بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

دخل في الغرض ، ولم يبين يجري الاطلاق وينفي به دخالة قصد القربة. ومرحلة الرجوع الى الاصول انما هي فيما لم يحرز كون المولى في صدد البيان لكل ما له دخل في غرضه ، وعطف عليه المصنف الشك في دخالة كل ما يتفرغ على الامر فلا يمكن اخذه في متعلق الامر ، فلا يمكن التمسك بالاطلاق اللفظي اصلا ، والاطلاق المقامي لا بد من احرازه ، والمفروض انه لم يحرز فيرجع الى الاصول ، والاصل هو الاشتغال.

وحاصل ما يريد بيانه في قوله : نعم ، ان النوبة فيما عطفه على قصد القربة ، وهو قصد الوجه وقصد التمييز لا تصل الى الرجوع الى الاصل ، وانه فيهما بخصوصهما يجري الاطلاق المقامي على كل حال ، ولا يتوقف إحراز كون المولى في مقام بيان كل ما له دخل في حصول غرضه ، بل في مثل قصد الوجه والتمييز يلزم على المولى ان يكون بصدد البيان ، وان يبين دخالة الوجه والتمييز في حصول غرضه فيما اذا كان لهما دخالة في ذلك بالفرق بين مثل قصد القربة ، ومثل قصد الوجه والتمييز ، فان قصد الوجه والتمييز مما تغفل عنهما اذهان عامة الناس ولا تلتفت اليهما ، فلا يحصل للناس شك في احتمال دخالتهما في الغرض ، حتى يصح للشارع ان يعتمد على حكم العقل الملزم بالاشتغال وانه لا بد من اتيانهما ، فلو كان لهما دخالة في الغرض واقعا وهما كما ذكرنا مما تغفل عنهما اذهان عامة الناس ، ولا يحصل الشك لهم في احتمال دخالتهما ، فلا شيء هناك يعتمد عليه الشارع في حصول ما له دخالة في ترتب الغرض من حكم العقل بالاشتغال ولزوم الاتيان بهما ، لأن العقل انما يحكم بالاتيان بهما فيما اذا حصل الشك في دخالتهما والتمس حكم العقل في هذا المشكوك ، اما اذا لم يحصل الشك من رأس فلا يرجع الى العقل في حكمه ، اذ لا مشكوك حتى يلتمس حكم العقل في حكمه فيه ، فليس للشارع اهمال مثل الوجه والتمييز الذي يغفل عنهما اذهان العامة ، ولو كان لهما الدخالة في الغرض لكان على الشارع ان ينصب نفسه للبيان من هذه الناحية ، واذا لم ينصب نفسه يكون قد

٤٠١

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول : إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار ، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار ، لوضوح أنه لا بد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا ، وليس هاهنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي ، بل واقعي ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك ، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا ، فبدليل الرفع ولو كان أصلا يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك ، يجب الخروج عن عهدته عقلا ، بخلاف المقام ، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت (١) ،

______________________________________________________

فوت على نفسه غرضه ، بخلاف القربة حيث انه مما يلتفت اليه اذهان العامة بدوا ، فاذا لم ينصب المولى نفسه لمقام بيانه لا يكون مفوتا لغرضه ، لامكان اعتماده على حكم العقل فيه الحاكم بالاشتغال ، وانه لا بد من اتيانه فلا يفوت في مقام ترتب غرضه شيء.

وبعبارة اخرى : في قصد القربة لا يجب على المولى بيانه لانه لا يفوت منه ، وفي مثل الوجه يجب على المولى بيانه ، وإلّا لفات منه ، ولا يعقل ان يكون المولى العالم والمحيط بجميع الاشياء مفوتا لغرضه.

وحيث انه لا اثر من ذكر قصد الوجه والتمييز في الروايات يقطع الشخص بعدم دخالتهما في ترتب الغرض ، والّا لكان لهما عين واثر في مجموع اخبار آل البيت عليهم‌السلام ، ولا عبرة بالتفات بعض الناس وهم بعض العلماء المتبحرين الواسعي الاحتمالات ، فان التكليف موجه للعامة ، فلا بد وان يكون العامة مما يلتفتون الى احتمال الدخالة فيحصل لهم الشك.

(١) لما فرغ من الكلام على البراءة العقلية شرع في الكلام على البراءة الشرعية.

وتوضيح التوهم فيها : انه سيأتي في الاقل والاكثر الارتباطيين انه يفكّك بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية ، فان المصنف يقول : بعدم جريان البراءة العقلية ،

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لوجود التكليف والبيان المردد بين الاقل والاكثر فلا تجري قاعدة العقاب بلا بيان ، ولكنه يقول بجريان البراءة الشرعية ، فان الجزئية المشكوكة مما لا يعلمون فتكون مرفوعة بواسطة البراءة الشرعية ، وتفصيله في محلة ـ ان شاء الله ـ فاذا امكن التفكيك في الارتباطيين امكن هنا ايضا ، لأن الجزئية او القيديّة مشكوكة فترفع بما لا يعلمون. هذا حاصل التوهم.

والجواب عنه : ان الجزئية والقيدية لها مقامان : مقام دخالتهما في الماهية التي يترتب عليها الغرض واقعا وهذه الدخالة تكوينية ، ومن المعلوم ان المرفوع بالبراءة الشرعية هو ما امكن رفعه ووضعه للشارع بما هو شارع ، ولا دخل للشارع بما هو شارع في الرفع والوضع في مقام التكوينيات ، وانما له الدخل في الرفع والوضع بما هو شارع في مقام كونه شارعا ومشرعا للاحكام ، وهو مقام التكاليف وتشريع الاحكام.

