بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل (١) ، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه ، ولو احتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق ، فليحمل

______________________________________________________

(١) قد تقدم منه انه مشترك لفظي بين الطلب ـ في الجملة ـ والشيء وانه لم يستعمل في المعاني التي ذكروها وانما هي من باب اشتباه المصداق بالمفهوم ، فلا يخلو كلامه هذا من منافاة لما ذكره ، إلّا ان يكون جاريا منه على المماشاة مع الذين يدعون انها معاني الامر ، فيكون حاصل مرامه : ان ما ذكر ليس الّا موارد للاستعمال ، والاستعمال اعم من كونه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، أو الحقيقة في احدها والمجاز في المعاني الأخر ، فلم يبق لهم الّا الترجيح بالمرجحات التي ذكروها في مقام تعارض الاحوال ، والترجيحات المذكورة هناك غير مسلمة :

اولا : لعدم بناء من العقلاء عليها ، نعم ربما كان المسلم عند العقلاء هو اصالة عدم القرينة وهي انما تجري في مقام الشك في المراد فيكون موردها فيما كان للفظ حقيقة معلومة ومجاز كذلك ، وشك في انه اراد المتكلم من هذا اللفظ المعنى الحقيقي او المعنى المجازي ، لا فيما اذا كان المراد من اللفظ معلوما وكان الشك في ان الاستعمال كان حقيقيا او مجازيا.

وثانيا : على فرض تسليمها معارضة بمثلها ، وقد مر الكلام فيها في تعارض الاحوال.

نعم يمكن ان يقال : ان المقام ليس مما يدور امره بين الاشتراك اللفظي والمعنوي ، والحقيقة والمجاز ، لان اختلاف الجمع ـ وان الامر بمعنى الطلب يجمع على اوامر ، ولا يجمع على امور ، والامر في غير الطلب بجمع على امور ولا يجمع على اوامر ـ دليل واضح على نفي الاشتراك المعنوي ، والّا كان هذان الجمعان جمعا لمعنى واحد ، فلا بد وان يجمع الامر في الطلب على اوامر وامور مع انه ليس كذلك ، ويدل هذا ايضا على نفي المجازية لان المجاز لا جمع له فيكون الجمعان للمعنى الحقيقي ، ولازمه صحة ان يكون الامور جمعا للامر بمعنى الطلب وقد عرفت انه لا يجمع على

٣٠١

عليه ، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه. بالخصوص ، أو فيما يعمه (١) ، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول.

الجهة الثانية (٢) : الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما

______________________________________________________

غير الاوامر ، فاذا الاشتراك اللفظي بين الطلب وغيره مما لا بد منه ، ولكن الاشكال في ان غير الطلب الموضوع له لفظ الامر أي معنى هو؟ وهل معنى واحد أو معان متعددة؟

(١) قد ذكر انه لا دليل على الترجيح بما ذكروه عند تعارض هذه الامور ، فلا يمكن ان يتعين للفظ ظهور في احدها بواسطة الترجيحات التي ذكرت ، فلا بد عند عدم ظهور لفظ الامر في شيء لا بواسطة القرائن ولا بواسطة الانصراف من الرجوع الى ما يقتضيه الاصل العملي.

والحاصل : أنه لا يمكن ان يحصل الظهور بواسطة ما ذكر ، فان ما ذكروه انما هو لاجل ان يحصل بواسطتها ظهور للفظ في شيء فيرجع الى الاصل العملي. اما اذا حصل للفظ ظهور في احد المعاني فلا حاجة الى ما ذكروه ، لانها انما ذكرت لتحصيل الظهور ، فاذا حصل الظهور سقطت تلك الترجيحات ولا بد من الاخذ ، بالظاهر ، وهذا الظهور كما يحصل من القرائن يحصل من الانسباق من الإطلاق : أي من الانصراف ، وعند حصوله يعمل على طبقه سواء كان لانه حقيقة فيه بالخصوص فيكون سبب هذا الظهور هو الوضع ، أو كان سببه الانصراف وذلك فيما كان موضوعا لما يعمه ، ولكن يكون له انصراف بواسطة كثرة الاستعمال في بعض مصاديقه الى ذلك المصداق ، وحيث لم يعلم سبب الظهور فلا معين لاحد الامرين.

(٢) يظهر منه (قدس‌سره) ان للفظ الامر ظهورا في المعنى الاول : وهو الطلب ، ولم يعلم انه حقيقة فيه بالخصوص او انه موضوع لما يعمه وهذا الظهور للانصراف ، وهذا

٣٠٢

أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه. وأما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف ، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه بمثل : إنك لم تأمره ، إنما هو على استعلائه ، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه ، وكيف كان ، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية (١).

______________________________________________________

ايضا ينافي ما ذكره في قوله فيما سبق : من انه لا يبعد ان يكون لفظ الامر مشتركا لفظيا بين الطلب في الجملة والشيء.

(١) المعروف ان الطلب من العالي الى السافل امر ، ومن المساوي للمساوي التماس ، ومن السافل الى العالي رجاء او دعاء ، فكون الطلب صادرا من عال الى السافل مقوم لصدق الامر ، والظاهر انه لم يذهب احد الى ان الامر كالطلب يصدق على هذه الثلاثة باجمعها كما يصدق عليها الطلب ، فان الملتمس والراجي مع عدم استعلائهما لا يصدق عليهما الامر.

