بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

إن قلت : إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان ، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا (١).

______________________________________________________

وراء هذا. وقد ظهر ايضا : ان متعلق الارادة التشريعية لا يضر تخلفه عنها اذا لم يؤمن الكافر ولم يطع العاصي. وقد ظهر ايضا : ان الداعي واحد في الكافر والمؤمن والمطيع والعاصي ، لأن الامر في الجميع انما هو لكون متعلقه ذا مصلحة ترجع الى نفس المكلف.

نعم ، نفس فعل المكلف بما انه موجود من عالم الموجودات الكونية ، ومفيض الوجود هو الله تعالى وحده ففعل المكلف بما انه لو تحقق لكان موجودا من الموجودات يكون متعلقا للارادة التكوينية ، فان سبق تعلق الارادة التكوينية به فلا بد من تحققه فتتحقق الاطاعة والايمان ، وان لم يكن قد سبق تعلق الارادة التكوينية به فلا يتحقق ويتحقق الكفر والعصيان.

نعم ، ظاهر عبارة المصنف هنا ان الارادة التكوينية هي نفس العلم بالصلاح المتعلق بالنظام الكامل الكوني التام ، وان الارادة التشريعية هي نفس العلم بالصلاح الخاص الراجع الى نفس المكلف ، وقد عدل عنه في ما يأتي قريبا ، فانه سيصرح بان العلم يتحد مصداقا مع الارادة فيه تبارك وتعالى ، لا أن مفهوم الارادة والعلم واحد ، واختلافهما هو الصحيح ، لأن العلم غير الارادة فان العلم هو الحضور والارادة هي الشوق المؤكد.

(١) لما قال المصنف في آخر كلامه : فاذا توافقتا فلا بد من الاطاعة واذا تخالفتا فلا محيص عن ان يختار الكفر والعصيان لم يحتج ما ذكره بقوله : ان قلت الى تقديم مقدمة للايراد ، ولو اكتفى بالفرق بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية لاحتاج هذا الايراد الى مقدمة ، وهي انه ولو كان فرق بين الارادتين الّا ان فعل العبد من الموجودات ، وكل موجود لا بد وان يكون مسبوقا بالارادة التكوينية ، وما لا يوجد

٣٤١

قلت : إنما يخرج بذلك عن الاختيار ، لو لم يكن تعلق الارادة بها

______________________________________________________

فلا بد وان لا يكون متعلقا للارادة الربانية ، فان كان الكفر عدم الايمان فلا بد وان لا يتحقق ، لعدم تعلق الارادة منه تعالى به ، وان كان امرا وجوديا وهو عقد القلب على الكفر والاعتقاد به كان هو ايضا امرا متعلقا للارادة التكوينية ، وكذلك عصيان العصاة ، وحينئذ يأتي ما ذكره بقوله : ان قلت.

وحاصله : انه اذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بارادته التكوينية ، لانه اذا توافقتا فلا بد من الاطاعة والايمان ، واذا تخالفتا فلا محيص عن الكفر والعصيان ، فيكون كفر الكافر وعصيان العاصي وايمان المؤمن واطاعته من متعلقات الارادة التكوينية ، وما كان متعلقا لها فلا يكاد يعقل ان يتخلف عن المراد وما لا تخلف له عن مراده تبارك وتعالى يكون ضروري التحقق وخارجا عن اختيار المكلف ، وما كان كذلك لا يصح تعلق التكليف به ولم يفد الفرق بين الارادة التكوينية والتشريعية إلّا بصحة صدق الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية في مقام التشريع وانه لا يلزم ان يوجد متعلقهما وانه لا مانع من تخلف المراد عن الارادة فيهما ، إلّا انه وقعنا في ايراد آخر وهو ما ذكر من خروجهما عن نطاق التكليف ، لكون الكفر والعصيان والاطاعة والايمان من ضروريات التحقق ولا اختيار للمكلف فيهما فلا يصح التكليف ولزم الجبر ، ومن الواضح ان من شرائط صحة التكليف عقلا عند العدلية هو كون متعلق التكليف لا بد وان يكون امرا اختياريا ، ولا يصح التكليف بالامر غير الاختياري عقلا عندهم في قبال الاشاعرة القائلين بامكان تكليف غير المختار.

٣٤٢

مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (١).

______________________________________________________

(١) حاصل الجواب : ان الله تبارك وتعالى تحقيقا لعدله ولمحالية الظلم عليه اعطى العباد القدرة بحيث يستطيع العبد ان يفعل ، وان لا يفعل ، والاختيار ، بحيث اذا اراد فعل وان لم يرد ان يفعل لا يفعل ، فموجودات العالم على نحوين :

منها ما تتعلق به الارادة التكوينية بنفسه ، كايجاد كافة الموجودات عدا ما يتعلق بافعال العباد فلا محيص ان يوجد من غير توسيط الارادة التكوينية ومرادها.

