بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين.

وبعد : فقد رتبته على مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.

أما المقدمة ، ففي بيان أمور :

الاول : إن موضوع كل علم : وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية : أي بلا واسطة في العروض (١) هو نفس موضوعات مسائله عينا

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

(١) قد تعارف عند المصنفين ذكر أمور قبل الشروع في العلم :

منها بيان موضوع العلم ، وتعريف العلم ، وبيان الحاجة اليه ، وذكر مبادئه التصديقية : وهي التي يتوقف عليها التصديق بمسائل العلم ، كعدم إمكان اجتماع الضدين ـ مثلا ـ التي يتوقف عليها التصديق بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد.

وحيث إن مبادئ علم الاصول قد ذكرت مبرهنا عليها في علوم تكفلتها لم يذكرها المصنف.

وأما بيان الحاجة اليه نتركه ، لوضوح توقف الاستنباط والفقه على علم الاصول ـ فشرع في بيان موضوع العلم وعقبه بتعريفه.

وقبل الشروع في موضوع علم الاصول ذكر موضوع كل علم ، فعرفه : «بأنه الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية : أي بلا واسطة في العروض».

فلا بد من بيان العوارض الذاتية التي لا واسطة في العروض فيها.

والمراد من العرض الذاتي ليس هو خصوص العرض الذاتي المنتزع عن مقام الذات ، المصطلح عليه بالخارج المحمول ، كالامكان والزوجية ، لأن جلّ محمولات

١

.................................................................................................

______________________________________________________

مسائل العلم ليس من قبيل الإمكان والزوجية ، فالمراد من العرض الذاتي ليس هذا ، بل المراد منه ما هو أعم من ذلك.

وتوضيح ذلك : ان العارض على أقسام تسعة :

لأنه إما أن يعرض بلا واسطة ، وهو ثلاثة : لأنه إما ان يكون مساويا في الصدق مع معروضه وقد مثلوا له بالتعجب العارض على الانسان بلا واسطة ، وهو مساو في الصدق للانسان. وإما ان يكون أعم كعروض الحيوان على الناطق ، او يكون أخص كعروض الناطق على الحيوان ، فإن أجزاء الماهية الموجودة بوجود واحد لا بد من عروض بعضها على بعض.

وإما أن يعرض مع الواسطة ، والواسطة إما داخلية ، أو خارجية ، وما يعرض بواسطة داخلية اثنان : وهو ما يعرض النوع بواسطة جزئه الاعم ، كعروض الحركة بالارادة على الانسان بواسطة الحيوان الذي هو جزؤه الاعم ، أو بواسطة جزئه المساوي ، كادراك الكليات العارضة للانسان بواسطة الناطق.

ومن هنا يتضح : أن الواسطة الداخلية تنحصر في الاثنين المذكورين ، لعدم إمكان وجود واسطة داخلية أخص ، لعدم معقولية تركب الذات مما هو أخص منها.

وأما الواسطة الخارجية فأربعة : لأنها إما ان تكون مساوية ، كعروض الضحك على الانسان بواسطة التعجب الخارج عن حقيقة الانسان المساوي في الصدق له ، أو أعم كعروض التمييز على البياض بواسطة الجسم ، أو أخص كعروض التكلم على الحيوان بواسطة كونه ناطقا ، أو مباينا كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار.

وأما الذاتية التي وقعت وصفا للعوارض ، فإن المراد بها : هي التي يكون عروضها للشيء من غير واسطة في العروض ، لوضوح انه ليس المراد من الذاتي : هو الذات والذاتيات ، فانها في قبال العارض فكيف تكون وصفا لها ، لأن الذي يبحث عنه هو العوارض التي تعرض على الذات ، فوصفها بكونها ذاتية بهذا المعنى خلف واضح ، وأيضا ليس المراد من الذاتي هو ما لا ينفك عن ماهية الشيء ، كالزوجية

٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالنسبة الى الاربعة ، لأن جملة العوارض التي تعرض موضوعات العلوم المبحوث عنها ليست كالزوجية بالنسبة الى الاربعة. فان الاحكام ـ مثلا ـ هي العوارض التي تعرض موضوع علم الفقه ، وهو فعل المكلف وليست هي كالزوجية بالنسبة الى الاربعة. فالوجوب ـ مثلا ـ ليس كالزوجية بالنسبة الى الاربعة ، بل المراد من الذاتية التي وقعت وصفا للعوارض هي التي لا تكون نسبتها الى الموضوع بالعروض والمجاز ، وهو المراد من قوله : «بلا واسطة في العروض».

فان الواسطة ثلاثة : واسطة في الثبوت ، وواسطة في الاثبات ، وواسطة في العروض.

والواسطة في الثبوت : هي العلة في ثبوت الشيء ، او في ثبوت شيء لشيء ، كالاقتداح بالنسبة الى ايجاد النار ، وكالنار بالنسبة الى ايجاد الحرارة للماء.

وقد يقال : إن العلة التي توجب ثبوت العرض لمعروضه تارة واجدة للعرض ، كالنار الموجبة لثبوت الحرارة للماء ، فانها واجدة للحرارة بنفسها. واخرى تكون فاقدة لها ، كالحركة الموجبة لعروض الحرارة للجسم ، فان الحركة غير واجدة بنفسها للحرارة ، الّا انه قد ثبت في محله ان المعلول رشح من العلة ، وان العلة هي الوجود الكامل للمعلول ، ولذا يقال : إن فاقد الشيء لا يعطيه. واما المثال الذي ذكر وهناك أمثلة اخرى ، كالبناء والبناء فهي من الخلط بين المعدّ والعلة ، بل الحركة معدّ لأن يهيج الجسم حرارته الكامنة ، أو تعدّه لان يأخذ الحرارة من الجو مثلا ـ أو من شيء آخر.