والمقام الثاني : هو مقام الامر وتعلق التكاليف ، وفي هذا المقام تجري البراءة الشرعية ، وقد عرفت عدم امكان دخالة الجزء المشكوك او القيد المشكوك في مقام تعلق الامر ، لعدم امكان تعلق الامر بهما ، ففي هذا المقام يقطع بعدم دخل هذا الجزء المشكوك فيه لعدم امكان اخذه ، فما هو مقام جريان البراءة الشرعية لا شك فيه في دخالة الجزء ، والمقام المشكوك دخالة الجزء فيه وهو مقام دخالته في الماهية التي يترتب عليها الغرض لا مجرى للبراءة الشرعية فيه ، بخلاف الاقل والاكثر الارتباطيين فان الجزء المشكوك فيه يمكن دخالته في كلا المقامين ، وفي المقام الثاني الذي هو مجرى البراءة العقلية والشرعية لا تجري البراءة العقلية ، ولكنه تجري البراءة الشرعية ، وقد اشار (قدس‌سره) الى الجواب بقوله : «لوضوح» : أي انه لا ينبغي ان تتوهم هذا التوهم في مثل الشك في قصد القربة ، لانه من الواضح «انه لا بد في عمومها» : أي في عموم ادلة البراءة الشرعية «من شيء قابل للرفع والوضع شرعا» وهو مقام تعلق الامر «وليس هاهنا» : أي في مقام التشريع لأن قصد القربة لا يمكن اخذه في متعلق الامر فلا دخالة للجزء في مقام تشريع الاحكام «فان دخال قصد القربة

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ونحوها» كالوجه والتمييز «في الغرض ليس بشرعي» لأن مقام الدخل الشرعي مقام تعلق الامر «بل واقعي» وهو ما ذكرنا من دخالته في مقام الماهية المترتب عليها الغرض ، وهذا دخل واقعي تكويني لا تشريعي.

ثم قال (قدس‌سره) : «ودخل الجزء والشرط فيه وان كان كذلك» : أي ان دخالة الجزء والشرط في مقام تعلق الامر وان كان ايضا دخالة واقعية ، لوضوح انه ما لم يكن للجزء والشرط دخالة في الواقع تكوينا لا يمكن ان يكون لهما دخالة في مقام التشريع ، اذ لا يشرع الّا ما له دخل في ترتب الغرض واقعا ، ومقام التشريع ايضا مقام واقعي ، ولكنه في مقام التشريع ، وتعلق الامر وفي هذا المقام يكون الجزء قابلا للرفع والوضع ، فاذا جرت البراءة الشرعية في هذا المقام ، ورفعت الجزء في هذا المقام كانت كاشفة عن ان الامر الفعلي محدود بما عدا المشكوك ، وانه لا امر فعلي بالجزء المشكوك ليجب الخروج عن عهدته ، الّا انها انما تنفع في مقام يمكن اخذ الجزء في مقام التشريع وتعلق الامر وهو الجزء المشكوك في الاقل والاكثر الارتباطيين ، لا في مثل قصد القربة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «إلّا انهما قابلان للوضع والرفع شرعا» : أي ان دخالة الجزء والشرط التي هي دخالة واقعية في مقام التكوين وفي مقام التشريع ، إلّا ان البراءة الشرعية مختصة بما يكون قابلا للرفع والوضع وهو مقام التشريع «فبدليل الرفع» الذي مقامه مقام التشريع ، ولو كان هذا الدليل اصلا لا يحكى ولا يكشف عن الواقع ، اذ ليس لسان الاصل لسان الكشف عن الواقع مثل الامارة التي لسانها لسان الكشف ، لكنه حيث يرفع العهدة عن الجزئية في مقام التشريع يكشف عن ان الامر الفعلي محدود بما عدا الجزء المشكوك فعلا ، فلا يكون امرا فعليا بالجزء المشكوك ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولو كان اصلا يكشف انه ليس هناك امر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك» : أي يكشف عن ان الامر الفعلي لا يعم المشكوك حتى «يجب الخروج عن عهدته عقلا» وهذا «بخلاف المقام» وهو ما اذا كان المشكوك قصد القربة ، فانه انما ينفع في الجزء الذي يمكن ان

٤٠٤

فافهم (١).

______________________________________________________

يكون متعلقا للامر ، فالامر الفعلي في هذا المقام : أي في مقام يكون المشكوك قصد القربة به معلوم بحدوده وقيوده ولا تعلق له بقصد القربة اصلا ، لعدم امكان تعلقه به ، فلا يكون مجرى للبراءة الشرعية ، فما هو امر فعلي قد علم بجميع حدوده وقيوده وليس له تعلق بقصد القربة ، فليس قصد القربة مشكوك الجزئية في متعلق الامر ، بل مقطوع بانه ليس بجزء في هذا المقام ، وقد عرفت انه لا بد في مجرى البراءة الشرعية من ان يكون متعلق الشك هو الامر الفعلي ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فانه» : أي في مقام الشك في قصد القربة «علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت» فان الامر الفعلي معلوم بجميع ما يمكن اخذه فيه.

ولا يخفى ايضا ـ كما مر ـ ان عدم جريان البراءة الشرعية في المشكوك وهو قصد القربة مبني على عدم امكان اخذه في متعلق الامر ، لا بامر واحد ولا بامرين ، وإلّا اذا امكن اخذه بامرين يتحقق مجرى البراءة الشرعية ، لعدم اختصاص مجراها بما يمكن اخذه بأمر واحد ، بل المدار في الجريان كون المشكوك مما يمكن للشارع بما هو شارع الامر به ولو بامر ثان.

(١) يمكن ان يكون اشارة الى ان الامر بالمشكوك بأمر ثان انما يكون لغوا فيما علم العقل ان متعلق التكليف مما لا يسقط الامر به باتيان نفس متعلقه لعدم حصول الغرض به ، وان الغرض لا يسقط الّا باتيانه بقصد القربة.