والنحو الثاني وهو افعال العباد التي منها متعلق التكاليف ، فما يفعل العبد ويدخل في دار الوجود فقد تعلقت الارادة التكوينية بان يوجد باختيار المكلف ، فما به وجود الفعل هو اختيار المكلف ، فاذا كان تعلق الارادة التكوينية بهذا النحو الذي يتوسط اختيار المكلف فيه ارتفع الاشكال ، فان الذي لا يصح ان يكون متعلقا للتكليف هو ما كان المكلف مضطرا اليه ، وقد عرفت ان المكلف مختار فيما يفعل لا عطاء الله له القدرة والاختيار ، فلا محذور في تعلق الارادة التكوينية به على هذا النحو ، فانه بعد ان كان قد تعلقت الارادة التكوينية بوجوده على نحو ان يكون المكلف قادرا عليه ومستطيعا لأن يفعله وان لا يفعله ومختارا فيه ، بحيث ان اراده اوجده وان لم يرده لم يوجده ، فلا يعقل ان يكون تعلق الارادة التكوينية به على هذا الفرض موجبا لأن يكون من الامور غير الاختيارية التي لا يصح ان تكون متعلقا للتكليف لانه خلف واضح ، لما عرفت انه قد كان متعلقا للارادة التكوينية بوصف كونه لا يدخل في دار الوجود الّا بسبب اختيار المكلف ، فدعوى كونه من الامور غير الاختيارية خلف بين ، بل لا بد وان يكون من الامور الاختيارية ، لانه لو وجد على نحو ان يكون من الامور الاضطرارية التي لا اختيار للمكلف فيها لزم الخلف لفرض كونه متعلقا للارادة التكوينية بشرط كونه من الامور الاختيارية ، ففرض كونه من الامور غير الاختيارية ـ الاضطرارية ـ فرض عدم تعلق الإرادة

٣٤٣

إن قلت : إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار ، كيف وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار (١)؟

______________________________________________________

التكوينية به ولا يوجد الّا ما كان متعلقا للارادة التكوينية ، فلا بد وان يدخل الوجود متصفا بكونه من الامور الاختيارية للمكلف ، وهذا معنى قوله : «انما يخرج بذلك» : أي بتعلق الارادة التكوينية به «عن الاختيار» فيما اذا تعلقت الارادة التكوينية به بنفسه من دون توسط اختيار المكلف اما «لو لم يكن» كذلك بل كان «تعلق الارادة بها» أي : بالكفر والايمان والاطاعة والعصيان كانت موصوفة بوصف ومشروطة بشرط وهو كونها «مسبوقة بمقدماتها الاختيارية وإلّا» : أي وحيث كانت الارادة التكوينية متعلقة بها بنحو مسبوقيتها بمقدماتها الاختيارية «فلا بد من صدورها بالاختيار» لما عرفت من كونه شرطا في دخولها في دار الوجود «وإلّا» : أي ولو صدرت من دون اختيار المكلف «لزم تخلف ارادته عن مراده تعالى» لفرض كون الارادة التكوينية تعلقت بها مشروطة بذلك ، فلو وقعت على خلاف النحو الذي تعلقت به الارادة التكوينية لزم تخلف مراده عن ارادته.

(١) لا يخلو كلامه (قدس‌سره) في هذا الايراد من اجمال فانه ان كان مراد هذا المورد ان الكفر والعصيان وان كانا بارادة واختيار من العبد الّا انه لما كانا متعلقين للارادة الازلية التكوينية فلا بد من وقوعهما ، وما لا بد من وقوعه لا يكون اختياريا ، فهذا يرجع إلى الاشكال الأول المتقدم بقوله : «ان قلت ان كان الكفر الخ».

وجوابه : ما عرفت من أن الارادة التكوينية لم تتعلق بهما مطلقا ، بل تعلقت بما هما اختياريان ، ومتى توسط الاختيار ارتفع اللااختيار والاضطرار ، ولكن هذا الاحتمال بعيد فانه لا داعي الى الاعادة ، فلا بد وان يكون المراد غيره.

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحتمل ان يكون غرض هذا المورد انه وان كان الكفر والعصيان امرين اختياريين الّا انه حيث كان نفس اختيار العبد امرا غير اختياري له ، لوضوح ان واهب الاختيار والارادة له هو الله تبارك وتعالى وقد تعلقت الارادة التكوينية به من دون توسط للاختيار ، لأن نفس الاختيار ليس اختياريا والّا لتسلسل الاختيار ، وكل معلول تكون علته غير اختيارية فهو غير اختياري ، لا من حيث ذاته لفرض كونه مسبوقا بالاختيار ، بل من حيث ان علته وهي الاختيار امر غير اختياري فيعود المحذور ، وعودة المحذور ينبغي ان يكون من ناحية التكليف وهكذا ينبغي ان يكون التفريع ، ومعه كيف يصح التكليف؟ لكنه (قدس‌سره) اعرض عن هذا التفريع وفرع عليه عدم صحة المؤاخذة والعقاب ، ولعله انما فرع بعدم صحة العقاب والمؤاخذة على ما يرجع بالاخرة الى غير الاختيار ، لامكان ان يكتفي في مقام صحة التكليف بتوسط الاختيار في البين ، إلّا انه لا يمكن ان يصح عقاب العبد على الفعل من معاقب كان علة ذلك الفعل تستند اليه لا الى العبد.

ولا يخفى ايضا انه على هذا البيان للايراد يكون مراده (قدس‌سره) من قوله : «كيف وقد سبقهما الارادة الازلية» انه كيف لا يكون الكفر والعصيان منتهيين بالاخرة الى ما لا بالاختيار وقد سبقهما تعلق الارادة التكوينية بنفس الاختيار الذي هو العلة لهما.

ويحتمل ايضا : ان يكون غرض المورد ان الفعل وان كان يصدر عن مبادئه الاختيارية الّا انه لا بد وان يبلغ درجة الوجوب من ناحية علته ، لوضوح ان الممكن ما لم يجب لم يوجد ، واذا بلغ درجة الوجوب واللزوم من ناحية علته وهي ارادته بحيث تتحرك العضلات ويصدر الفعل يكون صادرا بالوجوب فيعود المحذور ، لرجوعه بالاخرة إلى الاضطرار واللزوم فلا يكون صادرا بالاختيار.