وانما الكلام في انه هل يكفي العلو الواقعي في الامر؟ أو لا بد مع كونه عاليا في الواقع مظهرا لذلك العلو بأن يكون مستعليا؟ أو ان حقيقة الامر تتقوم بالاستعلاء لا بالعلو الواقعي؟ فاذا كان الملتمس او الراجي مدعيا للاستعلاء وانه عال بحسب ادعائه صدق على الصادر منه الامر ، واذا كان العالي في الواقع خافضا لجناحه ومظهرا نفسه بعنوان الملتمس او الراجي لم يصدق على طلبه الامر ، او ان المدار على احد امرين على سبيل منع الخلو : أي ان صدق الامر منوط باحد امرين : اما العلو الواقعي فما يصدر منه من الطلب امر وان كان خافضا لجناحه ، او استعلاء الطالب فيصدق على طلب الراجي والملتمس الامر اذا كانا مستعليين.

والمختار للمصنف : ان الامر يتقوم بكونه من عال واقعا فقط ، ولا يشترط مع كونه عاليا في الواقع ان يكون مظهرا لذلك فيصدق الامر على طلبه وان كان العالي

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في الواقع مستخفضا لجناحه ، ولو كان اظهار العلو شرطا مع العلو الواقعي لما صدق على طلبه الامر اذا كان خافضا لجناحه.

والدليل على كون العلو الواقعي مقوما لصدق الامر هو التبادر ، وان مرادفه بالفارسية (فرمودن) والدليل على عدم اشتراط اظهار العلو هو صدق الامر على طلب العالي المستخفض لجناحه بالوجدان وعدم صحة سلب الأمر عنه ، وبهذا انتفى الاحتمال الثاني أو القول الثاني ، ومن رد القول الاخير يظهر فساد القول الثالث ايضا.

وحاصل ما استدل به الذاهب الى القول الاخير : انه لا اشكال في كون الطلب الصادر من العالي واقعا امرا وان كان مستخفضا لجناحه. واما صدق الامر على طلب المستعلي وان لم يكن عاليا في الواقع فدليله ما أشار اليه بقوله : «وتقبيح الطالب السافل» وحاصل هذا الدليل : ان السافل اذا استعلى واظهر نفسه بعنوان كونه عاليا ادّعاءً يقبح في ذلك ، ويقال له لم تامر ، فيطلق على طلبه انه امر ، ولذا يقال له : انه لم تامر من هو اعلى منك ، ولو لم يكن ما صدر منه امرا ، لما قيل له : لم تامر ولما اطلقوا على ما صدر منه الامر.

والجواب عنه : ان اطلاق الامر انما هو على سبيل المجازية ، لانه حيث ادعى العلو وجعل نفسه ادّعاءً آمرا وصار طلبه بحسب ادعائه امرا فاطلقوا عليه الامر بعناية هذا الادعاء ، فالاطلاق مجازي بهذه العناية لا انه بعد استعلائه صار طلبه امرا حقيقة ، ولو كان هذا الاستعلاء يجعل طلبه امرا واقعا لما صح سلب الامر عنه في تلك الحال فان المقبحين له ـ بقولهم : لم تامر ـ لو سألوا في ذلك الحال ان طلب هذا المستعلي هل هو امر حقيقة لقالوا : بانه ليس بامر ، وصحة سلب الامر عنه في تلك الحالة دليل على ان الاطلاق كان مجازا ، والّا لما صح السلب.

ومما ذكرنا ظهر : ان التقبيح للسافل على استعلائه واظهار نفسه آمرا انما ذكر في مورد استعمال لفظ الامر في ذلك المقام ، فالتقبيح من المدعي لكون الاستعلاء يكفي

٣٠٤

الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ، لانسباقه عنه عند إطلاقه ، ويؤيده قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله (لا ، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ،

______________________________________________________

في اطلاق الامر حقيقة على طلب السافل المستعلي انما ذكر مورد الاطلاق الامر في تلك الحال ، إلّا ان غرض المستدل الاستدلال بنفس التقبيح على كون الاستعلاء كافيا في صدق الامر. والدليل على خروج التقبيح عن الاستدلال انه :

اولا : ان الاستدلال انما يكون لصحة الاطلاق وعدمه ونفس التقبيح اجنبي عن الاطلاقات اللفظية.

وثانيا : انه لو فرضنا انه لا تقبيح للعقلاء على ذلك ، فالاستدلال يتم ايضا لو صح الاطلاق مع استعلاء السافل.

واتضح مما ذكرنا ايضا ان جواب المصنف عن التقبيح انه انما كان على استعلاء السافل الذي لا ينبغي منه الاستعلاء على العالي عليه ، وليس على نفس امر السافل المستعلي لانه اجنبي عن مورد استدلال المستدل ، لما عرفت : من ان استدلاله كان بالاطلاق في مورد التقبيح لا بالتقبيح.

ثم لا يخفى ايضا بعد ان عرفت ان الاستعلاء لم يؤخذ مفهوما لما وضع له لفظ الامر لا شرطا للعلو الواقعي ولا عدلا له تعرف بطلان القول الثالث : وهو دعوى ان المقوم لصدق الامر هو الاستعلاء فقط ، لوضوح ان لازم هذا القول انه لا يصدق الامر على طلب العالي واقعا المستخفض لجناحه ، وانه مع الاستعلاء من السافل على العالي يصدق الامر على طلبه ، وقد تبين ان الامر يصدق على طلب العالي المستخفض لجناحه وانه لا يصدق على طلب السافل المستعلي.

٣٠٥

وتوبيخه على مجرد مخالفته ، كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١).

