما لو قيل : اسد كلمني ، فان كلمني كما أنها كانت قرينة على ان المراد من الاسد هو الرجل الشجاع لأن المفترس لا يتكلم قد وقعت خبرا عن المبتدأ ، فلا يلزم من استعمال مثل هذه القرينة التطويل بلا طائل ، كما ربما يكون نفس التطويل من البلاغة ، كما لو كان الكلام مع المحبوب ومن يرغب بمزيد التكلم معه فان من البلاغة تطويل الكلام ، واستعمال القرائن والألفاظ المشتركة لأجل أن يطول الكلام معه ولا يكون تطويلا بلا طائل.

وثانيا : نختار الشق الثاني ، ونمنع كون الاجمال غير لائق بكلامه جل وعلا ، لأن الغرض كما يتعلق بالمبين يتعلق أيضا بالمجمل والمشتبه أيضا ، كما اخبر عزوجل عن وقوع المشتبه في كتابه الكريم فقال تعالى مخبرا عن كتابه المجيد : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(١).

(١) وانه لا يعقل استغناء اللغات عنه ويجب وقوعه فيها ببرهان.

__________________

(١) آل عمران : الآية ٧.

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حاصله : ان المعاني غير متناهية والالفاظ متناهية ، لأن كل لغة مركبة من حروف معدودة محدودة ، والمركب من المحدود لا بد وأن يكون متناه ومحدود وبالاشتراك تكون الالفاظ ايضا غير متناهية وغير محدودة فتكون وافية بالمعاني التي هي غير متناهية ولا محدودة.

والجواب عنه : أولا : نقول إن الواضع للالفاظ هو الممكن فلا بد ان تكون المعاني عنده متناهية لأن الممكن متناه ولا يحيط المتناهي بغير المتناهي ، مضافا الى أنه لو كانت المعاني بنفسها غير متناهية الّا انه لا يعقل ان يستطيع الممكن المتناهي ان يضع لها كلها ، لأن لازمه : أن يضع اوضاعا غير متناهية وهو محال عليه والى هذا أشار بقوله : «لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني ... الخ».

وثانيا : نسلم ان الواضع ليس هو الممكن ، بل : الواجب وهو فوق ما لا يتناهى فلا يمتنع ان يحيط بغير المتناهي ، إلا انه لا يجدي الوضع منه إلا في مقدار متناه لأن الوضع اما لمخاطبة الواجب للممكن وإنما يخاطب الممكن بالمقدار المتناهي ، وإما لأجل استعمال الممكن نفسه والممكن إنما يستعمل مقدارا متناهيا. وقد اشار الى هذا بقوله : «ولو سلم لم يكد يجدي ... الخ».

وثالثا : إنا لا نسلم ان المعاني غير متناهية فإن المعاني الكلية متناهية ويمكن الوضع لها واستعمالها في المعاني الجزئية بنحو استعمال الكلي في مصاديقه ولا حاجة الى الوضع للمعاني الجزئية بوضع على حدة ، والى هذا اشار بقوله : «مضافا الى تناهي المعاني الكلية ... الخ».

ورابعا : ان باب المجاز واسع فيمكن الوضع للجزئيات بمقدار متناه ثم استعمالها في الباقي بنحو المجاز.

ولا يخلو الأخير من مناقشة ، فإن المجاز يحتاج الى المناسبة حتى يصح الاستعمال مجازا ، ولعله لا توجد المناسبات الكافية للاستعمال في عامة المعاني الجزئية. هذا اذا كان الوضع للمعاني الجزئية.

١٤٨

الثاني عشر : انه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال : بان يراد منه كل واحد ، كما اذا لم يستعمل إلّا فيه على اقوال ، اظهرها : عدم جواز الاستعمال في الاكثر عقلا.

وبيانه : ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنه الملقى ولذا يسري اليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد ، ضرورة ان لحاظه هكذا في ارادة معنى ينافي لحاظه كذلك في ارادة الآخر ، حيث ان لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن ارادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟.