٣٤٥

قلت : العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار (١) الناشئ عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الجواب عن هذا الاحتمال الاخير واضح ، فانه لا يلزم ان يكون الفعل الاختياري اختياريا الى الاخير ، فان كثيرا من الافعال الاختيارية التي تصح العقوبة عليها تكون مقدورة واختيارية بالواسطة ، فان من القى شخصا من شاهق فاصطدم بالارض ـ مثلا ـ فمات يعاقب على إماتته مع ان موته استند الى الاصطدام ، ولكنه حيث كانت مقدمته اختيارية فهو اختياري ، والمقام وان كان ليس في المقدور مع الواسطة ، بل في المقدور بلا واسطة من الافعال الاختيارية ، إلّا انهما مشتركان في الجواب ، فان الارادة التي هي الجزء الاخير من العلة وان كانت بالوجوب تصدر الفعل الّا ان هذه الارادة الاخيرة ليست هي إلّا قوة الشوق الذي تاكد وبلغ الى هذا المقدار ، وحيث كان هذا الشوق قبل ان يبلغ هذه المرتبة في استطاعة العبد الاعراض عنه وجعل المانع عنه من ناحية العقل الذي يدرك ان الشوق اذا بلغ الى حد الوجوب ولزوم صدور الفعل عنه يترتب عليه تبعة العقاب ، وبامكان العبد وقدرته واستطاعته واختياره ان لا يرخى لهذا الشوق العنان حتى يبلغ حد الوجوب ، فهو اختياري له وصادر عن اختياره فلذا صح العقاب عليه ، ولا يعقل ان يكون كالاضطراري الذي لا دخل لشوق العبد وقدرته فيه ، مضافا الى ان هذا الاحتمال بعيد عن مساق العبارة ، فانه لا ربط لهذا الايراد على هذا الاحتمال بالارادة الازلية ، مع ان ظاهر الاشكال انه بنحو يرتبط بالارادة الازلية لقوله (قدس‌سره) : «كيف وقد سبقهما الارادة الازلية».

فالاقرب ان المراد منه هو الاحتمال السابق على هذا الاحتمال : وهو كون نفس الاختيار غير اختياري.

والجواب عنه : هو انه بعد ما عرفت ان الاختيار هو كون الفاعل قادرا بحيث يستطيع ان يفعل ولا يفعل ، وكونه بحيث ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل ،

٣٤٦

فإن السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ،

______________________________________________________

فالاختيار بحسب ذاته وهويته نقيض اللااختيار وضد الاضطرار فلا مانع من ان يكون هذا الاختيار الذي هو نفس حقيقته وهويته كون الفاعل ان اراد فعل وان لم يرد لم يفعل وانه نفس فعلية القدرة والاستطاعة غير اختياري ، فان كون ما حقيقة ذاته نفس القدرة والاختيار لا يضر كونه موهوبا للفاعل ومخلوقا فيه وغير اختياري له ، لوضوح ان كون الاختيار غير اختياري لا يجعل الاختيار لا اختيار لمحالية انقلاب الحقيقة عما هي عليها مع فرض كونها هي نفس تلك الحقيقة ، فنفس الاختيار ليس كالافعال وما سواها ، فان الافعال غير الاختيار تكون اختيارية اذا صدرت عن اختيار وتكون اضطرارية اذا صدرت عن اضطرار ، بخلاف الاختيار نفسه فانه لا يعقل انقلابه عن حقيقة ذاته وهويته ، مضافا الى النقض عليهم باختيار نفس واجب الوجود ـ عزوجل وعلا ـ فانه مختار وله اختيار وافعاله اختيارية مع ان العلة في اختياره نفس ذاته ، فاختياره ليس بالاختيار لكون علة اختياره نفس ذاته ، فهو مختار بالاضطرار والوجوب.

فاتضح : انه لا منافاة بين ان يكون الفعل اختياريا وكون نفس الاختيار لا اختياريا ، ولا يوجب هذا كون الفعل اضطراريا ولا كون الاختيار لا اختيارا.

واتضح ايضا : انه اذا سبق الاختيار امور غير اختيارية واقعة في سلسلة علل الفعل واعداده يفصل بينها وبين تحقق الفعل نفس الاختيار ايضا لا تضر في صحة العقاب ولا تقلب الفعل الاختياري الى كونه غير اختياري ، فانه لو تقدم على الاختيار الف أمر وكلها غير اختيارية لا تمنع من كون الفعل يصدر عن اختيار ، لأن علته الاخيرة هي الاختيار والقدرة بحيث يستطيع ان يفعل وان لا يفعل ويقدر ان يريد فيفعل وان لا يريد فلا يفعل ، فلا بأس بان : تتقدم على هذا امور غير اختيارية بلغت ما بلغت.