______________________________________________________

(١) العمدة فيما استدل به على كون الوجوب والالزام ماخوذا فيما وضع له لفظ الامر : هو التبادر والانسباق الى هذا الطلب المقيد بكونه بالغا حد الالزام من اطلاق لفظ الامر المستند ذلك الانسباق الى حاق لفظ الامر بحيث عند ما يسمع احد لفظ الامر المجرد عن كل شيء او لفظ : امر زيد عمرا من دون قرينة حال او مقال يتبادر السامع منه ان الطلب هو الطلب الوجوبي ، وهذا لو تم كان دليلا تاما على وضع الامر لخصوص الطلب الوجوبي ، إلّا ان المنكر يمنع هذا التبادر ، ويدعي : ان الامر موضوع للطلب الصادر من العالي لا خصوص الالزامي منه ، ولذا يصح الاستفهام عنه ، وان الامر هل كان بنحو الالزام ، ولو كان الالزام دخيلا فيه لما صح الاستفهام لوضوح المعنى وعدم احتماله الّا لشيء واحد خاص : وهو الطلب الالزامي.

نعم ، فيما كان الآمر لا يامر الّا بالطلب الالزامي كان المفهوم من الامر هو الوجوب ، إلّا ان هذا للقرينة لالحاق لفظ الامر كأوامر السلاطين والحكومات بالنسبة الى امرائهم ومنصوبيهم ، ولكنه كما عرفت انه للقرينة وغير مستند لحاق اللفظ. ودعوى عدم صحة حمل لفظ الامر على الطلب الاستحبابي ممنوعة ، فانه يصح حمله عليه حملا غير مستند الى لحاظ علاقة اصلا ليكون صحة الحمل بلحاظ المجازية.

وعلى كل حال فدليل المصنف على دعواه : هو التبادر ، وذكر مؤيدات اربعة لهذه الدعوى وهو اختصاص لفظ الامر بخصوص الطلب الالزامي.

الأول : من المؤيدات قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) ويمكن بيانه بوجهين :

__________________

(١) النور : الآية ٦٣.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

(الأول) : انه لا اشكال في كون الامر في هذه الآية هو خصوص الطلب الالزامي ، لان التحذير عن المخالفة انما يصح في الطلب الالزامي ، واما غير الالزامي فلا حذر في مخالفته ولا تحذير عليه ، فاما ان يكون الطلب الالزامي المفهوم من لفظ الامر في هذه الآية مستنده لفظ الامر فيتم المطلوب ، لوضوح انه لو لم يكن موضوعا له لما فهم من حاق نفسه.

واما ان يكون مستندا الى القرينة ولا قرينة في الآية. ويمكن الخدشة في هذا : بانه كان مستندا الى القرينة والقرينة موجودة وهي نفس التحذير ، فان التحذير لا يكون إلّا في الطلب الالزامي ، ولا اقل من احتمال هذه القرينة ولازمه احتمال كون فهم الطلب الالزامي مستندا اليها ، لا الى نفس لفظ الامر ، فلا يتم التأييد على هذا الوجه.

(الثاني) : ان نقول : انه رتب طبيعة الحذر على طبيعة الامر ، ولو لم يكن طبيعة الامر مستلزمة للحذر لا يحسن ترتبه عليها ، ومن الواضح ان الحذر لا يترتب الّا على الطلب الالزامي ، فلو لم يكن الامر هو الطلب الالزامي لما ترتب على طبيعته الحذر لانه انما يحسن ترتب اللوازم على ملزوماتها ، فاذا لم يكن الملزوم مستلزما للازم لا يحسن ترتبه عليه.

ويمكن الخدشة فيه : بان ترتب الحذر على طبيعة الأمر انما يدل على ان طبيعة الامر مختصة بالطلب الالزامي حيث يدل دليل خارجي على ان هذا اللازم من مختصات هذا الملزوم.

واما اذا كان نفس هذا اللازم يعين ملزومه وكان ملزومه احد مصاديق المعنى العام الموضوع له اللفظ كما يدعيه منكر وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي ، فانه لا دلالة فيه على ان هذا الكلام سيق لبيان ترتب اللازم على ما وضع له هذا اللفظ ، بل غاية دلالته ان المترتب عليه الحذر هو خصوص الطلب الالزامي ولا دلالة فيه ان الموضوع له لفظ الامر هو الطلب الالزامي.

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : انه انما يكون هذا الظهور حيث لا يدل اللازم بنفسه على ان موضوعه امر خاص ، مضافا الى ان سياق الآية باعتبار الجملة السابقة عليها ان هناك طلبا الزاميا من الشارع في حضور خطبة الجمعة ، ونهى عن خروج الحاضرين إلّا باذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فامره الذي حذر عن مخالفته هو ذلك الطلب السابق فتخرج عن الظهور في كونها لبيان ترتب الحذر على طبيعة الامر.

نعم لو كان ذلك الطلب بلفظ الامر وكان غير مصحوب بقرينة تدل على انه اريد منه الطلب الالزامي لتم هذا الظهور.

وربما يورد على هذا الظهور : بان الظهور انما يكون حجة في تعيين المراد لا في كيفية الاستعمال ، فلو سلمنا ظهور الآية في ترتب الحذر على طبيعة الامر لما دل على وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي.