والثانية : هي الواسطة في الاثبات : وهي التي يكون العلم بها سببا للعلم بشيء آخر ، كالعلم بالصغرى والكبرى الموجب للعلم بالنتيجة ، ولا اختصاص لها بالعلة ، بل كما انه يكون العلم بالعلة سببا للعلم بالمعلول كذلك يكون العلم بالمعلول سببا للعلم بالعلة.

والثالثة : وهي الواسطة في العروض : وهي كون نسبة العرض الى المعروض بحسب النظر العرفي بالعرض والمجاز ، والمسامحة ، والعناية ، ومن قبيل وصف الشيء

٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بحال متعلقه ، لا بحال نفسه ، كنسبة عروض الجريان على الميزاب ، فانه يقال : الميزاب جار ، أو جرى الميزاب ، كما يقال : الماء جار في الميزاب ، وجرى الماء في الميزاب ، إلا ان الجريان لم يعرض الميزاب حقيقة ، وإنما عرض للماء حقيقة ، ووصف الميزاب به من باب وصف الشيء بحال متعلقه وبالمسامحة والعناية.

إذا عرفت هذا اتضح : ان مراد الماتن من العرض الذاتي المبحوث عنه في العلوم والذي هو عرض ذاتي لموضوع المسألة ولموضوع العلم : هو العرض الذي لا يكون عروضه لموضوع العلم بالعرض والمجاز ومن باب الوصف بحال المتعلق بحسب النظر العرفي. وقد اشار بهذا الى رد المشهور ، فانهم التزموا : بان العرض الذاتي ينحصر في ثلاثة :

ـ العارض للشيء بلا واسطة ، كما مثلوا له بالتعجب العارض للانسان لذاته وبلا واسطة.

ـ وبالعارض بواسطة جزئه المساوي ، كالتكلم العارض للانسان بواسطة الناطق.

ـ وبالعارض بواسطة الخارج المساوي ، كالضحك العارض على الانسان بواسطة التعجب.

وبقية العوارض من العرض الغريب. وهي العارض للشيء بواسطة جزئه الاعم ، كالحركة بالارادة العارضة على الانسان بواسطة الحيوان.

وما يعرضه بواسطة الخارج الاعم كالحركة بالارادة ايضا العارضة على الناطق بواسطة الحيوان ، فان الحيوان خارج عن الناطق واعم منه.

وما يعرضه بواسطة الخارج الاخص ، كعروض التكلم على الحيوان بواسطة الناطق.

وما يعرضه بواسطة الخارج المباين ، كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار. وقد خالفهم جمع من المتأخرين ، فالتزموا : بان العارض بواسطة الجزء الاعم ايضا ذاتي.

٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والذي يراه الماتن : ان هذه العوارض كلها ذاتية ، لأنها جميعا ليست نسبتها إلى العروض بحسب النظر العرفي بالعرض والمجاز ، كنسبة الجريان إلى الميزاب ، وانها منسوبة اليه بحال متعلقه لا بحال نفسه. كيف والحرارة تعرض على نفس الماء حقيقة والحيوان الموجود في ضمن الانسان متكلم حقيقة ايضا ، والناطق متحرك بالارادة حقيقة.

ومما يدل على ما ادعاه (قدس‌سره) : ان الوجوب والحرمة العارضين للصلاة ولشرب الخمر في علم الفقه قد عرضا عليهما بواسطة المصالح والمفاسد ـ كما هو رأي مشهور العدلية ـ مع ان المصالح والمفاسد مباينان لهما. وعلى ما التزم به المشهور في العرض الذاتي تكون اعراضا غريبة ، والالتزام بكونها غريبة غريب جدا ، إلّا أن يلتزموا : بان الموضوع ليس هو فعل المكلف مطلقا ، بل المتغير بالمصلحة أو المفسدة ، والحال لم يصرح احد بهذا القيد.

والذي يزيد المسألة اشكالا : ان اهل المعقول فسروا العرض الذاتي بما فسره الماتن ، ومع ذلك التزموا : بان العارض للشيء بواسطة امر أعم أو اخص داخليا كان أو خارجيا عرض غريب ، لأن مرادهم من الواسطة في العروض المقابلة للعرض الذاتي ما كانت بحسب النظر الدقي لا العرفي ، فان النظر العرفي يرى : ان الوصف وصف له بحال نفسه لا بحال متعلقه. فعروض الضحك ـ مثلا ـ للحيوان الذي هو جزء من الانسان ليس بحسب النظر العرفي وصفا له بحال متعلقه ، وليس هو عندهم كوصف الجريان للنهر ، وليس هذا من الواسطة في العروض. نعم بحسب النظر الدقي ليس عرضا ذاتيا ، اما بحسب العرف فهو عرض ذاتي ، ولذلك لو كان بحسب النظر الدقي للزم خروج جملة من العوارض المبحوث عنها في هذا العلم وغيره عن كونها اعراضا لموضوع العلم. فالرفع المبحوث عنه في باب الفاعل يعرض موضوع علم النحو وهو الكلمة والكلام بواسطة الفاعلية وهي اخص من الكلمة والكلام ، ومثل مقدمة الواجب المبحوث عن الملازمة فيها في علم الاصول ، فانها إنما يعرضها

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب ، أو عدم الوجوب لكونها مقدمة واجب ، لا لكونها مستفادة من خصوص الادلة الاربعة ، فالوجوب يعرضها بواسطة أمر أعم ، فتكون من الاعراض الغريبة. فتكلفوا في الجواب بتكلفات ، منها تقيد الموضوع بالحيثيات بنحو الاستعداد لا بنحو التقييد بالاعراب أو البناء ، لئلا يلزم عروض الشيء على نفسه ، فان المتقيد بالاعراب لا يعقل عروض الاعراب عليه. وبالاخرة الملتزم الاستاذ (١) (قدس‌سره) بان الالتزام : بان لا يكون العرض غريبا بالنسبة الى موضوع العلم من باب لزوم ما لا يلزم ، واللازم من العرض ان لا يكون غريبا بالنسبة الى موضوع المسألة.

