بداية الوصول - ج ١

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-057-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٥٠٥

كذلك علامة انه ليس منهما (١) ، وان لم نقل : بأن اطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة ، بل من باب الحقيقة ، وان التصرف فيه في أمر عقلي كما

______________________________________________________

وقد علق هو (قدس‌سره) على هذا المقام بقوله : «فيما اذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا ، لا فيما إذا كانا كليين متساويين او غيرهما كما لا يخفى». انتهى (١).

(١) يعني : انه اذا لم يتصادق المحمول والموضوع اصلا ، وصح سلب احدهما عن الآخر حقيقة فلا بد ان يكونا من المتباينين ، ولا شك ان استعمال احد المتباينين في الآخر من المجاز اذا لم يكن غلطا ، اما صحة السلب بنحو عدم الحمل الاولي وحده فليس علامة المجاز لجواز صحة حمله عليه بنحو الكلي والفرد ، لا بنحو الحمل الاولي. نعم صحة السلب بنحو الجامع بين الحمل الاولي ، والكلي وفرده علامة ان كلا منهما غير متحد مع الآخر ماهية ، ولا احدهما متحد مع الآخر بحصة منه ، فلا بد وأن مبدأ كل منهما مباين مع مبدأ الآخر ، فان حمل احدهما على الآخر باعتبار انه عينه ، او متحد معه بحصة منه كان استعمالا مجازيا ، فان استعمال الضاحك في مفهوم الكاتب لا شك انه مجاز.

وقد يظهر مما ذكرنا ايضا : انه اذا لم يتحد المحمول والموضوع ، ولو بنحو التصادق على الموجود صح سلب كل منهما عن الآخر ، وكان دليلا على تباينهما ، فتكون صحة السلب ايضا علامة المجازية ، وقد اشار المصنف الى ما ذكرنا بقوله : «كما ان صحة سلبه كذلك علامة انه ليس منها» ، واذا لم يكن منها ، كان استعماله فيه مجازا.

نعم ، لا بد وان يستثنى : من كون صحة سلب الاتحاد بنحو الحمل الشائع علامة للمجاز فيما اذا كان المقصود بالحمل الشائع هو اتحاد مصداق الموضوع ومصداق المحمول ، لا فيما اذا كان الفرض كون الموضوع بنفسه من مصاديق المحمول.

__________________

(١) راجع كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس‌سره) ج ١ ، ص ٢٨ حجري.

٦١

صار اليه السكاكي (١).

واستعلام حال اللفظ وانه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر ، لما عرفت في التبادر : من التغاير بين الموقوف ، والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل ، أو الاضافة الى المستعلم والعالم ، فتأمل جيدا (٢).

______________________________________________________

وتوضيح ذلك : ان الملاك في الحمل الشائع هو اتحاد الموضوع والمحمول ، فاذا كان المفهوم في الموضوع مرآة للافراد صح الحمل في قولك : الجزئي جزئي بالحمل الشائع ، وان كان الفرض من مفهوم الموضوع نفسه لم يصح قولك : الجزئي جزئي بالحمل الشائع ، فان مفهوم الجزئي كلي بالحمل الشائع ، لا جزئي. فحينئذ صحة سلب الجزئي عن مفهوم الجزئي بهذا اللحاظ لا يكون علامة المجازية.

(١) اذا لم يصح حمل شيء على شيء بنحو الحقيقة ، وصح سلبه عنه ، كشف عن ان استعماله فيه يكون مجازيا ، سواء كان المجاز في الكلمة ، او في الاسناد ، فان المجاز في الاسناد وان كان التصرف فيه في امر عقلي واللفظ مستعمل في معناه الحقيقي ، الّا انه لا بد وان يكون ما ادعي من مصاديقه ليس من مصاديقه حقيقة ، والّا لم يكن معنى للادعاء.

(٢) يعني ان ما يورد على التبادر : من توهم الدور ، يمكن ان يورد هنا ، ويقال : ان صحة حمل شيء على شيء بنحو الحقيقة يتوقف على العلم بكونه حقيقة فيه ، فكيف يكون علامة للعلم بالحقيقة بعد ان كان موقوفا على العلم بالحقيقة. والجواب ما تقدم : من ان صحة الحمل تتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي ، وما يتوقف على صحة الحمل هو العلم التفصيلي بانه حقيقة فيه. هذا بالنسبة الى صحة الحمل عند العالم نفسه ، واما كون صحة الحمل عند العالم تدل على الحقيقة عند المستعلم ، فارتفاع الدور فيه واضح جدا.

٦٢

ثم انه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا (١).

ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها ، والّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة (٢) ، وزيادة قيد من غير تأويل ، او على وجه

______________________________________________________

(١) قد ذكر الاطراد علامة للحقيقة ، وعدمه علامة للمجاز ، وليس غرضهم من الاطراد صرف تكرار الاستعمال ، فان المجاز ايضا متكرر الاستعمال ، بل غرضهم من هذه العلامة : انها تدل على الحقيقة في مورد مخصوص وهو ما اذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد ، كاطلاق لفظ الاسد بما له من معنى كلي على زيد ، ومن المقطوع به : ان زيدا بما هو زيد ليس معنى حقيقيا للفظ ، لكنه يشك في ان الكلي الموضوع له لفظ الاسد هل هو مستعمل في زيد باعتبار انه احد مصاديقه فلا بد وان تكون حصة منه موجودة بوجود نفس زيد ، او انه مستعمل في نفس زيد مجازا ، فاذا وجدنا صحة اطلاق ذلك اللفظ ، باعتبار كليه مطردا على افراد أخر تجتمع مع زيد في نوعه كشف صحة هذا الاطلاق مطردا على ان الكلي الموضوع له اللفظ اطلاقه على هذه الافراد حقيقة ، لأن صحة اطلاق لفظ بما له من المعنى على فرد معلول لاحد امرين اما لانه موضوع لمعنى كلي هذا الفرد أحد مصاديقه الحقيقية ، او مستعمل في هذا الفرد مجازا. وحيث ان علائق المجاز غير مطردة فانا قد سبرنا علائق المجاز فوجدناها غير مطردة ، كعلاقة الكل والجزء ، والمشابهة ، وامثالها. وعليه فلا بد وان يكون سبب هذا الاطراد هو الحقيقة ، واذا استعمل ولم يكن مطردا دل على ان الاستعمال مجازي ، فالاطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز.