وفيه : ان الظهور هنا ايضا لتعيين المراد ، فان هذا الظهور انما دل على ان المراد هو ترتب الحذر على طبيعة الامر ، والذي يدل على الوضع لخصوص الطلب الالزامي هو لازم هذا الظهور ، فمدلول هذا الظهور وهو ترتب الحذر على طبيعة الامر هو العلة في الدلالة على وضع الامر لخصوص الطلب الالزامي ، وليس هذا الظهور قائما بنفسه على ان المراد من الامر هو الطلب الالزامي حتى يقال : انه حجة في تعيين المراد دون كيفية الاستعمال ، بل حيث كان الظهور حجة في تعيين المراد ، فيدل هذا الظهور على ان المراد في الآية هو هذا الترتب والذي يدل على الوضع هو هذا الترتب الذي قامت الحجة عليه.

التأييد الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لو لا ان أشقّ على امتي لامرتهم بالسواك) (١) وحيث كانت المشقة من لوازم الطلب الالزامي دون مطلق الطلب الشامل للوجوبي والندبي

__________________

(١) الوسائل ج ١ : ٣٥٤ / ٤ باب ٣ من أبواب السواك.

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فيتأتى بيانه في الدلالة على وضع الامر لخصوص الوجوب بالنحوين المذكورين في الآية السابقة ، والجواب : الجواب ، مضافا ان غاية دلالة هذا الخبر على ان الامر الذي يوجه الى الناس بالسواك هو الوجوبي ، ولعل الامر الذي يوجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الناس يكون بصيغة افعل لا بلفظ الامر.

التأييد الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا بل انما انا شافع) (١) وحاصله : ان بريرة طلب منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرجوع الى زوجها فعبرت عن طلبه بانه امر ، وقد فهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لفظ أتامرني هو الطلب الالزامي ، ولذا قال : لا بل انا شافع وفهمه من لفظ الامر ذلك دليل على ان الامر موضوع لخصوص الطلب الالزامي.

والجواب عنه : ان قول بريرة أتامرني يدل على ان هناك طلبا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه لها ، ولعل الطلب الذي وجه اليها منه كان بصيغة الامر لا بلفظ الامر ، وسيأتي ان الصيغة اما ان تدل على الوجوب بالوضع ، أو اطلاقها يدل عليه ، وليس في هذا الخبر دلالة واضحة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم الوجوب من لفظ الامر.

التأييد الرابع : صحة الاحتجاج من العقلاء على العبد بمجرد مخالفته للامر الصادر اليه بلفظ : آمرك ، وصحة توبيخه بمجرد مخالفته لذلك الامر الصادر بلفظ آمرك ، وقد وبخ الله تعالى ابليس ـ لعنه الله ـ على نفس مخالفته للأمر بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)(٢) فالله تعالى يوبخ ابليس ويقول له : ما لذي منعك عن امتثال امري اياك بالسجود ، والذي امتنع عنه ابليس هو امتثال الامر ، فقوله تعالى : (أَلَّا تَسْجُدَ) بيان لامتناع ابليس وان المتحصل من ذلك الامتناع هو عدم السجود فإن لا تسجد بيان المتحصل من الامتناع ، وعلى كل فهذا التوبيخ منه تعالى لابليس على مخالفة الامر يدل على صحة التوبيخ على مخالفة الامر ، وصحة التوبيخ

__________________

(١) مستدرك الوسائل المجلد الثاني : ٦٠٠ / ٣ باب من أبواب نكاح العبيد والإماء.

(٢) الاعراف : الآية ١٢.

٣٠٩

وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب ، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة ، كما لا يخفى (١) ، وأما ما أفيد من أن الاستعمال

______________________________________________________

انما تكون على الطلب الالزامي فلا بد وان يكون مدلول الامر هو الطلب الالزامي ، ولازم ذلك كون لفظ الامر موضوعا لخصوص الطلب الالزامي الذي هو الوجوب.

والجواب عنه : ان القائل بوضع الامر للاعم ، منهم من يقول بان الامر لا يدل على الوجوب بالوضع ، ولكنه يدل على الوجوب بقرينة الحكمة والاطلاق ، وان الندبي منه يحتاج الى البيان ، فحيث لا يكون المولى في مقام الاهمال ولم ينصب قرينة على الندب فالاطلاق يعين ان المراد من لفظ الامر هو الوجوب ، فلو قال المولى لعبده : امرك يدل هذا على الوجوب بالاطلاق وحيث كان الوجوب مدلولا بالاطلاق صح الاحتجاج والتوبيخ ، ولكنه لا يدل ذلك على كون الامر موضوعا للوجوب ، لان الوجوب قد دل عليه الاطلاق لا لفظ الامر ، واما من ينكر الاطلاق ـ ايضا ـ فهو لا يعترف بصحة هذا الاحتجاج والتوبيخ ، واما التوبيخ في الآية فلا دلالة فيه اصلا ، لأن الامر الذي صدر منه تعالى كان بصيغة الامر لا بلفظ الامر وهو قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(١). ولعل المصنف لهذه المناقشات ذكر هذه الامور الاربعة بلسان التاييد ، دون الاستدلال.

(١) هذا شروع في ادلة المنكرين لوضع لفظ الامر لخصوص الطلب الوجوبي ، بل هو موضوع للاعم منه ومن الطلب الندبي ، وعمدة ادلتهم هو إنكار تبادر الوجوب من لفظ الامر ، بل المتبادر منه الطلب الجامع للوجوب والندب ، وحيث لم يكن تحقق للجامع الّا في ضمن احد فرديه ، فلا بد من تعيينها اما بالقرائن الخاصة أو الاطلاق ، واذا انتفى الامر ان كان لفظ الامر مجملا من ناحية الخصوصية الوجوبية والندبية ،

__________________

(١) الحجر : الآية ٢٩ ، ص : الآية ٧٢.

