بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

المستقبل أو بغيرهما ، كما لا يخفى (١) ، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات ، وإلا لزم

______________________________________________________

(١) شرع في ذكر معنى الافعال ، وانها لا دلالة لها على الزمان ، وابتدأ بفعل الامر والنهي.

وحاصله : ان لفعل الامر او النهي مادة ، وهيئة ، ومادته تدل على الفعل ، وهيئته تدل على الطلب ، او على البعث والتحريك نحو ايجاد المادة ، او على الزجر عن تلك المادة وتركها وابقائها على العدم ، وليس لفعل الامر والنهي غير المادة والهيئة ، وقد عرفت مدلولهما وليس فيهما دلالة على اخذ الزمان فيهما.

نعم ، زمان الحال ظرف لانشاء نفس الطلب ، كما انه يكون ظرفا للاخبار عن وقوع الشيء في الماضي او في المستقبل ، كما انه ظرف ايضا لكل زمان يقع فيه. والى هذا اشار بقوله : «ضرورة عدم دلالة الامر ولا النهي عليه» : أي على زمان الحال ، «بل على انشاء طلب الفعل» : أي الامر «او الترك» : أي النهي «غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال» : أي ان زمان الحال ظرف لنفس الانشاء وهو ظرف لغيرهما ايضا من الاخبار وغير الاخبار ، فلا يعقل ان تكون ظرفيته لانشاء الطلب دالة على اخذه في مدلول مظروفه ، والّا لدل على اخذه في كل مظروف وقع الحال ظرفا له.

ويرد عليه ايضا : إن فعل الامر لو كان زمان الحال ماخوذا فيه وقد عرفت : ان مرادهم من زمان الحال : هو زمان التكلم ـ فلا بد من تجريده عن هذا الزمان دائما ، لان الأمر المطلوب فيه ايجاد المادة والتحريك لها من المكلف لا يعقل ان يكون المطلوب هو ايجاد المادة في زمان التكلم ، لان هذا الزمان هو زمان علم المكلف بالطلب ، والامتثال انما يكون بعد هذا الزمان ، ولا اشكال في ان غرض الآمر من طلبه امتثاله ، فلا يعقل ان يتعلق طلبه من المكلف في زمان لا يعقل امتثاله ، فلا بد للطالب الآمر ان يكون قد استعمل الأمر في غير هذا الزمان. فإما في نفس طلب الفعل من

١٨١

القول بالمجاز والتجريد عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.

نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة ، في الزمان الماضي في الماضي ، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع ، فيما كان الفاعل من الزمانيات (١).

______________________________________________________

غير تقيده بالزمان : وهو التجريد عن الزمان اصلا ، او في زمان بعد زمان التكلم : وهو زمان الاستقبال ، فان كل زمان يقع بعد زمان التكلم فهو من الاستقبال.

وعلى كل فانه يكون قد استعمل اللفظ في غير ما وضع له ، وجرده عن الزمان المأخوذ فيه. وعليه فلا بد من ان يكون الاستعمال مجازيا ، والمجاز يحتاج الى لحاظ العلاقة ، ولا نرى من انفسنا أنا لو أمرنا بشيء أنه قد لحظنا علاقة في استعمال لفظ الأمر ، مضافا الى انه خلاف الحكمة في الوضع ان يوضع لمعنى لا بد من تجريده عنه دائما ، واستعماله في غيره.

ولا يخفى : انه لم يتعرض المصنف لهذا الايراد على المدعين لدلالة الامر على اخذ زمان الحال فيه.

(١) لما ذكر عدم اخذ الزمان في الامر والنهي ، شرع في بيان عدم اخذه في الماضي والمضارع.

وحاصله : لو اخذ الزمان فيهما للزم التجريد فيما لو اسند الفعل الماضي او المضارع الى نفس الزمان كقولك : مضى أمس ، او يأتي غد ، ويلزم التجريد ايضا لو اسند الى المجرد عن الزمان ، كقولك : علم الله او يعلم الله عزوجل.

وتوضيح هذا : ان لنا زمانا ، ولنا زمانيا : وهو الواقع في الزمان كسائر الممكنات غير المجردات ، ولنا مجردا عن الزمان والزمانيات : وهو ما فوق المادة اعم من الواجب بالذات جل وعلا ، والممكن ، كالمجردات التي لم تأتلف من مادة وصورة.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا اشكال في ان الوقوع في الزمان من مختصات الزمانيات. أما الزمان نفسه وعالم المجردات التي هي فوق افق الزمان لا يعقل وقوعها في الزمان ، والفعل الماضي او المضارع يسند الى هذه الثلاثة بما انه مستعمل في معناه الموضوع له ، فنقول : مضى زيد ، ومضى امس ، وتقول : علم زيد ، وتقول : علم الله تعالى.

فلو كان الزمان ماخوذا في هذه الافعال للزم تجريد الفعل عن الزمان فيما لو اسند الى نفس الزمان ، لعدم تعقل وقوع نفس الزمان في الزمان ، فاذا كان مضى دالا على وقوع المضي في الزمن الماضي ، لكان دالا على وقوع زمان امس في الزمان الماضي ، والزمان لا يقع في الزمان ، اذ ليس للزمان زمان ، وكذلك علم اذا اسند الى الله الذي هو خالق الزمان ، وغيره لزم ان يكون علمه واقعا في الزمان الماضي ، وهو وصفاته التي هي عين ذاته جل وعلا فوق الزمان ، فان المجردات الممكنة فوق افق الزمان ، فكيف بالواجب بالذات موجدها ومكونها ، فعلم الملائكة غير واقع في الزمان فضلا عن علمه تبارك وتعالى.

