الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

حول اثبات الصانع لرأيت بأم عينيك كيف يجمعون على الاستدلال للخالق بوجود النظام لا بالجهل بالاسباب والعلل حتى ان المهاجر وخوارق العادة التي تظهر على أيدي نخبة من البشر ليست ـ في منطقهم ـ مما تخلو من علة بالمرة بل لا تستند إلى علل عادية (١).

* * *

ثالثاً) : ان هذه الفرضية تقوم على أساس أن البشر كان يعرف ، بل ويعتقد بقانون العلية ، وهذا هو يعني ان الانسان البدائي لما كان يجهل العلل الواقعية للظواهر الطبيعية آل به هذا الاعتقاد الى اختراع فكرة «خالق الكون» واحلالها محل العلل الطبيعية التي كان يجعلها ، حتى يرضى وجدانه الذي يلح عليه بنسبة كل ظاهرة الى علة.

فلو كان البشر البدائي مدركاً ـ بهذه المنزلة ـ لقانون العلية فلم لا يكون اعتقاده بالله ، ناشئاً عن اذعانه بأن النظام الرائع السائد في الكون الذي لا ينفك عن تأثير بعض أجزائه في بعض ، وانسجام بعضه مع بعض ، قد وجد بفعل قوّة عالمة ، وعارفة بالسنن والقوانين الكونية اللازمة.

نعم ربما يوجد بين بعض البسطاء السذج من المؤمنين بالله من أقام أو يقيم «القوة العليا» مقام العلل الطبيعية غير أن تفسير «الاتجاه الديني» الذي شمل العالم البشري طيلة قرون مديدة ، وسار في ركبه ملايين البشر ، وآلاف الالاف من العظماء والنوابن من المفكرين ، بمثل هذه الامور الصادرة عن بعض السذج والبسطاء ، في غاية السخافة ومنتهی الظلم.

ولأجل ذلك سيوافيك ـ في بعض الفصول القادمة ـ ان الالهي لا يبحث

__________________

(١) سيوافيك بحث المعجزة في الأجزاء التالية من هذه المجموعة العقائدية ان شاء الله.

٤١

عن الله ، ولا يثبته من خلال المجهولات أو الحالات الاستثنائية الشاذة عن النظام وانما يطلبه ويتوصل اليه ويثبته من خلال الامور المنتظمة التي لا يمكن أن تفسّر الا في اطار العلم والعقل.

* * *

القرآن ونظرية الجهل

والعجب من أصحاب هذه النظرية أنهم يفترون على رجال الوحي الكذب فيدّعون بان الجهل بالعلل الطبيعية الحقيقية هو أساس دعوتهم إلى الله ، وانهم لاجل عدم وقوفهم عليها صوروا لها «علة واحدة» أسموها بالله مع ان القرآن الكريم يحارب الجهل أشد المحاربة ويمنع أتباعه من الاعتقاد بشيء بدون علم.

يقول سبحانه :

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الاسراء ـ ٣)

بل ولا يكتفي بهذا القدر ، فهو يستدل على وجوده سبحانه بالنظام السائد في الطبيعة والكون ، ويطلب من المؤمنين النظر في الطبيعة واستجلاء أسرارها وفهم قوانينها اذ يقول :

أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية ١٧ ـ ٢٠)

ويعود ليدعو المؤمنين ـ في آيات اخرى ـ الى النظر في آيات وجوده ووحدانيته في الأرض والسماء اذ يقول :

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

٤٢

لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران ١٩٠ ـ ١٩١)

فكيف يجز لاصحاب هذه النظرية ـ والحال هذه ـ آن يفتروا على أصحاب الرسالات الالهية بان عدوتهم الى الله سبحانه لم يكن الّا بسبب جهلهم بالعلل الطبيعية ، والاسباب الواقعية للظواهر الكونية.

وما ذكرناه من الايات ما هو سوى نماذج قليلة من الايات البارزة حول هذه الحقيقة.