بقي في المقام شيء : وهو ان النسبة بين الواسطة في الثبوت ، والواسطة في العروض : هي التباين ، فان العرض الذي يثبت لموضوعه بواسطة علة من العلل يثبت له حقيقة ، ولا يعقل ان يكون نسبته اليه بالعرض والمجاز ، وإلا لم يكن ثابتا له حقيقة ، والعرض الذي يكون ثبوته لموضوعه بالعرض والمجاز لا يعقل ان يكون ثابتا له حقيقة ووصفا له بحال نفسه وإلا لزم الخلف في الفرض. نعم ، ربما يكون عرضا بالنسبة الى معروضين جامعا للعروض الحقيقي وللواسطة في العروض ، كالجريان بالنسبة الى الماء والميزاب فان له عروضا حقيقيا بالنسبة الى الماء ، وعروضا بالمجاز بالنسبة الى الميزاب.

وبعبارة اخرى : ان الواسطة في الثبوت من صفات سبب العارض لا نفس العارض ، والثبوت من صفاته ، والواسطة في العروض من صفات نفس العارض ، فلا محالة يكونان من المتباينين.

اما الواسطة في الاثبات : فهي أعم من الواسطة في الثبوت ، لانه كما يكون العلم بالعلة واسطة في العلم بالمعلول ، كذلك يكون العلم بالمعلول واسطة في العلم بالعلة

__________________

(١) وهو العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس‌سره) ، نهاية الدراية : ج ١ ، ص ٤ حجري.

٦

وما يتحد معها خارجا ، وان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي ومصاديقه ، والطبيعي وأفراده (١).

______________________________________________________

وأعم من الواسطة في العروض ، لان العرض الذي يكون نسبته الى المعروض بالعرض والمجاز يكون العلم به سببا للعلم بالمعروض وبالعكس أيضا.

(١) أي ان موضوع العلم كلي وموضوعات المسائل افراده ، فنسبته اليها نسبة الطبيعي والفرد فهو عطف تفسير ، وقد اشار بقوله : «ان موضوع العلم هو نفس موضوعات مسائله» الى رد ما ذكروه في خاتمة علم الميزان : من ان موضوع المسألة ربما يكون نفس موضوع العلم ، وربما يكون مغايرا له. وقد استدل لعدم مغايرة موضوع العلم لموضوع المسائل بوجهين :

الاول : انه لا شبهة في أن محمولات مسائل العلم عوارض ذاتية لموضوعاتها ، فلو كان موضوع العلم مغايرا لموضوع المسألة لكان عروض هذه المحمولات على موضوع العلم من العرض الغريب ، فلم يكن البحث في العلم عن العوارض الذاتية.

وهذا الاستدلال إنما يصح جدلا على مذهب المشهور القائلين : بأن العارض بواسطة الخارج الاعم أو الاخص غريب ، لا على مذاقه : من كون هذه العوارض كلها ذاتية ، فانه لو فرض ان نسبة موضوع العلم الى موضوع المسألة كنسبة الحيوان والناطق ، فان العارض على الحيوان بواسطة الناطق ليس بغريب عنده مع أن مبدأ الحيوان مغاير لمبدأ الناطق ، فانهما جزءان لماهية الانسان ، ومبادئ لأجزاء متغايرة.

الثاني : انه لا شك ان الغرض هو الجامع لمسائل العلم وجاعلها علما واحدا وهو واحد ، ولا ريب ان المسائل متشتتة ومتغايرة ، فان باب الفاعل ـ مثلا ـ غير باب الفعل ، والغرض الواحد لا يعقل ان يترتب على المتغاير والمتعدد بما هو متغاير ومتعدد ، لأن الواحد لا يصدر إلا عن الواحد ، ولا يعقل ان يستند الى الكثير ، فلا بد وأن يكون هناك جامع واحد لهذه المتعددات والمتغايرات يترتب هذا الاثر الواحد عليها لاجله وهو موضوع العلم الذي تكون هذه المحمولات أعراضا ذاتية له ، وعلى

٧

والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة (١) جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم (٢) ، فلذا قد يتداخل بعض

______________________________________________________

هذا الجامع الواحد يترتب اثر واحد. فهذه المسائل إنما تؤثر أثرا واحدا ، ويترتب عليها غرض واحد لانطباق الجامع الواحد عليها ، ولو اثرت بنفسها بلا جامع للزم ان يترتب الواحد على الكثير بما هو كثير ، ولو كان موضوع العلم مغايرا لموضوع المسألة لكانت هذه المسائل بنفسها هي المؤثرة لذلك الاثر الواحد وهو غير معقول.

يرد عليه : ان قاعدة الواحد لا يصدر الّا عن الواحد إنما هي في الواحد الشخصي ، لا الواحد النوعي ، والاثر الموحد للعلم هو واحد نوعي ، وبالعنوان لا واحد بالشخص ، كالاستنباط ـ مثلا ـ فانه واحد بالعنوان لا بالشخص ، وصدور الكثير من الواحد بالنوع لا اشكال فيه ، فان الواحد النوعي والواحد بالعنوان كثير في مقام الوجود والتشخص فلا مانع من صدور الكثير عنه.

(١) يظهر من هذا : أن العلم هو نفس هذه المسائل ، فأسامي العلوم أسام لنفس هذه المسائل لا للعلم بها ، ويدل على ذلك : ان العلم هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، ولا شبهة ان الرفع ـ مثلا ـ المبحوث عنه في باب الفاعل من علم النحو إنما يعرض نفس الفاعل ، لا الفاعل المعلوم. فهذه العوارض عوارض لنفس موضوعات المسائل المنطبق عليها موضوع العلم ، ولازم ذلك أن يكون العلم هو نفس المسائل ، واسمه اسما لهذه المجموعة ، لا العلم المتعلق بها. فالنحو ـ مثلا ـ اسم لهذه المسائل المدونة في النحو لا العلم بها ، هذا اولا.