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ولم يشر المصنف لهذا الاستدلال وتعرض لادلة أخر ذكرت لهم.

ـ منها : ما اشار اليه بقوله : «وتقسيمه الى الايجاب والاستحباب».

وحاصله : ان يطلق لفظ الامر بما له من المعنى فيجعل مقسما للوجوب والاستحباب ، فيقال : الامر ينقسم الى وجوبي واستحبابي ، ولا شبهة في ان الذي يصح تقسيمه الى الايجاب والاستحباب هو الجامع بينهما والقدر المشترك لهما وهو الطلب المطلق ، ولو كان لفظ الامر موضوعا لخصوص الوجوب لما صح تقسيمه ، اذ لا ينقسم الشيء الى نفسه والى غيره ، لأن معنى الانقسام بيان افراد أو انواع ما وضع له اللفظ ، والامر لو كان موضوعا لخصوص الوجوب لا يكون الندب نوعا منه ولا فردا له فلا يصح التقسيم ، وصحة التقسيم مما لا ريب فيها فتدل على ان المقسم موضوع لمطلق الطلب لا خصوص الطلب الالزامي وهو الوجوب.

والجواب عنه : ما اشار اليه بقوله : «انما يكون قرينة ... الى آخره» وتوضيحه ان التقسيم الى الايجاب والاستحباب لا يدل على اكثر من انه اريد بلفظ الامر في مقام التقسيم مطلق الطلب لا الطلب الوجوبي ، واما ان هذا المراد من لفظ الامر هو الموضوع له لفظ الامر فلا تدل عليه صحة التقسيم الّا بضميمة احد امور ثلاثة :

الأول : ان يقال ان صحة التقسيم قد دلت على ان المراد من لفظ الامر هو الطلب المطلق فاما ان يكون موضوعا له فيتم المطلوب ، والّا فلا بد من ان يكون بالقرينة ، ولا قرينة في المقام.

والجواب عنه : ان كونه في معرض التقسيم يصلح ان يكون قرينة اذا كان لفظ الامر موضوعا لخصوص الوجوب.

الثاني : ان يقال بعد ان كان المعنى العام هو المراد فاصالة الحقيقة تدل على انه هو المعنى الحقيقي.

والجواب عنه اولا : بان اصالة الحقيقة وغيرها من الاصول العقلائية اللفظية انما بنوا عليها في مقام الشك في المراد ، لا فيما اذا شك في الوضع ، فهي حجة في تعيين

٣١١

فيهما ثابت ، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز ، فهو غير مفيد ، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى ، وفي تعارض الاحوال ، فراجع (١).

______________________________________________________

المراد وذلك فيما كان للفظ معنى حقيقي ومعنى مجازي فشك في ان المراد هو الحقيقي ، أو المجازي ، لا فيما اذا كان المراد معلوما وشك في انه هل هو معنى حقيقي او مجازي ، والمقام من قبيل الثاني لا الاول.

وثانيا : ان اصالة الحقيقة ليست اصلا بذاتها في قبال اصالة عدم القرينة ، وفي قبال ان الاصل في الاستعمال ان يكون على نحو الحقيقة ، فان رجعت الى اصالة عدم القرينة ، فالجواب عنها ما عرفت ، وان رجعت الى اصالة الاستعمال فسيأتي الجواب عنها.

الثالث : ان يقال : ان المراد من الامر في مقام التقسيم هو الطلب المطلق ، فلفظ الامر مستعمل في مطلق الطلب والاصل في الاستعمال ان يكون على نحو الحقيقة.

والجواب : انه لا صحة لهذا الاصل وليس للعقلاء بناء عليه ، وصحة الاستعمال اعم من الحقيقة والمجاز ، ويحتمل ان يكون قد اشار المصنف الى الاول بقوله : «انما يكون قرينة على ارادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه» والى المعنى الثالث بقوله : «وصحة الاستعمال في معنى اعم من كونه على نحو الحقيقة».

(١) هذا بيان لكون الاصل في الاستعمال الحقيقة بغير ما ذكر ، وهو ان يقال : ان معنى قولهم في المقام ان الاصل في الاستعمال الحقيقة يرجع الى ان المراد وهو مطلق الطلب قد ثبت في مقام التقسيم ، فيدور الامر بين كونه هو المعنى الحقيقي لا غير وهو المطلوب ، والّا فاما ان يكون مشتركا لفظيا : بان يكون لفظ الامر قد وضع للطلب الوجوبي ولمطلق الطلب على سبيل الاشتراك اللفظي ، واما يكون استعماله في مطلق الطلب على نحو المجاز ، والاصل عدم الاشتراك ، للزومه تعدد الوضع ، وعدم المجاز لاحتياجه الى القرينة والاصل عدم القرينة.

٣١٢

والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ، وإلا لا يفيد المدعى (١).

______________________________________________________

والجواب عنه : ما اشار اليه بقوله : «غير مفيد» وحاصله : قد مر مثل هذا الكلام في الجهة الاولى في دوران لفظ الامر بين كونه موضوعا لخصوص الطلب لا غير ، واستعماله في بقية المعاني التي ذكرت : من الشيء والفعل والغرض وغيرها يلزم منه اما الاشتراك اللفظي او المجازية وهما خلاف الاصل.

والجواب عنه اولا : لا صحة لهذه الاصول عند العقلاء.

وثانيا : انها معارضة بمثلها وقد مر تفصيل ذلك في تعارض الاحوال.

