بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

بكونه بمعنى الحال ، أو الاستقبال ، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة ، كيف لا وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال (١).

______________________________________________________

منه زمان النطق ، لكان لازم ذلك دلالة المشتق على الزمان وهو خلاف ما اتفقوا عليه : من عدم دلالة الاسماء على الزمان.

لا يقال : انه اذا اريد من الحال زمان التلبس ايضا يكون منافيا لما اتفقوا عليه من عدم دلالة الاسماء على الزمان.

فانه يقال : المراد من حال التلبس ليس زمان التلبس ، بل هو ما ذكرناه من كون مطابق المشتق هو كون المبدإ له فعلية القيام بالذات : أي ان المطابق لهذا الوصف والمصداق الحقيقي له : هو كون مبدإ الوصف فعلا قائما بالذات ، لا انه قام بها وانقضى عنه القيام فعلا : اي ان مطابق القائم مثلا هو كون الشيء له فعلية الانتصاب حين وجود الانتصاب فيه ، وليس مطابقة الشيء ولو كان قد انقضى عنه وجود الانتصاب الحال فيه.

(١) حاصله : انه لا يقال : انه ينافي ما ادعيت من اتفاق اهل العربية على عدم دلالة الاسماء على الزمان ، هو انهم يشترطون في عمل بعض الاسماء كاسم الفاعل عمل الفعل : بان يكون اسم الفاعل بمعنى الحال او الاستقبال ، ولذا قال ابن مالك في بداية الالفية :

كفعله اسم فاعل في العمل

ان كان عن مضيه بمعزل (١)

وظاهر كلامهم هذا : هو دلالة بعض الاسماء على الزمان وهذا مراده من قوله : «ولا ينافيه ـ الى قوله ـ ضرورة».

فانه يقال : ان مرادهم من دلالة الاسم ، كاسم الفاعل على الزمان ليس دلالته عليه بنفسه ، بل بدلالة دال آخر على الزمان لا نفس الاسم. والذي يدل على ذلك

__________________

(١) شرح ابن عقيل : تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد : ج ٣ ، ص ١٠٦.

٢٠١

لا يقال : يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه ، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادعي أنه الظاهر في المشتقات ، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق ، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لانا نقول : هذا الانسباق ، وإن كان مما لا ينكر ، إلا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه (١).

______________________________________________________

انهم اشترطوا في العمل دلالة الحال أو الاستقبال ، ومن المعلوم ان الدلالة على الاستقبال تستفاد من القرينة ، لأنهم اتفقوا على كون اسم الفاعل وساير المشتقات مجازا في المستقبل. ولا اشكال ان المورد المجازي تتكفل الدلالة عليه القرينة ، والى هذا الجواب

اشار بقوله : «ضرورة ان المراد الدلالة على احدهما إلى آخره».

وفيه اولا : ان الاستقبال ليس مجازا دائما ، بل فيما كان الجري بلحاظ حال الاستقبال فانه حقيقة.

وثانيا : ان معنى دلالة القرينة : هو اعداد اللفظ للدلالة ، فان أسدا بواسطة يرمي يكون بنفسه دالا على الرجل الشجاع ، وليس معنى دلالة القرينة هو كون اللفظ المستعمل مجازا اجنبيا عن الدلالة.

(١) المراد من لا يقال : الاشارة الى ما يمكن ان يكون مستندا الى من يدعى ان المراد من الحال في العنوان هو حال النطق.

وحاصله : انه لا اشكال في ان لفظ الحال إذا اطلق فالمنسبق منه عند اطلاقه هو حال النطق ، فلفظ الحال له ظهور في حال النطق ، وايضا ان نفس المشتق اذا اطلق ايضا المنصرف منه هو تلبس الذات بالمبدإ في حال النطق واذا ، لم يكن للمشتق انصراف بنفسه الى حال النطق فلا اقل من ان قرينة الحكمة تعين حال النطق فاذا كان المتكلم في مقام البيان لظرف التلبس وقال : زيد قائم ـ مثلا ـ فقرينة الحكمة تدل على

٢٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ان زيدا متلبس بالقيام في حال النطق ، اذ غير حال النطق يحتاج الى دليل ، وحيث لم يذكر يتعين انه متلبس بالقيام في حال النطق. فحاصل هذا ينحل الى دليلين :

الاول : ان لفظ الحال المذكور ظاهر في حال النطق.

الثاني : ان انصراف المشتق الى حال النطق يجعل المشتق ظاهرا في ان مفهومه هو التلبس بالمبدإ في حال النطق ، وقد اشار الى الاول بقوله : «كما هو الظاهر منه» : أي من لفظ الحال «عند اطلاقه» واشار الى الثاني بقوله : «وادعى انه الظاهر في المشتقات» ... الى آخره.

والجواب عن خصوص الاول انه لا ننكر ان المنسبق من لفظ الحال هو حال النطق ، إلّا ان مرادهم منها في العنوان : هو حال التلبس ، لما ذكرنا من اتفاقهم على ان المشتق في المثالين المتقدمين وهما : زيد كان ضاربا امس ، وسيكون غدا ضاربا حقيقة ولو كان الحال هو حال النطق لكان مجازا كما تقدم بيانه.