٣٤٧

فانقطع سؤال : إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى ، قلم اينجا رسيد سر بشكست ... قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام ، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان نفس القدرة والاختيار هو من الله تبارك وتعالى فانه فاعل الوجود ، وهذا الاختيار وهو القدرة على ان يشاء فيفعل وان لا يشاء فلا يفعل موجود قبل صدور الفعل في الخارج بالقوة ، وعند صدور الفعل في الخارج لا بد وان يكون علته وهي القدرة والاختيار تخرج من حد القوة الى الفعل ، فان العلة ما لم تكن بالفعل لا يكون الفعل الذي هو معلول القدرة والاختيار بالفعل ، وخروج هذه القدرة من حد القوة الى الفعل يكون العلة فيها ـ ولو بنحو العلة الاعدادية ـ هو الملاءمة للنفس ، فان كان الشخص من اهل التقوى يكون من ملائماته فعل الخير والاطاعة ، وان كان من ذوي الشقاء تكون ملائماته الشر والكفر والعصيان ، ففي مقام فعلية القدرة والاختيار لترجيح احد طرفي الفعل من الوجود والعدم تتدخل الشقاوة والسعادة ، فان ملائم السعيد الخير وملائم الشقي الشر ، وقد عرفت انه لا يضر ان يتقدم على الاختيار امور غير اختيارية فلا تضر في صدور الفعل الاختياري بالاختيار. هذا هو مراده من قوله : «قلت العقاب انما يتبع الكفر والعصيان» لصدورهما عن المكلف بالاختيار فانهما من «التابعين للاختيار» لأن العلة في صدورهما هو الاختيار ، فهما تابعان له وموصوفان بانهما من الافعال الاختيارية الصادرة بالاختيار ، وان كان نفس الاختيار بالفعل لجهة الشر من الكفر والعصيان ينشأ عن مقدمات تقتضي ترجيح الشر وهي كونه ملائما له ، والسبب في هذه الملاءمة ـ ولو بنحو الاعداد ايضا ـ هو نفس شقاوته التي هي من ذاتيات الشخص وملازمات ذاته اللازمة لخصوص ذاته ، وكذلك السعيد فانه يفعل الفعل بالاختيار لملاءمة الخير لذاته التي سببها هو سعادة ذاته.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح كون السعادة والشقاوة من ملازمات ذات السعيد او الشقي ان السعادة هي كون ماهية الشخص تامة ، والشقاوة هي كون ماهيته ناقصة ، والكمال والنقصان في الماهية من لوازمها ، ولوازم الماهية غير متعلق للافاضة القدسية ، ولذا قالوا : ان الذاتي لا يعلل ، والى هذا يشير كلام الشيخ ابن سينا ان الله لم يجعل المشمش مشمشا ، وانما اوجده ، والى هذا يرجع ما ورد في بعض الآثار عن أئمة الهدى : الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ... الى غير ذلك من امثال هذه المضامين.

بقي شيء : وهو تفسير الكلمة المعروفة الواردة عن أئمة الحق وهي انه لا جبر ولا تفويض وانما هو امر بين امرين ففيه احتمالات :

الاول : انك قد عرفت ان واهب الوجود للموجودات هو الله جل وعلا ، فافعال العباد وما يصدر منهم في الخارج ، كالقتل ـ مثلا ـ فان القاتل الذي يقتل النفس المحرم قتلها اذا قتل فان الذي يصدر منه هو الاعداد التام الذي يتعقبه قبض روح المقتول لزوما ، واما نفس قبض روح المقتول فهو فعل الله لا غير ، فلا جبر حيث ان الاعداد التام الذي لا بد ان يتعقبه وجود المعلول هو من الفاعل ، ولا تفويض حيث ان صورة وجود المعلول هي منه تبارك وتعالى ، فاذا هو امر بين امرين.

الثاني : ان الفاعل المباشر للفعل هو ذات العبد ، فوجود العبد وعلمه وقدرته واختياره هو الفاعل القريب للفعل ، وحيث ان واهب وجود العبد وعلمه وقدرته واختياره هو الله تبارك وتعالى فهو فاعل ايضا ولكنه فاعل بعيد ، فبالنظر الى الفاعل المباشر القريب لا جبر ، وبالنظر الى الفاعل البعيد لا تفويض ، بل هو امر بين امرين.

الثالث : ان نفس فعل العبد له انتسابان انتساب الى العبد باعتبار انه به وجود الفعل لانه لولاه لما صدر ، وانتساب الى الله باعتبار انه منه وجود كافة الموجودات وهو الفاعل الذي منه الوجود ، فمن نظر الى الجهة الاولى قال : بالتفويض ، ومن نظر

٣٤٩

وهم ودفع : لعلك تقول إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ، لزم بناء على أن تكون عين الطلب كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.

لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح ، إنما يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم ، لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا (١) ، بل

______________________________________________________

الى الجهة الثانية قال : بالجبر ، والعارف لا بد ان ينظر الى كلا الانتسابين ويراعى كلتا الجهتين فيقول بالعدل وانه امر بين امرين.

(١) حاصله انه تقدم منه في صدر هذه المسألة ان الارادة التشريعية هي العلم بالصلاح الخاص بشان المكلف ، والارادة التكوينية هي العلم بالصلاح المتعلق بالنظام التام ، وقد تقدم ايضا ان الطلب والارادة متحدان مفهوما وذهنا وخارجا وإنشاء ، فاذا كان الطلب عين الارادة ، والارادة هي العلم بالصلاح فلازم ذلك ان المنشأ بصيغة الطلب هو العلم ايضا بحكم قياس الاتحاد وهو واضح الفساد ، لانه لا دلالة لهيئة افعل ـ مثلا ـ على العلم اصلا وانما تدل على طلب الفعل لا غير.