وبالجملة : لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين ، وفانيا في الاثنين ، إلّا أن يكون اللاحظ احول العينين.

فانقدح بذلك : امتناع استعمال اللفظ مطلقا مفردا كان ، او غيره في اكثر من معنى بنحو الحقيقة او المجاز (١).

______________________________________________________

واما اذا كان الوضع للمعاني الكلية فلا داعي الى المجاز ، بل الاستعمال فيها بنحو استعمال الكلي في الفرد فلا داعي الى المجاز. ولعل لهذه المناقشة في الجواب الأخير اشار بقوله : «فافهم».

(١) ينبغي قبل الدخول في ذكر ادلة النافين والمثبتين في هذه المسألة من بيان محل الكلام فيها :

وهو ان يكون الاستعمال في اكثر من معنى واحد بنحو كما لو كان اللفظ مستعملا في كل واحد منها منفردا من دون استعمال له في الآخر.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا هو مراد صاحب المعالم قدس‌سره في قوله : «بحيث يكون كل واحد منهما مناطا للحكم ومتعلقا للاثبات».

فلا يورد عليه بالعام الاستغراقي الذي يكون كل فرد من افراده مناطا للحكم ومتعلقا للنفي والاثبات ، فان غرضه من الحكم هو نفس الاستعمال : أي بحيث يكون كل واحد منها كما لو كان قد استعمل فيه اللفظ وحده ولم يستعمل في غيره : بان يكون هناك استعمالان ومستعملان لا ربط بينهما ولا ترتب ولا يكون المستعمل فيه مفهوما واحدا يجمعهما ، ولا ملاحظة المعنيين كمعنى واحد بوحدة اعتبارية ، فان هذا ليس من استعمال المشترك في اكثر من معنى واحد الذي هو محل الكلام ، بل : بان يكون لكل منهما استعمال يخصه بلا ربط بينهما بنحو من انحاء الربط اصلا.

وقد اختلفوا في هذا على اقوال :

ـ فذهب البعض : إلى جوازه بنحو الحقيقة مطلقا في المفرد وغيره.

ـ وذهب آخرون : الى جوازه في المفرد بنحو المجاز وفي التثنية بنحو الحقيقة وهذا مختار صاحب المعالم قدس‌سره.

ـ وذهب المحقق القمي قدس‌سره ، صاحب القوانين : الى عدم جوازه لانه لا يصح بنحو الحقيقة ولا بنحو المجاز فلا يجوز عنده الاستعمال في اكثر من معنى ، لانه ليس باستعمال حقيقي ولا مجازي ، لا لانه ممتنع عقلي.

ـ والمختار للمصنف ، وجماعة من المحققين المتأخرين امتناعه عقلا ، للزوم اجتماع المثلين.

وبيانه : ان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى هو لحاظ اللفظ فانيا في المعنى ، ووجها له وكأن المعنى حين ينطق باللفظ هو المنطوق وهو الملقى بنفسه.

وبعبارة أخرى : ان المعنى الذي هو من طبيعة الكيف النفساني هو الكيف المسموع ، فحقيقة الاستعمال ليس هو الالحاظ اللفظ كذلك ، ومن المعلوم ان لحاظ اللفظ هو نحو من الوجود وتشخص للفظ في افق التصور ، وكلما تصور اللفظ حصل

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

له تشخص ووجود. فان فرض ان لهذا اللفظ الواحد استعمالين فقد فرض له لحاظان فإنه ليس معنى الاستعمال للفظ الّا لحاظه ، ولازم ذلك ان يكون لهذا اللفظ وجودان وتشخصان آليان : وهو معنى اجتماع المثلين.