والجواب عن الثاني :

اولا : بان دعوى الانصراف من لفظ المشتق الى حال النطق ، او تعيينه بمعونة مقدمات الحكمة هو اعتراف منهم : بان المشتق ليس بموضوع لمفهوم ينحصر مصداقه في المتلبس بالمبدإ في حال النطق ، بل هو موضوع لمعنى يعم حال النطق وغيره ، وان حال النطق قد يكون احد افراده وهو حال التلبس ، فانه ربما يتحد حال التلبس وحال النطق فيكون فردا له ، وربما لا يكون.

وثانيا : ان انصراف المشتق الى حال النطق ، او تعيين حال النطق بمعونة مقدمات الحكمة لا ينافي ما ذكرنا ، لأن مرجع الانصراف الى دعوى : كون المشتق ينصرف منه عند اطلاقه ان مطابقه هو المتلبس بالمبدإ في حال النطق ولا ينافي هذا الانصراف ما ذكرنا : من كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس ، لأنه لا يدل الانصراف المذكور على اكثر من كون حال التلبس متحدا مع حال النطق ، وحيث قام الدليل على ان مرادهم من الحال في العنوان هو حال التلبس لتصريحهم بان

٢٠٣

سادسها : إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية ، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له (١) ، وأما ترجيح

______________________________________________________

المشتق حقيقة في المثالين وهما : زيد كان ضاربا ، وسيكون غدا ضاربا فيتعين ان يكون مرادهم من الحال في العنوان هو حال التلبس ، لا حال النطق ، لانهم في هذا المقام في مقام تعيين ما هو الموضوع له ، وفي مقام بيان المفهوم ، لا في مقام تعيين المصداق ، وقد قام الدليل على ان مرادهم من الحال هو حال التلبس ، لا حال النطق ، وقد اشار إلى ما ذكرنا اجمالا بقوله : «هذا الانسباق وان كان مما لا ينكر ... الى آخره».

(١) الاصل المدعى في المقام لتعيين الموضوع له : هو اصالة عدم ملاحظة الخصوصية ، فانه بعد العلم بكون اللفظ موضوعا اما للمعنى العام ، او الخاص يرجع الى الشك في ان الخصوصية هل لحظت في مقام الوضع ام لا؟

لأن المعنى العام متيقن لحاظه فاما ان يكون قد لحظت معه خصوصية فيكون خاصا ، او لم تلحظ معه فيكون المعنى الموضوع له عاما ، فاذا جرى الاصل وهو اصالة عدم لحاظ الخصوصية تعين ان المعنى الموضوع له هو العام.

وفيه اولا : ان هذا الاصل انما يتم في ما اذا كان العام ملحوظا في ضمن الخاص بنحو التضمّن : بان يلحظ بنفسه ثم يلحق بالخصوصية ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فان المشتق بناء على وضعه للاعم لا يكون هناك عام ملحوظ ثم الحق بالخصوصية ، فان الضارب ـ مثلا ـ بناء على وضعه للاعم يكون موضوعا لما يساوق مفهوم من صدر منه الضرب الشامل للمتلبس ولمن انقضى عنه ، وليس هناك مفهوم عام قد لحقته الخصوصية ، فان المشتق سواء كان موضوعا للاعم او لخصوص المتلبس معناه مفهوم بسيط في ناحية المفهومية ، وهذا واضح جدا بناء على ان المشتق بسيط مفهوما لا تركيب فيه ولو تحليلا ، وبناء على التركيب ايضا واضح فانه يكون

٢٠٤

الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز إذا دار الامر بينهما لاجل الغلبة ،

______________________________________________________

من المركب المنحل الى المتعدد ، لا انه مركب من مفاهيم متعددة ، فهو كمفهوم الانسان المنحل الى الحيوان والناطق ، لا مثل اعتق رقبة مؤمنة فاتضح انه لم يتركب من مفهوم عام قد لحقته الخصوصية.

فاذا عرفت هذا يتضح : ان العموم والخصوص في المقام مفهومان متباينان في ناحية المفهومية ، وان كانا في مقام الصدق ليسا كذلك والكلام في مقام المفهومية ، وتعيين المعنى الموضوع له.

واذا كانا متباينين فاصالة عدم ملاحظة الخصوصية يرجع الى اصالة عدم لحاظ المفهوم الخاص ، وحينئذ يعارضها اصالة عدم لحاظ العموم ، وعدم ملاحظة المفهوم العام ، وقد اشار الى هذا بقوله : «مع معارضتها باصالة عدم العموم».

وثانيا : انه لا دليل على اعتبار هذا الاصل : وهو اصالة عدم لحاظ الخصوصية لأن الدليل على هذه الاصول :

اما بناء العقلاء وليس للعقلاء بناء على انه اذا شكوا في كون اللفظ موضوعا للمعنى العام او للمعنى الخاص يجرون اصالة عدم الخصوصية ، ويبنون على ان الموضوع له هو المعنى العام ، بل الاصول العقلائية مجراها الشك في المراد ، لا الشك فيما هو الموضوع له.