ودفع هذا الوهم : ان الارادة اتحادها مع العلم غير اتحادها مع الطلب ، فانها انما تتحد مع العلم فيه تبارك وتعالى مصداقا لا مفهوما ، ومصداقا كما هي مع الطلب والاتحاد بحسب المصداق فيه جل وعلا من جهة اتحاد صفاته وذاته ، اما مفهوما فهما غير متحدين ، لوضوح كون مفهوم العلم غير مفهوم الارادة ، وقد عرفت ان المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب ، وباعتبار كونه قصد به تحقق ماهية الطلب فهو وجود انشائي في قبال لفظ الطلب الذي اريد منه احضار نفس المفهوم كما في التعاريف.

فتبين ان المنشأ بالصيغة مفهوم الارادة والطلب ، وقد عرفت ايضا ان هذا الوجود الانشائي في قبال الوجود الخارجي ، والمتحد مع العلم هو الوجود الخارجي للارادة وهو ليس منشأ بالصيغة.

٣٥٠

لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه (١).

(الفصل الثاني) : فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث (٢) :

الاول : إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عد منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والانذار ، والاهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير ، إلى غير ذلك ، وهذا كما ترى ، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها (٣) ، بل لم يستعمل إلا في إنشاء

______________________________________________________

نعم ، لو كان هو المتحقق بالصيغة لجاء هذا الوهم ، لأن مصداق الارادة خارجا هو نفس العلم خارجا فيه تبارك وتعالى ، وقد اشار الى هذا بقوله : «وقد عرفت ان المنشأ ليس الّا المفهوم» : أي ان المنشأ هو مفهوم الطلب ، لا فرد الطلب الخارجي حتى يجيء الاشكال باعتبار اتحاد الارادة خارجا مع العلم.

(١) لا يخفى ان اتحاد ذاته وصفاته تبارك وتعالى انما هو في صفاته في مقام الذات دون صفاته في مقام الفعل ، فانها غير متحدة مع ذاته كما برهن عليها في محلها ، ودلت الاخبار على كونها حادثة ، فلا يخلو هذا من خلط بين المقامين.

(٢) هذا الفصل معقود لمباحث صيغة الامر بعد الفراغ عما يتعلق بمباحث مادة الامر ، والفرق بينهما : ان الامر وهو الطلب أو البعث والتحريك يستفاد من المادة وهو لفظ امر ، وفي مباحث الصيغة مستفاد من الهيئة.

(٣) قد ذكر القوم للصيغة : أي لصيغة الامر معاني كثيرة ويظهر منهم عدها في قبال دلالتها على الطلب ، فظاهر كلامهم في تعداد هذه المعاني للصيغة انها قد استعملت في هذه المعاني كاستعمالها في الطلب ، وقد ذكر المصنف بعضها : الترجي ،

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

كقوله تعالى : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ)(١) والتمني ، كقول امرئ القيس : ألا ايها الليل الطويل الّا انجلي فان امر الليل بالانجلاء مما لا يرجى حصوله من الليل. والتهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ)(٢) والاهانة ، كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٣) والانذار ، كقوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)(٤) والاحتقار ، كقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(٥) والتعجيز ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٦) والتسخير ، كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٧) وغير ذلك مما لم يذكر المصنف كالارشاد وهو قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(٨) والتكوين ، كقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ)(٩) الى غير ذلك ايضا مما ذكروه ، وقد عرفت ان ظاهر عد هذه المعاني لصيغة الامر هو كونها في قبال استعمالها في الطلب ، وانها مستعملة في هذه المعاني كما هي مستعملة في الطلب وهذا واضح البطلان ، لانه :

اولا : ان هذه الامور هي من دواعي الاستعمال ، وما كان من قبيل الداعي الى الاستعمال لا يكون مستعملا فيه.

وثانيا : ان ظاهر جعلها في مقابل الطلب كون هذه المعاني مدلولة للهيئة لا للمادة ، والهيئة انما تدل على الطلب الواقع نسبته بين المخاطب والمخاطب والفعل المبعوث اليه الذي هو المادة ، وهذه المعاني لا يصح ان تكون نسبة كذلك ، فان التعجيز ـ مثلا ـ ليس هو مما يصح ان يقع نسبة كذلك ، بل الواقع نسبة بين الآمر المعجّز والمامور العاجز عن فعل الشيء ، وفعل الشيء هو الطلب من الآمر للمامور المتعلق بالشيء الذي يعجز عنه المامور والمخاطب.

__________________

(١) يوسف : الآية ٨٧.

(٢) التوبة : الآية ١٠٥.

(٣) الدخان : الآية ٤٩.

(٤) هود : الآية : ٦٥.

(٥) المؤمنون : الآية ١٠٨.

(٦) البقرة : الآية ٢٣.

(٧) البقرة : الآية ٦٥.

(٨) البقرة : الآية ٢٨٢.

(٩) يس : الآية ٨٢.

٣٥٢

الطلب ، إلا أن الداعي إلى ذلك ، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، يكون أخرى أحد هذه الامور ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

وثالثا : ان الطلب في جميع ما ذكروه من المعاني للصيغة هو المتبادر والمفهوم منها عند اطلاقها في هذه الموارد ، فان المفهوم من قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) هو طلب الاتيان بالسورة. نعم ، الداعي لهذا الطلب ليس هو الطلب الجدّي لاتيانهم بالسورة ، بل هو تعجيزهم.

فاتضح ان كون هذه المعاني هي المستعمل فيها صيغة افعل واضح البطلان ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها» فان ظاهر كلامهم هو كون هذه المعاني مدلولة لهيئة الامر ، وقد عرفت بطلانه ، ولذا قال : وهذا كما ترى.