ثانيا : أن العلم والجهل يردان على مسميات هذه العلوم ، فيقال : فلان عالم بالنحو أو جاهل به ، وعالم بالاصول ، أو جاهل به. ولو كان مسمى هذه الأسماء هو العلم لما صح هذا الاطلاق ، لأن المقابل لا يقبل المقابل ، فالعلم لا يعقل أن يكون جهلا بالجهل ، فالجهل لا يرد على العلم وإنما يرد على متعلق العلم ، وكذلك العلم

٨

العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة فيصير من مسائل العلمين (١).

______________________________________________________

لا يرد على العلم. فاتضح ان تفسيرهم العلوم بالادراكات والملكات من باب المسامحة.

(٢) يشير بهذا الى ان الموحد للعلم والمفرد له بالتدوين : هو الغرض دون الموضوع ، لأن الذي دلنا على وجود الموضوع الجامع ووحدته هو الاثر. فاذا قد عرفنا قبل معرفة الموضوع ان لنا علما له اثر ، ولازم هذا ان يكون الموحد للعلم والجامع له هو الاثر ، إذ الموحد للعلم إما الموضوع ، او الغرض ، وحيث لا يكون الموحد هو الموضوع فلا بد وان يتعين الغرض. هذا اذا قلنا : بانه لا بد لكل علم من موضوع جامع ، وأما إذا لم نلتزم بالموضوع الواحد الجامع إذ لا برهان عليه ، ولا داعي للالتزام : بان لكل علم موضوعا يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، بل هناك مسائل متشتتة إنما جمعت وافردت بالتدوين لترتب غرض واحد عليها ، فانحصار الموحد للعلم بالغرض لا مناص عنه. وبناء على هذا من كون الموحد للعلم هو الغرض وهو جامعه ومفرده بالتدوين ـ يتضح ان المميز للعلوم هي الاغراض أيضا ، دون الموضوعات ، لهذا قال بعد ذلك : «وقد انقدح بما ذكرنا ان تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض الداعية الى التدوين».

(١) هذا تفريع على كون الجامع والمميز للعلم هو الغرض ، فانه اذا كان المميز للعلوم هو الغرض يصح ان يتداخل علمان في مسألة واحدة لترتيب غرضين عليها. فهي بحسب الغرضين تكون من مسائل العلمين ويتداخل العلمان في هذه المسألة ، بخلاف ما اذا كان المميز هو نفس المسائل ، فانه اذا اختلفت المسائل كان هناك علمان ، واذا اتحدت المسائل لا يكون هناك علمان حتى يقال : انهما تداخلا ، فان تداخل العلمين فرع كونهما علمين حتى يتداخلا ، ومتى اتحدت المسائل لا يكون هناك علمان حتى يتداخلا.

٩

لا يقال : على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما ، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه إذا كان المميز والمفرد بالتدوين للعلم هو الغرض يمكن ان يترتب على جملة من المسائل المتحدة موضوعا ومحمولا غرضان ، كمسألة مقدمة الواجب ، ومسألة اجتماع الامر والنهي ـ مثلا ـ فانه يترتب عليهما غرض علم الكلام ، وغرض علم الاصول ، فان علم الكلام يبحث عن اصول المبدأ والمعاد ، والامر والنهي من احوال المبدأ ، ويترتب عليهما استنباط حكم مقدمة الواجب من حيث الوجوب وعدمه ، وصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، بناء على جواز الاجتماع وعدمه ، فالغرض المترتب عليها في علم الكلام هو نفس صحة اجتماع الامر بالصلاة والنهي عن الغصب فيمن صلى في الدار المغصوبة ، فيكون مطيعا وعاصيا بشيء واحد ، بناء على جواز الاجتماع ، وعدم صحة توجه الامر والنهي اليه ، بناء على الامتناع. والغرض المترتب عليها في علم الاصول هو صحة الصلاة وانها مسقطه للقضاء والاعادة ، بناء على الاجتماع ، وعدم صحة الصلاة ولا بد من القضاء أو الاعادة ، بناء على الامتناع. فلو كان هناك جملة من المسائل كهاتين المسألتين يترتب عليهما غرضان فهي بحسب كل غرض علم على حدة ، فلازم ذلك تدوينها في محلين ، وصحة البحث عنها في مقامين ، وعدم صحة افرادها بالتدوين ، والبحث عنها في مقامين مما لا شبهة في قبحه عند العقلاء ، بل محاليته ، للزوم تحصيل الحاصل فانه بالبحث عنه في مقام واحد يحصل الغرضان ، لأن المفروض ترتبهما على نفس المسائل ، وبعد حصول الغرض لا وجه للتدوين والبحث عنه في مقام آخر. ومن الواضح ان هذا الاشكال : وهو جواز التداخل في جميع المسائل إنما يرد اذا كان المميز للعلم هو الغرض ، وأما إذا كان المميز هو نفس المسائل فلا يرد ، لانه لا يكون هناك علمان ليتداخلا فيرد الاشكال ، بل هو علم واحد يترتب عليه غرضان.

١٠

فانّه يقال : مضافا الى بعد ذلك ، بل امتناعه عادة ، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، بل تدوين علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمّين واخرى لاحدهما. وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل ، فان حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسالة او ازيد في جملة من مسائلهما المختلفة لأجل مهمّين ممّا لا يخفى (١).