اما اذا لم يعلم العقل ذلك ، فلا ارشاد له ولا الزام باتيان متعلق الامر بقصد الامر ، فلا مناص للشارع من ان يدل على دخالة قصد القربة بامر آخر ، وحينئذ يكون مجرى للبراءة العقلية والشرعية ، لأن انحلال التكليف لا يتوقف على ان يكون المشكوك مما يمكن اخذه في متعلق امر واحد ، بل مجراها هو ان يكون مجموع هذا الشيء الارتباطي مما ينحل الى معلوم بالتفصيل والى مشكوك ولو بامر آخر ، وكذلك البراءة الشرعية في مقام نفي الجزئية كما عرفت ، وحيث لا علم بان متعلق التكليف

٤٠٥

المبحث السادس : قضية إطلاق الصيغة ، كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيّا ، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقيد الوجوب وتضيق دائرته ، فإذا كان في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة عليه ، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا ، وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، كما هو واضح لا يخفى (١).

______________________________________________________

من أي سنخ هو فلا بد للشارع ان يلحق الامر الاول بامر ثان ليتم البيان ، ويحصل الغرض الداعي للامر ، فان الغرض كما يدعو للامر الاول يدعو ايضا للامر الثاني حيث لا طريق للعقل الى ادراكه ، بل يمكن ان يقال : انه لا يشترط في مجرى البراءة ان يدل الشارع على دخالة قصد القربة في متعلق الامر بأمر ثان ، بل يكون مجرى البراءة العقلية والشرعية متحققا اذا بيّن الشارع دخالة قصد القربة ، ولو بنحو الاخبار والارشاد الى دخالته في الغرض ، وكونه جزءا في الواقع ، لأن مجرى البراءة العقلية موضوعه البيان ولا اختصاص بخصوص البيان بنحو الامر ، والبراءة الشرعية وان كان مجراها لا بد فيه من امكان الوضع والرفع ، إلّا ان الوضع والرفع ايضا لا يختص بالبيان بنحو الامر ، بل بما هو مخبر ومرشد الى دخالة الشيء في الواقع يمكنه ايضا ان يضع ويرفع ، فان من جملة طرق امكان الرفع والوضع الاخبار من الشارع بالدخالة وعدم الدخالة ، فالشارع في هذا المقام وان كان مخبرا الّا انه حيث لا طريق الى هذا الخبر الّا من ناحية الشارع ، يكون هذا الطريق نحوا مما هو امره بيد الشارع أيضا. هذا ، مضافا الى ما ذكرنا في التعليقة على هذا الشرح : من امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر الواحد ، وانه لا يرد عليه شيء من المحاذير التي ذكرت في امتناع اخذه فراجع.

(١) لا يخفى ان الوجوب جامع بين جميع افراده : من الوجوب النفسي والوجوب الغيري ، والوجوب التعييني والوجوب التخييري ، والوجوب العيني والوجوب

٤٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الكفائي. فلا بد فيما لم تقم قرينة خاصة على تعيين احد افراده من الرجوع الى القرينة العامة : وهي الاطلاق.

والاطلاق في المقام يقتضي كون الوجوب نفسيا لا غيريا ، وتعيينيا لا تخييريا ، وعينيا لا كفائيا.

وتوضيحه : ان مقدمات الحكمة الثلاث وهي : كون المتكلم في مقام البيان ، وانتفاء القرينة الخاصة ، وعدم القدر المتيقن في مقام التخاطب ، هذه المقدمات الثلاث لا تكفي في افادة الاطلاق في المقام كما تكفي في المقامات الأخر ، بل لا بد من ضم مقدمة رابعة لتتضح دلالة الاطلاق ، وانه بواسطة هذه المقدمة المنضمة الى تلك الثلاث يدل الاطلاق على ما افاده (قدس‌سره) من تعيين النفسية والتعيينية والعينية.

وهذه المقدمة الرابعة ، هي ان ينظر الى كل واحدة من هذه الثلاث وما يقابلها فيرى ان ايهما فيه قيد زائد لا تفي الصيغة الدالة على الوجوب به بل لا بد من بيانه ، فذاك الذي يحتاج الى بيان هو المنفي بالاطلاق ، مثلا النفسية يقابلها الغيريّة فانا اذا حلّلنا الوجوب الغيري نراه هو الواجب الذي يترشح وجوبه من واجب آخر ، فما لم يكن وجوب لذي المقدمة لا يحصل وجوب المقدمة الذي وجوبها هو الوجوب الغيري ، فاذا الوجوب الغيري هو الواجب المرتبط بوجوب آخر ، فاذا امر المولى بشيء وقال : افعله نشك في ان هذا الوجوب مربوط البعث له وطلبه بواجب آخر ام لا؟ وليس الوجوب فيه مربوطا بشيء آخر فيكون الوجوب النفسي هو الوجوب غير المقيد بشيء ، ولا شبهة ان الارتباط بشيء آخر من الوجوب قيد يزيد على نفس الصيغة الدالة على اصل الوجوب ، بخلاف الوجوب النفسي فان الوجوب فيه المستفاد من نفس الصيغة الدالة على الوجوب ، لأن الوجوب النفسي هو الوجوب الذي لا قيد فيه ولا فيه ارتباط بالغير ، فلو اراد المولى من هذا الوجوب المستفاد من الصيغة الوجوب الغيري لبينه ، وحيث لم يبينه يكون ناقضا لغرضه وخلاف الحكمة.

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان المولى لم يرد صرف الجامع بين هذين الفردين ، ومراده لا بد وان يكون احد الفردين وهو المطلوب له ، والواجب النفسي هو الواجب لا لواجب آخر ، والواجب الغيري هو الواجب لواجب آخر.