واما الاستصحاب وهو ايضا لا مجرى له في المقام فان من شرائط جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب إما امرا مجعولا للشارع بلا واسطة ، او موضوعا لاثر مجعول بلا واسطة ، والمستصحب في المقام ليس امرا مجعولا للشارع وهو واضح ، ولا موضوعا لاثر مجعول بلا واسطة ، فان المستصحب في المقام عدم لحاظ الخصوصية ، ولازمه الوضع للمعنى العام ، ولازم الوضع له هو ظهور اللفظ فيه ، ولازم الظهور ارادة المتكلم له ، ولازم ذلك ترتب الحكم الشرعي ، والى هذا اشار بقوله : «لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له».

٢٠٥

فممنوع ، لمنع الغلبة أولا ، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا (١) وأما الاصل العملي فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل أكرم كل عالم يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الايجاب ، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.

______________________________________________________

(١) يريد بهذا الاشارة الى اصل او دليل آخر على كون الموضوع له ـ المشتق هو الاعم ، لا خصوص المتلبس.

وحاصله : انه اذا كان المشتق موضوعا للاعم يكون مشتركا معنويا بين المنقضى والمتلبس فيصح استعماله ـ كل منهما على نحو الحقيقة والمصداقية للجامع بينهما ، واذا كان موضوعا لخصوص المتلبس يكون استعماله فيما انقضى عنه مجازا ، فيدور الامر بين الاشتراك المعنوي ، والحقيقة والمجاز ومتى دار الامر بينهما يترجح الحمل على الاشتراك المعنوي لغلبته على الحقيقة والمجاز.

وفيه اولا : ان الغلبة ممنوعة ، لأن المراد من الغلبة دعوى كثرة وجود الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز ، ولم تتحقق هذه الدعوى. ثم ان الغلبة التي يستدل بها ـ بعض المقامات هي غلبة الاستعمال ، لا غلبة الوجود ، وهي توجب انصراف اللفظ الى بعض افراده بعد تعين ما هو الموضوع له.

نعم ربما يدعى : انه اذا كان احد محتملات الموضوع له كثير الوجود يكون خلاف الحكمة وضع اللفظ لما هو قليل الوجود واستعماله ـ الاكثر بنحو المجاز ، وسيأتي التعرض لهذا عن قريب ـ ان شاء الله ـ والجواب عنه.

وثانيا : انه لو سلمنا غلبة الاشتراك على الحقيقة والمجاز لكنه لم ينهض دليل على الترجيح بالغلبة وتعيين الموضوع له بها ، لما عرفت من انه ليس للعقلاء بناء على الاخذ بها لتعيين الموضوع له ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «لمنع الغلبة اولا ومنع نهوض حجة .. الخ».

٢٠٦

فإذا عرفت ما تلونا عليك ، فاعلم أن الاقوال في المسألة وإن كثرت ، إلا أنها حدثت بين المتأخرين ، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين (١) ،

______________________________________________________

(١) لما فرغ من الكلام على الاصل اللفظي تعرض لبيان الاصل العملي.

وحاصله : انه مع الشك في ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ، او للاعم منه وما انقضى عنه المبدأ فورد ـ مثلا ـ اكرم كل عالم.

فنقول : ان كان ورود الحكم بعد انقضاء المبدأ : بان كان زيد في حال ورود الحكم ليس بعالم ، ولكنه كان عالما في الزمان المنقضي ، فيشك فعلا في وجوب اكرامه ، فحيث انه لا دليل لفظي يعين ان زيدا يصدق عليه العالم او اللاعالم ، يكون وجوب اكرامه مشكوكا ، ومتى شك في اصل التكليف فالمرجع البراءة عن وجوب اكرامه.

لا يقال : انه لا داعي الى البراءة فان استصحاب عدم وجوب اكرامه يغني عن البراءة ، لأن الاستصحاب اذا جرى يغنى عن البراءة.

فانه يقال اولا : ان معنى هذا اسقاط اصل البراءة وحصرها في موارد عدم جريان الاستصحاب وهي نادرة ، فان اغلب موارد البراءة تجري فيها اصالة العدم.

ثانيا : ان هذا الاصل ليس الّا الاصل العدمي الازلي وهو لا ينبغي تقدمه على البراءة لأن هذا الاستصحاب معناه البناء على عدم التكليف والحكم اصلا في مرحلة الظاهر ، والبراءة تدل على كون التكليف الظاهري والحكم المجعول في الظاهر هو ارخاء العنان والحلية ، فالاستصحاب بالنسبة اليها كنسبه اللااقتضاء والاقتضاء. هذا اذا ورد اكرم كل عالم في حال انقضاء العالمية.

واما اذا ورد الايجاب في حال كون زيد متلبسا بالعالمية ثم بعد زالت عنه فالاستصحاب يقتضي وجوب اكرامه ، لانه كان واجب الاكرام والآن نشك في وجوب اكرامه فيستصحب وجوب اكرامه ، لكنه انما يجري فيما اذا كان الشك في ناحية الشبهة الموضوعية لا في المقام فان الشك فيه من ناحية الشبهة الحكمية ولا يجري

٢٠٧

لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال ، وقد مرت الاشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبار التلبس في الحال ، وفاقا لمتأخري الاصحاب والاشاعرة ، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة (١) ، ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ

______________________________________________________

فيها الاستصحاب ، لأن الموضوع للحكم بحسب نظر العرف هو عنوان العالم ، لا زيد فالاستصحاب لا يجري للشك في الموضوع وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيقه في مبحث الاستصحاب.