وقد انقدح بما ذكرنا : انّ تمايز العلوم انّما هو باختلاف الأغراض الدّاعية الى التدوين ، لا الموضوعات ولا المحمولات ، والّا كان كل باب ، بل كل مسألة ، من كلّ علم علما على حدة ، كما هو واضح لمن كان له ادنى تأمل. فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع او المحمول موجبا للتعدّد (٢) ،

______________________________________________________

(١) يجيب (قدس‌سره) عن هذا الاشكال بجوابين :

الاول : إن تداخل علمين في جميع مسائلهما بعيد جدا ، بل لم نجد حتى الآن على ما في العالم من العلوم الكثيرة جدا علمين منها قد تداخلا في جميع مسائلهما ، وهذا هو مراده من الامتناع عادة ، فان الممتنع العادي هو الذي لم يقع مع طول الدهر وكثرة العلوم ، لا الذي لا يجوز وقوعه.

الثاني : ان الإفراد بالتدوين والتسمية باسمين ليس علته التامة هو تعدد الغرض فقط ، بل له شرط آخر ينضم الى تعدد الغرض وهو حسنه عند العقلاء ، والمسائل المتحدة المترتب عليها غرضان لا يصح تدوينها عند العقلاء في مقامين ، ولا يحسن عندهم تسميتها باسمين ، وهذا ليس التزاما بالاشكال ، لأن دعوانا : هو ان العلوم بعد كونها علوما عند العقلاء مفردة بالتدوين ومسماة باسمائها المميز لها والمسبب لجعل كل علم منهما علما على حدة : هو الغرض ، لا نفس المسائل.

(٢) قد عرفت وجه الانقداح فيما سبق في ان الغرض هو الموحّد للعلم والجامع له وكان هو المميز له دون الموضوعات او المحمولات ، وان كان لم يدع احد : أن المميز هو المحمولات ، وإنما قال بعضهم ، وقيل انه المشهور : ان تمايز العلم بالموضوعات ،

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

واشكل عليهم الامر في علوم العربية ، فان الموضوع فيها جميعا الكلام والكلمة ، واجاب بعضهم : بان الموضوع فيها ليس هو الكلام العربي ، بل المتقيد بحيثية الاعراب والبناء هو موضوع علم النحو ، والمتقيد بحيثية الصحة والاعلال هو موضوع علم الصرف ، وهكذا في ساير علوم العربية.

ويرد عليهم : ان الاعراب إنما يرد على نفس الكلمة ، لا على الكلمة المقيدة بحيثية الاعراب ، فانه يلزم عروض الشيء على نفسه. ولا يندفع الايراد بالتزام كون التقيّد داخلا والقيد خارجا ، فان نفس التقيّد لا يكون إلا بعد مقيد وقيد ، فيعود الاشكال من لزوم عروض الشيء لنفسه.

نعم ، يمكن الالتزام : بان الحيثية اللاحقة للكلمة والكلام هي الحيثية الاستعدادية : وهي كون الكلمة مستعدة لان يلحقها الاعراب والبناء ، لوضوح ان استعداد الكلمة لان يلحقها الاعراب غير تقييدها بالاعراب ، وهذا وان كان تكلفا إلا انه دفع اتحاد الموضوع في هذه العلوم.

إلّا انه يرد عليهم ـ ما ذكره في المتن ـ : من لزوم كون كل باب ، بل كل مسألة من كل علم علما على حدة ، فان المفروض كون المميز للعلوم هو الموضوعات ، مع الغض عن لحاظ الغرض. ومن الواضح ان لكل مسألة موضوعا على حدة غير موضوع المسألة الاخرى به تمتاز عنها. فلازم ذلك أن تكون كل مسألة علما على حدة ، فضلا عن ابواب العلم ، ولا يمكن الجواب عن هذا الاشكال : بان الغرض الكاشف عن الموضوع الجامع يدل على موضوع واحد للعلم به يحصل التمييز عن العلم الآخر ، فان فساد هذا الجواب واضح ، لانا قد فرضنا كون الموضوع مميزا ومع الاغماض عن الغرض ، والّا كان الغرض الكاشف مميزا قبل ان يكون المنكشف به مميزا.

ويمكن ان يقال : ان الغرض المترتب على العلم لو كان واحدا شخصيا لا ينبغي الاشكال بمن يدعي التمييز بالموضوعات ، وأما لو كان الغرض واحدا نوعيا فهناك

١٢

كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد (١).

______________________________________________________

اغراض متعددة يجمعها نوع ، فحينئذ يرد الاشكال : بلزوم تعدد العلم الواحد لو كان الغرض هو المميز ، فان كل غرض من افراد هذه الاغراض هو غرض على حدة غير الغرض الآخر ، فيصلح ان يكون مميزا لما يترتب عليه ويجعله علما على حدة ، فيعود المحذور الذي أورده على كون المميز هو الموضوع ، فانه كما ان باب الفاعل غير باب المفعول كذلك الغرض المترتب على باب الفاعل غير الغرض المترتب على باب المفعول ، وكون هذه الاغراض تجتمع تحت موضوع واحد ، فالموضوعات أيضا تجتمع تحت جامع واحد وهو موضوع العلم. فكون المميز هو الغرض الجامع دون الموضوع الجامع تحكم.

إلا أن يقال : انه وان ترتب على كل مسألة من مسائل العلم غرض غير الغرض المترتب على المسألة الاخرى ، إلا ان المدار على ما هو الموحد للعلم وجاعله علما واحدا ، وبعد ان كانت مسائل العلم تجتمع تحت غرض عام لا يوجد ذلك في مسائل علوم اخرى ، فهذا الغرض العام هو الموحد للعلم والجاعل له علما واحدا ، ولا ينافي ذلك ترتب اغراض متعددة على ابواب العلم ومسائله ، فان المفرد للعلم والموحّد له هو الغرض العام الذي لا يكون مترتبا على مسائل العلوم الاخرى ، ولا محالة يكون ذلك الغرض العام الموحد للعلم هو المميز له.

