بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

اذا قصد (١).

وقد اشرنا إلى ان صحة الاطلاق كذلك ، وحسنه انما كان بالطبع ، لا بالوضع ، والّا كانت المهملات موضوعة لذلك ، لصحة الاطلاق كذلك فيها (٢) ،

______________________________________________________

المقيد بكونه في جملة زيد قائم ـ مثلا ـ مع حفظ كليته له ، فيصدق على لفظ زيد كلما تكلم متكلم بهذه الجملة ، فان الصنف هو النوع المقيد بقيد على ان لا يخرجه عن الكلية ، ولها مثل ، كما لو قال القائل : كان زيد قائما ، ثم يقول بعد ذلك : زيد في قوله هذا المتقدم لفظ ، وهو مرادهم في المقام : من اطلاق اللفظ وارادة مثله ، ولها شخص : وهو اطلاق اللفظ وارادة شخص هذا اللفظ الذي تكلم به فعلا ، فيقول : زيد لفظ ، ويريد حمل اللفظ على خصوص لفظ زيد الذي تكلم به الآن. ولا اشكال في امكان اطلاق لفظ زيد وان يراد به الحكاية عن طبيعته النوعية ، او الصنفية ، او فرد مثله ـ كما تقدمت امثلتها ـ ، فيكون لفظ زيد حاك ، والمحكي احد هذه الثلاثة. وانما الاشكال في الرابع : وهو ان يطلق لفظ (زيد) ويحمل عليه (لفظ) ، والمقصود حمل (لفظ) على خصوص شخص زيد المتكلم به فعلا.

(١) لانه اذا قصد به شخص هذا القول ، كان من اطلاق اللفظ وارادة مثله ، كما نبه عليه بقوله : «او مثله ، كضرب في المثال فيما اذا قصد ... الخ» ، فان مراده من شخص القول : هو ضرب الواقعة في هذه الجملة المشار اليها.

(٢) يعني ان صحة اطلاق اللفظ وارادة نوعه ، او صنفه ، او مثله ليس بالوضع ، لان هذه الاستعمالات تصح في المهملات ، فيصح ان يقال : ان ديزا لفظ باعتبار نوع لفظ ديز الصادر من أي احد ، وان يراد صنفه : بان يقيد بالصادر من شخص خاص ، وزمان خاص ، وان يراد به مثله : بان يقول : ديز ، ثم يقول بعد ان يتكلم : ديز الذي قد تكلمت به لفظ ، وان يراد به شخصه ، وهو ان يقول : ديز لفظ ، ويحمل اللفظ على خصوص شخص ديز ، ولو كانت هذه الاطلاقات انما تصح بالوضع لما صحت في لفظ ديز ، لانه من المهملات التي لم توضع.

٤١

والالتزام بوضعها لذلك ـ كما ترى (١).

وأما إطلاقه وارادة شخصه ، كما اذا قيل : (زيد لفظ) واريد منه شخص نفسه ، ففي صحته بدون تأويل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ، او تركب القضية من جزءين ، كما في الفصول.

بيان ذلك : انه ان اعتبر دلالته على نفسه حينئذ لزم الاتحاد ، والّا لزم تركبها من جزءين ، لأن القضية اللفظية على هذا انما تكون حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع ، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين ، مع امتناع التركب الّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لو التزم ملتزم : بان لفظ ديز لم يوضع لمعنى ، لكنه وضع ليستعمل هذه الاستعمالات ، فانه يرد عليه : ان هذه الاستعمالات تصح في مهمل لم تكن حروف هجائه من الاحرف العربية ، الّا ان يلتزم : بان الواضع تصور لفظ المهمل فوضعه لأن يستعمل هذه الاستعمالات ولو بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص. وهذا بعيد جدا.

(٢) حاصله : ان اطلاق اللفظ وارادة شخصه ان قصد به الحكاية بنفس اللفظ عن شخص نفسه لزم اتحاد الدال والمدلول وهو محال ، لأن الدالية والمدلولية من المتضائفين ، والتضايف من التقابل ، والمتقابلان لا يجتمعان في واحد. هذا اذا قصد الحكاية ، وان لم تقصد الحكاية لزم تركب القضية المعقولة من جزءين ، وتركب القضية من جزءين نسبة ومحمول ، وهو محال أيضا ، لان النسبة لا تقوم بطرف واحد ، بل لا بد من قيامها بطرفين موضوع ومحمول.

بيان ذلك : ان القضية اللفظية في المقام ثلاثة : زيد ، ولفظ ، وهيئة الجملة الدالة على النسبة ، وحيث ان زيدا في القضية اللفظية لم يقصد به الحكاية كما هو المفروض فان زيدا وإن خطر في الذهن إلّا انه لم يخطر بما انه موضوع قصد احضاره بالحكاية ،

٤٢

قلت : يمكن ان يقال : انه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا ، وان اتحدا ذاتا ، فمن حيث انه لفظ صادر عن لافظه كان دالا ، ومن حيث انّ نفسه وشخصه مراده كان مدلولا (١) مع ان حديث تركب القضية من

______________________________________________________

إذ انه لا حكاية على الفرض ، بل خطر بما انه صورة هذا اللفظ الذي تلفظ به ، لا بما انه موضوع اللفظية ، والذي حضر على سبيل الحكاية هو النسبة والمحمول ، فلزم تركب القضية المعقولة من جزءين.