وبعبارة ثالثة : ان اللفظ الذي هو ملحوظ واحد لا يعقل أن يلحظ بلحاظين في آن واحد ، وقد فرض ان هناك استعمالين وليس الاستعمال الّا اللحاظ ، فيجتمع لحاظان على ملحوظ واحد وهو من اجتماع المثلين ، فكما لا يعقل ان يكون لهوية شخصية واحدة وجودان خارجيان كذلك لا يمكن ان يكون لها وجودان ذهنيان.

ويمكن بيان الاستحالة بوجه آخر : وهو أن معنى استعمال اللفظ في اكثر من معنى ان يكون للفظ الواحد استعمالان ، وحيث فرض ان اللفظ واحد ، فلا يكون له الا لحاظ واحد ، وقد فرض ان له استعمالين فلا بد ان يكون له لحاظان ، إذ ليس حقيقة الاستعمال الّا نفس لحاظ اللفظ وجها للمعنى فيلزم ان يكون هذا اللحاظ الواحد بما هو لحاظ واحد لحاظين وهذا معنى قولهم : «انه يلزم من استعمال اللفظ في اكثر من معنى تعدد الواحد بما هو واحد ، ووحدة الاثنين بما هما اثنان». واعلم ان عبارة المصنف قابلة للانطباق على الوجهين.

وهنا وجه ثالث ، ذكره الاستاذ طاب مثواه في حاشيته على الكفاية المسماة ب (نهاية الدراية) (١) وهو امتن الوجوه في الدلالة على الاستحالة.

وتلخيصه : ان الوضع ليس إلا كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى فاللفظ الموجود خارجا وجوده الخارجي وجود بالذات له ، وجود بالجعل والتنزيل للمعنى ، فاذا وجد اللفظ في الخارج فقد وجد المعنى ايضا في الخارج ، إلا ان هذا الوجود الخارجي هو وجود بالذات لطبيعي اللفظ ووجود خارجي للمعنى بالتنزيل ، ومن الواضح : انه

__________________

(١) المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس‌سره ، نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٦٤.

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس للفظ الّا وجود واحد حقيقي وهو بنفسه الوجود التنزيلي بواسطة الوضع والجعل ، وليس للفظ وجود آخر حقيقي حتى يكون له وجود آخر تنزيلي ، والاستعمال ليس الّا ايجاد المعنى خارجا باللفظ بنفس الوجود الحقيقي الخارجي للفظ ، والايجاد والوجود متحدان بالذات ، فالايجاد للمعنى نفس وجوده.

وقد عرفت : ان وجود المعنى خارجا ليس الّا نفس وجوده الحقيقي خارجا ، والوجود التنزيلي هو نفس الوجود الحقيقي ، وحيث فرض ان الاستعمال في المقام استقلالي ، ومعناه الاستقلال في الايجاد التنزيلي ، وهو متحد بالذات مع الوجود التنزيلي ، فلازمه الاستقلال في الوجود التنزيلي ، والوجود التنزيلي هو الوجود الحقيقي. ففرض الاستعمال في اكثر من معنى فرض كون اللفظ ليس وجودا تنزيليا لكل واحد منفردا ، بل كونه وجودا تنزيليا لهما معا وهو خلف ، لأن الاستقلال في الوجود التنزيلي الذي هو الوجود الحقيقي نقيض كون اللفظ وجودا تنزيليا لاحدهما لا لهما معا ، ففرض كونه وجودا تنزيليا لهما معا فرض الخلف.