(٢) يشير بهذا الى الجواب عما اورده الشيخ الاعظم على هذه العلامة.

وحاصل ما اورده (قدس‌سره) : ان المجاز بلحاظ العلاقة التي سببت صحة استعماله ايضا مطرد كالحقيقة ، مثلا : المصحح لاستعمال الاسد في زيد هو علاقة المشابهة ، فكلما وجد المشابه في فرد آخر صح اطلاق الاسد عليه بهذه العلاقة.

٦٣

الحقيقة ، وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، الّا انه حينئذ لا يكون علامة لها الّا على وجه دائر ، ولا يتأتي التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ، ضرورة انه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغيره (١).

______________________________________________________

والمصنف يشير الى جوابه ، وحاصله : ان علامة المشابهة للاسد غير مطردة النوع ، فان كثيرا ما يشابه الاسد غيره من افراد الانسان ، او افراد غير الانسان من انواع الحيوان ، كالانسان المشابه للاسد في بخره او لبده او حمرة عينيه لا يحسن ، بل لا يصح اطلاق الاسد عليه.

نعم ، بملاحظة خصوص الشجاعة فاطلاق الاسد مطرد على كل فرد شابهه في الشجاعة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «والّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة».

ولكن مع ذلك يمكن ان يخدش في كون الاطراد علامة الحقيقة : انه ربما يشك في كون الاسد موضوعا للحيوان المفترس ، او لمفهوم الشجاع ، ولو كان موضوعا لمفهوم الشجاع لم يكن مطردا في غير امثال زيد من افراد الانسان الجبان ، فلا يكون عدم الاطراد علامة لان يكون استعمال الاسد في زيد مجازا ، لاحتمال كونه موضوعا لمفهوم الرجل الشجاع ، ولذا لا يطرد في غير زيد من افراد الرجل الجبان.

(١) ربما زاد بعضهم في جعل الاطراد علامة الحقيقة ، ولعل الفرق بين غير تأويل ، وعلى وجه الحقيقة : هو أن الاول اشارة الى المجاز على رأي السكاكي ، والثاني اشارة الى المجاز في الكلمة ، والظاهر انه لا فرق بينهما ، لانه في كل مجاز تأويل ، وكل مجاز ليس على نحو الحقيقة ، ولو كان على وجه الحقيقة حقيقة لما احتاج الى الادعاء.

وعلى كل حال فزيادة هذا القيد غير صحيحة ، لانه يلزم منها الدور ، لانه بعد معرفة ان الاستعمال على وجه الحقيقة لا داعي الى العلامة ، ومع عدم العلم بانه

٦٤

الثامن ـ انه للفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوز ، والاشتراك ، والتخصيص ، والنقل ، والاضمار ... لا يكاد يصار الى احدها ـ فيما اذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي ـ الّا بقرينة صارفة عنه اليه. وأما اذا دار الامر بينها ، فالاصوليون وان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها ، الّا انها استحسانية لا اعتبار بها ، الّا اذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

على وجه الحقيقة لا يكون الاطراد علامة للحقيقة ، لان الاطراد الذي هو علامة الحقيقة هو الاطراد المقيد بكونه على وجه الحقيقة ، بناء على هذه الزيادة.

فاتضح حينئذ : أن كون الاطراد علامة للحقيقة يتوقف على العلم بالحقيقة ، وفرض كونه علامة للحقيقة أن العلم بالحقيقة يتوقف عليه.

ولا يدفع : بالاجمال والتفصيل ، كما ذكر في جواب الايراد على التبادر ، وعلى صحة الحمل ، فانه لم يؤخذ فيهما قيد الحقيقة ، وانما اورد عليهما : بانهما يتوقفان على العلم بالحقيقة ، فاجيب : بأن ما يتوقفان عليه هو العلم الارتكازي ، واما في المقام فقد اخذ في نفس الاطراد العلم بالحقيقة فلزم الدور ولا مدفع له.

(١) لا يخفى ، انه تارة يدور الامر بين المعنى الحقيقي ، وأحد هذه الامور ، واخرى يدور بينهما بعد الفراغ انه لم يرد المعنى الحقيقي.

اما الأول : فدوران الامر بين المعنى الحقيقي ، والمعنى المجازي ، امثلته واضحة كثيرة ، كالاسد والقمر ـ مثلا ـ يشك انه اريد منهما الحيوان الخاص ، او الرجل الشجاع ، او الجرم المنير الخاص ، او الفتاة الحسناء بالنسبة الى القمر ، وكذلك دوران الامر بين الحقيقة والتخصيص ، فمثاله : ان (كل) ـ مثلا ـ ، او غيرها مما وضع للعموم ، هل اريد به العموم الذي هو معناه الحقيقي؟ او اريد به الخصوص فيكون العام مخصصا ببعض افراده؟ وامثلته كثيرة ايضا ، وكذا دوران الامر بين الحقيقة ،

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والاضمار واضح المثال ايضا ، كما في قول الآمر : اقصد القرية الفلانية ، فيمكن ان يراد بالقرية معناها الحقيقي ، ويمكن ان يكون مراده اهل القرية.