(١) لما عرفت عدم كون هذه المعاني من المستعمل فيها الصيغة فلا تكون من معاني الصيغة حقيقة ولا من معانيها مجازا : بمعنى كون اللفظ مستعملا في معنى مباين للمعنى الحقيقي لمناسبة له مع المعنى الحقيقي ، كاستعمال اللفظ الموضوع للحيوان المفترس في الرجل الشجاع ، فان هذا النحو من المجازية لا مساغ له في المقام ، لأن المجازية بهذا المعنى تستلزم كون هذه المعاني مدلولة للصيغة ، وقد اتضح ان هيئة الامر لم تستعمل في هذه المعاني ، بل هذه المعاني من دواعي استعمال الصيغة.

نعم ، يمكن دعوى المجازية بنحو آخر ، وذلك بسبب اختلال شرط الوضع ، فان المجازية كما تكون باستعمال اللفظ الموضوع لمعنى في معنى مباين له ، كذلك تكون باستعمال اللفظ في نفس المعنى الموضوع له اذا اختل شرط الوضع في مقام الاستعمال ، فالصيغة في هذه الموارد كلها لم تستعمل الّا في الطلب الّا انه ليس بداعي البعث والتحريك جدا.

فيمكن ان يدعى ان الصيغة موضوعة للطلب لكن بشرط ان يكون الداعي له هو البعث والتحريك الجدي ، فاذا استعملت في الطلب لا بهذا الداعي بل بداع آخر

٣٥٣

وقصارى ما يمكن أن يدعى ، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا ، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل (١).

______________________________________________________

كالتعجيز والتسخير وغيرها من الامور والدواعي التي ذكروها كان هذا الاستعمال استعمالا مجازيا ، وهذا هو الذي ذكره بقوله : «وقصارى ... الخ».

(١) أي أقصى ما يمكن ان يدعى لا ثبات كون استعمال الصيغة في الطلب لا بداعي الجدّ بل باحد الدواعي المذكورة من الاستعمال المجازي هو اشتراط كون الداعي الى الطلب هو داعي الجد ، فالصيغة موضوعة للدلالة على الطلب الذي يكون سببه هو الداعي الجدي الى طلب المبعوث اليه وهذا من شرائط الوضع الخارج عن حقيقة الموضوع له ، فحينئذ يكون استعماله في غير ما كان الطلب بداعي الجدّ بل باحد الدواعي المذكورة منافيا لما اشترط في الوضع فيكون مجازا لمنافاته لشرط الوضع ، لا لاستعماله في حقيقة اخرى غير ما هو الموضوع له.

ومن البعيد جدا دعوى كون واضع الصيغة اشترط هذا الشرط بالوضع التعييني ، بل يمكن ان يدعى ان هذا الشرط حصل بواسطة الوضع التعيّني لا الوضع التعييني ، وسببه كثرة الاستعمال فيما كان بداعي الجد بحيث حصل بسبب هذه الكثرة الاستعمالية علقة وضعية اوجبت اختصاص الصيغة بالطلب الذي يكون بداعي الجد ، وعلى هذا يكون الاستعمال في الطلب بغير هذا الداعي استعمالا مجازيا.

وهناك طريق آخر لاثبات داعي الجدّ في الصيغة التي لم تقم قرينة على انها بداع آخر غير داعي الجد بواسطة الاصل العقلائي ، وهو دعوى سيرة العقلاء على تطابق الارادة الاستعمالية للارادة الجدّية ، وان ما استعمل فيه اللفظ هو المراد بالارادة الجدّية ما لم تقم قرينة على خلافه ، وهذا الطريق لاثبات داعي الجد لا يستلزم كون

٣٥٤

إيقاظ : لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الامر ، جار في سائر الصيغ الانشائية ، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام. بصيغها ، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة ، يكون الداعي غيرها أخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها ، واستعمالها في غيرها ، إذا وقعت في كلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى (١) ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وأنه لا وجه له ، فإن المستحيل

______________________________________________________

استعمال الصيغة في غير داعي الجد من الاستعمال المجازي ، لأن الاصل المثبت للارادة الجدّية لا يثبت كونها من شرائط الوضع كما هو واضح.

(١) حاصل هذا الايقاظ ان القوم قالوا : ان ادوات الاستفهام والترجي والتمني موضوعات للاستفهام الحقيقي وهو ارادة الفهم واقعا ، وللترجي الحقيقي وهو ارادة ما يرجى حصوله ، وللتمني الحقيقي وهو ارادة ما لا يرجى حصوله ، فاشكل عليهم الامر في استعمال هذه الادوات في القرآن في غير موارد الحكاية عن غيره تبارك وتعالى ، فان موارد الحكاية عن غيره تبارك وتعالى لا اشكال فيه.

وحاصل الاشكال ان الاستفهام الحقيقي يلزمه عدم علمه تبارك وتعالى والجهل في حقه محال ، وكذلك الترجي الحقيقي فان الذي يرجو ما يحتمل تحققه لازمه عدم علمه ايضا بحصوله وعدم حصوله وهو محال في حقه جل وعلا ، واما التمني الحقيقي فلازمه عجزه عما يتمنى تحققه وهو محال ايضا ـ فالتزموا بانسلاخها عن معانيها واستعمالها في غيرها ، فذكر هذا الايقاظ للتنبيه على تخطئتهم وبيان سبب الاشتباه عندهم.