ويمكن المناقشة في الجميع : اما في الأولين ، فحاصلها ان الاستعمال وان كان هو كون اللفظ فانيا في المعنى ، ووجها له الّا ان فناءه في المعنى ليس كونه هو والمعنى موجودين بوجود واحد حقيقي ، بل هما موجودان ، ووجودان : وجود اللفظ ، ووجود المعنى وليس اللفظ بالنسبة الى المعنى ، كالمادة بالنسبة الى الصورة حتى يكون لهما وجود واحد ، وليس اللفظ كالمادة الشمعية للصورة التي تحلها ، كما ينظر به بعضهم للمقام ، فان الشمع المتصور بصورة يكون لهما وجود واحد والصورة هي فعلية تشخص المادة ، ولا يعقل ان يكون للشيء الواحد فعليتان ، فان كل فعلية تنافي الفعلية الأخرى ، فاذا كانت للشمع فعلية بواسطة صورة لا يعقل ان تكون له فعلية اخرى بواسطة صورة اخرى ، وليس اللفظ والمعنى كذلك ، فان له وجودا وفعلية ، وللمعنى وجودا وفعلية اخرى ، ولا برهان على انه يلزم : ان يكون لكل فناء وجود من اللفظ يختص به ، وما المانع ان يكون هذا اللفظ الموجود بوجود واحد له

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فناءان في معنيين استقلاليين؟ ولا ملازمة بين استقلالية المعنى واستقلال اللفظ : بان لا يكون له فناء آخر في معنى استقلالي آخر.

والذي يدلك على عدم المنافاة : انه لا ضرر ولا مانع من ان يكون اللفظ فانيا في المعنى وملحوظا طريقا له التي هي الطريقية بالحمل الشائع ، وبين الالتفات الى كونه ملحوظا كذلك ، والالتفات الى كونه كذلك هو لحاظه ، ووصفه بكونه طريقا وليس هذا المعنى والوصف له هو نفس طريقيته بالحمل الشائع.

فاذا جاز كون اللفظ الملحوظ فانيا في المعنى قد جمع له باللحاظ الواحد الطريقية بالحمل الشائع ، ووصفه بالطريقية فلم لا يجوز ان يكون هذا اللفظ الملحوظ بلحاظ واحد قد جعل فانيا في معنيين استقلاليين؟.

وأما استقلالية المعنيين فلأنه لم يلحظ فانيا في مفهوم واحد جامع لهما ولم يلحظ المعنيان بوحدة اعتبارية وهذا معنى الاستقلال للمعنيين.

وبعبارة اخرى : ان فناء اللفظ في المعنى ليس الّا قصد ايجاد المعنى به وما المانع من ان يقصد باللفظ ان يكون موجدا لمعنيين بعد ان جعل له قابلية ايجاد المعنى به بواسطة الجعل والمواضعة؟ ولا يلزم ان يكون لكل فناء وجود من طبيعي اللفظ بحيث لا يقصد به الّا ذلك الإفناء.

وأما الوجه الأخير ، فلأن الاستعمال وإن كان إيجاد المعنى باللفظ خارجا تنزيلا ، وان الوجود والايجاد متحدان الّا ان لهذا اللفظ ايجادا حقيقا ووجودا حقيقيا متحدين بالذات ، وله ايجاد تنزيلي ووجود تنزيلي ايضا متحدان بالذات ، وقد جعل لهذا اللفظ بواسطة الوضع قابلية ان يكون وجودا تنزيليا لمعنيين.

ولا برهان على وجوب ان يكون لكل وجود تنزيلي واحد وجود حقيقي واحد أيضا بحيث لا يكون ذلك الوجود الحقيقي الواحد وجودا تنزيليا لمعنى أخر ، ولم يحصل اتحاد حقيقي بواسطة الوضع بين الوجود الحقيقي والوجود التنزيلي بل لا

١٥٣

ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه ، فان اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع ، وكون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع ، ولا للموضوع له كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

يزال ابدا هناك أمران : أمر حقيقي وأمر تنزيلي ولا يعقل اتحادهما حقيقة ، وإلا لزم انقلاب الامر الاعتباري التنزيلي امرا حقيقيا مقوليا ، وهو غير معقول.

(١) لما برهن على ان الاستعمال في اكثر من معنى ممتنع عقلا ، ولا يفرق فيه بين المفرد ، وغيره ، لأن فناء اللفظ في أكثر من معنى واحد محال ، فلا فرق فيه بين أن يكون معناه مفردا أو غير مفرد شرع للتعرض للأقوال ، وأول ما ذكر رده قول المحقق القمي قدس‌سره.