(١) توضيحه : انه يمكن ان نختار الشق الاول ، ونقول : يمكن ان يقصد بشخص اللفظ حكايته عن نفسه ولا يلزم المحال ، لان المتقابلين هما حيثية الدالية ، وحيثية المدلولية لا ذات الدال وذات المدلول ، فانه لا تقابل بينهما. كيف؟! وربما يكون الشيء الواحد بالذات مصداق المتضائفين ، فان المحبيّة والمحبوبية من المتضائفين ويجتمعان في ذات الواجب عزوجل ، فانه محب لذاته فهو محب ومحبوب ، إلّا ان حيثية المحبيّة غير حيثية المحبوبية ، فان حيثية المحبيّة حيثية المضاف ، وحيثية المحبوبية حيثية المضاف اليه ، ولا يعقل كون حيثية المضاف هي حيثية المضاف اليه.

فان قلت : الواحد بالذات واحد من جميع الجهات.

قلت : انتزاع المفاهيم المتعددة من الواحد بالذات لا مانع منه ، كانتزاع الموصوفية ، والصفتية من ذاته جل وعلا ، مع انه بذاته البسيطة هو الموصوف وهو الصفة ، كما حقق في محله.

اذا عرفت هذا ، نقول : ان في شخص زيد ـ مثلا ـ حيثيتين حقيقيتين هما حيثية كونه صادرا عن اللافظ ، وحيثية كونه مرادا للافظ ، وحيثية صدوره غير حيثية ارادته ، فانه يراد فيصدر ، فمن حيث كونه صادرا يكون دالا ، ومن حيث كونه مرادا يكون مدلولا ، فالحكاية موجودة ولم يلزم اتحاد الدالية والمدلولية. هذا حاصل ما اجاب به عن المحذور الاول.

٤٣

جزءين ـ لو لا اعتبار الدلالة في البين ـ انما يلزم اذا لم يكن الموضوع نفس شخصه ، وإلّا كان اجزاؤها الثلاثة تامة ، وكان المحمول فيها منتسبا الى شخص اللفظ ونفسه ، غاية الامر انه نفس الموضوع لا الحاكي عنه ، فافهم ، فانه لا يخلو عن دقة (١). وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ

______________________________________________________

ويمكن ان يقال : ان حيثية الصدور ان لم يقصد بها الحكاية عن كونه مرادا فدلالتها على كونه مرادا دلالة عقلية ، لا دلالة حكائية ، والمقصود الدلالة الحكائية ، وإلّا فكل فعل صادر من فاعل تدل حيثية صدوره على كونه مرادا لفاعله ، إلّا ان هذه الدلالة عقلية ، كدلالة كل معلول على علته ، وان قصد الحكاية لزم كون كل شيء واحد منظورا بالنظر الآلي والاستقلالي ، وهو محال ، فانه لا شبهة ان المعنى والمدلول منظور اليه بالنظر الاستقلالي فحيثية كونه مرادا بما انها هي المدلول لا بد وان تكون منظورة بالنظر الاستقلالي ، وحيث ان حيثية الصدور معلولة ومتفرعة من الحيثية المرادية وقد فرض في المقام : ان قصد الحكاية حيثية الصدور ، فلا بد وان تكون مرادة ايضا بنحو الآلية. فلزم ان تكون المرادية في المقام منظورة بنحو الاستقلال ، لان المفروض انها هي المعنى والمدلول ومنظورة بالنظر الآلي لأنها هي العلة لحيثية الصدور المفروض قصد الالية والحكاية بها ، فاجتمع النظر الآلي والاستقلالي في واحد.

(١) حاصله : اختيار الشق الثاني ، وهو : أنه نختار ان لا حكاية في البين ولا يلزم تركب القضية المعقولة من جزءين.

وبيانه : ان الاصل في صحة حمل محمول على الموضوع هو تحمل الموضوع لمبدأ المحمول ، فتارة يكون مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع ، واخرى لا يكون من ذاتياته. ففيما لم يكن مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع فلا بد من قصد الحكاية ، ككون زيد قائما فان قيامه ليس من ذاتياته ، واما اذا كان مبدأ المحمول من ذاتيات الموضوع ، كاللفظية فانها من ذاتيات اللفظ ، فبمجرد سماع لفظ زيد يخطر في الذهن ولفظيته

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

معه ، لأنها من ذاتياته ، فلا يحتاج الى قصد الحكاية لان يجعل بها موضوعا لان يرد عليه المحمول ، فان استعداده لموضوعية ان يحمل عليه لفظ ذاتي له ، فان اللفظية من ذاتياته. وهذا بخلاف الموضوع الذي ليس مبدأ المحمول من ذاتياته ، فانه لا بد من اعداده للموضوعية ، وهي انما تكون بسبب الحكاية. وهذا مراده من قوله : «انما يلزم اذا لم يكن الموضوع شخص نفسه» ، كما في مثل قولك : ضرب فعل ماض ، فان كونها فعل ماض ليس من ذاتياتها ، ولذا ربما تكون مبتدأ ، كما في المثال المذكور ، فان ضرب فيه مبتدأ ، لا فعل ماض ، ففي هذا المثال لا يمكن ان تكون موضوعا في القضية المعقولة من دون حكاية. اما لو كان الموضوع شخص نفسه ، : أي ان موضوعيته من ذاتياته ، كما لو قلنا : ضرب لفظ فان موضوعية ضرب لان يحمل عليها لفظ من ذاتياتها فلا يلزم تركب القضية المعقولة ، فانها تخطر في الذهن مستعدة باستعداد ذاتي لان يحمل عليها لفظ. هذا مراده في الجواب عن المحذور الثاني.