وحاصله : ان هذه الادوات موضوعة للمعاني الانشائية لا غير فادوات الاستفهام موضوعة لانشاء الاستفهام بها ، واما طلب الفهم واقعا فهو داع لانشاء الاستفهام ، وما كان داعيا لا يعقل ان يكون داخلا فيما هو المستعمل فيه ، فصيغة الاستفهام المستعملة في الذكر الكريم قد استعملت في انشاء الاستفهام ، وانشاء الاستفهام ليس

٣٥٥

إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي ، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة ، كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا ، لا لاظهار ثبوتها حقيقة ، بل لامر آخر

______________________________________________________

مما يستحيل في حقه تعالى ، وانما المستحيل في حقه هو ارادة الفهم واقعا وطلب المعرفة حقيقة ، وارادة الفهم وطلبه حقيقة من دواعي هذا الانشاء الاستفهامي ، فالمحال في حقه تعالى هو الداعي لهذا الانشاء الاستفهامي الذي قد يعبر عنه بالاستفهام الحقيقي ، لا نفس انشاء الاستفهام.

ولا يخفى انه كما كان يمكن ان يكون السبب لانشاء الاستفهام هو طلب الفهم واقعا كذلك يمكن ان يكون الداعي له هو الانكار كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ)(١) او اظهار المحبة كقوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(٢).

فاتضح مما ذكرنا : انه لا وقع للاشكال اصلا ، لأن المحال في حقه هو داعي طلب الفهم واقعا لا نفس انشاء الاستفهام. ومنه اتضح ايضا انه لا وجه للالتزام بانسلاخها عن معانيها في كلامه تعالى ، بل هي مستعملة في معانيها ، غاية الامر انها ليست بداعي طلب الفهم واقعا ، ولا بداعي ترجي الحصول ، ولا بداعي تمني ما لا يحصل ، بل بدواع أخر دعت لانشاء هذه المعاني.

نعم ، اذا ثبت ان هذه الادوات كأدوات الاستفهام موضوعة لانشاء معناها بشرط ان يكون الداعي لانشاء الاستفهام ـ مثلا ـ هو طلب الفهم واقعا يكون استعمالها في انشاء الاستفهام بها لا بداعي طلب الفهم من الاستعمال المجازي لاختلال شرط الوضع ، واما اذا كان اثبات هذه الدواعي بواسطة الاصل وتطابق الارادة الاستعمالية والارادة الجدّية فلا يكون استعمالها في غير هذه الدواعي الحقيقية من الدواعي الأخر من الاستعمال المجازي اصلا.

__________________

(١) ابراهيم : الآية ١٠.

(٢) طه : الآية ١٧.

٣٥٦

حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك (١) ، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا (٢).

______________________________________________________

(١) قد عرفت ان العجز لازم التمني الحقيقي ، والجهل لازم الترجي والاستفهام الحقيقيين.

(٢) قد عرفت ان القوم ذكروا لصيغة الامر معاني أخر وان ظاهر كلامهم ان الصيغة مستعملة في نفس تلك المعاني في قبال استعمالها في نفس الطلب ، وقد تبين انهم خلطوا بين ما هو المستعمل فيه وداعي الاستعمال ، وان هذه الامور والمعاني من دواعي استعمال الصيغة في الطلب كما ان الداعي الجدي والطلب الحقيقي يكون من داعي استعمال الصيغة في انشاء الطلب ، فانهم ذكروا في صيغ الاستفهام والترجي والتمني مثل ذلك ، وان ظاهر كلامهم ان أداة الاستفهام تستعمل في الاستفهام الحقيقي وتستعمل في غيره من المعاني التي ذكروها من الانكار واظهار المحبة وغير ذلك.

والحق : ان الحال هنا كصيغة الامر فان ادوات الاستفهام تستعمل دائما في انشاء الاستفهام وان الداعي لانشاء الاستفهام كما يكون هو الاستفهام الحقيقي وطلب الفهم واقعا ، كذلك يكون غيره من المعاني الأخر كالانكار واظهار المحبة سببا وداعيا لانشاء الاستفهام ، فصيغ الاستفهام لم تستعمل الّا في انشاء الاستفهام وليست بمستعملة في المعاني التي ذكروها لها ، وحتى في الاستفهام الحقيقي فان صيغة الاستفهام لم تستعمل ، بل هي مستعملة دائما في انشاء الاستفهام ، والاستفهام الحقيقي يكون داعيا لانشاء الاستفهام كما ان غيره كالانكار واظهار المحبة يكون داعيا ايضا لانشاء الاستفهام فلا معنى لما يظهر منهم ان هذه المعاني التي ذكروها هي معان لصيغة الاستفهام ، بل هي دواع لانشاء الاستفهام ، مثل الاستفهام ساير الصيغ

٣٥٧

المبحث الثاني : في أن الصيغة حقيقة في الوجوب ، أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال ، ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب (١) ، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو

______________________________________________________

الآخر التي ينشا بها الترجي أو التمني ، وكذلك المعاني التي ذكروها لها ، فانها ليست معاني لها بل هي دواع للانشاء وكما عرفت الحال في الاستفهام.

(١) الوجوه والاقوال ذكرها في المتن اربعة :

الأول : كونها حقيقة في الوجوب فقط.

الثاني : كونها حقيقة في الندب فقط.

الثالث : كونها مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا ، وهو الذي اراده من قوله : أو فيهما ، فان معنى كون الصيغة حقيقة فيهما معا ، مع جعله في قبال الاشتراك المعنوي لا بد وان يكون هو الاشتراك اللفظي.