فالنفسي والغيري وان كان كل واحد منهما مقيدا الّا ان القيد في الواجب النفسي عدمي والقيد في الغيري وجودي ، والقيد العدمي ـ بحسب نظر العرف ـ كانه لا يزيد على نفس الطبيعة ، بخلاف القيد الوجودي فانه يزيد عند العرف على نفس الطبيعة ، ومن الواضح ان ما يراه العرف زائدا هو الذي ينبغي بيانه وذكره ، اما ما لا يزيد على نفس الطبيعة عندهم لا يحتاج الى مزيد ذكر اذا دل الدليل على اصل الطبيعة ، فاذا كان المولى في مقام البيان وانه لا بد وان يكون مراده احد الفردين يكون لو اراد الفرد الذي يحتاج قيده الى ذكر بيان مع انه لم يذكره ولم يبينه هو المنفي ، وان العرف يحملون الكلام المطلق من المولى على الفرد الذي قيده عدمي ، لأن القيد الوجودي هو المحتاج الى البيان عندهم ولم يبينه المولى ، فلو اراده لكان ناقضا لغرضه ، بخلاف المقيد بقيد عدمي فانه لو كان هو المراد للمولى لا يكون ملزما بذكر قيده العدمي ، بل نفس الكلام غير المقيد كاف فيه.

والحاصل : ان العرف يرون ان عدم القرينة على القيد الوجودي هي قرينة على عدم ارادته ، والّا لكان المولى ناقضا لغرضه ، والقيد العدمي لا يحتاج المولى الى نصب قرينة عليه وحيث لم تذكر القرينة على الوجوب الغيري فلا يكون مرادا للمولى ، والّا كان المولى ناقضا لغرضه ، فلا بد وان يكون مراده هو الوجوب النفسي ، لأن القيد فيه لا يحتاج الى التزام المولى ببيانه ونفس الكلام الدال على الوجوب الذي اراد المولى منه فردا خاصا كاف في ارادة هذا الفرد الخاص وهو الوجوب النفسي ، لكون قيده عدميا لا يزيد ـ بحسب نظر العرف ـ على نفس الوجوب.

٤٠٨

المبحث السابع : إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال : نسب إلى المشهور ظهورها في الاباحة. وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب ، وإلى بعض تبعيّتها لما قبل النهي ، إن علق الامر بزوال علة النهي ، إلى غير ذلك (١).

______________________________________________________

والحال كما ذكرنا في التعييني والتخييري ، لأن القيد في التخييري وجودي ، لأن التخييري هو الواجب الذي يجوز تركه الى بدل ، بخلاف التعييني فانه الواجب الذي لا يجوز تركه الى بدل.

وكذلك الحال في العيني والكفائي ، فان الواجب الكفائي هو الواجب الذي يجوز تركه اذا اتى به مكلف آخر ، بخلاف الواجب العيني فانه الواجب الذي لا يجوز تركه أتى به مكلف آخر او لم يأت به.

فالقيود في النفسية والتعيينية والعينية كلها عدمية ، وفي مقابلها من الغيرية والتخييرية والكفائية وجودية ، والقيد الوجودي هو المحتاج الى البيان ، ويلزم نقض الغرض وخلاف الحكمة من عدم ذكره لو كان هو المراد.

فاتضح : ان الاطلاق يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فالحكمة تقتضي كونه مطلقا» : أي نفسيا غير مقيد بوجوب آخر ، فهو واجب سواء «وجب» هناك «شيء آخر أو لا» والاطلاق يقتضي كونه تعيينيا : أي ان وجوبه غير مربوط ومقيد بانه يجوز تركه اذا اتى بشيء آخر وهو واجب سواء «اتى بشيء آخر أو لا» والاطلاق يقتضي العينية : أي ان الوجوب غير مربوط بانه يجوز تركه اذا أتى به مكلف آخر ، بل هو واجب سواء «أتي به آخر اولا».

(١) لا يخفى ان القائلين هنا بظهورها في الاباحة او في تبعيتها لما قبل النهي او غير ذلك من الاقوال لا يريدون انها تكون لها حقيقة اخرى في المعنى الذي يدعونه : بمعنى ان للصيغة وضعين ، بل مرادهم انها حقيقة في الوجوب لا غير ، وليس لها إلّا

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وضع واحد ، إلّا ان هذه القرينة العامة التي يدعونها وهي ورودها عقيب الحظر ، او في مقام توهم الحظر ، او الظن بالحظر قرينة على كون الصيغة مستعملة مجازا في غير الوجوب.

فمدعي الاباحة يدعي : ان هذه القرينة صارفة عن المعنى الحقيقي ومعينة للاباحة من دون المعاني المجازية الأخر.

والقائل بالتوقف يقول : ان هذه القرينة تمنع عن ارادة المعنى الحقيقي ، واما كونها معينة لاحد المجازات فلا دلالة على ذلك.

والقائل بالندب يقول : ان هذه القرينة العامة صارفة عن المعنى الحقيقي لا غير ، واستفادة الندب انما هو بعد عدم ارادة الوجوب يبقى الطلب الملازم للرجحان. نعم القائل بانكار هذه القرينة العامة وان الصيغة دالة على الوجوب كالصيغة غير الواردة في مقام توهم الحظر أو عقيب الحظر لا يقول بالمجازية.

وكيف كان ففي ورود الامر عقيب الحظر او في مقام توهم الحظر أو الظن به اقوال :

ذهب المشهور : الى دلالته على الاباحة ، وقد يستدل لهم : بان الحظر السابق على هذا الامر كان مانعا عن الاذن في فعل الشيء ، فاذا ورد الامر عقيبه أو في مقام توهمه فظاهر الحال فيه انه لا مانع من فعله ، وان الامر بداعي الاذن والترخيص فالامر لا يدل على الوجوب ، لأن الامر الذي يدل على الوجوب لا يكون بداعي الاذن والترخيص ، بل يكون بداعي الالزام فلا يكون دالا على الوجوب ، وحيث انه بداعي الترخيص يكون دالا على الاباحة.