(١) الاقوال المنقولة للمفصلين على ما حكى ستة اكثرها التفصيل من ناحية المبادئ.

ـ كمن فصل بين كون المبدأ متعديا فانه للاعم ، وكونه لازما فهو لخصوص المتلبس المنسوب الى صاحب الفصول.

ـ ومنهم من فصل بين كون المبدأ سيّالا فهو للاعم ، كالمتكلم والمتحرك ، وبين كونه غير سيّال ، كالقائم والقاعد مثلا ـ فانه لخصوص المتلبس.

ـ ومنها : التفصيل بين المبدأ الحدثي التجددي ، وغيره.

ـ ومنها : التفصيل بين كونه اكثريا ، كالبقال والصائغ وامثالهما من اهل الحرف ، فإن اكثر أوقاتهم مشغولون بالمبدإ ، وفيه يدعى الوضع للاعم وفي غيره لخصوص المتلبس.

ـ ومنها : التفصيل بين تلبس الذات بضد المبدأ فهو لخصوص المتلبس ، وبين كونه غير متلبس بضده فهو للاعم.

ولا بد ان يكون مراد هذا القائل من الضد هو الضد الاصطلاحي : وهو الموجودان المتعاقبان على موضوع واحد ويكون بينهما غاية البعد ، كالسواد والبياض ، لوضوح ان الضد العام لا يعقل ان يخلو عنه المحل المنقضي عنه المبدأ ، فان الانقضاء معناه صدق نقيض المبدأ وهو ضد عام. وهذه التفاصيل ترجع الى دعوى

٢٠٨

في الحال ، وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه ، كالمتلبس به في الاستقبال ، وذلك لوضوح أن مثل : القائم ، والضارب ، والعالم ، وما يرادفها من سائر اللغات ، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب ، ويصح سلبها عنه (١) ، كيف

______________________________________________________

الاختلاف في المبادئ فانه في بعض المبادئ يكون الوصف المشتق منها للاعم ، وفي بعضها يكون لخصوص المتلبس.

ـ وسادس هذه التفاصيل : كون المشتق محكوما عليه فانه يكون للاعم ، ك (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، وبين كونه محكوما به فهو لخصوص المتلبس ، وهذا التفصيل يرجع الاختلاف فيه الى احوال المشتق من كونه محكوما عليه او محكوما به ، وهو من اختلاف احوال المشتق لا لاختلاف في نفس مبدئه ، كما فيما تقدم من التفصيلات.

وقد عرفت مما تقدم ان السبب في اكثر هذه التفصيلات الراجعة الى الاختلاف في المبادئ نشأ من الخلط بين كيفيات أخذ المبادئ ، فان بعضها يؤخذ بنحو الحرفة ، واخرى بنحو الملكة ، وثالثة بنحو الشأنية والاقتضاء ، وسيأتي التعرض لبعض التفصيلات ، والجواب عنها.

وعلى كل حال فالاولى جعل المسألة ذات قولين ، كما كانت كذلك عند المتقدمين ذات قولين ، لأن هذه التفصيلات عند المتاخرين وان المشتق هل هو حقيقة في خصوص المتلبس ، او انه موضوع لما يعم المتلبس والمنقضى عنه.

والمختار للماتن ولجملة المحققين المتاخرين : هو الوضع لخصوص المتلبس ، وان حال المنقضى عنه المبدأ كحال من سيتلبس بالمبدإ ، فان كان الجري فيه بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة ، وان كان الجري في الحال فهو مجاز في كليهما ، واستدل عليه بادلة ثلاثة ياتي ذكرها.

(١) هذا الدليل الاول.

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : دعوى ان المتبادر من المشتق خصوص المتلبس بالمبدإ في حال تلبسه ، فان المشتق موضوع للمتلبس بالمبدإ الطارد وجوده لعدمه ، وانه موضوع لمفهوم ينحصر مطابقه في خصوص المتلبس ، وليس المنقضى عنه مطابقا له ، لانه في حال الانقضاء ليس له مبدأ يطرد وجوده العدم.

الدليل الثاني : هو قوله : وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه ، وقد احتمل ان يكون مراده من الاطلاق : هو الحمل الشائع والحمل الاولى.

اما صحة السلب بالحمل الشائع عمن انقضى عنه المبدأ فكونه دليلا على عدم وضعه للاعم واضح ، لانه لو كان المشتق موضوعا للاعم لما صح سلبه بالحمل الشائع عمن انقضى عنه ، لأنه احد فرديه ، ولا يصح سلب الحقيقة بالحمل عن افرادها ، فاذا صح سلبه عنه فهو دليل على انه ليس من افراده.

واما صحة السلب بالحمل الاولى عمن انقضى عنه المبدأ فلا تنفع مدعى الوضع لخصوص المتلبس ، لانه بناء على انه موضوع لمفهوم عام يعم المنقضى عنه والمتلبس يصح سلبه بالحمل الاولى عن خصوص من انقضى عنه ، فصحة السلب بالحمل الاولى عمن انقضى عنه لا تضر مدعي الوضع للاعم ، بل لازم وضعه للاعم صحة سلبه بالحمل الاولى عمن انقضى عنه ، فلا بد وان يكون مراده ممن انقضى عنه : هو المعنى العام الصادق على من انقضى عنه ، فانه اذا صح سلبه بالحمل الاولى عن المعنى الاعم لا يكون موضوعا له ، فلا بد ان يكون الموضوع له خصوص المتلبس.