وأما دوران الامر بين الحقيقة والاشتراك ، فلا يخلو من غموض ، فان مرادهم من الدوران له احتمالات :

الاول : انه يكون للفظ معنى حقيقي قد وضع له اللفظ ، ولكن يحتمل ان يكون قد وضع هذا اللفظ مرة ثانية لمعنى آخر فيكون مشتركا. وهذا الاحتمال لا يخلو من بعد ، لان مورد هذه الاحوال الخمسة ، او الاكثر منها وترجيح الحقيقة عليها او بعضها على بعض : هو ما اذا كان الشك في المراد ، لا في اصل الوجود ، وانما يكون الشك في المراد فيما اذا كان الاشتراك محققا وشك في انه هل المراد المعنى الحقيقي ، أو الاشتراك ، فلو رجح الاشتراك على المعنى الحقيقي ، وقلنا : بامكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى ووقوعه يكون المراد بالمشترك جميع معانيه ، وان قلنا : بعدم امكان الاستعمال في اكثر من معنى ، او عدم وقوعه يكون المشترك مجملا.

الاحتمال الثاني : ان يدور الامر بين كون اللفظ موضوعا لمعنى عام جامع لانواع مختلفة ، أو يكون موضوعا لكل نوع من الانواع بوضع ، كلفظ العين ـ مثلا ـ هل هو موضوع للركبة والباصرة والنابعة وغيرها بخصوصها : بان يكون لكل منها وضع خاص به ، أو انه موضوع لمعنى عام جامع لهذه الامور ، وهي مصاديقه تصدق العين عليها من باب انها احد مصاديق الموضوع له؟ لا أن كل واحد منها هو الموضوع له ، وهذا في الحقيقة من دوران الامر بين الاشتراك اللفظي ، والاشتراك المعنوي. وهذا الاحتمال ـ مع انه خلاف ظاهر كلماتهم ـ ، يرد عليه ايضا : انه ليس من موارد الشك في المراد بعد تحقق الاشتراك ، بل يرجع الى الشك في اصل وجود الاشتراك.

الاحتمال الثالث : ان يكون لفظ بهيئة واحدة جمعا ويكون مفردا ، فتارة يكون مفرده مشتركا لفظيا ، كلفظ (سفر) فان مفرده مشترك بين الرجل والمسافر ، وبين الناقة المسافرة ، وبين الاثر يكون في الجلد ، واما جمعه فهو مختص بالمسافرين اما جمعا ، أو

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اسم جمع ، واخرى يكون جمعه مشتركا بين معان ، كلفظ (فلك) فانه يأتي جمعا ، وهو مشترك بين افلاك النجوم ، وجماعات الرجال المستديرة وغيرها ، واما مفرده فيختص بالسفينة ، فيدور الامر في هذا اللفظ ـ مثلا ـ بين معناه الحقيقي ، او الجمع ، وهو مشترك بين معاني ، وهذا الاحتمال ربما يكون اقربها ، ولكنه ايضا ليس من دوران الامر بين الحقيقة والاشتراك ، بل هو نفسه من الاشتراك ، غايته انه يزيد على الاشتراك في جمعه اشتراك آخر بين جمعه ومفرده.

وعلى كل حال ، فاذا دار الامر بين المعنى الحقيقي وهذه الاحوال المذكورة في المتن ، او غيرها مما لم يذكرها ، كالنسخ ، والتقييد ، والكناية ، والاستخدام ، والتضمين فالمعنى الحقيقي يترجح عليها لبناء العقلاء على الاخذ به حتى يثبت غيره.

والظاهر : ان بناءهم على ذلك حيث يكون اللفظ ظاهرا في المعنى الحقيقي ، كما هو الغالب ، والّا فلا.

واما دوران الامر بين هذه الاحوال بعضها مع بعض ، فقد ذكروا في المطولات وجوها لتقديم بعضها على بعض ، وكلها استحسانية لا تعويل عليها ما لم تكن توجب ظهور اللفظ.

نعم ، هنا امر ينبغي التنبيه عليه ، وهو : ان المشهور بنوا على ان الكناية والتضمين والتخصيص من المجاز ، وانما ذكروها في قبال المجاز لشيوعها ، فهي مجازات شايعة قد ذكرت في قبال مطلق المجاز ، ولكن في كونها من المجاز كلام.

اما الكناية ، فليست استعمال اللفظ الموضوع للملزوم في لازمه ، بل اللفظ في الكناية مستعمل في الملزوم وفي معناه الحقيقي ، غاية الامر ان الغرض منه ليس هو الملزوم نفسه ، بل لاجل الانتقال منه الى اللازم ، ولكنه مع ذلك خلاف الاصل ، لان الاصل فيما قصد استعمال اللفظ فيه ان يكون هو المقصود بالذات لذاته لا طريقا لغيره ، لان قصد الطريقية فيه تحتاج الى زيادة على قصد نفسه ، وهي قصد كونه طريقا الى غيره ، والاصل عدم وجود قصد وراء قصد نفس الذات.

٦٧

التاسع ـ انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعدمه على أقوال.

وقبل الخوض في تحقيق الحال ، لا بأس بتمهيد مقال ، وهو : ان الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه ، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما اذا وضع له بأن يقصد الحكاية عنه (١) والدلالة عليه

______________________________________________________

واما التضمين ، فهو ايضا من انواع الاستعمالات الحقيقية ، فان التضمين هو ان يكون المعنى الموضوع له اللفظ قد حصل بسبب غير سببه العادي ، كالمخالفة لما امر به المولى فانها على الغالب السبب في حصولها هو الشهوات وعدم ملائمة المأمور به المكلف ، وربما يكون السبب فيها هو اعراض العبد عن مولاه ، وحيث ان الاعراض يتعدى بعن فيعدون المخالفة بعن للدلالة على ذلك ، والّا فالمخالفة تتعدى بنفسها ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(١) ، فالمخالفة في الآية الكريمة قد استعملت في معناه ولم تستعمل في معنى الاعراض ، ولكن التضمين وان كان من انواع الاستعمالات الحقيقية الّا انه لا يصار اليه الّا بقرينة ، لان غير الغالب في الاستعمالات يحتاج الى دليل وقرينة.