وحاصل دعوى المحقق : ان الاوضاع توقيفية وقد وضع اللفظ للمعنى في حال الوحدة : أي ان الواضع حين الوضع تصوّر المعنى ولم يكن معه غيره ، فلا بد وأن يكون الاستعمال جاريا على نحو وضع الواضع : بأن يستعمل اللفظ في المعنى ، ولا يكون معه في هذا الاستعمال غيره. فاستعمال اللفظ في اكثر من معنى يكون خروجا عن نحو ما وضعه الواضع ، فلا يكون الاستعمال حقيقيا وليس من الاستعمال المجازي لانه ما كان بلحاظ العلاقة باستعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له ، والمفروض ان المعنى في المقام نفس المعنى وليس له لحاظ علاقة.

والجواب عنه : إن المتابعة لوضع الواضع والجري على قانون وضعه الذي هو معنى كونه من الأمور التوقيفية : هو متابعته في الحدود والقيود التي اعتبرها في اللفظ الموضوع ، ككون الزاء ـ مثلا ـ قبل الياء والياء قبل الدال ، وأن الزاء مفتوحة ، والياء ساكنة ، والدال بحسب الحركات الاعرابية ، وفي المعنى الموضوع له : وهو كونه هذه الهوية الخاصة ـ مثلا ـ دون غيرها من الهويات والمعاني ، وقد فرضنا ان الوحدة لم

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تعتبر قيدا لا في اللفظ ـ وهو واضح ـ ، ولا في المعنى ، لان الوضع كان في حال الوحدة لا بقيد الوحدة ، ولا تجب متابعة الواضع في غير ما أخذه قيدا.

وبعبارة اخرى : ان قول المحقق : ان الوضع كان في حال الوحدة ، إما ان يريد به ان المعنى في حال الوضع له كان وحده ولم يكن معه غيره ، فالمعنى كان في حال الوضع له منفردا ، إلا ان هذا الانفراد ما لم يكن قيدا للموضوع له لا تجب مراعاته.

وإما ان يريد به ان الوضع والجعل كان في حال الوحدة : أي انه اعتبر العلقة بين هذا اللفظ والمعنى ولم يكن في هذا المقام ناظرا الى علقة اخرى بين هذا اللفظ ومعنى آخر ، ولا أن يكون المعنى الآخر متمما للمعنى الأول فتجب متابعته في هذا الأمر. إلّا انه لا يخفى ان هذا المعنى من الوحدة موجود في استعمال اللفظ في اكثر من معنى فان المفروض ان اللفظ يستعمل في كل واحد من المعنيين أو الأكثر ، كما لو كان مستعملا في كل واحد ، فاستعمال اللفظ في كل واحد من المعنيين ليس متمما للاستعمال في الآخر ، ولا ناظرا إليه ، كيف؟ والمفروض ان هنا استعمالين مستقلين ، وقد اشار إلى هذا بقوله : «وكون الوضع في حال وحدة المعنى» : وهي احدى مقدمات دليل المحقق ، «وتوقيفيته» : وهي المقدمة الأخرى لدليله كما مر بيانه «لا يقتضي عدم الجواز» : أي عدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى ما لم تكن الوحدة قيدا في الوضع : بان يشترط ان لا يكون للفظ الّا استعمال واحد ، ولم ينقل من الواضعين هذا الشرط ، ولم تكن الوحدة ايضا قيدا للموضوع له ، كما صرح بعدم كونها قيدا للموضوع له ، وما لم تكن قيدا له لا تجب متابعته.

ثم لا يخفى ان المصنف قبل ان يتعرض لطلب المحقق قدس‌سره قال : فان اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له واضح المنع ، والمحقق لم يدع اخذ قيد الوحدة ، بل المدعي له صاحب المعالم ، وسيأتي عند ذكر قوله التعرض لكون قيد الوحدة لم يؤخذ في الموضوع له.