فلو كان الفعل الماضي موضوعا للمبدا المقترن بالزمان للزم تجريده عن الزمان في ما لو اسند الى الزمان نفسه ، او الى ما فوق الزمان ، ولازم تجريده عن الزمان استعماله في غير ما وضع له ، وكل استعمال مجازي لا بد فيه من لحاظ العلاقة ، ونحن نرى من انفسنا في مقام اسناد علم ، او مضى الى المجرد ، او الزمان نفسه لم نلحظ علاقة في هذا الاستعمال.

ولا فرق في اسناد الفعل الماضي الى الزماني ، او الى الزمان نفسه او الى المجرد في استعماله فيما وضع له ، ومن دون لحاظ أي علاقة في البين ، وكذلك الفعل المضارع ، كيعلم الله او يأتي غد لم يستعمل الّا فيما وضع له ، من دون لحاظ أي علاقة في مقام الاستعمال.

نعم ، قد اخذ في الفعل الماضي خصوصية : وهي نسبة المبدأ الى الذات بنحو التحقق ، ولازم هذا المعنى ـ ان الفعل الماضي اذا نسب إلى الزماني وكان المتكلم في

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مقام البيان ـ دلالته التزاما على كون هذا الحدث واقعا في الزمان السابق على زمان التكلم ، لأن لازم الخصوصية التي دل عليها الفعل ـ وهي التحقق بالنسبة الى حال التكلم حيث تكون منسوبة الى ما يقع في الزمان ـ وقوع المبدأ في الزمان الماضي بالنسبة الى حال التكلم. وهذه دلالة التزامية ، لأن مدلول الفعل الماضي هو خصوصية التحقق لا غير.

وهذه الخصوصية تدل على وقوع الحدث في الزمان الماضي بشرطين :

الاول : ان يكون التحقق يلحظ منتسبا الى زمان التكلم ، وإلا فلو كان ملحوظا بالنسبة الى غير زمان التكلم لا تتحقق هذه الدلالة الالتزامية ، كما لو كان التحقق منسوبا الى مجيء زيد ، كما لو قال : بان زيدا يجيئني بعد يومين ، وكان قد اكرم عمرا قبل مجيئه بيوم ، فان نسبة التحقق في هذا الكلام ملحوظة بالنسبة الى مجيئه ، لا الى زمان التكلم.

نعم ، حيث لا يذكر في كلام المتكلم طرف لنسبة التحقق ، كمجيء زيد ـ مثلا ـ في المثال المذكور ، ويكون المتكلم في مقام البيان يكون للكلام ظهور : بان طرف نسبة التحقق هو زمان التكلم.

الشرط الثاني : ان يكون المسند اليه تحقق المبدأ من الزمانيات ولا يكون الزمان نفسه ، ولا المجرد عن افق الزمان ، فحينئذ تتحقق هذه الدلالة الالتزامية وهي : وقوع الحدث في الزمان الماضي وقد اشار المصنف الى هذين الشرطين بقوله : «نعم يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال» : أي غير فعل الامر والنهي : وهو الفعل الماضي والمضارع «على الزمان الّا بالاطلاق والاسناد الى الزمانيات» يشير بالاطلاق الى الشرط الاول ، وبالاسناد الى الزمانيات الى الشرط الثاني ، فان المسند اليه اذا كان غير زماني كالزمان والمجرد لا تدل نسبة التحقق في الفعل الماضي على وقوع المبدأ في الزمان الماضي وقد اشار المصنف الى دلالة الفعل الماضي والمضارع على خصوصية التحقق في الماضي والتجدد أو الترقب في المضارع بقوله : «نعم لا يبعد الى آخر

١٨٤

ويؤيده : أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما ، لا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (١) ، كما أن الجملة الاسمية ، كزيد

______________________________________________________

قوله فيما كان الفاعل من الزمانيات» ولم يشر الى الشرط الأول : وهو ان لا يكون في الكلام طرف للخصوصية كالمجيء في المثال المتقدم.

(١) أي ويؤيد ما قلنا : من عدم اخذ الزمان جزء من مدلول الفعل هو قولهم : ان الفعل المضارع مشترك معنوي بين الحال والاستقبال ، ولا بد في المشترك المعنوي ان يكون موضوعا للجامع ، ولا جامع بين زمن الحال والاستقبال ، الا لفظ الزمان الجامع بينهما وبين الزمان الماضي ايضا ، وليس هناك نوع من الزمان خاص يكون جامعا خاصا لزمان الحال والاستقبال فلا معنى لهذا الاشتراك المعنوي ، إلا بان يكون قد اخذ في المضارع خصوصية التجدد ، او الترقب التي معناها دلالة الفعل المضارع على جامع يدل بالالتزام عليهما مع تحقق الشرطين المتقدمين.

من كون المتكلم لم يلحظ للتجدد طرفا غير زمان التكلم ، كما لو كان طرفه ما هو سابق على زمان التكلم ، كالمثال الذي ذكره المصنف في التأييد الآتي ، وهو قوله : «جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت» فان الملحوظ طرفا لخصوصية المضارع سابق على زمان التكلم ، ففي المثال المذكور لا تكون الخصوصية المأخوذة في المضارع دالة بالالتزام على زمان الحال ـ مثلا ـ.