ويرد عليه : ان الامر لو لا وروده عقيب الحظر يكون ظاهرا في الوجوب ، فللأمر بذاته لو لا وقوعه في تلو الحظر ظهور في الوجوب ، ووقوعه في تلو الحظر لا يجعله ظاهرا في الوجوب ، اما انه يجعله ظاهرا في انه بداعي الترخيص والاذن فلا دلالة فيه على ذلك ولا ظهور له بذلك ولا اقل من الشك.

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وذهب بعض العامة : الى ظهوره في الوجوب وانه لا فرق في استفادة الوجوب من الصيغة بين كونها غير واردة عقيب الحظر أو واردة عقيبه لأن الصيغة لها معنى حقيقي تحمل عليه الّا اذا قامت القرينة على خلافه وليس قرينة خاصة على خلافه ، بل ليس هناك الّا وروده بعد الحظر ، ووروده عقيب الحظر دليل على انتهاء امد المنع والحظر بورود هذا الامر ، اما انه له دلالة على ان الصيغة مستعملة بغير داعي الوجوب وفي غير معناها الحقيقي فليس كذلك ، ولا اقل من الشك في كون المراد منها المعنى الحقيقي او المعاني المجازية الأخر ، وكلما دار الامر بين المعنى الحقيقي والمجازي فاصالة الحقيقة تعين الحمل على المعنى الحقيقي.

ويرد عليه : ان اصالة الحقيقة من الاصول العقلائية التي عمل بها العقلاء في مقام الشك في وجود القرينة في الكلام ، ولم يظهر منهم العمل بها في الكلام المحتف بمحتمل القرينة ، وورود الامر عقيب الحظر مما يحتمل كونه قرينة ، فلا مجال للعمل باصالة الحقيقة فلا ظهور للصيغة في الوجوب في المقام.

وذهب جماعة : الى ان الامر في عقيب الحظر يدل على كون المراد بهذه الصيغة ـ فعلا ـ مثل المراد بها قبل ورود هذا الحظر ، فهي تابعة لما قبل النهي ، فان كان وجوبا فوجوب ، وان كان ندبا فندب ، وان كان اباحة فإباحة ، واشترطوا شيئا في هذه التبعية وهي ان هذه التبعية انما تكون في مقام يكون الامر الوارد عقيب الحظر معلقا على زوال العلة التي دعت الى الحظر والنهي مثل قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) فانه بعد ان أمر بقتل المشركين مطلقا ، ثم خصصه بالنهي عن قتل المشركين في الاشهر الحرم ، ثم علق الامر بقتل المشركين على زوال العلة التي دعت الى تحريم قتل المشركين بقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فان العلة التي دعت الى تحريم قتل المشركين هي

__________________

(١) التوبة : الآية ٥.

٤١١

والتحقيق : إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب ، أو الاباحة ، أو التبعية ، ومع فرض التجريد عنها ، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.

غاية الامر يكون موجبا لاجمالها ، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى ، كما أشرنا (١).

______________________________________________________

حرمة الاشهر الحرم ، فاذا انسلخ الاشهر الحرم فلا مانع فاقتلوا المشركين ، فقتل المشركين واجب بعد الاشهر الحرم كما هو واجب قبل الاشهر الحرم ، ومثله في الدلالة على التبعية ما ورد من امر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد الحيض والنفاس فانه يجب عليهما الصوم والصلاة بعد الحيض والنفاس كما كان يجب عليهما قبل الحيض والنفاس ، لأن علة النهي عن الصوم والصلاة هو الحيض والنفاس ، وامرها بعد الحيض والنفاس قد علق على ذهاب علة التحريم وهو الحيض والنفاس.

ويرد على ذلك : ان وجوب الصلاة والصوم ، وقتل المشركين بعد الاشهر الحرم لم يستفد من هذا الامر الوارد قبل الحظر ، بل من دليل آخر.

(١) وحاصله ان الاقوال التي تقدم ذكرها تشبث المدعون لها بموارد الاستعمال ، فمدعي الدلالة على الاباحة ذكر امثلة كان الحكم فيها هو الاباحة ، والمدعي للوجوب ذكر مثل ذلك ، والمدعي للتبعية ذكر مثلهم ، والموارد التي ذكروها كلها غير خالية عن قرائن خاصة تدل على الحكم الذي يدعونه.

والكلام انما هو في مورد يكون مجردا عن كل قرينة ، وليس فيه الّا امر ورد اما عقيب الحظر او عقيب توهمه. فينبغي ان يثبتوا كون ورود الامر عقيب الحظر أو في مقام توهمه دالا على مدعاهم.

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فالحق : ان الصيغة اذ وردت عقيب الحظر ليس لها ظهور في غير الوجوب من المعاني التي ادعيت.

نعم ، كما انها لا ظهور لها في غير الوجوب كذلك لا ظهور لها في الوجوب ايضا ، لأن الوجوب سواء كان مستفادا منها لاجل وضعها له ، او لأن الاطلاق ومقدمات الحكمة تدل عليه فانما يتم ظهورها فيه وضعيا كان او اطلاقيا في غير ما اذا كانت مشفوعة بما يحتمل القرينية على عدم الوجوب.