١٥٥

ثم لو تنزلنا عن ذلك فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وعلى نحو المجاز في المفرد مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما ، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ ، وبنحو المجاز فيه ، لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة ، فاذا استعمل في الاكثر لزم الغاء قيد الوحدة فيكون مستعملا في جزء المعنى بعلاقة الكل والجزء فيكون مجازا ، وذلك لوضوح أن الالفاظ لا تكون موضوعة إلا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة ، وإلا لما جاز الاستعمال في الاكثر ، لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة ، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء ، والشيء بشرط لا كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

والتعرض لرد أخذ قيد الوحدة هنا أوجب ان يورد عليه بانه بعد التعرض لمنعه ثم تعقيب ذلك بالتنزل معناه : انه يسلم اخذ قيد الوحدة في المعنى ، ومع تسليمه كيف يورد على صاحب المعالم : بان قيد الوحدة لم يؤخذ في المعنى.

وكأن غرض المصنف من التنزل : انه لو فرض اخذ قيد الوحدة فلا معنى لكونه مجازا في المفرد حقيقة في التثنية والجمع ، بل لو كان مجازا لكان في الجميع كذلك ، ولو كان حقيقة لكان ايضا حقيقة في الكل ، مضافا الى انه لم يؤخذ قيد الوحدة في الموضوع له ، وانه لو أخذ قيد الوحدة لكان الاستعمال في الاكثر من استعمال اللفظ الموضوع للبشرط لا في البشرطشيء.

(١) شروع في رد قول صاحب المعالم قدس‌سره.

وحاصل دعواه : ان الالفاظ الموضوعة للمعاني المفردة موضوعة لها بشرط قيد الوحدة فالموضوع له فيها المعنى بقيد الوحدة ، فقيد الوحدة جزء الموضوع له في المفرد ، فاذا استعمل في الاكثر فقد استعمل في المعنى بحذف قيد الوحدة عنه الذي هو جزء الموضوع له وكان من استعمال اللفظ الموضوع لمركب من امرين في احد جزئيه وهو نفس المعنى من دون قيد الوحدة ، فيكون مجازا من استعمال اللفظ الموضوع للكل في جزئه. هذا في المفرد.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما في التثنية فحيث كانت موضوعة للدلالة على التكرار ولم يؤخذ فيها قيد الوحدة إذ المفروض انها موضوعة للدلالة على اثنين لا على معنى واحد ، فيكون استعمالها في الاكثر استعمالا لها في معناها حيث لم يؤخذ فيها قيد الوحدة ، واستعمالها في الاكثر من الاستعمال الحقيقي واستعمال اللفظ في تمام معناه ، لا في جزء معناه ، فلا يكون الاستعمال مجازيا ، بل حقيقيا.

وقد أورد عليه المصنف بإيرادات.

الاول : ان الموضوع له في المفرد ليس المعنى بقيد الوحدة ، بل نفس المعنى من دون تقييد له بقيد الوحدة ، فان الواضع في مقام الوضع يتصور طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى فيضع اللفظ بازاء نفس المعنى من دون تقييده بوحدة او كثرة ، وهذا امر محسوس مشاهد لكل من وضع لفظا لمعنى ، ولذا كانت دعوى صاحب القوانين : ان الموضوع له المعنى في حال الوحدة لا بقيد الوحدة. وقد اشار المصنف الى الايراد الاول بقوله : «لوضوح ان الالفاظ لا تكون موضوعة الّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة».