واما التخصيص ، فقد ذهب بعض المحققين المتأخرين : ان العام اذا اريد به الخاص لم يكن مستعملا في الخاص ، بل هو مستعمل في العام دائما وان اريد به الخاص ، لان التخصيص يتعلق بالارادة اللبية الجدية ، لا بالارادة الاستعمالية. وسيأتي تحقيقه في مبحث العام والخاص ان شاء الله.

(١) لا يخفى انه لا بد من بيان امور تمهيدا للمقام :

الاول : ان محل الكلام في الحقيقة الشرعية ، هل هي خصوص الماهيات المخترعة ، او الأعم منها ، فان الالفاظ المستعملة في لسان الشارع وقد رتب عليها احكامه على اقسام :

__________________

(١) النور : الآية ٦٣.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ منها : الموضوعات الخارجية كالدم ، والميتة ، والعذرة ، وأمثال هذه الالفاظ ، فانه لا اشكال في انها مستعملة في معانيها اللغوية ، وليس للشارع حقيقة شرعية فيها قطعا.

ـ ومنها : الامور التي وقع الامضاء لها في لسان الشارع كالفاظ المعاملات مثل : البيع والاجارة وامثالهما ، والظاهر انها لا حقيقة شرعية لها ، فان الشارع استعملها بما لها من المعنى في لسان اللغة والعرف. نعم ، اعتبر فيها شروطا وموانع ولم يخترع لها معاني استعمل اللفظ فيها ، فهي خارجة عن محل النزاع وان كان يظهر من القوانين دخولها في محل النزاع.

ـ ومنها : الماهيات المخترعة كالصلاة ، والصوم ، والحج وامثالها وهي محل النزاع ، فانه لا شبهة أن الشارع اخترع هذه الماهيات ، واستعمل اللفظ فيها ، فهل كان استعماله فيها بنحو الحقيقة ، او بنحو المجاز ومناسبتها لمعانيها اللغوية؟

الامر الثاني : ان الاقوال في المسألة ثلاثة :

ـ الاول : ثبوت الحقيقة الشرعية.

ـ الثاني : عدم ثبوتها وان الاستعمال كان مجازا.

ـ الثالث : ان هذه الماهيات المخترعة لم يستعمل الشارع اللفظ فيها بما هي هي ، وانما الاستعمال فيها كان بعنوان انها احد المصاديق للمعنى الذي وضع له اللفظ في اللغة ، فان الصلاة موضوعة في اللغة للعطف ، او الدعاء ـ كما يدعيه القاضي الباقلاني ـ واستعملت في هذه الماهية المخترعة ، لانها مصداق للدعاء.

الامر الثالث : ان الحقيقة الشرعية التي هي محل النزاع : هو وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الالفاظ لهذه المعاني ، وعدم وضعه لها ، إما بالوضع التعييني ، او بالوضع التعيّني الحاصل من كثرة الاستعمال بنفسه ، او بمشاركة متابعيه له في الاستعمال حتى صارت حقيقة في عهده وزمانه بحيث صارت حقيقة في هذه المعاني عنده وصار يطلقها عليها بنحو الحقيقة.

٦٩

بنفسه لا بالقرينة ، وان كان لا بد ـ حينئذ ـ من نصب قرينة ، الّا انه للدلالة على ذلك ، لا على ارادة المعنى كما في المجاز. فافهم. وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز (١) ،

______________________________________________________

الامر الرابع : هو ما ذكره في المتن تمهيدا ، وحاصله : ان الوضع التعييني كما يحصل بانشاء الواضع بقوله : وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى ، كذلك يحصل بنحو آخر وهو ان يستعمل الواضع اللفظ في معناه لا بعناية المعنى اللغوي حتى يكون مجازا ، بل يستعمله فيه ويخطر المعنى به بقصد ان يتسبب بهذا الاستعمال إلى انشاء الوضع وجعل العلقة بين اللفظ والمعنى ، فان جعل العلقة كما يحصل بانشائها بلفظ (وضعت) كذلك يحصل بجعل اللفظ حاكيا عن المعنى لا بملاحظة العلاقة والعناية : بان يقصد الحكاية عن المعنى والدلالة عليه بنفس اللفظ لا بالقرينة. وحيث ان هذا الاستعمال لم يكن مسبوقا بالوضع حتى لا يحتاج إلى القرينة ، وليس بمجاز حتى يحتاج إلى القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والمعينة للمعنى المجازي فهو ـ حينئذ ـ يحتاج إلى قرينة دالة على ان المقصود بهذا الاستعمال : ان يدل اللفظ على المعنى بنفسه لغرض انشاء الوضع به وتحقق العلقة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لا بالقرينة» : أي لا بالقرينة المجازية «وان كان لا بد من نصب قرينة» لانه ليس استعمالا حقيقيا مسبوقا بالوضع حتى يستغني عن القرينة ، إلّا ان القرينة يحتاج اليها «للدلالة على ذلك» : أي على ان المقصود به الحكاية بنفسه لغرض انشاء الوضع وليس هي قرينة المجاز.

(١) هذا هو تعريف المشهور للمعنى ، ويظهر من هذا التعريف : ان الحقيقة هي دلالة اللفظ بنفسه على المعنى ، : أي انه في الاستعمال الحقيقي يكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى ، وفي المعنى المجازي تكون الدلالة مشتركة بين اللفظ والقرينة.