(١) وبيان هذا الاستدلال على كون الامر موضوعا للطلب المطلق الشامل للوجوب والندب بتقديم مقدمة له :

وهو ان نقول : ان صدق المشتق على المتحمل للمبدا الذي بسببه صدق المشتق عليه لا بد وان يكون تحمله للمبدا وانضمام المبدأ على نحو الحقيقة ، مثلا : اذا صدق الضارب على شخص صدقا حقيقيا فلا بد وان يكون ضاربا حقيقة والضرب منضما اليه حقيقة ، لا ان انضمام الضرب اليه على نحو المجازية ، فاذا تمت هذه المقدمة نقول : انهم استدلوا ـ على ما ادعوه : من كون الامر موضوعا للاعم ـ بهذا الشكل : وهو انه لا اشكال ان فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة هي فعل المامور به ، فينتج ان فعل المندوب فعل المامور به ، فيصدق المامور به على فعل المندوب صدقا حقيقيا ، ولازم ذلك ان المبدأ وهو الأمر قد تحمله فعل المندوب وانضم اليه انضماما حقيقيا ، فيصدق على المندوب انه مامور به حقيقة ، ولازم ذلك كون الامر موضوعا لما يعم المندوب والّا لكان صدق المامور به عليه على نحو المجاز دون الحقيقة.

والجواب عنه : منع الكبرى تارة لان قولهم كل طاعة لا بد وان يصدق عليها لفظ المامور به صدقا حقيقيا ليست بمسلمة فكلية الكبرى ممنوعة ، لانه لا نسلم ان فعل

٣١٣

الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر ، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيا ، سواء أنشئ بصيغة افعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الامر ، أو بغيرها (١).

______________________________________________________

المندوب يصدق عليه لفظ المامور به صدقا حقيقيا ، بل الذي يصدق عليه انه فعل المطلوب حقيقة ، لا انه مامور به حقيقة ، بل بعض مصاديق الاطاعة يصدق عليها انها مامور بها حقيقة وهي الاطاعة الوجوبية. واخرى تسليم الكبرى ولكنه لا يثبت المطلوب ، وذلك إذا اريد من المامور به في قولهم : كل طاعة هي فعل المامور به الاعم من المعنى الحقيقي : بان يكون المراد من المامور به هو المطلوب ، فلا يتم الاستدلال على كون الامر موضوعا للاعم ، وهذا معنى قوله : «فيه ما لا يخفى من منع الكبرى» : أي منع كليتها «لو اريد من المامور به معناه الحقيقي» وهو انه لا بد وان يصدق على كل طاعة عنوان المامور به صدقا حقيقيا «والّا لا يفيد المدعى» لوضوح انه لو كان المامور به ليس بمعناه الحقيقي ، بل اريد به المطلوب ، فلا يفيد ما ادعاه : من كون لازم هذا القياس كون لفظ الامر موضوعا للاعم ، ولكنه لا يخفى ان لازم ما ذكره ان الامر المتعلق بالمندوب لا يسمى أمرا حقيقة وهو بعيد جدا ، لصدق الأمر عليه من دون عناية.

(١) لا يخفى عليك ان الالفاظ موضوعة لنفس الماهيات المجردة عن الوجود بكلا قسميه من الذهني والخارجي ، ولذا يحمل عليها الوجود والعدم ، فيقال : الانسان موجود والانسان معدوم ، والموضوع له اللفظ هو المسمى بالكلي الطبيعي.

ولا يخفى ايضا ان للماهية فردين قطعا الموجود الذهني والموجود الخارجي ، كالنار والشجر والانسان والبياض والسواد ، فان لفظ النار ـ مثلا ـ موضوع لماهية النار وله فرد خارجي وهي النار التي يمكن ان يترتب عليها الآثار كالحرارة والاحراق ، ولها فرد ذهني وهي صورة النار المتصورة في الذهن ، وهناك من الماهيات

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لها فرد ثالث وهو الوجود الانشائي مثل الطلب والبيع ، فان لفظ الطلب موضوع لماهية الطلب وله فرد خارجي وهو الشوق الموجود في افق النفس في مرحلة شوقها واشتياقها ، وفرد ذهني وهو الصورة الحاصلة في افق الذهن والتصور وله فرد انشائي وهو وجود الطلب المنشأ بصيغة افعل او بمادة الامر او بلفظ اريد.

ولا يخفى انه ليس لكل ماهية فرد انشائي ، بل بعض الماهيات ليست لها فرد انشائي لأنها ليست قابلة للانشاء ، فان ماهية الانسان ـ مثلا ـ ليس لها فرد انشائي لأن الانشاء وان كان ايجاد المعني باللفظ لا بقصد الحكاية ، إلّا ان من المعاني بذاتها تكون في حقيقتها ووجودها لا تحتاج الى اكثر من قصد ايجادها باللفظ كالاستفسار والاستفهام فان السؤال عن شيء هو بذاته معنى لا يحتاج الى اكثر من قصد ايجاده باللفظ المقرر له كهمزة الاستفهام ـ مثلا ـ ومن المعاني ، ما يكون لها وجود في افق من افاق التكوين ، إلّا ان لقصد ايجادها باللفظ اثرا من الآثار عند العقلاء ، كانشاء الطلب ، وماهية الانسان ليست بذاتها كماهية الاستفسار ، وليس لقصد ايجاد مفهوم الانسان باللفظ اثر عند العقلاء.

وعلى كل حال فان بعض الماهيات ليست قابلة للانشاء ، وهذه الماهيات لها ثلاثة مقامات : مقام المفهوم ونفس الماهية ، ومقام وجودها الخارجي ، ومقام وجودها الذهني.