الايراد الثاني : ان قيد الوحدة لو كان جزء الموضوع له في المفرد لكان استعمال اللفظ في الاكثر من استعمال اللفظ الموضوع للبشرط لا في المعنى بشرط شيء ، لا من استعمال اللفظ الموضوع للكل في جزئه. والشيء بشرط شيء يباين الشيء بشرط لا ، لا أنه جزؤه ، فان معنى اخذ قيد الوحدة في الموضوع له هو ان الموضوع له هو المعنى مقيدا بان لا يكون معه غيره : وهو معنى كونه بشرط لا ، فاذا استعمل في الأكثر كان غيره معه : وهو معنى بشرط شيء ، وكون غيره معه يباين ان لا يكون معه غيره مباينة البشرطشيء للبشرط لا ، وليس استعماله فيما كان معه غيره استعمالا له في جزء معناه.

والى هذا اشار بقوله : «وإلا لما جاز الاستعمال في الاكثر لأنه ليس جزء المقيد بالوحدة ، بل يباينه» : أي الاكثر يباين المقيد بالوحدة «مباينة الشيء بشرط شيء

١٥٧

والتثنية والجمع وان كانا بمنزلة التكرار في اللفظ ، إلا ان الظاهر ان اللفظ فيهما كأنه كرر واريد من كل لفظ فرد من افراد معناه ، لا أنه اريد منه معنى من معانيه ، فاذا قيل ـ مثلا ـ : جئني بعينين اريد فردان من العين الجارية والعين الباكية.

والتثنية والجمع في الاعلام انما هو بتأويل المفرد الى المسمى بها ، مع انه لو قيل : بعدم التأويل وكفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة بحيث جاز ارادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الاكثر لأن هيئتهما إنما تدل على ارادة المتعدد مما يراد من مفردهما فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانية استعمالا لهما في معنى واحد ، كما اذا استعملا واريد المتعدد من معنى واحد منهما كما لا يخفى :

نعم لو اريد ـ مثلا ـ من عينين فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين ، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي

______________________________________________________

والشيء بشرط لا» ، فلا تكون العلاقة بينهما علاقة الجزء والكل ، بل نسبة كل منهما الى الآخر نسبة المباين الى المباين ولا علاقة بينهما فلا يصح الاستعمال فتأمل.

الايراد الثالث : ان قيد الوحدة لو كان مأخوذا في المفرد لكان مأخوذا في التثنية ايضا ، لان اللفظ في التثنية موضوع للاثنين بشرط ان لا يكون معهما غيرهما ، فاستعمال التثنية في الاكثر من الاثنين الذي هو معنى استعمالها في الاكثر من معنى ـ كما سيأتي بيانه ـ هو استعمال لها مع غيرها. وهذا الغاء لقيد الوحدة المأخوذ فيها ، فهي اذا كالمفرد ، فاذا كان استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى جائزا مجازا يكون في التثنية ـ ايضا ـ جائزا مجازا ، لإلغاء قيد الوحدة في كليهما على السواء.

والى هذا اشار في آخر كلامه على التثنية بقوله : «فان فيه الغاء قيد الوحدة المعتبرة ايضا ضرورة».

١٥٨

في ذلك اصلا ، فان فيه الغاء قيد الوحدة المعتبرة ايضا ، ضرورة أن التثنية عنده انما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة والفرق بينها وبين المفرد انما يكون في : انه موضوع للطبيعة وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين كما هو اوضح من ان يخفى (١).

______________________________________________________

(١) لا بد من تقديم مقدمة لينقح بها الموضوع له في التثنية ، وكيفية استعمالها في اكثر من معنى. وما يرد على صاحب المعالم : وهي انه لا اشكال في ان التثنية تدل على الاثنين ، إلا انه وقع الخلاف في أن دلالتها على الاثنين هل كانت بوضع واحد : بمعنى ان اللفظ في التثنية بمجموعه : من هيئته ومادته من دون تمييز قد وضع للدلالة على الاثنين ، أم أن الوضع فيها متعدد ، وان المادة فيها موضوعة لطبيعي المعنى ، والهيئة بما فيها من الالف والنون موضوعة للدلالة على الاثنين ، أو ان المادة بمالها من الهيئة من غير الالف والنون موضوعة للدلالة على الاثنين ، أو أن المادة بما لها من الهيئة من غير الالف والنون موضوعة للدلالة على طبيعي المعنى ، والالف والنون فيها تدل على الاثنين؟.