وربما يدعى ان الدلالة في الحقيقة والمجاز على نحو واحد ، وان اللفظ في كلا المقامين بنفسه دالّ على المعنى ، الّا ان دلالته على الحقيقة بسبب الوضع وجعل

٧٠

فلا يكون بحقيقة ولا مجاز .. غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره. وقد عرفت سابقا : أنه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.

اذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا (١).

______________________________________________________

العلقة بينه وبين المعنى ، وفي المجاز ايضا يدل بنفسه ، الّا ان القرينة تجعله دالا ، والّا فالقرينة كالوضع خارجة عن الاشتراك في الدلالة ، واللفظ في المقامين دال بنفسه.

ولكن ، يمكن ان يقال : ان الامر ليس كذلك ، بل القرينة في المجاز لها نحو شركة في الدلالة.

وتوضيح ذلك : ان اللفظ اذا وضع للمعنى حدثت العلقة بينه وبين المعنى وصار له اقتضاء بواسطة الجعل لأن يدل على المعنى وصار له بواسطة هذا الجعل مناسبة مع المعنى المجازي ، لمناسبة المعنى المجازي مع المعنى الحقيقي ، فله اقتضاء ايضا للدلالة على المعنى المجازي ، الّا ان اقتضاءه للدلالة على المعنى الحقيقي يكون فعليا ومؤثرا بمجرد الاستعمال ، وعدم القرينة المانعة عن تأثير هذا الاقتضاء ، وفي المجاز تكون فعلية هذا الاقتضاء مشروطة بالقرينة. فاذا للقرينة نحو شركة في الدلالة ، لان الفعلية منوطة بها ، فلذلك قالوا : ان في الحقيقة اللفظ دال على المعنى في نفسه ، لأن فعلية التأثير لا تحتاج الى شرط ، بل عدم المانع كاف في الفعلية والتأثير ، وفي المجاز ليس كذلك فان الفعلية فيه مشروطة بالقرينة.

(١) اعلم : انه قد اورد على ما ذكره المصنف ـ من الوضع التعييني بنحو استعمال اللفظ في المعنى وجعله حاكيا بنفسه ـ بايرادين : اشار الى احدهما في المتن ، ولم يشر الى الآخر.

اما الذي لم يشر اليه : فهو ان الحكاية في مقام استعمال اللفظ في المعنى منظورة بالنظر الآلي ، فانه حين يقصد احضار المعنى باللفظ يجعل اللفظ مرآة للمعنى ،

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

فالحكاية التي هي مرآتية اللفظ للمعنى منظورة آلة وطريقا للمعنى ، فهي منظورة بالنظر الآلي ، واما في مقام الوضع فحكاية اللفظ عن المعنى منظورة بالنظر الاستقلالي ، فان جعل العلقة بين اللفظ والمعنى معناه : انه يجعل للفظ صفة الحكاية به عن المعنى ، ففي مرحلة الوضع يجعله قابلا لان يحكي بالفعل في مرحلة الاستعمال ، فالمجعول له صفة الحكاية والقابلية لان يكون حاكيا في مرحلة الاستعمال ، فصفة الحكاية منظورة بنفسها في مرحلة الوضع ، لان الوضع معناه اعطاء هذه الصفة للفظ ، فلا بد من ان تكون منظورة بالاستقلال ، فاذا أراد ان يعطيه هذه الصفة بنفس الحكاية الآلية فلازمه انه قد نظر الى هذه الحكاية بالنظر الاستقلالي ايضا فيجتمع في الحكاية النظر الآلي في مرحلة الاستعمال ، والنظر الاستقلالي في مرحلة الوضع ، فيجتمع اللحاظان في واحد باستعمال واحد.

والجواب عنه : ان هنا حكايتين : : إحداهما ، ما هي حكاية بالحمل الشائع ، وهي الحكاية في مرحلة الاستعمال. والثانية ، وهي الحكاية بالحمل الاولي ، وهي جعل اللفظ حاكيا وهي الوضع ، وهذه هي التي قصد انشاؤها بتوسط استعمال اللفظ في المعنى وهي التي اريد التسبب الى ايجادها بالحكاية الاستعمالية الآلية ، فالمنظور بالاستقلال حكاية اخرى غير الحكاية المنظورة بالنظر الآلي.

والايراد الذي اشار اليه في المتن بقوله : «وكون استعمال ... الخ» حاصله : ان استعمال اللفظ في المعنى اما بنحو الحقيقة ، او بنحو المجاز ، وحيث ان المفروض ان الاستعمال لا بلحاظ العلاقة فليس بمجاز ولا حقيقة ايضا ، لان الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ فيما وضع له ، والمفروض ان الوضع في المقام يترتب على هذا الاستعمال فلا يكون سابقا عليه حتى يكون من استعمال اللفظ فيما وضع له فهذا الاستعمال غير صحيح ، وما يترتب على ما ليس بصحيح ليس صحيحا.

والجواب عنه : اولا : انه لم يقم برهان على انحصار الاستعمالات الصحيحة في الاستعمال الحقيقي والمجازي ، بل المدار في صحة الاستعمال ان يكون استعمالا يقبله

٧٢

ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته (١).

ويؤيد ذلك انه ربما لا تكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية ، فأي علاقة بين الصلاة شرعا ، والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما ، كما لا يخفى (٢). هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

______________________________________________________

الطبع ، ولا ينكره ، وقد تقدم : ان استعمال اللفظ في نوعه وصنفه ليس من الحقيقة ولا المجاز ، وهو من الاستعمالات الصحيحة ، واما صحته فلأن القائل ان زيدا لفظ لا يكون ممن استعمل استعمالا غلطا ، واما انه ليس بحقيقة ولا مجاز فلانه يجري في المهملات التي لا وضع لها كديز لفظ ـ مثلا ـ. والى هذا اشار ـ في المتن ـ بقوله : «غير ضائر بعد ما كان ... الخ».