ومن كون المسند اليه من الزمانيات ، ولا يخفى ان خصوصية الترقب او التجدد تصلح ان تكون جامعا بين الحال والاستقبال.

وبالجملة : ان الزمان لم يؤخذ في هذين الفعلين ، بل اخذت فيهما خصوصية تلازم الزمان الماضي في الفعل الماضي ، والحال والاستقبال في المضارع بالشرطين المتقدمين ، وانما ذكر المصنف هذا بعنوان التأييد ولم يجعله دليلا ، لان كون المضارع

١٨٥

ضارب يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الازمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا ، فكانت الجملة الفعلية مثلها (١).

وربما يؤيد ذلك : أن الزمان الماضي في فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع ، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة ، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة ، وفي المضارع ماضيا كذلك ، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالاضافة ، كما يظهر من مثل قوله : يجيئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بأيام ، وقوله : جاء زيد في شهر كذا ، وهو يضرب في ذلك الوقت ، أو فيما بعده مما مضى ، فتأمل جيدا (٢).

______________________________________________________

مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال هو بعض الاقوال في الفعل المضارع وليس من عند الكل.

(١) أي ان الجملة الفعلية كالجملة الاسمية في عدم اخذ الزمان فيها.

غايته ان الخصوصية في الجملة الاسمية كزيد ضارب هو كون زيد مطابق مفهوم الضارب ، وهذه الخصوصية صالحة للانطباق على الازمنة الثلاثة ، وقد اتفق الكل على عدم دلالة الاسم على الزمان ، والجملة الفعلية كذلك فانه لم يؤخذ فيها الزمان اصلا.

نعم ، الخصوصية المأخوذة فيها ربما يكون مطابقها خصوص ما يتحقق في الزمان الماضي ، او يكون مطابقها ما يعم خصوص ما يتحقق في زمان الحال والاستقبال ، وليس معنى هذا كون الزمان جزء مدلول الفعل كما ذكروه في تعريفه.

(٢) هذا هو التأييد الثاني لعدم اخذ الزمان في مدلول الافعال.

وحاصله : انه قد ذكرنا فيما تقدم : ان مرادهم بالزمان الذي يكون زمان فعل الماضي بالنسبة اليه ماضيا ، وزمان الحال والاستقبال في المضارع بالنسبة اليه حالا واستقبالا هو زمان التكلم ، والحال ان الفعل الماضي ربما لا يكون ماضيا بالنسبة الى

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

زمان التكلم ، بل يكون ماضيا بالنسبة الى شيء آخر ، واما بالنسبة الى زمان التكلم فانه يكون مستقبلا كما في المثال الذي ذكره المصنف ، وهو «يجيئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بايام» : أي قبل مجيئه بايام ، فان ضرب زمانها يكون ماضيا بالنسبة إلى زمان المجيء ، لا بالنسبة إلى زمان التكلم فانها بالنسبة اليه من المستقبل ، وكذلك الفعل المضارع في المثال الآخر وهو : «جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب» فان يضرب من المستقبل بالنسبة الى زمان المجيء ، وأما بالنسبة الى زمان التكلم فهي من الماضي.

ولازم ما ذكروه : ان يكون الفعل الماضي والمضارع في هذين المثالين قد استعملا مجازا ، لان المضي والاستقبال فيهما ليس بالنسبة الى زمان التكلم ، بل الى زمان المجيء.

ومن الواضح : ان الاستعمال المجازي يحتاج الى لحاظ العلاقة ، ولا نرى في انفسنا لحاظ علاقة في هذا الاستعمال ، بخلاف ما اذا كان المأخوذ في الافعال هو الخصوصية ، فانه لا يلزم مجاز اصلا ، فان دلالتها على الزمان بالالتزام انما هو بالنسبة الى الطرف الذي كانت الخصوصية ملحوظة بالنسبة اليه.

وبالجملة : المضي الحقيقي والاستقبال الحقيقي هو الزمان الماضي بالنسبة الى زمان الحال ، والزمان الاستقبالي بالنسبة اليه ، وزمان الحال هو زمان التكلم.

واما في غيره فالمضي والاستقبال اضافيان ، لا حقيقيان. والظاهر : ان مرادهم من المضي والاستقبال هو الحقيقي ، لا الاضافي.

ولازم ذلك : ان يكون الفعل الماضي والفعل المضارع فيما ذكر من المثالين قد استعملا مجازا بلحاظ العلاقة ، وقد عرفت : انا لا نرى لنا لحاظ أي علاقة في هذا الاستعمال.

اما اذا لم يؤخذ الزمان فيها ، بل كان المأخوذ هو الخصوصية ، فانها ليس لها فردان : حقيقي ، واضافي ، كالزمان الماضي والاستقبالي ، بل لا يذكر لها في الكلام

١٨٧

ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه ، بما يناسب المقام ، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام.

فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام ، أن الحرف ما دل على معنى في غيره ، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه ، إلا أنك عرفت فيما تقدم ، عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى ، وأنه فيهما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو. وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية ، وعدم الاستقلال بها ، إنما اعتبر في جانب الاستعمال ، لا في المستعمل فيه ، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ الابتداء لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي ، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له ، وإن كان بغير ما وضع له (١)

______________________________________________________

طرف ، ويكون المتكلم في مقام البيان ويكون لها ظهور في ان طرفها هو زمان التكلم ـ كما مر ـ وانما ذكر هذا تأييدا ، لا دليلا ، لجواز ان يدعى ان مراد النحويين من اقتران الفعل بالزمان هو المضي والاستقبال الاضافيان ، وان كان ظاهر كلامهم هو الحقيقيان ، فلا تغفل.