وبعبارة اخرى : ان المتبع في مقام دلالة الالفاظ هو الظهور المستفاد منها لحجية بناء العقلاء على الاخذ بالظهور ، والقدر المتيقن من بناء العقلاء هو حجية ظهور الكلام غير المحفوف بما يحتمل القرينية. والعرف اما لا يفهمون من الكلام شيئا او ان المعاني التي تخطر لهم بالبال عند سماع الكلام المحفوف بما يحتمل القرينية لا عبرة بالاخذ بها ، لعدم بناء العقلاء على الاخذ بها.

وعلى كل فالكلام المحفوف بما يحتمل القرينية اما مجمل من حيث الدلالة ، أو مجمل من حيث الحجية ، فانه ليس كلما يدل عليه اللفظ يؤخذ به ما لم يكن للعقلاء بناء على الاخذ به ، فان السامع اذا سمع صيغة الامر من المولى النائم ينسبق الى ذهنه الطلب ، إلّا انه لا حجية على لزوم امتثال الامر الصادر من المولى حال نومه ، هذا اذا قلنا : ان الدلالة لا تتبع الارادة ، واما اذا قلنا بان الدلالة تتبع الارادة كما هو المنسوب الى العلمين فلمنع اصل الدلالة مجال واضح.

وعلى كل فالكلام المحفوف بمحتمل القرينية لا ظهور له بحيث يكون حجة عند العقلاء ، لا في الوجوب ولا في غيره من المعاني التي ادعيت ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ومع فرض التجريد عنها» : أي عن القرائن الخاصة التي كانت في موارد الاستعمالات «لم يظهر بعد كونها عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه» : أي ان هذه الصيغة الواردة عقيب الحظر ليس لها ظهور في ما ادعوه

٤١٣

المبحث الثامن : الحق أن صيغة الامر مطلقا ، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ، فإن المنصرف عنها ، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهيئتها ولا بمادتها ، والاكتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

من المعاني المجازية غير المعنى الحقيقي ، وليس لورودها عقيب الحظر ما يوجب كون الصيغة ظاهرة فيما ادعوه من المعاني المجازية.

نعم القدر الذي يفعله ورودها عقيب الحظر هو انه يمنع من ظهورها في معناها الاصلي وهو الوجوب وتكون مجملة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «غاية الامر يكون موجبا لاجمالها» : أي لاجمال الصيغة فليس لها ظهور في معناها ، ولا في المعاني التي ادعوها وهي «غير ظاهرة في واحد منها» : أي من المعاني التي ادعوها من الاباحة والتبعية وغير ذلك ، ولا تكون لها دلالة على هذه المعاني المدعاة «إلّا بقرينة اخرى» غير كونها واردة عقيب الحظر كما كانت القرينة دالة على المعاني التي ذكروها في موارد الاستعمالات «كما اشرنا» فيما سبق في ان موارد الاستعمالات لها قرائن خاصة تدل على الاحكام التي ادعيت دلالة الصيغة عليها.

(١) مراد المصنف من الاطلاق في قوله : «الحق ان صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار» هو ان الصيغة من حيث هيئتها ومن حيث مادتها لا دلالة لها على المرة ولا على التكرار ، لأن الهيئة موضوعة للطلب ، والمادة موضوعة للطبيعة غير المقيدة بمرة ولا تكرار ، فالمتحصل من الطلب المتعلق بالطبيعة هو اتيان الطبيعة غير مقيدة بعنوان المرة ولا بعنوان التكرار ، وحيث كان اتيان الطبيعة يحصل باتيانها مرة واحدة فعنوان المرة ملازم لتحقق الاتيان بالطبيعة ، لذلك كان في مقام الامتثال الاتيان بالمرة موجبا لحصول الامتثال ، لكن لا لأن عنوان المرة دخيل في متعلق الطلب ، بل لما عرفت : من ان المرة تلازم حصول متعلق الطلب وهو الطبيعة غير المقيدة بعنوان المرة ولا بعنوان التكرار.

٤١٤

ثم لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، لا يدل إلا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب كون النزاع هاهنا في الهيئة كما في الفصول فإنه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك ، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية ، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صيغة مثلها ، كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فكيف بمعناه يكون مادة لها فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

لا يقال : ان الطبيعة غير المقيدة بمرة ولا تكرار هي الطبيعة المهملة ولا اهمال في الواقعيات.

فانه يقال : ليس الطبيعة غير المقيدة بمرة ولا تكرار هي الطبيعة المهملة ، بل هي الطبيعة المطلقة من حيث عنوان المرة وعنوان التكرار : أي ان متعلقها هو اتيان الطبيعة ، وليس عنوان المرة دخيلا في المطلوب ولا عنوان التكرار دخيلا فيه ايضا.

(١) يتعرض المصنف في كلامه لما قاله في الفصول في تشخيص محل النزاع في المرة والتكرار.

وحاصله : ان النزاع في المرة والتكرار هو في هيئة الصيغة لا في مادتها : بمعنى ان القائل بالمرة يقول : ان الطلب واحد ، والقائل بالتكرار يدعي : تكرار الطلب ، واما المادة فلا نزاع لهم فيها وانها هي الطبيعة لا بشرط.

واستدل على ما ذهب اليه في تشخيص النزاع بما حاصله : ان السكاكي ذكر اتفاق اللغويين وعلماء العربية : على ان المصدر المجرد من اللام والتنوين موضوع للماهية لا بشرط ، والظاهر ان الاصوليين موافقون على هذا الراي ، والظاهر منهم ـ ايضا ـ الاتفاق : على ان المصدر هو المبدأ الساري في جميع المشتقات من الافعال والصفات ، ولا يعقل ان يكون ما به الاتفاق هو موقع الخلاف ، فمع خلافهم

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ في المقام ـ في القول بالمرة والتكرار ، واتفاقهم على ان المادة في الصيغة مفادها الماهية لا بشرط لا بد وان يكون النزاع بينهم في هيئة الصيغة لا في مادتها.