ولكن يمكن ان يقال فيه : ان هناك كاشفا وهو القضية اللفظية وهناك مكشوفا وهو القضية المعقولة وحيث لم يقصد الحكاية فالموضوع وان خطر في الذهن وله استعداد ذاتي لان يحمل عليه هذا المحمول لكن لم يخطر بما انه مكشوف ، فانه اذا لم يقصد الحكاية لم تكن الكواشف في القضية اللفظية ثلاثة ، بل اثنين : النسبة والمحمول ، فالموضوع لم يخطر في الذهن بما انه منكشف ، ويكون حال زيد وضرب في حمل لفظ عليهما بلا قصد الحكاية كحال ما اذا ضربت بيدي على شيء من دون تلفظ بلفظ هذا ونحوها ، ثم احكم عليه بانه ضرب ، فان النسبة لا بد في القضية المعقولة من تقومها بطرفين منكشفين بالقضية الملفوظة ، وحيث لا حكاية لا تقوم النسبة بين طرفين مكشوفين ، بل يخطر امران قصد بهما الكشف : النسبة والمحمول ، ولا يكون موضوع منكشف باللفظ حتى يقع طرفا ثانيا للنسبة.

٤٥

بشيء (١) ، بل يمكن ان يقال : انه ليس أيضا من هذا الباب ما اذا اطلق اللفظ واريد به نوعه ، او صنفه ، فانه فرده ومصداقه حقيقة ، لا لفظه وذاك معناه ، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى ، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى الى المخاطب خارجا ، قد احضر في ذهنه بلا واسطة حاك ، وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة اصلا ، لا لفظه ، كما لا يخفى (٢). فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى ، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ لا بما هو خصوص جزئيّه.

نعم ، فيما اذا أريد به فرد آخر مثله ، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

______________________________________________________

(١) لوضوح ان الاستعمال يحتاج الى قصد الحكاية والمفروض انه لا حكاية ، فان معنى استعمال اللفظ في شيء هو جعل اللفظ حاكيا ومرآة لشيء ، وليس على الفرض حكاية ومرآتية ، بل اللفظ بمجرد سماعه من دون قصد الحكاية يحمل عليه لفظ ، لانه واجد بالذات لطبيعة اللفظية.

(٢) لا يخفى ان الفرد كما انه واجد لذاتي فرديته ، كذلك واجد لذاتية نوعه وذاتية صنفه ، لوضوح ان الفرد هو الحصة من نوعه وصنفه مع زيادة المشخصات او التشخص. فحينئذ كما يجوز اطلاق لفظ زيد ـ مثلا ـ من دون قصد الحكاية والحكم على شخصه بانه لفظ ، لان لفظيته من ذاتياته كذلك يمكن من دون قصد الحكاية الحكم عند اطلاقه على نوعه ، او صنفه بانه لفظ ، لانه واجد لنوعه ، ولصنفه ، واللفظية من ذاتيات نوعه وصنفه ، كما كانت من ذاتيات شخصه.

نعم ، لا يمكن الحكم عليه باعتبار مثله من دون قصد الحكاية ، لان المثل ليس واجدا لهوية مثله ، فلذا لا يصح الحكم بدون قصد الحكاية.

٤٦

اللهم الّا ان يقال : ان لفظ (ضرب) وان كان فردا له ، إلّا انه اذا قصد به حكايته وجعل عنوانا له ومرآته ، كان لفظه المستعمل فيه ، وكان حينئذ كما اذا قصد به فرد مثله (١).

وبالجملة : فاذا اطلق واريد به نوعه كما اذا أريد به فرد مثله ، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى ، وان كان فردا منه ، وقد حكم في القضية بما يعمه. وان اطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حكايته ، فليس من هذا الباب. لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك ـ كما لا يخفى (٢) ـ ، وفيها ما لا يكاد يصح ان يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ ، كما في مثل (ضرب فعل ماض) (٣).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه اذا قصد الحكاية بزيد عن نوعه وصنفه يكون ملحوظا بما انه مرآة وحاك ، لا بما انه مصداق وفرد ، ويكون نسبته نسبة اللفظ والمعنى ، واللفظ بما هو غير المعنى ، فيكون بهذا اللحاظ نسبة نوعه اليه ، كنسبة مثله اليه.

(٢) حاصله : انه يمكن ان يطلق لفظ زيد ويجعل حاكيا عن نوعه ، ويحكم على نوعه بانه لفظ ـ مثلا ـ ، ويكون شمول الحكم لشخص لفظ زيد من باب شمول القضية الطبيعية ، ولذا قال : وإن كان فردا منه ، وقد حكم في القضية بما يعمه ، ويمكن أن يطلق لفظ زيد ليحكم عليه بما هو فرد كليه ، : أي ليحكم عليه باعتبار نوعه او صنفه من دون قصد الحكاية ، فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.

(٣) أي ما بيناه : من صحة الحكم على نوعه أو صنفه بنحوين : من الحكاية وعدمها إنما يتم فيما كان المحمول ذاتيا للشخص والنوع ، لا فيما كان المحمول مما يختص بالنوع او الصنف ، كما في (ضرب فعل ماض) ، فان شخص ضرب في المثال مبتدأ ، وليس بفعل ماض ، فلا يصح الحكم فيه من دون حكاية. نعم يصح ذلك في (ضرب لفظ).