(١) ولعل السبب في تعرضه للمعنى الحرفي في المقام مع انه قد ذكره ـ فيما تقدم ـ مفصلا : هو أنه كما وقع الخطأ في تعريف الفعل باخذ الاقتران في تعريفه ، كذلك وقع الخطأ في فهم مراد من قال : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، بخلاف الاسم : فإنه ما دل على معنى في نفسه ان حقيقة المعنى في الحرف غير حقيقته في الاسم. وهو توهم ، بل المعنى في الحرف وفي الاسم واحد حقيقة ، وان الموضوع له لفظ (من) حقيقة هو الموضوع له لفظ (الابتداء) ، ولا فرق بينهما من ناحية ذات الموضوع له اصلا ، سوى شرط الواضع : استعمال الحروف في مقام كان المعنى ملحوظا بتبع الغير

١٨٨

فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين ، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي ، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا ، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، وإن كان بالوجود الذهني ، فافهم وتأمل فيما وقع في المقام من الاعلام (١) ،

______________________________________________________

وآليا له ، بخلاف الاسم فان شرطه : استعمال الاسم فيما كان المعنى ملحوظا بنفسه ، وبالاستقلال ، ولو استعمل احدهما في موضع الآخر لم يكن استعمالا في غير ما وضع له ومن الاستعمال المجازي.

نعم ، هو استعمال مناف لشرط الواضع فيكون من الاستعمال بغير ما وضع له كاستعمال لفظ في معنى على وجه الحقيقة ، ولم يكن قد وضع له ، ولا بقصد الوضع له ، فيكون من الاستعمالات الغلطية ، لا المجازية وهذا مراده من قوله : «لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له ، وان كان بغير ما وضع له» وقد تقدم فيه الكلام مفصلا ، وان حقيقة المعنى الحرفي مباينة بالذات للمعنى الاسمي ، وان قولهم : ما دل على معنى في غيره تعريف لحقيقة المعنى الحرفي ، وان ذاته متقومة بالطرفين فراجع.

(١) لا يخفى ان اصطلاح القوم في هذه الكليات الثلاثة ان المعنى المتصف بالكلية وقابليته الصدق على كثيرين ان نفس الموصوف والمعنى يسمى : بالكلي الطبيعي ، ونفس كليته وقابليته للصدق على كثيرين يسمى : بالكلي المنطقي ، والمجموع من الموصوف والصفة : أي المعنى وكليته يسمى بالكلي العقلي ، فالكلي العقلي هو المعنى المتصف بالكلية ، غايته ان الكلية بنفسها من الامور التي لا تحقق لها الّا في العقل ، ولذا سمى الموصوف بها بالكلي العقلي ، وليس كل امر متقيد باللحاظ الذهني يسمى عندهم بالكلي العقلي ، لبداهة ان الكلية والجزئية من صفات ذات المعنى مع غض النظر عن كونه مقيدا بالذهن او الخارج ، والّا فمع تقيد المعنى بالذهن لا يعقل وصفه بالكلية ، فان معنى تقيده بالذهن هو معنى كونه موجودا متشخصا ، وكل

١٨٩

من الخلط والاشتباه ، وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا ، بخلاف ما عداه فإنه عام.

وليت شعري إن كان قصد الالية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا ، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له وهل يكون ذلك إلا لكون هذا القصد ، ليس مما يعتبر في الموضوع له ، ولا المستعمل فيه بل في الاستعمال ، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف ، وإلا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية ، لكونها على هذا كليات عقلية ، والكلي العقلي لا موطن له الّا الذهن ، فالسير والبصرة والكوفة ، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السير والبصرة والكوفة ، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية ، فيستحيل انطباقها على الامور الخارجية (١).

______________________________________________________

موجود متشخص فهو جزئي لا كلي ، وان كان ذات معناه من دون لحاظ تقيده بالذهن كليا.

ولكن المصنف اصطلح على تسمية كل مقيد بامر ذهني بالكلي العقلي على خلاف اصطلاح القوم ، وقد اعترف هو قدس‌سره : بان المتقيد باللحاظ الذهني هو جزئي.

إلّا انه ادعى : ان المتقيد باللحاظ باعتبار كون اللحاظ من الامور الذهنية يسمى بالكلي العقلي ، وباعتبار ان هذا اللحاظ موجب لوجود المعنى وتشخصه به فهو جزئي ذهني فان الذهنية احد نحوي الموجودات الممكنة ، وكلما وجد فهو جزئي متشخص ، لأن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

(١) حاصل ما يقول قدس‌سره : ان السبب في خلط القوم واشتباههم في ان الموضوع له في الحروف خاص والوضع فيها عام : هو حسبانهم ان حقيقة المعنى الحرفي غير المعنى الاسمي ، وان الموضوع له الحرف هو المصداق الجزئي للابتداء ـ مثلا ـ بخلاف

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لفظ الابتداء فانه موضوع للمعنى العام. وقد عرفت : ان الموضوع له في الحرف ليس جزئيا ، بل نفس المعنى الموضوع له الاسم من غير فرق.