الرابع : الاشتراك المعنوي : بان تكون الصيغة موضوعة للجامع بينهما ، فكل من الوجوب والندب فرد له.

وقد اختار المصنف عدم الاستبعاد في دلالتها على الوجوب ، لاجل التبادر بدعوى : انها اذا اطلقت يتبادر منها الطلب الصادر بنحو الحتم والالزام ، ولعل ذكره للتبادر هنا بنحو الاستبعاد لا بنحو القطع والبت هو ان الشرط الراجع إلى الوضع ـ في مقامنا ـ بعيد ان يكون للتنصيص من الواضع على ذلك ، فهو انما يكون من الامور الحاصلة بسبب كثرة الاستعمال فيبقى مجال للشك في بلوغ كثرة الاستعمال الى حد الوضع ولعلها باقية على الانصراف ، لأن الوضع التعيّني يتدرج من الانصراف الى ان يبلغ درجة الوضع.

ثم ذكر (قدس‌سره) لدليل التبادر مؤيدا ، وحاصل التأييد : هو عدم صحة الاعتذار من العبد في مخالفة الطلب الصادر من المولى بصيغة الامر : بانه كلام يحتمل

٣٥٨

مقال (١) ، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه ، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه ، ليرجح أو يتوقف ، على الخلاف في المجاز المشهور ، كيف؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص ، حتى قيل : ما من عام إلا وقد خص ولم

______________________________________________________

الندبية والاذن في الترك ، مع اعتراف العبد : بان كلام المولى لم يكن مشفوعا بقرينة من القرائن الحالية او المقالية التي تدل على الندب ، فان العبد اذا اعترف بعدم وجود القرينة في كلام المولى لا يصح اعتذاره عند العقلاء في مخالفة امر المولى : بان كلام المولى يحتمل الندبية ، ولا اختصاص له بالوجوب والحتم.

فعدم صحة الاعتذار من العبد عند العقلاء دليل : بان هذا الكلام عندهم يدل على الوجوب ، اذ لو لم يكن دالا على الوجوب لصح اعتذار العبد عندهم.

وانما ذكر هذا مؤيدا لا دليلا لإمكان ان يقال : ان عدم صحة الاعتذار عند العقلاء لا دلالة له على كون الصيغة موضوعة للوجوب ، لجواز ان يكون عدم صحة الاعتذار عندهم لأن هناك أصلا عقلائيا في حمل كلام المولى الصادر منه ـ من غير قرينة على الوجوب ، كالاصل العقلائي السابق في حمل الصيغة على كونها صادرة بداعي الجد لا بداع آخر من دواعي الطلب. فالسبب في عدم صحة الاعتذار هو الاصل فلا ملازمة بين عدم صحة الاعتذار ، وبين كون الصيغة موضوعة للوجوب.

(١) أي دلالة الكلام عليه : أي على الندب لوضوح ان العبد اذا كان تركه للامتثال لدعوى وجود القرينة في كلام المولى ، لا لأن كلام المولى يحتمل الندبية يخرج عن موضوع كلامنا ويكون من باب التداعي ، فان موضوع الكلام في هذا التاييد ان العقلاء لو لم يكن دلالة للصيغة بنفسها على الوجوب لصح الاعتذار عندهم ، فلا بد من فرضه في كلام مسلم عند المولى والعبد انه كان مجردا عن القرائن الحالية والمقالية.

٣٥٩

ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص (١).

______________________________________________________

(١) يتعرض المصنف في قوله هذا لرد صاحب المعالم (قدس‌سره) ، حيث انه بعد ان اختار دلالة الصيغة على الوجوب توقف في الصيغة المستعملة في خصوص الكتاب والسنة ، لكثرة استعمالها في الكتاب والسنة في غير الوجوب ، وكثرة الاستعمال هي الموجبة لتوقف صاحب المعالم (١) ، وهي ترجع الى احتمالين :

اما احتمال بلوغ كثرة الاستعمال الى حد وضعه للندب في خصوص لسان الشارع.

او احتمال كون كثرة استعماله في الندب أوجبت كون الندب من المجاز المشهور.

فاجاب المصنف عن الاحتمالين بثلاثة اجوبة :

الأول : ان كثرة الاستعمال في الندب انما يوجب حمله على الندب لكونه مجازا مشهورا ، أو لانه بلغ درجة الوضع انما هو حيث يكون الاستعمال في الوجوب قليلا وليس كذلك ، بل استعمال الصيغة في الوجوب في الكتاب والسنة كثير ايضا ، والى هذا اشار بقوله : «وكثرة الاستعمال فيه» : أي في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما «لا توجب نقله» : أي لا توجب الوضع «او حمله عليه» لكونه مجازا مشهورا «لكثرة استعماله» : أي استعمال الامر بالصيغة في الوجوب ايضا ، فلا قلة في الطرف المقابل للندب حتى يكون كثرة الاستعمال فيه موجبة لاحد الامرين : الوضع للندب ، او حمل الصيغة على الندب لكونه من المجاز المشهور.

اذا قلنا في المجاز المشهور لا بالتوقف ، بل بترجيحه على المعنى الحقيقي ، فان المجاز ينقسم الى اقسام :

ـ المجاز المتعارف : وهو الذي يكون استعماله اقل من الاستعمال في المعنى الحقيقي.

__________________

(١) راجع معالم الدين : تحقيق عبد الحسين البقال : ص ٢١٤.

٣٦٠