ويحتمل ان يكون مراده من الاطلاق : هو ما تقدم من التفصيلات : أي ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ويصح سلبه عمن انقضى عنه ، سواء كان متعديا او معنى سيّالا الى آخر التفصيلات.

ولا يخفى انه لا اختصاص للمشتق باللغة العربية وهو موجود في ساير اللغات ، ولا شبهة في صحة سلب ما يرادف المشتق باللغة العربية في ساير اللغات عمن انقضى عنه المبدأ ، ولا يصدق لفظ (زننده) ـ مثلا ـ على من انقضى عنه المبدأ.

٢١٠

وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الاذهان يصدق عليه ، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبّسه بالقعود ، بعد انقضاء تلبسه بالقيام ، مع وضوح التّضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى ، كما لا يخفى (١).

وقد يقرر هذا وجها على حدة ، ويقال : لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة ، على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الاعم ، لما كان بينها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدإ الآخر (٢).

______________________________________________________

(١) قد جعل اولا دليل التضاد الارتكازي بين بعض المشتقات كتتمة لصحة السلب.

بان يقال : ان المنقضي عنه القيام ـ مثلا ـ اذا لم يصح سلب القائم عنه لصدق عليه القائم في حال كونه قاعدا ، والحال ان القائم والقاعد متضادان بحسب الارتكاز العرفي ، فكيف لا يصح سلب القائم عمن انقضى عنه القيام ، ولو لم يصح السلب للزم اجتماع المتضادين بحسب الارتكاز العرفي في محل واحد ، والى هذا البيان بجعل التضاد الارتكازي متمّما لدليل صحة السلب اشار بقوله : «كيف وما يضادها الى قوله كما لا يخفى».

(٢) هذا هو الدليل الثالث للوضع لخصوص المتلبس بجعل التضاد دليلا بنفسه ، لا متمما لدليل صحة السلب.

وحاصله : انه لا ريب في ان بعض مبادئ المشتقات متضادات ، كالقيام والقعود ، والسواد والبياض ، والارتكاز العرفي يقضي بان هذا التضاد الموجود في المبادئ موجود ايضا في الاوصاف المشتقات من هذه المبادئ ، ولو كان المشتق موضوعا للاعم لما كان بين القائم والقاعد ، والاسود والابيض تضاد ، فان القائم لو كان يصدق حقيقة على من انقضى عنه القيام لكان بينه وبين القاعد تخالف في بعض مصاديقه ، وكذلك الاسود فانه لو كان يصدق حقيقة على من انقضى عنه السواد

٢١١

ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة من المعاصرين : من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتكازه بينها ، كما في مبادئها (١).

______________________________________________________

لكان بينه وبين الابيض تخالف في بعض افراده ، ولكنه من البين ان الاسود والابيض ، والقائم والقاعد من المتضادين بحسب الارتكاز العرفي بجميع ما لهما من الافراد والمصاديق فهذا التضاد دليل على وضعها لخصوص المتلبس ، والّا لكانا من المتخالفين في بعض مصاديقهما كالسواد والحلاوة ، لا من المتضادين كالسواد والبياض.

(١) لقد احتمل ان يكون مراد بعض الاجلة في ايراده على دليل التضاد يرجع الى مثل ما اورد على دليل جعل التبادر من علائم الحقيقة : بان يكون مراده : انه لا يمكن ان يكون التضاد الارتكازي دليلا على الوضع لخصوص المتلبس ، فان جعله دليلا معناه ان العلم بالتضاد يدل على بالوضع لخصوص المتلبس ، ويكون العلم بالوضع لخصوص المتلبس متوقفا على العلم بالتضاد ، وتوقف العلم بكل مدلول على العلم بدليله ، مع ان العلم بالتضاد معلول للعلم بالوضع لخصوص المتلبس ، فانه لو لم يعلم بانه موضوع لخصوص المتلبس لما حصل العلم بالتضاد ، فنتيجة ذلك الدور ، لأن العلم بالتضاد المتوقف عليه العلم بالوضع لخصوص المتلبس هو متوقف ايضا على العلم بالوضع لخصوص المتلبس ، وليس الدور الّا توقف الشيء على ما يتوقف عليه.

والجواب عنه : هو ما تقدم من الاجمال والتفصيل المذكور هناك في الجواب عن التبادر : بان نقول : العلم بالتضاد متوقف على العلم بالوضع الاجمالي الارتكازي ، والمتوقف على العلم بالتضاد هو العلم التفصيلي : بان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ، فاختلف الموقوف والموقوف عليه.

٢١٢

إن قلت : لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق ، لا الاشتراط (١).

______________________________________________________

ويحتمل ان يكون مراد بعض الاجلة غير هذا فان هذا الاشكال والجواب عنه من الشائعات التي يبعد ان تخفى ، وان مراده هو ان التضاد الذي جعل دليلا للوضع لخصوص المتلبس هو من المصادرات ، وان القائل بالوضع لخصوص المتلبس يرى التضاد ، واما من يقول بالوضع للاعم فلا يرى تضادا بين القائم والقاعد ، ولا بين الاسود والابيض.