وقد ذكر هنا دليلين على عدم الفرق في الموضوع له بين الحرف والاسم.

وحاصل الدليل الاول : ان الآلية لو كانت هي الموجبة لجزئية المعنى الحرفي لتقيده بها لكانت الاستقلالية موجبة لجزئية المعنى الاسمي ، فان الاستقلالية فيه كالآلية في الحرف ، فلو كان اللحاظ الآلي في الحرف لجزئيته موجبا لجزئيته ، لكان اللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئية المعنى الاسمي ، فان كلا منها في مقام الاستعمال لا بد من لحاظه.

غايته : ان المعنى الحرفي يلحظ باللحاظ الآلي ، والمعنى الاسمي يلحظ باللحاظ الاستقلالي ، فلو كان اللحاظ موجبا للجزئية لكان موجبا لجزئيتهما معا والى هذا اشار بقوله : «وليت شعري ان كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا» الى آخر قوله : «فلم لا يكون فيها كذلك».

الدليل الثاني : ان الموضوع له الحرف لو كان هو المتقيد باللحاظ الذهني لما امكن تحقيقه في الخارج ، لوضوح ان الماهية بتقيدها بالذهن لا تنطبق على الخارج ، لأن كل فعلية تأبى عن الفعلية الاخرى. فالمعنى بقيد الخارجية لا يعقل ان ينطبق عليه الذهن ، والمعنى بتقيده بالذهن لا ينطبق على الخارج.

نعم نفس المعنى من دون تقيده بشيء قابل للانطباق على كلا النحوين من الوجود ، فيكون قول القائل : سرت من البصرة الى الكوفة غير حاك عن سيره الخارجي الذي وقع ابتداؤه الخارجي من البصرة وانتهاؤه الخارجي بالكوفة ، لأن (من) و (الى) موضوعان لمعنى لا ينطبق على الخارج ، فما حكى عنه اللفظ غير ما وقع في الخارج ، لأن المفروض : ان الالفاظ قد وضعت للمقيد باللحاظ الذهني وهو غير الابتداء والانتهاء الخارجيين ، وقد اشار الى هذا الدليل الثاني بقوله : «والّا لزم ان

١٩١

وبما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي ، والصدق على الكثيرين ، وإن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا ، والكلية بلحاظ نفس المعنى ، ومنه ظهر عدم اختصاص الاشكال والدفع بالحرف ، بل يعم غيره ، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام للاعلام ، وقد سبق في بعض الامور بعض الكلام (١) ، والاعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والافادة ،

______________________________________________________

يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية الى آخره» وهذه العبارة تحتمل معنيين :

الاول : ان السير ، والبصرة ، والكوفة لأنها متعلقات للمعنى الحرفي الذهني ومتعلق الامر الذهني لا يكون الّا ذهنيا فالسير ، والبصرة ، والكوفة ايضا لا تنطبق على السير والبصرة والكوفة الخارجيات.

الثاني : انه لا فرق بين المعنى الاسمي والحرفي في كون كل منهما ملحوظا في كل منهما يكون دخيلا في المعنى وعليه فالمعنى الاسمي المتقيد باللحاظ لا ينطبق على الخارج ، فالسير والبصرة والكوفة المحكيات باللفظ لا تنطبق على السير والبصرة والكوفة الخارجيات. وقد عرفت فيما تقدم : ان الموضوع له الحرف ليس هو الجزئي الخارجي ، ولا الجزئي الذهني ، وانما كان الوضع فيه خاصا ، لأن حقيقته التقوم بالطرفين وما كان كذلك لا يكون له كلي طبيعي له مصاديق ينطبق عليها ، فلا يمكن ان يكون الوضع فيه عاما والموضوع له عاما وان كلية المعنى الحرفي وجزئيته انما هي باعتبار طرفيه.

(١) حاصل هذا التوفيق : ان المعنى حيث يلاحظ بنفسه من دون تقيده باللحاظ فهو كلي في كل من المعنى الحرفي والاسمي ، وحيث يتقيد باللحاظ فهو جزئي في كليهما ايضا ، سواء كان الاستعمال آليا كما في الحرف ، او استقلاليا كما في الاسم فيحمل

١٩٢

فافهم (١).

رابعها : إن اختلاف المشتقات في المبادئ ، وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة ، وفي بعضها قوة وملكه ، وفي بعضها فعليا ، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا ، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ، كما لا يخفى ، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال ، فيكون التلبس به فعلا ، لو أخذ حرفة أو ملكة ، ولو لم يتلبس به إلى الحال ، أو

______________________________________________________

كلام من قال : ان المعنى جزئي على المعنى المتقيد باللحاظ ، وكلام من قال : ان المعنى كلي على المعنى الملحوظ بنفسه من دون تقيده باللحاظ.

وقد ظهر ايضا : ان الاشكال الموجب لكون الموضوع له الحرف جزئيا لا يختص بالحرف ، بل يعم الاسم ايضا ، وينبغي ان يكون الموضوع له الاسم ايضا جزئيا.

وما به يدفع الاشكال في الحرف : من ان الموضوع له فيه نفس المعنى غير المتقيد باللحاظ فيكون كليا به ـ ايضا ـ يندفع الاشكال في الاسم ، فالمعنى الموضوع له فيه كلي ايضا ، والى هذا اشار بقوله : «ومنه ظهر عدم اختصاص الاشكال الى آخره». إلا انك عرفت ـ فيما سبق ـ ان الكلية والجزئية من صفات نفس المعنى من دون تقيده باللحاظ باعتبار صدق الماهية على كثيرين ، وعدم صدقها على الكثيرين ، فان الظاهر ان المقسم في الكلية والجزئية واحد وهو نفس المعنى من دون اخذ اللحاظ فيه.