وثانيا : ان الوضع هو المنشأ بهذا الاستعمال ، فحين الاستعمال هو حين الوضع ، فهو من الاستعمال الحقيقي ، فان الاستعمال الحقيقي ليس الّا استعمال اللفظ فيما وضع اللفظ له ، والمفروض انه قد حصل الوضع بنفس هذا الاستعمال ، فاللفظ قد استعمل في الموضوع له ولا يحتاج الاستعمال الحقيقي الى تقدم الوضع عليه بالزمان ، ولم يشر المصنف الى هذا الجواب كما لا يخفى.

(١) لا يخفى ان الدليل على الحقيقة الشرعية تبادر نفس الشارع ، وأنى لنا بمعرفة ان الشارع كان يتبادر منها الحقيقة ، واما تبادر المتشرعة فهو دليل على الحقيقة المتشرعية.

(٢) حاصل هذا التأييد : انه بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية يلزمه ان يكون الاستعمال في هذه المعاني المخترعة مجازا ، وهو يحتاج الى العلاقة ، والعلاقة المناسبة لهذا الاستعمال المجازي على فرضه هي علاقة الكل والجزء ، وقد قالوا : ان علاقة الكل والجزء انما هي فيما اذا كان التركيب حقيقيا ، كتركب الانسان من النفس والبدن ، وايضا مشروطة : بانه مما ينتفي الكل بانتفائه ، كالرقبة والانسان ، وفي المقام

٧٣

وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ـ كما هو قضية غير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ ...) وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) ، وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ... الى غير ذلك ـ فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية ، واختلاف الشرائع فيها جزء وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

التركيب اعتباري لا حقيقي ، وايضا لا تنتفي الصلاة بانتفاء الدعاء فيها ، والى هذا اشار بقوله : «ومجرد ثبوت اشتمال الصلاة على الدعاء ... الخ».

ويرد على هذا التأييد : اولا : انه لا يشترط التركيب الحقيقي في علاقة الكل والجزء ، كاستعمال لفظ البيت او الدار في الغرفة الكبيرة اذا كانت اهم مرافق البيت.

وثانيا : ان ما ينتفي الكل بانتفائه ليس هو الملاك في صحة الاستعمال ، فان القلب مما ينتفي البدن بانتفائه ، ولا يحسن ان يقال : اعتق قلبا : أي اعتق انسانا ، بل المدار في علاقة الكل وسائر العلاقات المجازية ان تكون مما يستحسنها الذوق ، واستعمال الصلاة بناء على كونها موضوعة للدعاء من هذه المعاني المخترعة مما يستحسنها الطبع والذوق ، ولعله لذلك ذكره تأييدا.

(١) فانه بناء على كون هذه الالفاظ موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة ، تكون حقيقة فيها ، ولكنها تكون حقائق لغوية فيلغو النزاع : في انها مستعملة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المعاني اللغوية ، او في المعاني المخترعة مجازا ، بل نفس المعاني المخترعة تكون هي معاني لغوية حقيقة ، فلا مجال لهذا النزاع في الحقيقة الشرعية.

فان قلت : ان الصلاة ـ مثلا ـ في شريعتنا ذات اجزاء وشرائط ليست هي الاجزاء والشرائط في الشرائع السابقة ، فيأتي النزاع في ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعها لهذه الاجزاء والشرائط ام انه استعملها فيها مجازا بمناسبة معانيها في الشرائع السابقة.

٧٤

ثم لا يذهب عليك انه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ، فضلا عن القطع ، بكونها حقائق شرعية ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (١)

______________________________________________________

. فانه يقال : انها بعد ان كانت موضوعة للمعاني المركبة من عدة اشياء ، لا للدعاء ، أو العطف ، فاختلاف الاجزاء والشرائط بين شريعتنا ، والشرائع السابقة من قبيل اختلافها في شرعنا من صلاة المريض والمختار ، والاختلاف في محققات المفهوم لا يقتضي تجدد الوضع ، فان لفظ الميزان ـ مثلا ـ موضوع لما يوزن به ، فما يوزن به المواد الموزونة ميزان ، وما يوزن به الاعمال يوم القيامة ايضا ميزان ، لا أن الميزان مستعمل فيما توزن به الاعمال استعمالا مجازيا. إلّا ان الشأن في اصل الدعوى : وهو كون هذه الالفاظ بنفسها موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة. وكيف ذلك والشرائع السابقة ليست لغتها عربية ، بل سريانية وعبرية وغير ذلك من اللغات. فالظاهر من هذه الآيات المباركة ان هذه المعاني التي كلفهم بها كانت مكتوبة ومكلف بها غيرهم من الامم السابقة في الشرائع المتقدمة ، لان هذه المعاني قد وقع التكليف بها بما انها موضوع لها هذه الالفاظ كما هو واضح.

(١) حاصله : انه اذا احتملنا هذا الاحتمال ، وانها موضوعة لهذه المعاني في الشرائع السابقة ، لا دلالة لما ذكر من الوجوه ، وهو التبادر ، والتأييد المذكور ، أو عدم صحة السلب عن هذه المعاني على الحقيقة الشرعية ، فان هذه الوجوه تدل على ان هذه المعاني موضوعة لها هذه الالفاظ ، لا أن الواضع لها هو الشارع ، وانما كانت تدل على ذلك حيث يعلم قطعا : بان هذه المعاني ليست حقائق لهذه الالفاظ قبل زمان الشارع ، ثم صارت حقائق لها عنده ، فيكشف بالقطع انه هو الواضع ، اما مع هذا الاحتمال ، فلا كاشف قطعي : من ان الواضع هو الشارع ، وان كشفت هذه الوجوه عن انها حقائق لها.