ولا يقال : إن موضوع العلم ايضا كذلك ، فانه عام ينطبق على موضوعات المسائل كانطباق الغرض العام على اغراض الابواب والمسائل.

فانه يقال : إنه بعد ان جمع العلم ووحّده الغرض لا يبقى مجال لان يميزه الموضوع ، لان الموحّد للعلم لا محالة يكون مميزا له ، ولا تمييز بعد التمييز.

(١) أي كما لا يكون الاختلاف في الموضوعات والمحمولات موجبا للتعدد وإلّا لزم الايراد المذكور : من كون كل باب ، بل كل مسألة علما على حدة ، كذلك لا تكون وحدتهما : أي وحدة الموضوعات والمحمولات في البابين من علمين موجبة لكونهما

١٣

ثم انه ربما لا يكون لموضوع العلم ، وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص ، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه ، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته اصلا (١).

وقد انقدح بذلك : ان موضوع علم الاصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة (٢) ، لا خصوص الادلة الأربعة بما هي ادلة ، بل ولا بما هي هي ، ضرورة ان البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها ، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم ، او فعله ، او تقريره ، كما هو المصطلح فيها ، لوضوح عدم

______________________________________________________

علما واحدا ، وإنما كان مرجع الضمير في وحدتهما الى البابين من علمين ، لا الى العلمين لما تقدم منه : ان المركب الاعتباري الذي تتحد موضوعات مسائله ومحمولاتها ويترتب عليه غرضان ، لا يصح ان يدون علمين ويسمى باسمين.

(١) بعد ان كان الاثر كاشفا عن الموضوع ، فاذا تكون دخالته في العلم واقعية ولا تحتاج الى معرفته لأجل التمييز ، فان المميز هو الاثر فلا مانع من انه لا يكون له عنوان خاص ، ولا اسم مخصوص ، فان عدم معرفته باسمه وعنوانه لا يقدح في دخالته في العلم واقعا. نعم مع عدم معرفته لا يمكن التمييز به ، ولا تعريف العلم به بوجه ، فان المجهول لا يميز ولا يعرف ، وهذا لا يقدح في موضوعيته ، وبعد ان ثبت لكل علم موضوع يتحد مع موضوعات مسائله اتحاد الكلي مع مصاديقه فيصح ان يعبر عنه بكل ما يدل عليه.

(٢) وجه هذا الانقداح يظهر مما مضى ويأتي ، فانه بعد ان ثبت فيما مضى انه لا بد لكل علم من موضوع لكشف وحدة الاثر عنه ، وانه لا يقدح في موضوعيته ان لا يعرف باسمه وعنوانه ، ويأتي ان الموضوع الذي ذكر لعلم الاصول وهو الادلة الاربعة لا يصح أن يكون موضوعا. ينقدح من مجموع هذا : ان موضوع علم الاصول كلي ينطبق على موضوعات مسائله المتشتتة ، لا خصوص الادلة الأربعة.

١٤

البحث في كثير من مباحثها المهمّة ، كعمدة مباحث التعادل والترّجيح ، بل ومسألة حجية الخبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الادلة (١) ورجوع

______________________________________________________

(١) المراد من الادلة الاربعة هي : العقل ، والاجماع ، والكتاب ، والسنة. وهي اصطلاحا : قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره ، ولا وجه لان تكون الادلة الاربعة بما هي موضوعا لعلم الاصول ، اي : بان يكون ذوات الادلة الاربعة ، لا بما هي ادلة موضوعا ، فانه لو كان الكتاب ـ مثلا ـ موضوعا لعلم الاصول بما هو هو ، لا بما هو دليل وحجة ، لدخل في علم الاصول علم التفسير ، وكذلك السنة فانها لو كانت بما هي هي ، لا بما هي دليل وحجة موضوعا لعلم الاصول لدخل في علم الاصول علم الحديث ، فان علماء التفسير والحديث يبحثون عن احوال ذات ما هو كتاب وسنة ، لا عنهما بما هما دليلان وحجتان ، وايضا يرد على اخذ الادلة بما هي ، لا بما هي ادلة ما يرد على اخذ الادلة بما هي ادلة : من لزوم الاستطراد في مهمات علم الاصول. والظاهر انه لم يدع احد : ان موضوع الاصول هو ذوات الادلة ، لا بما هي ادلة.

واما اذا اخذت الادلة بما هي ادلة موضوعا لعلم الاصول يلزم خروج عمدة مباحث علم الاصول التي دونت فيه ، وبحث فيها عن علم الاصول ، وتكون استطرادية ، كمسألة تعارض الخبرين ، وأن الاصل فيهما هو التساقط ، او الترجيح ، او التخيير ، وهي عمدة مباحث التعادل والتراجيح ، ويبقى منها مشمولا للموضوع ، بناء على كونه هو الادلة بما هي ادلة تعارض الآيات المتواترة ، ولذلك عبّر (قدس‌سره) بالعمدة ، وكذلك يخرج عن علم الاصول ايضا ، مسألة حجية الخبر الواحد ، فان الذي يمكن أن يدعى كونه موضوعا فيها من الادلة هي السنة ، لوضوح ان الاخبار ليست عقلا ، ولا اجماعا ، ولا كتابا ، ولكنه بعد ما عرفت ان السنة اصطلاحا : هي قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره ، وان الموضوع ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، وان المبحوث عنه في هاتين المسألتين هو حجية احد الخبرين ، او تساقطهما من باب التعادل ، وحجية نفس الخبر في باب الخبر الواحد ـ يتضح ان

١٥

البحث فيهما في الحقيقة الى البحث عن ثبوت السنة بالخبر الواحد في مسألة حجية الخبر ـ كما افيد ـ وبأي الخبرين في باب التعارض ، فانه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال ، غير مفيد (١) ، فان البحث

______________________________________________________

البحث فيها ليس بحثا عن عوارض السنة ، فان حجية السنة ثابتة في غير علم الاصول ، ولا يبحث عن حجيتها في علم الاصول ، وكيف يبحث عن حجيتها في علم الاصول وقد جعلت بما هي حجة موضوعا لعلم الاصول ، فان البحث عن الحجية في هاتين المسألتين ليس بحثا عن عوارض السنة ، لان البحث عن دليلية الدليل بحث عن ذات الدليل لا عن عوارض الدليل.