٤٧

الخامس ـ لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بازاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزيد عليه : من ان قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه .. هذا مضافا الى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل بلا تصرف في الفاظ الاطراف .. مع انه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة ، لما صح بدونه ، بداهة ان المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند اليه في (ضرب زيد) ـ مثلا ـ هو نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان .. مع انه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص ارادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فانه لا مجال لتوهم اخذ مفهوم الارادة فيه ، كما لا يخفى. وهكذا الحال في طرف الموضوع.

وأما ما حكي عن العلمين : الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي : من مصيرهما الى ان الدلالة تتبع الارادة ، فليس ناظرا الى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ـ كما توهمه بعض الافاضل ـ ، بل ناظر الى ان دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية : أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع ارادتها منها. وتتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف ، فانه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا لا بد من احراز كون المتكلم بصدد الافادة في اثبات ارادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الارادة ، والّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وان كانت له الدلالة

______________________________________________________

٤٨

التصورية : أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له ، ولو كان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار (١).

______________________________________________________

(١) المشهور : ان الالفاظ موضوعة بازاء نفس المعاني من دون تقييدها بحيثية كونها مرادة للافظ. ونقل عن العلمين : الشيخ ابي علي ، والخواجة الطوسي (قدس‌سرهما) : ان الالفاظ موضوعة بازاء المعاني مقيدة بكونها مرادة للافظها.

ولا بد من بيان امور توضيحا للمطلب :

الاول : ان المراد من الارادة التي وقع الكلام في امكان جعلها قيدا للمعاني هو مصداق الارادة ، وهي الكيفية العارضة للنفس لا مفهوم الارادة ، لان مفهوم الارادة هو ارادة بالحمل الاولي ، ومحل الكلام في القيدية هو الارادة بالحمل الشائع : أي الارادة التي يترتب عليها الآثار المطلوبة منها وهي الارادة الموجودة ، وهي التي تكون ارادة بالحمل الشائع ، وانما لم يكن مفهوم الارادة وما هو بالحمل الاولي محلا للكلام ، لوضوح ان المستعمل للفظ في المعنى يكون قد أراد المعنى بارادة حقيقية ، فالمعنى قد تقيد بحقيقة الارادة ، لا بمفهوم الارادة.

الثاني : ان ارادة المعنى من شئون الاستعمال ومتعلقاته ، فان المتكلم يريد استعمال اللفظ في المعنى فيستعمله فيه ، فالارادة متعلقة بالاستعمال ، والاستعمال متعلق بالمعنى ، وهذا هو المراد بقوله : «ان قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال».

الثالث : ان مطابق الكلام المقصود به الحكاية في قولك ـ مثلا ـ : زيد قائم هو زيد الخارجي والقيام الخارجي ، ومعلوم ان الذي في الخارج هو زيد والقيام المراد ، لا زيد المراد ولا القيام المراد ، وكذلك المسند والمسند اليه في ضرب زيد ، لا ضرب المرادة ولا زيد المراد.

الرابع : ان الدلالة إما تصورية او تصديقية ، والاولى : هي خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ ، فهي تتوقف على شعور السامع وسماعه اللفظ وعلمه بوضعه

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لمعناه. اما من المتكلم فلا تتوقف الّا على تكلمه به ولو بلا شعور ، بل ولا تتوقف على تكلم متكلم ، وإنما تتوقف على وجود هذه الكيفية في الهواء ولو من جماد فضلا عن حيوان.

والثانية : أي الدلالة التصديقية : وهي تصديق السامع كون المتكلم مريدا هذا المعنى من اللفظ وهي تتوقف من طرف السامع على ما ذكرنا ، ومن طرف المتكلم على شعوره وارادته ايجاد المعنى باللفظ ، وعلى شرط آخر للسامع وهو ان يحرز ان المتكلم بصدد الافادة واثبات ارادة ما هو ظاهر كلامه.

اذا عرفت هذا ، تعرف : انه لا يعقل ان يضع الحكيم الالفاظ للمعاني المقيدة بكونها مرادة للافظها للزوم الدور الواضح ، فانه لا يعقل ان يفعل ما يلزم منه المحال في مقام الاستعمال ، فانه وان امكن في مقام الوضع ان يضع اللفظ بازاء المعنى المتقيد بالارادة ، الّا انه يلزم من قيده هذا الدور في مقام الاستعمال ، لان ارادة المستعمل تتعلق بالاستعمال فهي متأخرة عنه والاستعمال يتعلق بالمعنى فهو متأخر عنه ، فاذا تقيد المعنى بالارادة يكون المستعمل فيه متقيدا بما يتأخر عنه بمرتبتين ، فالارادة من حيث كونها جزء المعنى المستعمل فيه ومتعلقة للاستعمال تكون متقدمة ومن حيث انها تتأخر عن الاستعمال المتأخر عن المعنى تكون متأخرة. والى هذا اشار بقوله : «فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه».

وايضا ، يلزم التجريد في مقام الاستعمال لما عرفت في الامر الثالث : ان المقصود في مثل زيد قائم الحكاية عما في الخارج ، والذي في الخارج هو زيد ، لا زيد المراد ، وكذلك القيام ، ولان زيدا المتقيد بكونه مرادا لا ينطبق على ما في الخارج ، لان المتقيد بامر نفسي لا مطابق له في الخارج ، فان كل فعلية تنافي الفعلية الاخرى ، فان الماهية التي تكون فعليتها الوجود النفساني غير الماهية التي فعليتها الوجود الخارجي. فلا بد حينئذ من التجريد ولا داعي عقلائي للحكيم ان يضع اللفظ لما لا بد من تجريده منه دائما. ويحتمل ان ما قلناه هو مراده من قوله : «هذا مضافا الخ».