وقد اجاب المصنف (قدس‌سره) بما يرجع الى المناقشة في ان اتفاق اللغويين وعلماء العربية : على ان المصدر موضوع للماهية لا بشرط وموافقة الاصولين لهم في ذلك لا ينافي النزاع في المقام في مادة الصيغة لا في هيئتها.

بيان ذلك : ان المصدر الذي اتفق على انه موضوع للماهية لا بشرط وهو وزن فعل كمثل ، ضرب وقتل في الثلاثي المتعدي ، كما اشار اليه ابن مالك في ألفيته :

فعل قياس مصدر المعدى

من ذي ثلاثة ك «ردّ ردّا» (١)

ليس هو المبدأ الساري في جميع المشتقات ، فان المبدأ الساري في المشتقات هو كالجنس بالنسبة إلى الفصل ، فان الجنس هو اللامتحصل بذاته وانما يكون تحصله وتحققه في مقام الوجود بوجود فصله ، فان الحيوان ـ مثلا ـ الذي هو جنس للناطق وغيره من انواعه ليس له تحصل وتحقق في مقام الوجود بذاته ، بل الوجود والتحقق انما يكون له مع احد فصوله من الناطقية والبقرية وغيرها ، ولذلك يقول اهل المعقول ان سير الوجود يمر من الفصل إلى الجنس ، فليس للجنس بذاته تحقق منفصل في مقام الوجود عن تحقق فصوله ، وانما يكون منفصلا عن الفصول في مقام النظر إلى ماهيته لاجل تعريفها ، أو لاجل الحكم عليها باحكامها اللاحقة لها ، اما في مقام الوجود فلا يعقل ذلك لانه اللامتحصل ، واذا كان له وجود منفصل عن فصله كان متحصلا وليس لا متحصلا ، وايضا لا يعقل اذا كان للجنس وجود منفصل ان يكون بين الجنس والفصل اتحاد في الوجود حقيقة ويكون لهما وجود واحد حقيقي مركب منهما ، فان الوجودين المنفصل كل منهما عن وجود الآخر لا تركيب حقيقي بينهما ولا وحدة في الوجود ، بل التركيب والوحدة فيهما لا بد وان تكون اعتبارية

__________________

(١) شرح ابن عقيل : ج ٣ ، ص ١٢٣.

٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا حقيقية ، والمادة بالنسبة إلى صورها التي بها تتنوع الى المشتقات كذلك ، فان المادة التي لها صورة ضرب أو يضرب أو اضرب أو ضارب لا تحصل لها بذاتها وتحصلها يكون بهيئة مشتقاتها ، والذي نقل السكاكي الاتفاق على كونه موضوعا للماهية لا بشرط الذي يطلقون عليه لفظ المصدر كلفظ ضرب هو مادة له هيئة مخصوصة ، والمادة التي لها هيئة مخصوصة لا يعقل ان يرد عليها هيئة اخرى ، لأنها بورود الهيئة عليها تكون متحصلة ، ومتى تحصلت لا يعقل ان تكون مادة لهيئة اخرى ، لأن الذي يكون مادة للهيئة هو اللامتحصل والذي ليست له فعلية ، ومتى كانت له فعلية يابى ـ حينئذ ـ عن فعلية اخرى ، مضافا الى ضرورة الوجدان : بان لفظ ضرب بما هو متهيأ بهذه الهيئة ليس هو مادة للفظ ضرب.

فاتضح : ان اتفاقهم على ان المسمى بالمصدر موضوع للماهية لا بشرط لا ينافي اختلافهم في المقام في المادة التي هي المبدأ لسائر المشتقات وان النزاع فيها لا في الهيئة.

ولذا قال (قدس‌سره) : «ان الاتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين» لأن ما فيه التنوين عندهم يدل على الوحدة ، وما فيه اللام يختلف فتارة تكون اللام فيه للتعريف فيدل على ما اريد من المعرف ، واخرى يكون مفاده مفاد اسم الجنس.

فالاتفاق المذكور على المصدر المجرد من اللام والتنوين «لا يدل الّا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب» : أي الاتفاق المذكور «كون النزاع هاهنا في الهيئة» دون المادة «كما في الفصول فانه غفلة وذهول» إلى آخر قوله «الا على الماهية» ثم قال (قدس‌سره) : «ضرورة ان المصدر» المنقول الاتفاق على وضعه للماهية لا بشرط «ليست مادة لسائر المشتقات» إلى آخر كلامه ، ثم اشار (قدس‌سره) إلى ان المصدر لا يعقل ان يكون هو المادة لسائر المشتقات ، لأن المادة التي هي المبدأ الساري في جميع المشتقات لا بد وان تكون لا بشرط من حيث الحمل ومن حيث ساير الجهات. وقد عرفت ان المصدر الذي نقل الاتفاق على وضعه ـ كما عن السكاكي ـ هو ماخوذ بشرط لا ، حيث عرفت في ما تقدم في ابحاث المشتق ان المصدر ماخوذ

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بشرط الإباء عن الحمل على الذات ، بخلاف الوصف فانه مأخوذ بحيث لا يأبى عن الحمل ، فهو مباين للمشتقات فلا يعقل ان يكون هو المادة لها ، لأن المبدأ الساري لا بد وان يكون لا بشرط من حيث أي تعين من التعينات حتى يقبل ساير التقيدات والتعينات ، فلا بد وان لا يؤخذ في المادة تعين اصلا ، ومتى تقيدت المادة بشرط كمثل الإباء عن الحمل على الذات لا يعقل ان تكون مبدأ لمشتق من المشتقات ، فان شرط الإباء عن الحمل يباين عدم الإباء عن الحمل كمثل المادة الماخوذة في الصفات فانها لا تأبى عن الحمل على الذات.