والجواب عنه : ان التضاد المدعى لنا ليس هو التضاد عندنا ، بل عند العرف الذي لا يعرف من هذا النزاع شيئا أو عند كل احد حيث يرجع الى فطرته وارتكازه ، وانكار التضاد الارتكازي مكابرة لا مصادرة ، فان العرف يرى ان بين المفهوم الموضوع له لفظ الاسود ، والمفهوم الموضوع له لفظ الابيض تضادا ، وان احدهما لا يجتمع مع الآخر بجميع ما له من المعنى ، وانكار هذا التضاد مما لا ينبغي ان يرتاب في بطلانه ، واذا ثبت التضاد فلازمه الوضع لخصوص المتلبس ، وقد اشار الى الايراد بقوله : «من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط» والى الجواب بقوله : «لما عرفت من ارتكازه بينها كما في مبادئها» : أي لا فرق في المرتكزات بين المبادئ ومشتقاتها من ثبوت التضاد فيهما معا واذا ثبت التضاد بين المشتقات فليس ذلك الا للوضع لخصوص المتلبس.

(١) وحاصله : أن التضاد لا يثبت الوضع لخصوص المتلبس ، لجواز ان يكون موضوعا للاعم ، ولكن ينصرف منه عند اطلاقه خصوص المتلبس ، فالتضاد بين المشتقات لانصرافها الى خصوص المتلبس ، لا لأن المتلبس هو الموضوع له ، فليس التلبس شرطا في ما هو الموضوع له ، بل هو احد افراد الموضوع له ينصرف اليه عند الاطلاق ، وهذا معنى قوله : «لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الاطلاق ، لا الاشتراط» أي ان المتلبس هو المنصرف اليه ، لا أن التلبس شرط في الموضوع له.

٢١٣

قلت : لا يكاد يكون لذلك ، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر (١).

إن قلت : على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا ، وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع (٢).

______________________________________________________

(١) وحاصله : ان الانسباق من الاطلاق إنما يكون لاجل كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس في الحال ، وهذا ممنوع ، فان استعمال المشتق في موارد انقضاء المبدأ اذا لم يكن اكثر من استعماله في خصوص المتلبس في الحال فلا اقل من كون الاستعمال في موارد انقضاء المبدأ كثيرا ايضا. واذا كان الاستعمال في الانقضاء كثيرا فلا وجه لدعوى الانسباق من الاطلاق حيث لا كثرة لخصوص المتلبس ، فاذا كان انسباق لخصوص المتلبس فلا بد ان يكون ذلك للوضع ، لا للانصراف.

(٢) لما منع كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس ، وادعى كثرة الاستعمال في الانقضاء ، او اكثريته من الاستعمال في المتلبس توجه عليه : ان قلت هذه.

وحاصله : انه اذا كان الاستعمال في موارد الانقضاء كثيرا او اكثر ، ومع ذلك يدعى ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ، فلازم ذلك ان يكون الواضع لالفاظ المشتقات قد وضعها لمعنى حقيقي يقل استعمال اللفظ فيه بالنسبة الى استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، ولا داعي عقلائي للواضع ان يضع اللفظ وضعا حقيقيا لمعنى ، ويكون محتاجا غالبا ان لم يكن في الاغلب لأن ينصب القرائن للدلالة على المجاز ، فان هذا بعيد ولا يلائم كون الواضع حكيما ، فان الحكمة تقتضي ان يضع اللفظ لما لا يحتاج معه الى نصب القرائن للدلالة على المجازية ، ووضع المشتق للاعم يرفع عنه كلفة نصب القرائن ، فالوضع للاعم هو المناسب لحكمة الوضع ، لان الاستعمال في موارد الانقضاء يكون حقيقيا لا مجازيا ، اذ استعمال اللفظ الموضوع لمعنى عام في احد مصاديقه بما هو مصداقه ، لا له بخصوصياته ليس من الاستعمال المجازي.

٢١٤

لا يقال : كيف؟ وقد قيل : بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك لو سلم ، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد (١).

______________________________________________________

(١) اورد هذا المعترض على نفسه : بأن ما تدعيه ـ من كون الحكمة تقتضي توسعة المعنى الموضوع له تقليلا للمجاز ـ ينافي ما هو المعروف من ان اكثر المحاورات مجازات. ولو كانت المجازية منافية لحكمة الوضع لما كانت المحاورات المجازية اكثر من المحاورات الحقيقية ، فان معنى كثرة المحاورات المجازية هو كثرة الاستعمال المجازي ، فلا بد حينئذ ان لا تكون كثرة الاستعمال المجازي منافية لحكمة الوضع فاجاب عن ذلك بقوله : «فان ذلك لو سلم ... الخ». وقد اجاب بجوابين :

الاول : ما اشار اليه بقوله : «لو سلم» وحاصله : انه لا نسلم هذا المعروف ، بل نقول : ان الاستعمالات الحقيقية والمحاورات المبنيّة على استعمال اللفظ فيما وضع له اكثر من الاستعمالات المجازية.