ويرد على جعل الادلة الاربعة موضوعا ، مضافا الى ما ذكره الماتن (قدس‌سره) : انهما اذا كان كل واحد منهما بنفسه موضوعا لجملة من المسائل المرتبطة به دون جامع يجمعها ، لزم ان يكون علم الاصول علوما أربعة ، واذا لم يكن كل واحد منها موضوعا بنفسه ، بل يكون موضوعا لانه مصداق لجامع يجمع هذه الاربعة ، فحينئذ يكون الجامع لهذه الادلة الاربعة هذا الموضوع ، لا خصوص الادلة الاربعة. ولعل تعبيرهم : بان الموضوع هو الادلة الاربعة سببه هو انحصار الجامع فيها وهو الحجة اعم من كونها عقلية بحتة أو نقلية.

(١) رجوع البحث مبتدأ ، وخبره غير مفيد.

وحاصله : التعرض لجواب الشيخ الاعظم (قدس‌سره) عن الاشكال المتقدم : من كون البحث في المسألتين ليس بحثا عن عوارض السنة.

وملخص جواب الشيخ : ان معنى كون الخبر حجة ، أو أي الخبرين حجة يرجع الى ان السنة الواقعية التي هي قول المعصوم ، أو فعله ، او تقريره المعلومة الحجية هل تثبت بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر الواحد ام لا؟ وهل تثبت باي الخبرين في باب التعادل ام لا تثبت؟ فمعنى البحث عن حجية الخبر يرجع الى البحث عن ان

١٦

عن ثبوت الموضوع وما هو مفاد (كان) التامة ليس بحثا عن عوارضه ، فانها مفاد (كان) الناقصة (١).

______________________________________________________

السنة الواقعية هل تثبت به ام لا؟ واذا آل الامر الى البحث عن ثبوت السنة بالخبر كان بحثا عن عوارضها. هذا الجواب غير مفيد في دفع الاشكال المتقدم.

(١) بيان لعدم تمامية الجواب المزبور.

وحاصله : انه بعد ما عرفت ان العلم ما يبحث فيه عن عوارض الموضوع الذاتية ، فلا بد وان يكون ثبوت الموضوع مفروغا عنه ، واذا بحث عن ثبوت نفس الموضوع لم يكن ذلك البحث من مسائل العلم ، لان العلم بعد ان كان هو البحث عن العوارض ، يكون معناه هو البحث عن ثبوت العارض للموضوع ، فهو بحث عن ثبوت شيء لشيء ، وهو مفاد كان الناقصة ، واذا كان البحث عن ثبوت نفس الموضوع كان بحثا عن ثبوت نفس الشيء ، وهو مفاد كان التامة. ولاجل ذلك كانت كان الناقصة تحتاج الى مبتدأ وخبر ، وكان التامة تكتفي بالفاعل ، لان كان الناقصة تفيد ثبوت شيء لشيء ، كقولك : كان زيد عالما ، وثبوت شيء لشيء ، كالعلم لزيد ـ مثلا ـ فرع ثبوت نفس الشيء : أي زيد ، واذا كان العلم ما يبحث فيه عن العوارض الذاتية يكون البحث عن ثبوت الموضوع ليس من مسائله.

فاتضح بما ذكرنا : أن البحث عن ان السنة هل تثبت بالخبر ام لا؟ بحث عن ثبوت الموضوع ، فلا يكون من مسائل علم الاصول الذي فرض ان موضوعه نفس السنة. لا يقال : ان البحث ان كان عن ثبوت الموضوع فقط لم يكن من مسائل العلم ومفاد كان التامة (١) ، لكن البحث عن ان الموضوع هل يثبت بهذا الشيء ام لا يثبت بحث عن ثبوت شيء لشيء ومفاد كان الناقصة ومن مسائل العلم ، والبحث هنا بحث

__________________

(١) الظاهر انها كان الناقصة ، وإلّا فحق العبارة ـ بحسب نظري القاصر ـ ان يكون (لا يقال ان البحث ان كان عن ثبوت الموضوع فقط ومفاد كان التامة لم يكن من مسائل العلم).

١٧

لا يقال : هذا في الثبوت الواقعي. وأما الثبوت التعبدي ـ كما هو المهم في هذه المباحث ـ فهو في الحقيقة يكون مفاد (كان) الناقصة (١).

______________________________________________________

عن ثبوت السنة بالخبر ، لا عن ثبوت السنة فقط ، فان البحث عن ثبوت السنة بالخبر يرجع إما إلى ان السنة هل تنكشف بالخبر ، ام لا؟ والبحث عن انكشاف شيء بشيء ليس بحثا عن اصل ثبوته ، وإما ان يرجع الى ان السنة هل تكون معلولة للخبر ام لا؟ ، وهو ليس بحثا عن اصل ثبوتها ، فان ثبوت شيء بشيء عن (١) ثبوته.

لانا نقول : إن الخبر لا يعقل ان يكون كاشفا عن حقيقة السنة ، فان الخبر يحتمل الصدق والكذب ، وما يحتمل الصدق والكذب لا يعقل ان يكون من الكواشف الحقيقية. فاذا كان المراد من حجية الخبر هذا المعنى لزم أن يكون عدم حجيته من الامور التي قياساتها معها. ودعوى حجيته بهذا المعنى من الامور الواضحة البطلان ، مع ان المتأخرين ، بل المتقدمين ـ أيضا ـ متفقون على حجيته ، كما ان كون الخبر ليس من علل وجود السنة أوضح ، لان الخبر متأخر وجودا عن وجود السنة ، لانه يحكي والحاكي متأخر عن المحكي ، فكيف يكون من علل وجوده.