ومن الواضح جليا ان المباين لا يقبل المباين ، فكيف الماخوذ بشرط الإباء عن الحمل على الذات مبدأ للصفات التي لا تأبى عن الحمل على الذات ، والى هذه اشار بقوله : «كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وساير المشتقات بحسب المعنى» لأن المصدر قد اخذ بشرط لا ، وعلى هذا «فكيف بمعناه يكون مادة لها» : أي يكون مادة للمشتقات.

واذا قد عرفت : ان المصدر ليس هو المبدأ للمشتقات ، والاتفاق المنقول عن السكاكي انما هو على المصدر ، واتضح ان المادة التي هي المبدأ في المشتقات غير هذا الذي يسمونه بالمصدر ، فلا مانع من ان يكون النزاع في المادة المأخوذة في صيغة الامر ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فعليه» : أي فعلى ما بيناه من أن المبدأ غير المصدر المتفق على وضعه «يمكن دعوى اعتبار المرة والتكرار في مادتها» : أي في مادة الصيغة.

ومحصل المناقشة ترجع الى امرين :

الاول : ان المصدر المقيد بالصورة لا يعقل ان يكون هو المبدأ للمشتقات ، لأن المقيد بهيئة من الهيئات لا يعقل ان ترد عليه هيئة اخرى ، بل هو صيغة كسائر الصيغ ومشتق كسائر المشتقات.

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان المادة هي المبدأ التي لا شرط فيها ولا قيد اصلا من أي جهة من الجهات ، والمصدر مقيد بالاباء عن الحمل فلا يعقل ان يكون مبدأ لما لا يابى عن الحمل.

ويمكن ان يناقش في ما ذكره صاحب الفصول بمناقشات اخرى :

الاولى : ان النزاع في المقام ليس في كون الطلب واحدا أو مكررا ، بل في ان المطلوب والمتعلق للطلب هل هو واحد أو متعدد؟ ولا يقول القائل بالتكرار هنا ان للصيغة ـ في مثل اضرب ـ طلبا وطلبا ، بل المطلوب في اضرب هو الضرب المتعدد.

الثانية : ان اتفاق اهل العربية لا يلازمه اتفاق الاصوليين.

الثالثة : ان الذي يظهر من ادلة القائلين بالتكرار ان التكرار مستفاد من قرائن ، كمثل قياس ساير التكاليف الواردة بصيغة الامر على الامر المتعلق بالصلاة والصوم ، فانه لا شبهة في ان المطلوب فيهما التكرار ، ومثل قياس طلب الوجود على النهي الذي هو طلب العدم ، وهو يدل على ترك جميع الافراد ما دام العمر فطلب الوجود ايضا يفيد التكرار ما دام العمر.

الرابعة : ان كون الاتفاق المذكور ينافي الاختلاف في المقام فلا بد من حمل النزاع على الهيئة دون المادة انما يتم حيث ان اهل النزاع في المقام يقولون : بتعدد الوضع في الصيغة ، وان هيئتها لها وضع ومادتها لها وضع آخر.

أما اذا كانوا يقولون : بانه ليس في الصيغة تعدد في الوضع بل الصيغة لها وضع واحد قد لحظ فيها المادة المتقيدة بهذه الهيئة من حيث المجموع ، ووضعت للدلالة على طلب الشيء مرة واحدة او متكررا ـ فلا يتنافى قولهم هنا مع قولهم هناك : بان المصدر المجرد موضوع للماهية لا بشرط ، لانه لا تكون المادة هنا هي المصدر الذي اتفقوا على وضعه للماهية لا بشرط.

٤١٩

إن قلت : فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (١).

قلت : مع أنه محل الخلاف ، معناه (٢) أن الذي وضع أولا بالوضع

______________________________________________________

(١) حاصل إن قلت انه على ما ذكرت يكون المصدر بنفسه مشتقا من المشتقات ، كما صرحت بكون المشتق بنفسه صيغة من الصيغ المشتقة.

فاذا ما معنى ما اشتهر بين القوم : من ان المصدر هو اصل المشتقات؟ فان لازم هذا ان لا يكون المصدر بنفسه صيغة من الصيغ ولا يكون مشتقا من المشتقات ، فان ما كان اصلا لا يعقل ان يكون هو فرعا ايضا ، فلا بد وان يكون اصل المشتقات ليس هو مشتقا بل المشتقات مأخوذة منه ، فحينئذ يكون هو المادة للمشتقات ويتم مطلب الفصول ، ويظهر بطلان ما ذكرت : من ان المادة التي هي المبدأ الساري غير المصدر.

(٢) حاصل ما ذكره يرجع الى جوابين عما ذكره في قوله : ان قلت :

الاول : انه ليس لاهل العربية اتفاق على ان المصدر هو اصل المشتقات ، بل ادعى بعضهم : ان الفعل هو اصل المشتقات ، وهو ما اشار اليه بقوله : «مع انه محل الخلاف» وهذا ايضا يكون مناقشة ثالثة في دعوى صاحب الفصول : من دعوى الاتفاق على كون المبدأ الساري في المشتقات هو المصدر الموضوع للماهية لا بشرط.

الجواب الثاني : ما ذكره بقوله : «معناه الى ... آخر كلامه» وحاصله : ان مرادهم من كون المصدر اصلا في المشتقات ليس كون المصدر هو المبدأ الساري فيها ، بل حيث كان المصدر موضوعا للماهية لا بشرط عندهم وكانت ساير المشتقات المادة فيها مشروطة يكون المصدر هو آلة للحاظ المادة التي هي المبدأ في المشتقات وبه يعبر عنها ، لا انه هو حقيقة المبدأ الساري والمادة المأخوذة في المشتقات.

هذا حاصل مراده في هذا الجواب ، وبقي الكلام في شرح بعض الفاظه.

٤٢٠