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحتمل ان يكون مراده نحوا آخر من الاستدلال.

وحاصله : انه لا شبهة في ان الحمل والاسناد في هذه الجمل لا تصرف فيه بالتجريد مع انه لو كانت الالفاظ موضوعة للمعاني المتقيدة بالارادة للزم التجريد والتصرف. فعدم التجريد والتصرف في مقام الاستعمال دليل على ان الموضوع له هو نفس المعنى ، لان المستعمل فيه في هذه الجمل هو المعنى الموضوع له. فاتضح حينئذ ان الموضوع له لم يتقيد بالارادة.

ويلزم ايضا ، أن تكون عامة الالفاظ لو كانت الارادة قيدا للمعاني موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ، لما عرفت ـ فيما تقدم ـ : من أن الارادة التي هي قيد للمعنى هي حقيقة الارادة بالحمل الشائع ، فيكون الموضوع له هو المعنى المتقيد بالارادة الخاصة للمتكلم ، وهذه الارادات النفسانية لا جامع لها بما هي موجودة ، ونسبة مفهوم الارادة اليها نسبة العنوان الى المعنون ، فيكون المتصور حال الوضع عنوان الارادة ، والموضوع له هو المعنون وهي حقيقة الارادة ، وقد اشار الى هذا بقوله : «مع انه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما ... الخ».

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الموضوع له في الالفاظ هو المعاني من دون قيد الارادة : أي ان الواضع اعتبر العلقة بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى من دون تقيده بكونه مرادا ، فعند حصول اللفظ يخطر المعنى في ذهن السامع لجعل العلقة والملازمة ولو لم يكن متكلم في البين ، بل كان حصول اللفظ من جماد ونحوه ، فالدلالة التصورية غير مقيدة بالارادة.

نعم ، المتقيدة بالارادة هي الدلالة التصديقية ، وقد عرفت ـ في الامر الرابع ـ توقفها على شعور المتكلم وارادته ، واحراز السامع انه بصدد البيان والافادة.

وينبغي ان يكون مراد العلمين : من تبعية الدلالة للارادة هي تبعية الدلالة التصديقية لها ، لا التصورية لما تقدم من البراهين القاضية بعدم تقيد المعنى الموضوع له بالارادة ، وتوقف الدلالة التصديقية على الارادة واضح لأنها من اجزاء علتها ،

٥١

ان قلت : على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد ، او الاعتقاد بارادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد (١).

قلت : نعم ، لا يكون حينئذ دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة.

ولعمري! ما أفاده العلمان من التبعية على ما بيناه واضح لا محيص عنه ، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم ان يجعل كلامهما ناظرا

______________________________________________________

والدلالة التصديقية تتفرع عليها تفرع مقام الاثبات على مقام الثبوت ، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف ، فانه حيث لا ثبوت لا اثبات ، وحيث لا مكشوف لا كشف. وقد عرفت ـ في الامر الرابع : أن الدلالة التصديقية من جملة ما تتوقف عليه ارادة المتكلم لايجاد المعنى باللفظ.

(١) حاصل المراد بهذا الايراد : انه لو كانت الدلالة التصديقية تتوقف على وجود الارادة للزم ان لا تتحقق في مقامين :

الاول : فيما اذا قطع السامع : بان المتكلم اراد معنى وكان السامع قد أخطأ ، لان المتكلم كان مريدا لمعنى آخر غير المعنى الذي قطع به السامع ان المتكلم اراده ، فانه يلزم ان لا يكون في مثل هذا دلالة.

الثاني : فيما اذا اعتقد السامع ان المتكلم اراد معنى من اللفظ ، ولكن المتكلم لم يرد بتكلمه باللفظ ارادة ايجاد معنى به ، بل كان غرضه صرف التكلم بنفس اللفظ وهذا هو معنى كلامه في قوله : «أو الاعتقاد بارادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد» : أي لم يكن للمتكلم ارادة معنى من اللفظ ، فان عدم التحقق في هذين المقامين انما يلزم لو كانت الدلالة التصديقية تابعة ومتفرعة على وجود الارادة ، واما اذا كانت تابعة لاحراز السامع ارادة المتكلم وان لم تكن في الواقع موجودة ففي المقامين تكون دلالة لغرض الاحراز.

٥٢

الى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل فضلا عمن هو علم في التحقيق والتدقيق؟! (١).

______________________________________________________

(١) وحاصله : انا نلتزم : بانه ليس في المقامين دلالة ، وانما هي جهالة وضلالة.

وبرهان ذلك : انه بعد الانكشاف يرى السامع ان الدلالة التي قطع بها كانت تخيلا بحتا وتوهما صرفا.