والثاني : انّا نسلم هذا المعروف ، ولكن نقول : ان معنى قولهم اكثر المحاورات مجازات انما هو لأن المعاني المجازية متعددة ، فان لفظ الاسد الموضوع للحيوان المفترس له مناسبات كثيرة : الرجل الشجاع ، والرجل الاغر ، والرجل الكريه المنظر ، والرجل الشرس الاخلاق ، وغيرها فان مجموع هذه المجازات اكثر استعمالا من الاستعمال الحقيقي ، لا ان كل واحد من المجازات اكثر من المعنى الحقيقي ، فالمجازات باعتبار تعددها تكون اكثر ، لا كل واحد منها يكون اكثر.

والمنافي لحكمة الوضع هو ان يكون كل واحد من المجازات استعمال اللفظ فيه اكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي والى هذا اشار بقوله : «لو سلم فانما هو» : أي لو سلم كثرة المحاورات المجازية فان هذه الكثرة انما هي لاجل تعدد المعاني المجازية ، فهي بمجموعها اكثر من المعنى الحقيقي الواحد ، لا كل واحد منها اكثر من المعنى الحقيقي.

٢١٥

نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي ، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك (١)؟

______________________________________________________

(١) حاصله : ان المعنى المجازي تارة يكون بحسب طبيعته اكثر وجودا من المعنى الحقيقي ، واخرى لا يكون كذلك ، بل اتفق انه عرضت حاجة غير متصورة للواضع حين الوضع اوجبت تلك كثرة الاستعمال ، فان مثل هذه الكثرة لا تنافي حكمة الوضع ، لان المعنى المجازي بحسب طبيعة وجوده هو اقل من المعنى الحقيقي ، لكنه من باب الصدفة ان الحاجة اليه هي التي اوجبت كثرة الاستعمال فيه ، فمثل هذا لا ينافي حكمة الوضع.

اما اذا كان المعنى المجازي بحسب طبيعة وجوده اكثر من وجود المعنى الحقيقي فالوضع لما هو قليل ينافي الحكمة ، كما في مقامنا فان ازمنة الانقضاء اكثر وجودا من زمان حال التلبس فطبيعي وجود هذا المعنى المجازي دائما اكثر من المعنى الحقيقي ، فوضع اللفظ لخصوص المتلبس الذي هو قليل بالنسبة الى موارد الانقضاء ينافي حكمة الوضع وهذا مراده من قوله : «نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة الى معنى مجازي لكثرة الحاجة اليه» لا لان طبيعي وجوده اكثر.

لكن اين هذا مما اذا كان دائما كذلك؟ فان مقامنا دائما يكون وجود طبيعي المعنى المجازي فيه اكثر من وجود المعنى الحقيقي ، لما عرفت : من ان ازمنة الانقضاء اكثر.

٢١٦

فافهم (١).

قلت : مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه ، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع أنه بمكان من الامكان ، فيراد من جاء الضارب أو الشارب وقد انقضى عنه الضرب والشرب جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدإ ، لا حينه بعد الانقضاء ، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه ، ضرورة أنه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين (٢).

______________________________________________________

(١) ربما يكون اشارة الى ان كون وجود طبيعي المعنى المجازي اكثر لا يلازم كثرة الاستعمال ، والمدار في حكمة الواضع ان يضع لما هو اكثر استعمالا : بان تكون الحاجة الى الاستعمال فيه اكثر.

(٢) اجاب عن اشكال ان قلت بجوابين :

الاول : ان مجرد الاستبعاد لا يقاوم الادلة المتقدمة الموجبة للقطع بالوضع لخصوص المتلبس ، وان كون الواضع حكيما لعله مبني على ان الواضع هو غير العرب في اللغة العربية ، كما يدعى بعضهم : ان واضع اللغات هو الله تبارك وتعالى ، او الانبياء من طريق الوحي ، أو الالهام ، وربما يقال : ان هذه مجرد دعوى لم يقم عليها برهان ، بل الوجدان شاهد : بان منافي الحكمة في الاوضاع اللغوية من اللغة العربية وغيرها مما لا ينكر.

وعلى فرض الالتزام بحكمة الواضع مطلقا حتى على فرض كونه من العرب ، فلعله لم يكن ملتفتا الى ان هذا المعنى المجازي الحاجة الى الاستعمال فيه اكثر من المعنى الحقيقي.

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان استعمال المشتق فيما انقضى عنه وان كان اكثر من استعماله في المتلبس في حال النطق ، إلّا ان الاستعمال في حال الانقضاء لا يلازم كون الاستعمال مجازا ، لأنه اذا كان الاستعمال فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال تلبسه بالمبدإ لا يكون الاستعمال مجازيا : بان يراد من جاء الضارب في حال انقضاء الضرب عنه انه جاء الذي كان ضاربا ، لا ان يراد منه انه ضارب الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى ، فانه باللحاظ الاول : وهو لحاظ حال التلبس والجري باعتباره ، واذا كان الجري بلحاظ حال التلبس يكون استعمالا حقيقيا ، لانه استعمال للمشتق في المتلبس بلحاظ حال تلبسه.