والماهيات القابلة للانشاء لها اربعة مقامات : الثلاثة المذكورة ، وينضم اليها مقام وجودها الانشائي.

ولا يخفى ايضا ان حمل اللفظ الموضوع لمعنى على فرده ليس من الحمل الذاتي ، لأن مناط الحمل الذاتي الاتحاد في الماهية ، ومناط حمل المفهوم على المصداق الاتحاد في الوجود ، والمعروف في كلمات القوم السابقين ـ لصاحب الاسفار ـ هو ان حمل المفهوم على كلا فرديه الموجود الذهني والموجود الخارجي من الحمل الشائع ، إلّا ان الذي يظهر من صاحب الاسفار ان الحمل الشائع الصناعي هو خصوص حمل

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المفهوم على مصداقه الخارجي الذي هو منبع الآثار المرغوبة والمطلوبة به لاهل الصناعات دون الموجود الذهني ، فحينئذ يكون بحسب هذا الاصطلاح ان حمل المفهوم على غير الموجود الخارجي : أي على غير فرده الخارجي هو من حمل المفهوم على مصداقه وليس هو من الحمل الذاتي ، إلّا انه ليس من الحمل الشائع الصناعي ايضا ، فحمل المفهوم على الفرد الانشائي ليس من الحمل الشائع الصناعي ، لانه ليس هو الفرد الخارجي ، وعلى هذا الاصطلاح جرى المصنف في المقام لانه قال : «ان الطلب الذي يكون هو معنى الامر ليس هو الطلب الحقيقي» لوضوح انه من اراد شيئا حقيقة وتعلق به شوقه وطلبه الحقيقي ولم ينشا طلبه لا يقال له : انه امر به ، فالامر ـ حينئذ ـ هو خصوص الطلب الانشائي الذي أنشأه واظهر به ارادته الحقيقية وطلبه الحقيقي ، واما كون الامر ليس هو الفرد الذهني للطلب فواضح ، فانحصر الامر بالفرد الانشائي من الطلب ، فالامر المنشأ به الطلب ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع ، لأن حمل مفهوم الطلب على فرد الطلب الحقيقي الحاصل للنفس في افق الشوق هو من حمل الشائع الصناعي بحسب الاصطلاح عنده «بل الطلب الانشائي» : أي ان معنى الامر هو خصوص الطلب الانشائي «الذي لا يكون بهذا الحمل» : أي بالحمل الشائع الصناعي «طلبا مطلقا» : أي غير مقيد فانه اذا حمل الطلب على فرده بالحمل الشائع الصناعي يختص بحمل مفهوم الطلب على فرده الحقيقي وهو الطلب الحاصل للنفس في مرحلة الشوق.

وحاصل مرامه : ان الطلب اذا حمل على فرده حملا شايعا ينحصر الفرد المحمول عليه بالطلب الحقيقي دون الطلب الانشائي ، لاختصاص الحمل الشائع الصناعي بالطلب الحقيقي ، ثم قال (قدس‌سره) : «بل طلبا انشائيا» : أي بل يكون طلبا انشائيا : أي ان معنى الامر ليس هو الطلب الحقيقي الموصوف بما ذكره من كون حمله حملا شايعا ، بل معناه هو الطلب الانشائي سواء أنشأ الامر بصيغة افعل أو

٣١٦

ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي ، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة ، من المغايرة بين الطلب والارادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما ، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام ، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما لم تكن عن

______________________________________________________

بمادة الطلب : بان قال : اطلب ، او بمادة الامر : أي بلفظ امر او بغيرها كما لو انشأ بالاشارة.

وبعبارة اوضح : ان مفهوم الطلب اذا حمل بالحمل الشائع الصناعي فلا يحتاج الى تقييده بشيء ، لأن الحمل الشائع الصناعي هو حمل الماهية على فردها ذي الأثر في الخارج والفرد ذو الاثر في الخارج لماهية الطلب هو الطلب الحقيقي ، فلا يحتاج في مقام حمل الطلب بالحمل الشائع الى تقييد الطلب بشيء لانحصاره في الطلب الحقيقي لأن ذا الاثر في الخارج منحصر به ، بخلاف ما اذا اردنا حمل الطلب على فرده الآخر كالانشائي فلا بد وان يذكر له قيد الانشائي ، لأن حمله عليه ليس من الحمل الشائع حتى يتعين ، وحيث ان له مصداقا آخر وهو الذهني فلا بد من التقييد لمعرفة أي المصاديق مراد في هذا الحمل الذي ليس هو حملا ذاتيا ولا حملا شايعا صناعيا ، بل هو حمل الماهية على مصداقها وحيث لها مصداق آخر فلا بد من التقييد بالانشائي ، فلا ينافي هذا ما سيذكره بعد : من ان الطلب اذا اطلق ينصرف منه الى الانشائي ، فانه هنا في مقام الحمل ، وهناك في مقام الانسباق من لفظ الطلب اذا اطلق وتعيين المراد منه.