اقول : هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب عدم كون كلام العلمين ناظرا الى الدلالة التصورية الّا ان كلام العلمين صريح في ارادتها دون الدلالة التصديقية كما ذكره العلامة (قدس‌سره) لما اورد عليه بانتقاض تعريف الدلالات وتداخلها ، فانهم عرفوها : بان دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج عنه التزام ، ففيما لو كان اللفظ مشتركا بين كله وجزئه فيكون اللفظ الدال على معنى بالتضمن دالا عليه بنفسه بالمطابقة ، فقال العلامة (قدس‌سره) : لما اوردت الاشكال على الخواجة (قدس‌سره) أجاب عنه : بان الدلالة تابعة للارادة : يعني أن اللفظ لم يوضع لنفس المعنى حتى تتداخل الدلالات ، بل الموضوع له هو المعنى المتقيد بالارادة ، فالمدلول عليه بالتضمن هو جزء المعنى المتقيد بأنه متعلق إرادة تعلقت بكله ، والمدلول عليه بالمطابقة هو المعنى المتقيد بارادة تعلقت به بما انه كل المعنى ، فليس المدلول عليه فيهما واحدا فلا تتداخل الدلالات ، وهذا صريح في الدلالة التصورية. ومثله في الصراحة جواب الشيخ عن ايراد الانتقاض والتداخل في تعريف المفرد والمركب. والذي دعا هذين العلمين الى هذا القول هو ان حكمة الواضع لا تدعوه إلّا الى ما يتعلق به غرضه وهو ما يراد ويستعمل فيه اللفظ ، دون اعتبار العلقة بين مطلق اللفظ والمعنى ، وحيث لا يمكن ان يخفى على هذين لزوم الدور : من اخذ نفس الارادة قيدا في المستعمل فيه ، ولزوم التجريد في مقام الاستعمال دائما ، فلا بد وان يكون مرادهم من التقييد هو لحاظ الارادة مشيرة الى الحصة الخاصة من مطلق المعنى ، فلا يلزم دور ولا تجريد.

٥٣

السادس ـ لا وجه لتوهم وضع للمركبات غير وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة اليه بعد وضعها بموادها في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيا ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص اعرابها نوعيا ، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات بمزاياها الخاصة ، من تأكيد وحصر وغيرهما ، نوعيا ، بداهة ان وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها ـ كما لا يخفى ـ من غير حاجة

______________________________________________________

نعم يلزم كون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، وليس في الالتزام به كثير بأس ، فانه يلتزم به القائل بالتعهد ايضا.

واما ما يدعى : من قيام الوجدان على دلالة اللفظ على المعنى ، وإن حصل ممن لا شعور له ، ولا قصد فممنوع : بان هذا ليس من الدلالة ، بل السبب في استيناس الذهن بحصول المعنى عنده لاجل تكرار استعمال اللفظ فيه ، لا دلالة عليه.

فالدلالة حقيقة : هي كون اللفظ مقصودا به المعنى ، اما حكاية ، او إنشاء ، بل ولو عبثا فهي من شئون الاستعمال ومختصاته ، فحيث لا قصد ولا استعمال لا دلالة.

وربما يؤكد كلام العلمين : بانه لو كان الوضع هو اعتبار العلقة بين اللفظ والمعنى من دون تقييد اصلا ، وانه تكون للفظ دلالة ولو حصل من جماد ، او حيوان ، فيكون لذات اللفظ بعد الجعل والاعتبار دلالة على ذات المعنى ، ولو لم يوجد من متكلم به ومستعمل له ، للزم على هذا ان تكون للفظ دلالتان اذا استعمل في غير ما وضع له : احداهما : دلالته الذاتية على المعنى غير المنوطة باستعمال مستعمل ، بل هو امر من لوازم نفس وجود اللفظ ، والثانية : دلالته على المعنى الذي قصده المستعمل وجعل اللفظ وجودا تنزيليا له ، ومبرزا له.

الّا انه يمكن ان يقال : إن الواضع لم يعتبر للفظ مطلق الملازمة ، بل قيد الدلالة بما اذا لم يقصد به غير المعنى الموضوع له.

٥٤

الى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى ، تارة بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.

ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك ، هو وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد ، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل واحد منهما (١).

______________________________________________________

(١) لا شبهة ان للجملة بمفرداتها اوضاعا متعددة :

احدها : وضع المواد فيها وهي موضوعة بالوضع الشخصي وهو ما كان للموضوع له طبيعة واحدة سواء كانت شخصية كزيد ، أم نوعية ، كضاد ، وراء ، وباء الموجودة في ضرب وضارب ومضروب وغيرها من مشتقاتها.

ثانيها : هيئة مفرداتها أيضا ، فانها موضوعة بالوضع النوعي ، كهيئة ضرب ـ مثلا ـ فانها موضوعة بالوضع النوعي ، لانه ليس لهيئة ضرب وحدة شخصية كزيد ، ولا نوعية كضاد ، وراء ، وباء لانها توجد في ضرب وقام وغيرها مما كان على وزنها ، فما ليس له وحدة موضوع يسمى عندهم بالوضع النوعي.

ثالثها : وضع هيئة الجملة في الدلالة على الربط ، كما هو رأي المحققين من علماء العربية دون الاعراب والضمير المستتر.

رابعها : وضع هيئة الجمل من ناحية التقديم والتأخير ، والفصل والوصل للدلالة على الاختصاص ، او الحصر ، أو نحو ذلك من دلالات هيئة الجمل.

ومن البعيد أن يقول احد بوضع خامس ، غير هذه الاوضاع الاربعة ، وهو وضع الجملة بكلها لمعناها بكله ، لانه لغو اولا ، وثانيا : يلزم تحصيل الحاصل فان المعنى قد حصل بواسطة الاوضاع الاربعة ، فان حصل مرة ثانية لزم تحصيل الحاصل ، ولانه خلاف الوجدان ، فانا لا نرى حصول المعنى في الجملة مرتين ، ولازم وضعها بعد الاوضاع الاربعة حصول المعنى مرتين ، وقد اشار المصنف الى اللغوية بقوله : «بداهة أن وضعها ... الخ» والى المحذور الثاني : من تحصيل الحاصل ، ومخالفة الوجدان بقوله : «مع استلزمه الدلالة ... الخ».