نعم ، اذا كان الاستعمال باللحاظ الثاني : وهو كونه ضاربا الآن لتحقق الضرب منه في ما مضى يكون الاستعمال مجازيا. وما ذكرناه من الامرين هو مراده بقوله : «ان ذلك» : أي الاستعمال في حال الانقضاء لا ينحصر في الاستعمال المجازي حتى يكون اكثر من استعمال المشتق في المتلبس و «انما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس» فانه اذا كان بلحاظ حال التلبس لا يكون الاستعمال مجازيا «مع انه بمكان من الامكان» : أي الاستعمال بلحاظ حال التلبس وعلى هذا يكون الاستعمال وان كان في حال الانقضاء الّا انه حقيقي ، لانه بلحاظ حال التلبس. نعم اذا كان الاستعمال باللحاظ الثاني : وهو كونه ضاربا الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى يكون الاستعمال في حال الانقضاء مجازيا والى هذا اشار بقوله : «لا حينه بعد الانقضاء» بان يكون المراد انه ضارب الآن لتحقق الضرب منه فيما مضى «كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال» أي بان يقصد انه ضارب الآن ويراد «جعله» فعلا «معنونا بهذا العنوان» أي بعنوان الضارب «فعلا بمجرد تلبسه» بالضرب «قبل مجيئه» فانه لو كان كذلك لكان الاستعمال مجازيا ، بناء على ما هو الصحيح من كونه موضوعا لخصوص المتلبس.

٢١٨

وبالجملة : كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في المورد ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حال أخرى ، كما لا يخفى ، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم ، فإن استعماله ـ حينئذ ـ مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا ، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان ، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة (١) ، وهذا غير استعمال اللفظ

______________________________________________________

نعم ، لو كان المشتق موضوعا للاعم لصح استعماله في حال الانقضاء حقيقة من دون لحاظ حال التلبس ، لانه يكون له فردان : المتلبس في الحال ، والمنقضى عنه. وهذا مراده من قوله : «ضرورة انه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين» ويحتمل ان يكون مراده انه في حال الانقضاء بناء على الاعم يصح استعماله بلحاظ حال التلبس ، ويصح استعماله بلحاظ حال الانقضاء ايضا ، والعبارة قابلة للانطباق على كلا الامرين.

فتلخص مما ذكرناه : ان الاستعمال في حال الانقضاء وان كان اكثر من الاستعمال في المتلبس في حال تلبسه الّا انه لا يلزم ان يكون الاستعمال مجازيا ، فيكون المجاز اكثر من الحقيقة فينافي حكمة الوضع.

(١) لا يخفى انه لما نفى كثرة المجاز في حال الانقضاء ، وان الاستعمال يكون حقيقيا بلحاظ حال التلبس ، وان كان الاستعمال في حال الانقضاء ، كأنه استشعر بورود توهم : وهو رجوع الايراد الاول : وهو احتمال كون ارتكاز التضاد للانسباق من الاطلاق فانه يكون المشتق اكثر استعمالاته في المتلبس ـ اراد رفع هذا الاحتمال بقوله : «وبالجملة ... الخ».

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : انه لا اشكال في استعمال المشتق في حال انقضاء المبدأ عنه اكثر من استعماله في حال كونه متلبسا ، فاذا كان موضوعا للاعم لا ينبغي ان يلاحظ فيه حال التلبس ، لان ملاحظة حال التلبس في حال الانقضاء انما هو للفرار من الاستعمال المجازي واذا كان المنقضى عنه المبدأ مع انقضائه عنه فردا من افراد ما هو الموضوع له ولو بالانطباق فلا داعي لملاحظة حال التلبس في حال الانقضاء ، فان المنقضى عنه فرد من افراد المعنى الحقيقي ، فمع كون المنقضى عنه فردا له لا داعي لملاحظة حالة اخرى وهي لحاظ حال التلبس ، وانما يلحظ حال التلبس في مورد الانقضاء حيث يكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس ، لا للاعم فيلحظ حال التلبس فرارا من الاستعمال المجازي.

فاذا كثرة الاستعمال في المتلبس ولو في حال الانقضاء دليل على كونه موضوعا لخصوص المتلبس ، والّا لما كان هناك داع لملاحظة حال التلبس ، فملاحظة حال التلبس ـ مع انه لا داعي له بناء على الوضع للاعم ـ دليل على ان الموضوع له هو خصوص المتلبس والّا لما كان الاستعمال في خصوص المتلبس اكثر.

والحاصل : انه لو كان موضوعا للاعم لما كثر استعماله في خصوص المتلبس ، لأن المنقضي عنه المبدأ أحد فردي المعنى العام فيصح استعماله فيه بنحو الانطباق على احد فردي المعنى الحقيقي ، فلا وجه لملاحظة الفرد الآخر وهو المتلبس. فبعد تسليم كثرة الاستعمال في المتلبس في حال الانقضاء لا وجه لدعوى الوضع للاعم ، وان السبب في ارتكاز التضاد هو كثرة الاستعمال في خصوص المتلبس ، لانه لو كان موضوعا للاعم لما كثر الاستعمال في المتلبس ، اذ لا داعي له ـ حينئذ ـ بعد إمكان كون الاستعمال حقيقة في المنقضى عنه المبدأ مع لحاظ حال الانقضاء. وهذا بخلاف ما اذا كان موضوعا للمتلبس ، فان السبب في الاستعمال في المتلبس وملاحظة حال المتلبس في حال انقضاء المبدأ انما هو للفرار عن الاستعمال المجازي فان الاستعمال في المنقضى عنه من دون لحاظ حال التلبس يكون مجازا ، فيكثر الاستعمال في المتلبس

٢٢٠