(١) لا يخفى ان الفائدة والافادة التي ذكرها هنا ولم يتعرض لها فيما سبق هو : ان المعنى يكون باعتبار نفسه كليا طبيعيا ، وباعتبار تقيده باللحاظ جزئيا ذهنيا وانه لا منافاة بين كون المعنى جزئيا ذهنيا ، وكونه كليا عقليا بناء على ما اصطلحه في الكلي العقلي ، والتوفيق بين جزئية المعنى وكليته.

١٩٣

انقضى عنه ، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا ، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات ، كما أشرنا إليه (١).

______________________________________________________

(١) قد تقدم الكلام على سبيل الاجمال في هذا المطلب في الامر الاول.

وحاصل الكلام فيه : ان بعض المشتقات يدعى صدقها على الاعم ، كالكاتب ولا سيما في مثل قولهم : فلان كاتب السلطان فانه يصدق عليه وان لم يكن مشغولا بالكتابة ، ومثل المثمر فانه يقال : الشجر مثمر وان لم يكن له ثمر بالفعل ، ومثل السم قاتل وان لم يكن متلبسا بالقتل ، لانه يصدق عليه القاتل قبل ان يؤكل ، ومثل المجتهد فانه يصدق على من له ملكة الاجتهاد والاستنباط وان لم يكن قد استنبط حكما اصلا ، ومثل المشرق والمغرب والمسلخ فانها تصدق على المكان وان لم يكن له شروق بالفعل ولا غروب ولا سلخ ، ومثل اللابن والتامر والبقال فانه يصدق على من يحترف بيع اللبن والتمر والبقل ، ولو في حال كونه نائما وليس بمزاول للبيع.

وقد اختلفت الكلمات في التفصي عن هذا الاشكال من القائلين بوضع المشتق لخصوص المتلبس.

فالتزم بعضهم بخروج بعضها عن محل النزاع كصاحب الفصول ، وهو في الحقيقة التزام بالاشكال ولا وجه له ، للزومه تعدد الوضع في هيئة الاوصاف ، والالتزام به بعيد ، فان اللفظ في اسم الزمان والمكان واحد ، فان المغرب ـ مثلا ـ مشترك بين اسم الزمان ، والمكان ، فالالتزام بان هذه الهيئة في خصوص اسم الزمان وضعت للمتلبس ، وفي اسم المكان قد وضعت للاعم بعيد جدا.

واجاب بعضهم ، كالماتن وجملة من المحققين بنحو آخر : وهو ان النزاع في المشتق انما هو في وضع الهيئة ، واما المادة فليست محلا للنزاع ، وفي هذه الامثلة قد وقع التصرف في المادة ، فان المادة قد اخذت على انحاء وان المبدأ في هذه لم يرد منه المصدر ، بل اريد منه في بعضها الحرفة والصنعة ، كالصائغ والكاتب في من اتخذ الكتابة حرفة ككاتب السلطان ، وفي بعضها قد اخذ المبدأ بنحو الملكة كالمجتهد والفقيه

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فانه قد اريد من الاجتهاد والفقاهة ملكة الاستنباط والقوة على معرفة الحكم الفقهي من دليله ، وفي بعضها قد اخذ بنحو الاستعداد والقابلية كالمثمر.

ولعله يرجع الامر في جميعها الى شيء واحد وهو ان يراد من المبدإ اقتضاؤه لا فعليته ، والاقتضاء في كل مقام بحسبه.

ويرد عليه اولا : ان الالتزام بان الوضع في مبدإ هذه المشتقات مخالف لوضع المبدإ في بقية المشتقات ، فان الضرب ـ مثلا ـ في الضارب موضوع لخصوص الحدث ، وفي هذه الامثلة قد وضعت الكتابة ، والاجتهاد ، والاثمار لاقتضاء الحدث ، لا لنفس الحدث. وهذا لا يقل في الغرابة عن الالتزام : بان الهيئة في هذه الامثلة يخالف وضعها لسائر المشتقات. وما السبب في ترجيح التصرف في المادة على التصرف في الهيئة؟

وثانيا : انه لا يتم في مثل لفظ القاتل ، فانه يطلق على الرجل القاتل ، ويراد منه الفعلية ولا سيما فيما اذا كان الرجل ليس من عادته القتل ، بل حصل منه القتل صدفة ، او خطأ واتفاقا فانه في حال انقضاء القتل يقال : كان قاتلا ، وليس بقاتل فعلا وليس فيه اقتضاء للقتل ، فكيف يمكن ان يدعى : ان اطلاقه على السم بنحو الاقتضاء ، والالتزام بتعدد الوضع في المبدأ بالنسبة للفظ قاتل فيما اذا اطلق على الرجل ، وفيما اذا اطلق على السم في غاية الغرابة.