فاتضح ، ان ما يرد على جواب الشيخ : ان الخبر لا يعقل أن يكون موجبا لاثبات السنة : بأن يكون كاشفا عن ثبوتها في مرحلة الاثبات ، لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب ، والسنة لا تحتمل الكذب ، ولا يعقل ان يكون الخبر علة لثبوت السنة واقعا ، فان معنى ذلك كونه من علل وجودها ، والخبر متأخر بالوجود عنها ، ولا يعقل أن يكون المتأخر وجودا من علل وجود الشيء السابق عليه بالوجود.

(١) حاصل لا يقال : ان الاشكال على جواب الشيخ وانه بحث عن ثبوت الموضوع ، وليس بحثا عن عوارضه انما يتم حيث يكون المراد بثبوت السنة بالخبر ثبوتها به واقعا. وأما إذا كان المراد ثبوتها به تعبدا ، فانه كما يكون للشيء ثبوت واقعي ، يكون له

__________________

(١) الظاهر انها (غير).

١٨

فانه يقال : نعم ، لكنه مما لا يعرض السنة ، بل الخبر الحاكي لها. فان الثبوت التعبدي يرجع الى وجوب العمل على طبق الخبر ، كالسنة المحكية به ، وهذا من عوارضه ، لا عوارضها ، كما لا يخفى.

وبالجملة : الثبوت الواقعي ليس من العوارض ، والتعبدي وان كان منها ، إلّا انه ليس للسنة ، بل للخبر ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

ثبوت تنزيلي تعبدي ، والبحث عن ثبوتها التنزيلي بحث عن عوارضها ، فان جعلها ثابتة تنزيلا صفة تعرضها ، فيكون بحثا عن عوارضها كما لا يخفى.

(١) حاصل ما اورده على الثبوت التعبدي : ان معنى جعل حجية الخبر هو جعل ما ادى اليه الخبر واجب العمل : أي جعل الحكم على طبق مؤدى الخبر ، كالسنة الواقعية المحكية بالخبر ، والحجية بهذا المعنى من عوارض الخبر ، لا من عوارض السنة. هذا بناء على ان مرجع الحجية الى جعل الحكم على طبق المؤدى. وأما بناء على ان مرجع الحجية الى جعل الطريقية ، فهو أيضا من عوارض الخبر ، لأن معناه ان الخبر الواصل هل يثبت الحكم الواقعي ، كما ان السنة الواقعية الواصلة تثبته؟

ويمكن أن يقال : ان السنة متكررة بين المشبه والمشبه به ، فهي كما انها توجب ثبوت صفة للمشبه ، كذلك توجب ثبوت صفة للمشبه به. وحاصله انه اذا جعل الوصول للخبر تنزيلا له منزلة السنة الواصلة فقد جعل ايضا للسنة وصولا تنزيليا بالخبر.

والذي ينبغي ان يورد به على دعوى الثبوت التعبدي : هو ان المراد من مسائل العلم عنوان البحث ، والعنوان المبحوث عنه في هذه المسائل هو الخبر دون السنة ، ولا ينفع انه يمكن ان يكون بحثا عن السنة ، فان صرف الامكان لا يجدي بعد ان كان العنوان المبحوث عنه هو الخبر دون السنة.

١٩

وأما اذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها ، فلأن البحث في تلك المباحث وان كان عن احوال السنة بهذا المعنى (١) ، إلّا ان البحث في غير

______________________________________________________

(١) توضيحة ، انه قد تقدم : ان الظاهر من السنة الواردة في كلماتهم هي : السنة الواقعية ، ولكن يمكن ان يراد بالسنة الاعم من وجودها الواقعي ووجودها الحكائي ، لانه يمكن ان يكون للماهية انحاء : من الوجود الخارجي ، والوجود الذهني ، والوجود اللفظي ، والوجود الكتبي ، كذلك في المقام ، فان للسنة وجودا خارجيا : هو نفس قول المعصوم ، أو تقريره ، او فعله ، ووجودا حكائيا بالخبر المتلفظ به ، والمكتوب. وحينئذ فوجودها الحكائي هو وجود نفس الخبر وهو ثابت ، والمبحوث عنه حجية هذا الوجود الحكائي كالوجود الواقعي. وحينئذ يكون البحث عن عوارضها.

ويرد عليه ، ما اوردناه سابقا : من ان عنوان البحث مختص بالخبر ، لان الخبر والوجود الحكائي للسنة ليسا من قبيل المترادفين ليكون البحث عن احدهما بحثا عن الآخر.

ولكن لا يرد عليه : انه بحث عن ثبوت الموضوع ، لا عن عوارضه بعد ثبوته بأن يقال : انه اذا كان الموضوع هو السنة ، بما أنها دليل ، لا ذات السنة ، فلا بد وان يكون الوجود الحكائي للسنة بعد كونه دليلا موضوعا للعلم ، والبحث عن حجية الوجود الحكائي بحث عن دليليته ، فيكون بحثا عن الموضوع لا عن عوارضه.

فان الجواب عنه ما تقدم ، وحاصله : ان الوجود الحكائي للسنة إنما يثبت فيما اذا ان الحاكي مثبتا للمحكي قطعا كما في المتواتر ، لا فيما مثل الخبر ، فانه انما يكون وجودا حكائيا قطعيا فيما اذا ثبت اعتبار مطابقته ، فحينئذ ، يصح ان يقال : ان الوجود الحكائي للسنة هل يثبت بالخبر ام لا؟

٢٠