٣١٧

المحذور خالية ، والاعادة ليست بلا فائدة ولا إفادة ، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا (١)

فاعلم أن الحق كما هو عليه أهله وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة : هو اتحاد الطلب والارادة ، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم

______________________________________________________

(١) حاصله ما استدل به على كون الامر هو خصوص الطلب الانشائي هو التبادر ، ويمكن ان يستدل عليه : بانه من المعلوم ان من اراد شيئا حقيقة ولم يظهر طلبه بانشاء او اشارة لا يقال له : انه امر بشيء ، ولو كان الامر هو الطلب الحقيقي او انه من مصاديق الامر لصح ذلك في حقه ، ومن الواضح ايضا ان المنشأ بصيغة الامر ـ مثلا ـ ليس هو الطلب الذهني فيتعين ان المنشأ بها هو الطلب بمرتبته الانشائية ، لوضوح ان مفهوم الطلب لا يراد الّا في مقام التقسيم والحدود ، فاذا لم يكن المنشأ بالصيغة هو الطلب الحقيقي ولا الطلب الذهني ولا مفهوم الطلب تعين انه هو الطلب الانشائي ، ولما كان المصنف في صدد التعرض لبحث اتحاد الطلب والارادة تنزل عن هذا وادعى انه لو قلنا : ان مفهوم الامر هو الطلب المطلق ولكن لا اقل من انصراف الامر عند اطلاقه الى الطلب الانشائي لكثرة ما يستعمل فيه ، ولا ريب ان كثرة الاستعمال توجب الانصراف ، وهذا الانصراف الى الطلب الانشائي لا يختص به لفظ الامر بل لفظ الطلب ايضا مثله ، فانه اذا اطلق ينصرف منه الى فرده الانشائي ، بخلاف لفظ الارادة فانها اذا اطلقت ينصرف منها الى الفرد الحقيقي من الارادة.

والفرق بينهما في هذا الانصراف اوجب ان يميل بعض اصحابنا من العدلية الى مذهب الاشاعرة المدعين للمغايرة بين الطلب والارادة ، خلافا للعدلية ـ في هذه المسألة ـ القائلين باتحاد الطلب والارادة.

والحق : هو اتحاد الطلب والارادة مفهوما ومصاديق كما هو رأي اهل الحق : أي العدلية وجماعة المعتزلة ايضا ، خلافا للاشاعرة القائلين بالمغايرة.

٣١٨

واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية.

وبالجملة : هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الارادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الامس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والامر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها ، يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدمة تحققها ، عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها.

وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص الّا عن اتحاد الارادة والطلب ، وأن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في ارادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك ، مسمى بالطلب والارادة كما يعبر به تارة وبها أخرى ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) ذهب الاشاعرة الى مغايرة الطلب للارادة ، وهو من مصاديق الكلام النفسي الذي جعلوه من صفاته تبارك وتعالى في قبال العلم والارادة كما يظهر من استدلالهم الآتي ان الطلب الحقيقي متحقق في الاوامر الامتحانية ، وحيث لا ارادة حقيقية فلا بد وان يكون الطلب غير الارادة ، وقد انكر العدلية الكلام النفسي من رأس وانكروا تغاير الطلب والارادة الذي ادعى الاشاعرة انه من موارد الكلام النفسي.

وحاصل ما ادعاه العدلية : ان الطلب عين الارادة مفهوما وما هو مصداق احدهما هو مصداق الآخر ، لضرورة انه اذا كانا موضوعين بازاء مفهوم واحد فلا بد

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وان تتحد مصاديقهما ، فمفهوم الطلب عين مفهوم الارادة ومصداق الارادة الحقيقة ، وهي الشوق الحاصل في النفس عند تصورها للشيء الملائم لها فتشتاق اليه بحيث تهيج رغبتها الى تحققه في الخارج ويكون متعلق ارادتها ، وهذه الارادة في هذه المرحلة هي الطلب الحقيقي ، فان كانت الرغبة الى تحصيله تعلقت بان يوجده الطالب والمريد بنفسه تحركت العضلات اليه ، وان كانت الرغبة في ان يكون المحصل له الغير دعا ذلك الى انشاء الارادة والطلب.

فاتضح : انهما متحدان في المفهوم وفي الخارج وهو تحققهما في افق القوة الشوقية ، فان خارجية كل شيء بحسبه وخارجية الارادة والطلب بتحققهما في مرحلة القوة الشوقية ، وايضا هما متحدان في مرتبة الانشاء ، فالمراد من الاتحاد اتحاد كل مرتبة بمرتبتها ، فمرتبة المفهوم اتحاد الارادة والطلب مفهوما ، ومرحلة الخارج اتحادهما خارجا ، وفي مرحلة الانشاء اتحادهما إنشاء ، وبعد ان كانا متحدين مفهوما فلا بد وان يتحدا في كل مصداق بحسب افق ذلك المصداق ، ولا يعقل ان يدعى كون الطلب بمرحلته الانشائية متحدا مع الارادة بمرحلتها الحقيقية ، لأن مرجع ذلك الى اتحاد الارادة بمرحلتها الانشائية بالارادة بمرحلتها الحقيقية ، وهما مصداقان في افقين مختلفين كيف يعقل دعوى اتحادهما؟

نعم الفارق بين الطلب والارادة : ان المنصرف من لفظ الطلب هو فرده الانشائي ، والمنصرف من الارادة عند اطلاقها هو فردها الحقيقي ، وذلك لكثرة استعمال الطلب في الفرد الانشائي وكثرة استعمال الارادة في فردها الحقيقي ، والاختلاف في الانصراف لا يوجب اختلافا فيما هو الموضوع له كل منهما ولا يوجب اتحاد مرتبة الانشاء بمرحلة الحقيقة. هذه دعوى العدلية في الاتحاد والعينية بين الطلب والارادة.

واستدلوا على هذا الاتحاد بينهما بما اشار اليه المصنف بقوله : «ففي مراجعة الوجدان ... الى آخره» وحاصله : انه لو كان مصداق الطلب الحقيقي غير الارادة

٣٢٠