٧٥

لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه (١).

ومنه انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه (٢). ومع الغض عنه ، فالانصاف : ان منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ، ولسان تابعيه مكابرة.

نعم ، حصوله في خصوص لسانه ممنوع. فتأمل (٣).

______________________________________________________

(١) أي لو سلمنا : ان الوجوه التي ذكرت تدل على الحقيقة الشرعية ، لكنها انما تدل على الحقيقة الشرعية لو لا احتمال كونها حقائق في الشرائع السابقة ، فقيد لولاه يعود الى هذا الاحتمال ، وقوله : «لو سلم» لعله اشارة الى ما ذكرنا : من الخدشة في دلالة الوجوه التي ذكرت لثبوت الحقيقة الشرعية ، والله العالم.

(٢) لوضوح : انه بعد ما ذكر : من دعوى الوضع لها في الشرائع السابقة اما قطعا ، او احتمالا لا معنى لدعوى الوضع التعيني ، لانه يتوقف على الاستعمال المجازي مدة حتى يحصل الاستيناس اولا ، ثم يشتد فيكون حقيقة ، ومع كونها مستعملة حقيقة في لسان الشارع لجريه على نهج الشرائع السابقة في استعمال هذه الالفاظ حقيقة فيها لوضعها لها عندهم قبل شرعنا ، فلا معنى لدعوى الوضع التعيني.

(٣) أي لو اغمضنا النظر عما ذكر في دلالة الآيات المباركة على كونها موضوعة لهذه المعاني ـ فيما سبق ـ ، فدعوى حصول الوضع التعيني لهذه الالفاظ في هذه المعاني مقبولة جدا بواسطة كثرة استعمالها في لسان الشارع ، ولسان متابعيه استعمالا كثيرا جدا ، ومستمرا في كل وقت بمدة تزيد على العشرين سنة. ومنع هذه الدعوى مكابرة قطعا ، ولا ينافي ان هذا ـ اصطلاحا ـ غير الحقيقة الشرعية ، التي معناها وضع الشارع لها نفسه ، إلّا ان النتيجة ، والثمرة مترتبة على هذا الوضع التعيني ، كما تترتب على وضع الشارع نفسه كما هو واضح.

ولعل الامر بالتأمل اشارة الى ان النافع هو حصول الوضع التعيني في عهد الشارع بحيث ان الشارع نفسه بواسطة كثرة الاستعمال صار يستعملها في هذه المعاني

٧٦

وأما الثمرة بين القولين ، فتظهر : في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع ، بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت ، فيما اذا علم تأخر الاستعمال (١). وفيما اذا جهل التأريخ ، ففيه اشكال. واصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها

______________________________________________________

استعمالا حقيقيا ، لأنها صارت موضوعة بالوضع التعيني ، ويكفي الشك في حصول الوضع التعيني عند الشارع ، وربما لا يكون مدعيها مكابرا.

(١) ظاهر ما ذكره (قدس‌سره) : ان الثمرة بين القول بالحقيقة الشرعية وعدمها : هي حمل هذه الالفاظ اذا وقعت في كلام الشارع من غير قرينة على معانيها اللغوية ، حيث لا نقول بالحقيقة الشرعية ، ونقول : بعدم ثبوتها ، ومع القول بالحقيقة الشرعية تحمل على معانيها الشرعية ، حيث يعلم ان استعمال الشارع لهذه الالفاظ قد تأخر عن الوضع ، اما لو لم نعلم بتأخر الاستعمال عن الوضع ، فلا تظهر ثمرة لمن يدعي ثبوت الحقيقة الشرعية ، لاحتمال كون هذا الاستعمال قبل الوضع ، وقبله لا حقيقة شرعية ، والادلة التي ذكرت للحقيقة الشرعية تدل على ان الاستعمال بعد الوضع حقيقي ، لا فيما قبل الوضع ، وهو واضح.

ويمكن ان يقال : ان هذه الثمرة ، وهي الحمل على المعنى اللغوي ، بناء على الانكار ، وعلى المعنى الشرعي ، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية انما تتم حيث نقول : بأنه اذا دار الامر بين الحمل على المعنى الحقيقي ، والمجاز المشهور يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، واما لو قيل بمذهب المشهور : وهو التوقف فيما اذا دار الامر بينهما ، فالثمرة تكون بنحو آخر وهي هكذا : انه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل هذه الالفاظ في كلام الشارع على المعاني الشرعية المخترعة ، واما بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فالتوقف ، لان احتمال استعمالها مجازا في هذه المعاني في عرض احتمال استعمالها في الحقائق اللغوية.

٧٧

بأصالة تأخر الوضع لا دليل على اعتبارها تعبدا ، الا على القول بالاصل المثبت ، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت : ان القائل بثبوت الحقيقة الشرعية انما تتم عنده في حمل كلام الشارع على المعاني المخترعة فيما اذا علم ان استعمال الشارع قد تأخر عن وضع هذه الالفاظ لهذه المعاني عنده ، واما لو جهل تأريخ الاستعمال ولم يعلم انه تقدم على الوضع حتى لا يحمل على المعاني المخترعة ، بل يتوقف ، ام تأخر حتى يحمل عليها ، فهل هناك أصل يحرز تأخر الاستعمال عن الوضع حتى يحمل كلامه على هذه المعاني دائما ، ام لا حتى يتوقف؟

فقد يقال : بأن أصالة تأخر الاستعمال ، وهي اصالة تأخر الحادث تحرز ذلك فان الاستعمال حادث ، والاصل تأخره الى زمان يقطع بكونه بعد زمان الوضع ، فاذا احرز تأخر الاستعمال عن زمان الوضع ببركة هذا الاصل يحمل كلامه على هذه المعاني لما عرفت : من انه كلما احرزنا تأخر الاستعمال عن الوضع ترتبت ثمرة القول بالحقيقة الشرعية.