ويمكن ان يجاب : بان ما ذكر من الامثلة لم يختلف الوضع فيها عن ساير المشتقات ، وانها ايضا موضوعة لخصوص المتلبس ، وانما الفرق بينها وبين ساير المشتقات : ان الذات التي يطلق عليها احد هذه المشتقات لها نحو اختصاص المبدأ ، كما في المغرب ـ مثلا ـ فانه يختص الغروب بمحل خاص ، ولا يقع في غيره من الامكنة ، وكذلك في المسلخ والمذبح فانه يختص الذبح والسلخ بمحل معين ، ومثله المفتاح فانه يختص الفتح بآلة معينة ، وكذلك المحترف الذي يتخذ الصياغة والكتابة حرفة ، وكذلك المجتهد والفقيه فانه يختص بمن بلغ تلك المرتبة ، وكذلك السم الذي

١٩٥

خامسها : إن المراد بالحال في عنوان المسألة ، هو حال التلبس لا حال النطق ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون غدا ضاربا حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول ، ومتلبسا به في الغد في الثاني ، فجري المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس ، وإن مضى زمانه في أحدهما ، ولم يأت بعد في الآخر ، كان حقيقة بلا خلاف (١) ، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز ، فإن

______________________________________________________

له من طبيعته وذاته اقتضاء القتل يكون له نحو اختصاص بالقتل دون غيره ممن يصدر منه القتل ، لا بالذات والطبيعة.

فاذا حصل للذات هذا الاختصاص صح اطلاق هذه المشتقات عليها في حال الانقضاء اما بعناية ان هذا الاختصاص يوجب فرض وجود المبدإ مع الذات ، وانه لا يفارقها ، فاطلاقها عليها بنحو العناية ، إلّا ان العناية لا يحتاج فيها الى مزيد مئونة او ان الغرض من اطلاق هذه الاوصاف عليها بيان القوة ، لا الفعلية ، فكانها قضية صرح : بان الحمل فيها والجري بالقوة ، كقولك : زيد كاتب بالقوة ، فان الغرض فيها : ان زيدا له قوة الكتابة ، لا فعلية الكتابة ، واتصافه بالقوة فعلي ، لا بالقوة.

بقي الكلام في اللابن والتامر والحداد ، لا من الجهة التي ذكرناها ، فان الكلام فيها من هذه الجهة هو الكلام فيما مر ، بل من جهة انها ليست من المعاني الحدثية فان اللبن والتمر والحديد من الاعيان فكيف يصح تلبس الذات بها.

والظاهر ان التلبس فيها ليس لذاتها بل نسبة التلبس لها تبعي بتبع بيع هذه الاعيان ، وليس التلبس بها بذاتها ، وانما نسب التلبس بها للذات ، من حيث تلبس الذات بالبيع المضاف الى هذه الاعيان فهي متلبسة بها بتبع ما اضيف اليها.

(١) لقد ذكر الحال في العنوان ، فقالوا : هل المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في الحال ، أو في الاعم منه وما انقضى عنه؟

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى انهم اتفقوا على انه في المتلبس بالحال حقيقة ، وفيمن سيتلبس في الاستقبال مجاز. والنزاع فيمن تلبس وانقضى عنه.

واتفقوا ايضا انه اذا كان الجري والحمل بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة في الاحوال الثلاثة ، فاذا قيل : زيد كان ضاربا امس ، وزيد يكون ضاربا غدا ، وزيد ضارب الآن ، فانه في هذه الامثلة الثلاثة المشتق حقيقة في الجميع ، فلا بد وان يكون محل الاتفاق على المجازية في الاستقبال هو ان يكون الجري والحمل في الحال ، والتلبس في الاستقبال ، وكذلك محل النزاع فيما انقضى عنه : هو ان يكون الجري والحمل في الحال ، والتلبس فيما مضى.

وبعد بيان هذه المقدمة نقول : لا يخلو المراد من الحال في العنوان ، هل هو حال النطق ، او حال النسبة ، او حال التلبس؟

ولا مجال لأن يكون المراد من الحال حال النطق ، فان كون مرادهم من الحال حال النطق ينافي اتفاقهم على انه اذا كان الجري بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة ، حتى في الاستقبال ، فضلا عن زمن الاقتضاء ، فان المفروض ان زمان النطق خال عن التلبس ، فلو كان مرادهم من الحال حال النطق لكان لازم هذا ان يكون المتيقن من المصداق الحقيقي منحصرا في التلبس الذي يكون في حال النطق ، والتلبس الذي يكون في غير حال النطق فهو مجاز وان كان الجري بلحاظ حال التلبس ، وهذا ينافي ما ذكرنا من اتفاقهم على ان الجري اذا كان بلحاظ حال التلبس فهو حقيقة حتى في الاستقبال ، وهذا مراد المصنف من قوله : «ضرورة ان مثل كان زيد ضاربا امس» الى قوله : «بلا خلاف».

وحاصله : ان ضرورة اتفاقهم على كون المثالين حقيقة ، لأن الجري بلحاظ حال التلبس لازمه ان لا يكون مرادهم من الحال في العنوان حال النطق ، لما عرفت من انه لو كان المدار على حال النطق لكان المثالان من المجاز ، لوضوح عدم تلبس زيد بالضرب في حال النطق في المثالين.

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، قوله : «اذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول ومتلبسا به في الغد في الثاني» لا يخلو من مسامحة فان تلبسه وعدم تلبسه له خصوصية في كون القضية صادقة او كاذبة ، وهذا لا ربط له بكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس حقيقة.