٥٥

السابع ـ لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه الى الذهن من نفسه ، وبلا قرينة علامة كونه حقيقية فيه ، بداهة انه لو لا وضعه له لما تبادر (١).

لا يقال : كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بأنه موضوع له كما هو واضح. فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار (٢).

فانه يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فان العلم التفصيلي بكونه موضوعا له موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به لا التفصيلي ، فلا دور. هذا اذا كان المراد به التبادر عند المستعلم.

______________________________________________________

(١) قد ذكر للحقيقة علامات :

منها ، تنصيص علماء اللغة : وهو يتوقف على حجية قول اللغوي ، وسيأتي الحق فيه عند التعرض له في مباحث الظن.

ومنها ، التبادر : وهو انسباق المعنى الى الذهن من حاق اللفظ من دون قرينة ، ولا شك انه من علائم الحقيقة ، لأن انسباق المعنى من اللفظ ينحصر في امرين : اما الوضع له ، او لاستعمال اللفظ فيه مجازا وبالقرينة ، وحيث فرض انه لا قرينة ، فلا بد وان يكون للعلم بالوضع.

(٢) حاصله : لا اشكال في ان التبادر يتوقف على العلم بالوضع ، وإلّا لحصل لعامة الناس ، ولا شبهة انه لا يحصل التبادر في لغة العرب لغير العربي ، كما لا يحصل للعربي في اللغات الاخرى ، حيث لم يكن من اهل اللغة ايضا.

فاتضح : ان التبادر يتوقف على العلم بالوضع ، فاذا كان متوقفا على العلم بالوضع فكيف يكون علامة على العلم بالوضع ، فان جعله من علائم الحقيقة معناه ان يكون التبادر موجبا للعلم بالوضع وان اللفظ حقيقة في المعنى ، فما كان معلولا للعلم بالوضع كيف يكون علة للعلم بالوضع. وهل هذا إلا دور واضح؟.

٥٦

واما اذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغاير اوضح من ان يخفى (١).

ثم ان هذا فيما لو علم استناد الانسباق الى نفس اللفظ. وأما فيما احتمل استناده الى قرينة فلا يجدي أصالة عدم القرينة في احراز كون الاستناد اليه ، لا اليها ـ كما قيل ـ ، لعدم الدليل على اعتبارها الّا في احراز المراد ، لا الاستناد (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان العلم الموقوف عليه التبادر وهو العلم الاجمالي بالوضع غير الموقوف على التبادر ، وهو العلم التفصيلي بالوضع.

وتوضيحه : ان العلم الاجمالي يطلق على معان :

ـ منها : كون العلم بالعلم علما اجماليا بالخاص.

ـ ومنها : كون المعلوم بالتفصيل مرددا بين فردين ، وهو العلم المشوب بالجهل ، وهو العلم الاجمالي في مصطلح الاصوليين.

ـ ومنها : العلم الارتكازي : أي العلم الحاصل للنفس الغافلة عنه النفس ، فان كثيرا ما يحصل للشخص علم ، ولكن ليس له علم بعلمه ، وهذا هو المراد بالعلم الاجمالي في المقام.

فحينئذ نقول : ان التبادر يتوقف على هذا العلم الاجمالي ، ولذا من ليس له هذا العلم لا يتبادر ، والذي يفيده التبادر ويكون علامة له هو العلم بهذا العلم. فاذا الموقوف عليه التبادر غير الموقوف على التبادر.

(٢) لا يخفى انك قد عرفت : ان التبادر انما يكون علامة الحقيقة حيث لا تكون قرينة ، ويكون الانسباق مستندا الى حاق اللفظ ، فاذا شك في كونه مستندا الى حاق اللفظ واحتمل استناد الانسباق الى قرينة لا يكون علامة للحقيقة ، لان انحصار ما يمكن ان يكون مستندا لامرين في احدهما بخصوصه ، إنما يكون اذا علم بعدم الآخر.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقال : انه يمكن احراز عدم الامر الآخر ، وهو القرينة في المقام بالاصل ، وهو أصالة عدم القرينة فيتم المطلوب ، فانه انسباق من اللفظ من دون قرينة ، اما الانسباق فبالوجدان ، واما كونه غير مستند الى القرينة فببركة أصالة عدم القرينة.

فانه يقال : لا يجدي اصالة عدم القرينة في احراز كون التبادر مستندا الى حاق اللفظ ، فانه في مورد التبادر ، وكونه علامة للحقيقة لا مجرى لاصالة عدم القرينة ، فان مجراها لو قيل بها في مقام الشك في المراد ، لا في الاستعمال وكونه حقيقة أو مجازا.