ويظهر من المصنف اختيار الاحتمال الثاني فانه قال : لأن هيئتها انما تدل على ارادة المتعدد مما يراد من مفردهما ولم يعبر بالالف والنون.

وعلى الاحتمال الاول يمكن ان يكون استعمال التثنية بلا تأويل في الفردين من حقيقتين : بان يراد من العينين ـ مثلا ـ فرد من الجارية وفرد من الباصرة. وأما على الاحتمال الثاني والثالث فلا يكون ذلك من دون تأويل ، لأن المادة تدل على المعنى الطبيعي والهيئة او الالف والنون تدل على فردين من تلك الطبيعة ، فهي تدل على فردين من تلك الطبيعة فهي تدل على فردين من طبيعة واحدة ، فاستعمالها في فردين من طبيعتين لا يصح من دون تأويل. وعلى هذا ايضا لا بد من التأويل في تثنية الاعلام ، لأن المادة فيها لم توضع لطبيعة لها افراد ، بل موضوعة للطبيعة الجزئية الخاصة ، فلا بد في تثنية الاعلام ، وفيما اذا اريد من العينين الاثنين من طبيعتين من

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

التأويل : بأن يراد من المادة ما يعبر عنه بهذا اللفظ وما يسمى بهذا اللفظ ، ولذا قال قدس‌سره : «والتثنية والجمع في الاعلام انما هو بتأويل المفرد الى المسمى بها».

وقد اتضح ايضا : ان ارادة الفردين من حقيقتين كالجارية والباصرة من لفظ العينين وان كان ليس من استعمال اللفظ في معناه ، لأن معنى التثنية الفردان من طبيعة واحدة ، إلا انه ليس من استعمال اللفظ في اكثر من معنى ، لأنها لم تدل على اكثر من اثنين.

نعم ، لو اريد من العينين فردان من الجارية وفردان من الباصرة لكان من استعمال اللفظ في اكثر من معنى ، لان المراد منها حينئذ اربعة لا اثنين.

وقد اتضح مما ذكرنا ايضا : انه على الاحتمال الاول لا نحتاج الى التأويل في تثنية الاعلام ، لان لفظ الزيدين ـ مثلا ـ موضوع بوضع واحد بمجموعه من مادته وهيئته للدلالة على الاثنين وليس هيئته أو الالف والنون لها وضع على حدة غير وضع مادته ، إلا انه خلاف الظاهر ، بل الوضع في التثنية متعدد ولذا لا بد من التأويل بالمسمى في تثنية الاعلام.

اذا عرفت هذه المقدمة اتضح لك : ما يظهر من كلام صاحب المعالم : من استعمال التثنية في الفردين من حقيقتين ، كما لو أريد من العينين الجارية والباصرة هو من استعمال اللفظ في اكثر من معنى ليس على ما ينبغي ، لأن التثنية لم تدل على الاكثر من الاثنين حتى يكون من استعمال اللفظ في اكثر من معنى ، وان كان ارادة الفردين من طبيعتين خلاف المتبادر من التثنية ، لما عرفت : من ان التثنية المتبادر منها هو الفردان من طبيعة واحدة ، فان الظاهر ان الوضع فيها متعدد لا واحد ، ولازم ذلك ان تكون المادة دالة على طبيعي المعنى ، والهيئة أو الالف والنون يدلان على اثنين من تلك الطبيعة.

ثم انه لو صح استعمال التثنية في اكثر من معنى : بان يراد منها اربعة لكان هذا من الاستعمال المجازي ، لأنه كما ان المفرد موضوع للمعنى بشرط ان لا يكون معه

١٦٠