ويمكن ان يكون مراده : انه اذا لم يكن زيد متلبسا بالضرب في الامس ولا متلبسا به في الغد فمحافظة على صدق القضية ان الجري وان كان بلحاظ الامس والغد ، إلّا انه لكونه كان متلبسا به فيما قبل الامس ، وانه سيتلبس به فيما بعد غد ، فيكون المثال الاول من مورد النزاع ، والمثال الثاني من المتفق على مجازيته.

واما حال النسبة فالمراد من النسبة اما النسبة الحكميّة : وهو الحال الذي يصح فيه نسبة الضارب الى زيد ، حيث يصح تشكيل القضية ، فيقال : زيد ضارب فان هذه القضية انما تصح حيث يكون زيد مطابقا لهذه القضية ، ومتلبسا بالضرب.

ولا يخفى انه لا سبيل الى ان المراد من الحال في العنوان هو حال النسبة بهذا المعنى ، لوضوح ان حال النسبة متاخر بالطبع والواقع عن تلبس زيد واقعا بالضرب ، فزيد حال تلبسه قبل النسبة الحكمية هو مصداق ومطابق لعنوان الضارب.

واما اذا كان المراد من حال النسبة هو حال انتساب الضرب واقعا الى زيد ، لا حال القضية والحمل ، فهذا المعنى يرجع الى حال التلبس وليس هو في قباله ، فلا بد وان يكون المراد من الحال في القضية هو حال التلبس ، إلّا انه من الواضح ان قولهم : المتلبس في العنوان ، يكفي عنه.

ولعله ذكر في العنوان للتوضيح لا للتأسيس.

والحاصل : ان النزاع في ان مطابق المشتق هل هو الذي يكون المبدأ قائما به بالفعل ، أو الاعم منه ومن الذي قام به المبدأ وانقضى عنه.

١٩٨

الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال ، كما هو قضية الاطلاق ، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس ، فيكون الجري والاتصاف في الحال ، والتلبس في الاستقبال (١).

ومن هنا ظهر الحال في مثل زيد ضارب أمس وأنه داخل في محل الخلاف والاشكال. ولو كانت لفظة أمس أو غد قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الذي يظهر من المصنف موافقته على كون المثال ظاهرا في ان غدا في قولك : زيد ضارب غدا لبيان حال التلبس فقط ، وليس فيه ظهور على ان الجري بلحاظه ايضا ، وان القضية ظاهرة في ان الجري بلحاظ حال النطق وان غدا لصرف بيان حال التلبس ، إلّا انه لا يخلو من شيء ، فان غدا في المثال يصلح لأن يكون قرينة على كلا الامرين ، وان المثال المذكور حاله حال المثال السابق وهو قولهم : سيكون زيد غدا ضاربا ، فيكون من موارد الحقيقة.

نعم المثال السابق اظهر في الدلالة على كون الجري بلحاظ حال التلبس ، ولكن قولهم : زيد ضارب غدا ايضا ظاهر في ان الجري بلحاظ حال التلبس ايضا.

وعلى كل حال فان اتفاقهم على المجازية لو سلمت فانما هي حيث يكون الجري بلحاظ حال النطق ، لا بلحاظ حال التلبس ، فيكون الجري في الحال ، والتلبس في الاستقبال ، وهو من المجاز قطعا.

وملخص مراد المصنف : انه لو كان هناك تصريح منهم : بان قولهم زيد ضارب غدا مجاز حتى لو كان الجري بلحاظ حال التلبس ، لكان منافيا لما ادعيناه : من ان مرادهم من الحال حال التلبس.

اما نفس اتفاقهم على المجازية في المثال فلا منافاة فيه ، لأن اتفاقهم على المجازية انما هو لأن الجري في حال النطق ، والتلبس في الاستقبال ، وهو من المسلم مجازيته.

١٩٩

وبالجملة : لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة ، فيما إذا جرى على الذات ، بلحاظ حال التلبس ، ولو كان في المضي أو الاستقبال ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه ، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ حال التلبس في الاستقبال (١).

ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات (٢) ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الظهور في مثل زيد ضارب امس كالظهور في زيد ضارب غدا لأن امس قرينة على حال الجري ايضا ، وانه مثل قولهم : زيد كان ضاربا امس ، لا لصرف بيان حال التلبس فقط. ويظهر من المصنف التسليم ايضا.

وعلى كل فانه لو سلم ظهور المثال في ان امس لبيان حال التلبس فقط ، وان الجري بلحاظ حال النطق ، لكان من مورد النزاع.

فاتفاقهم على كونه من مورد النزاع لو سلم فانما هو لاجل ان الجري بلحاظ حال النطق والتلبس في الزمان الماضي.

نعم ، لو صرحوا بان الجري بلحاظ حال التلبس ايضا ـ ومع ذلك هو من مورد النزاع ـ لكان منافيا لدعوى : ان مرادهم من الحال هو حال التلبس ، ولكنهم لم يصرحوا بذلك ، بل صرحوا بخلافه وهو ان الجري اذا كان بلحاظ حال التلبس يكون المثالان حقيقة.

(٢) انما ذكره تاييدا لأن اتفاق اهل العربية لا يصح ان يكون دليلا ، لانهم اتفقوا على دلالة الفعل على الزمان ، وقد مضى منه عدم دلالة الفعل على الزمان.

وحاصل هذا التأييد : ان اهل العربية اتفقوا على عدم دلالة الاسماء على الزمان ، وبها فرقوا بين الافعال ، والاسماء ، فلو كان الحال المذكور في العنوان يراد

٢٠٠