إلّا ان هذا الاصل لا يجري ، ولو جرى لا ينفع ، لان الوضع ايضا حادث ، فالاصل عدمه ايضا الى ما بعد زمان الاستعمال ، فلازمه التوقف ويتعارض الاصلان ، فلا تترتب ثمرة القول بالحقيقة الشرعية.

واما عدم جريانه ، فلأن المراد بهذا الاصل إما الاستصحاب ، وهو المستفاد من دليل لا تنقض ، أو أصالة العدم الثابتة ببناء العقلاء ، كاصالة وجود المانع ، واصالة عدم القرينة ، وامثال هذه الاصول العدمية التي مرجعها الى اصالة العدم فيما شك في تحققه. وكلاهما غير جاريين في المقام.

اما الاصل الشرعي التعبدي الذي اشار اليه المصنف بقوله : «لا دليل على اعتبارها تعبدا» ففيه :

اولا : ما عرفت : من انه لو جرى في الاستعمال لجرى في الوضع فيتعارضان.

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيا : انه اذا كان كلا الأمرين : من الاستعمال ، والوضع مجهولي التأريخ ، فسيأتي في الاستصحاب عدم جريان الاستصحاب من رأس في مجهولي التأريخ عند جماعة منهم المصنف ، لا أنه يجري ويتساقط بالمعارضة لعدم اتصال زمان الشك باليقين.

وثالثا : انه يشترط في جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب اما بنفسه مجعولا ، كحرمة الخمر ـ مثلا ـ ، أو يكون للمستصحب اثر مجعول بلا واسطة ، كخمرية الخمر ـ مثلا ـ ، والمستصحب في المقام ليس مجعولا شرعيا ، ولا له اثر مجعول بلا واسطة. نعم يترتب اثر مجعول بعد ترتب وسائط كلها غير مجعولة ، فهو من الاصل المثبت وعدم حجيته في الجملة ـ كما سيأتي بيانه ان شاء الله في محله ـ وذلك لوضوح ان المستصحب هو تأخر الاستعمال ، وهو غير مجعول شرعي ، ولازمه تقدم الوضع ، وهو غير مجعول ايضا ، ولازمه كون هذه الالفاظ محمولة على المعاني الحقيقة الموضوعة لها ولازمه ظهورها في ذلك ، ولازمه حجية هذا الظهور ، ولازمه ترتب الحكم بعد ذلك. هذا في الاصل الشرعي التعبدي.

واما الاصل العقلائي الذي أشار اليه بقوله : «ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر» فحاصله : ان العقلاء بنوا على اصالة العدم في موارد خاصة وليس كل ما شك فيه بنى العقلاء على اصالة العدم ، فان اصالة عدم المانع ـ مثلا ـ بنوا عليها فيما لو شك في اصل وجود المانع ، لا فيما اذا شك في مانعية الموجود ، وكذلك اصالة عدم القرينة فانهم لو تم لهم بناء عليها فانما هو فيما لو شك في اصل وجود القرينة لا في قرينية الموجود ، وفي المقام وهو الشك في تأخر الاستعمال عن الوضع لم يحرز من العقلاء على عدم الاستعمال وتأخره عن الوضع.

٧٩

واصالة عدم النقل انما كانت معتبرة فيما اذا شك في اصل النقل ، لا في تأخره. فتأمل (١).

العاشر انه وقع الخلاف : في ان الفاظ العبادات اسام لخصوص الصحيحة او الأعم منها؟.

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا ينبغي ان يقال : انه اذا لم تجر أصالة تأخر الاستعمال ، فلا يحرز بها تقدم الوضع على الاستعمال ، فينبغي ان تجري اصالة عدم النقل فيحرز بها ان هذه الالفاظ باقية على معانيها اللغوية ، ولم تنقل الى هذه المعاني المخترعة الشرعية ، فلازمه حمل الشارع على المعاني اللغوية ، لا على المعاني الشرعية.

فان هذا الاصل ، وهو اصالة عدم النقل التي هي من جملة الاصول الثابتة ببناء العقلاء ليس محلها ايضا فيما اذا شك في تأخر الوضع عن الاستعمال ، فتجري اصالة عدم النقل فيحرز بها تأخر الوضع : أي النقل الى هذه المعاني ، ولازمه تقدم الاستعمال فيحمل على المعنى اللغوي ، فان اصالة عدم النقل لها موارد ثلاثة تجري في موردين ولا تجري في الثالث الذي هو مقامنا.

الاول : ما علم كون اللفظ موضوعا لمعنى وشك في نقله الى معنى آخر. ففي هذا المورد تجري ، ولكن ليس هو من مقامنا.

الثاني : ما علم كونه حقيقة في معنى معلوم له فعلا ، إلّا انه لم يعلم ان هذا المعنى الحقيقي الفعلي هل هو معناه الاصلي الاولي ، أو انه كان موضوعا لمعنى آخر ثم نقل الى هذا المعنى الفعلي؟ وأيضا تجري في هذا ، ولكن ليس من مقامنا.

الثالث : ما اذا علم انه موضوع لمعنى في اللغة وعلم انه قد نقل الى معنى آخر ، ولكن شك في تأريخ النقل ، وهو مقامنا ، إلّا انه لم يحرز بناء من العقلاء على اصالة عدم النقل في هذا الثالث ، وقد اشار الى الاولين بقوله : «انما كانت معتبرة فيما اذا شك في اصل النقل» والى الثالث بقوله : «لا في تأخره».

٨٠