وتوضيح ذلك : ان كيفيات الشك مختلفة : ـ

ـ منها : انه ربما يتميز المعنى الحقيقي من المعنى المجازي ، ولكن لم يعلم ان الذي اريد باللفظ من هذا الاستعمال هو معناه الحقيقي ، أو معناه المجازي ، إذ ربما نصب المستعمل قرينة وخفيت ، أو سقطت ، وفي هذا المقام يمكن ان يقال : ان العقلاء بنوا على اصالة عدم القرينة ، وحمل الكلام على معناه الحقيقي ، لو لم يناقش : في ان بناء العقلاء ليس على اصالة عدم القرينة ، بل على الظهور لو كان ، لانه فيما لو احتف الكلام بما يحتمل قرينيته لا يحملون الكلام على المعنى الحقيقي ، ولو كان بناؤهم على أصالة عدم القرينة لما كان فرق بين الشك في وجود القرينة ، والشك في قرينية الموجود.

ـ ومنها : فيما اذا لم يتميز المعنى الحقيقي من المعنى المجازي ، ولم يعلم أي المعنيين او المعاني هو الحقيقي والآخر هو المجازي. وهذا هو مورد علائم الحقيقة وعلائم المجاز ، وكون التبادر ، أو غيره من صحة الحمل وغيرها علائم للحقيقة. وليس في هذا المقام بناء من العقلاء على احراز الحقيقة باصالة عدم القرينة ، لو صح لهم بناء عليها ، ولذا قال : «لعدم الدليل على اعتبارها إلّا في احراز المراد ، لا الاستناد» : أي لا في احراز ان التبادر مستند الى حاق اللفظ.

٥٨

ثم ان عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا كذلك عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما ان صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.

والتفصيل : ان عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا بنحو من أنحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية (١) ، كما ان صحة سلبه

______________________________________________________

(١) ان من جملة علائم الحقيقة عدم صحة السلب : أي عدم صحة سلب لفظ بماله من المعنى عن آخر علامة انه حقيقة فيه في الجملة ، لا دائما.

وحيث ان مرجع عدم صحة السلب عنه الى صحة الحمل ، لذلك قال : «والتفصيل ان عدم صحة السلب عنه وصحة الحمل». وتوضيح هذا التفصيل الذي هو شرح لقوله في الجملة :

ان لنا حملا اوليا : وملاكه اتحاد الموضوع والمحمول بحسب الماهية ، سواء اتحدا بحسب المفهوم ايضا ، كالانسان والبشر : وهو المسمى بحمل الترادف ، او اختلفا بحسب المفهوم ، كالانسان والحيوان الناطق ، فانهما متحدان ماهية ، لا مفهوما ، ولذلك كان الحيوان الناطق تعريفا حقيقيا للانسان ، وشارحا لما تتركب فيه ذاته ، ومفهومه الملحوظ بنحو الجميع بما هو مسمى لفظ الانسان ، ولو اتحدا مفهوما لكان التعريف لفظيا ، لا شارحا ومبينا لحقيقته ، ولا شك ان صحة الحمل بهذا المعنى علامة الحقيقة ، لوضوح ان المتحدين ماهية يكون استعمال احدهما في الآخر حقيقيا.

والثاني ، الحمل الشائع الصناعي : وملاكه كون الموضوع والمحمول متحدين في الوجود ، لا في الماهية والمفهوم ، وهو على انحاء حمل الكليين المتساويين ، كحمل الكاتب على الضاحك ، وحمل الكليين اللذين بينهما عموم من وجه ، كالابيض والانسان ، وحمل العام على الخاص ، وهو على نحوين : حمل الكلي على فرده ،

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كحمل الانسان على زيد ، وحمل كلي على كلي اخص منه بحيث لا يكون متحملا لحصة منه كحمل الحيوان على الناطق ، فان مبدأ النطق ليس مبدأ الحيوان ، وليس الناطق متحملا لحصة من الحيوان ، بل هو فصل الحيوان الذي به يكون انسانا ، ولا شك ان حمل الكلي على فرده إنما هو لاتحاد الكلي مع الحصة الموجودة منه في ضمن الفرد ، فان الحصة هي نفس الكلي بزيادة ما اضيفت اليه الحصة ، فالكلي متحد مع الحصة اتحادا حقيقيا ، والوجود الواحد مضاف الى كل منهما بالذات. فهذا القسم من اقسام الحمل الشائع : وهو حمل الكلي على فرده علامة ان الكلي حقيقة في الفرد باعتبار حصته ومصداقيته للكلي من جهتها.

واما بقية أقسام الحمل الشائع فلا تكون علامة للحقيقة ، لان السبب في صحة الحمل ليس اتحاد الماهية ، كما في الحمل الاولي ، لان المفروض انه حمل شايع ، لا أولي ، ولا اتحاد مع الفرد باعتبار الحصة وان هناك وجودا واحدا هو وجود بالذات لكل منهما حتى يدل على كونه حقيقة من ناحية حصته ، بل السبب في صحة الحمل هو أن الموضوع والمحمول متصادقان في موجود واحد ، فالكاتب صادق على موجود يصدق عليه الضاحك ، لان مبدأ الكاتبيّة متحد مع مبدأ الضاحكية ، وكذلك الانسان والحيوان والناطق.

نعم ، الحيوان والانسان هما من قبيل الكلي والفرد ، لان الحيوان متحد مع حصته الموجودة في ضمن الانسان ، وكذلك الانسان والناطق ، فان الانسان متحد وجودا مع الناطق ، لوضوح اتحاد النوع مع فصله في الوجود وان اختلفا ماهية ، لبداهة كون ماهية الكل غير ماهية جزئه.

وقد اشار المصنف الى ما قلناه : من اختصاص العلامة بخصوص حمل الكلي على فرده من انحاء الحمل الشائع بقوله : «وبالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا ، بنحو من انحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه ، وافراده الحقيقية».

٦٠