ثم ان القرآن يصرّح بأن العلماء السم الذين يخشون الله دون غير هم اذ يقول :

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر ـ ٢٨)

وللوقوف على مدلول الاية بصورة كاملة نقول : أن هناك ثلاثة مفاهيم : الجبن ، الخشية ، والخوف ، والذي يقصده سبحانه في الآية هو الخشية والخوف منه سبحانه لا الجبن الذي هو في مقابل الشجاعة.

فان الجبن أمر مذموم لانها حالة تسيطر على الانسان لاجل تجنبه للامور المرعبة غير الواقعية كالخوف من الغول ، أو الظلمة الموجودة في قبو مع العلم بعدم وجود ما يخيف حقيقة.

وأما الخشية فهي عبارة عن احساس الإنسان بالعظمة الالهية التي تملأ الصدور والنفوس مهابة عند مشاهدة عظيم خلقه ، وجليل فعله.

وهذا الأمر مسبّب عن علم الانسان بالعظمة الالهية لا جهله ، ووعيه ، لا توهمه ، وتخيّله.

٤٣

وأما الخوف منه سبحانه فلاجل ان الانسان العاقل يخاف في قرارة نفسه أن لا يقوم بما عليه من وظائف العبودية تجاه ذلك الرب العظيم.

فالمراد في هذه الآية اذن هو الخشية والخوف منه سبحانه الناشئين مما ذكر ، لا الجبن الذي يقابل الشجاعة ، ويضاددها.

على هامش فرضیتی الخوف والجهل

تلخصت الفرضيتان المذكورتان في الق الانسان اخترع فكرة «الاله الأعلى» وعكف على عبادته وذهب الى تقديسه تحت دافع الخوف وعامل الجهل ، ولقد عرفت ما يرد عليهما من اشكالات.

ونعود هنا لندرس هاتين الفرضيتين من غير الزاوية التي درسناها سابقاً فنقول : ان هاتين الفرضيتين لا يمكن الركون اليهما لعدّة أسباب ، مضافاً الى ما ذكرناه في البحث السابق :

اولا : لو كانت فكرة الاله وعبادته والخضوع له والاثار في سبيله والاعتقاد بالمسؤولية تجاهه من ولائد الجهل البشري بالاسباب الطبيعية والخوف من الحوادث الكونية المرعبة فلماذا نجد هي الفكرة قائمة حتى في المجتمعات الحاضرة رغم انتفاء دواعيها من الجهل والخوف ، حيث لا جهل بسبب ما اكتشفته العلوم من العلل الطبيعية ، ولا خوف بسبب تغلب الانسان الحديث على أكثر حوادث الطبيعة ، وتمكنه من تجنب أضرارها وأخطارها.

فما الذي يفسّر بقاء فكرة «الاله المعبود المقدّس» بين المجتمعات الحاضرة ، والاحساس بالمسؤولية تجاهه والسعي لتحصیل رضاه ، وما يلحق كل ذلك من الاعتقادات والممارسات العملية الدينية وقد زال الجهل والخوف؟

اليس بقاء هذا الامر ـ مع زوال ما قيل عن علته ـ يعدّ دليلا واضحاً و

٤٤

برهاناً ساطعاً على أن هناك عاملا آخر ، غیر عامل الجهل والخوف ، وراء نشأة فكرة «الاله المعبود» هو الذي دفع الذهن الانساني الى الالتزام بهذه الفكرة والمعتقد الى اليوم؟

ولو قيل : صحيح أن العلماء والمفكرين في هذا العصر تغلبوا على الطبيعة وكبحوا جماحها ، وعرفوا اسرارها وعللها وتحرروا من الجهل والخوف ، ولكنهم ورثوا فكرة «الاله المعبود» من آبائهم وأسلافهم ، ولم يستطيعوا التخلص منها والتحرر من رواسبها.

فاننا نقول : وهل هذا الا ازدراء بمثل هؤلاء العلماء والمفكرين ، واحتقار لشأنهم ، وتجاهل لما هم عليه من سداد الفكر ، ورشادة العقل ، وقوة التحليل التي تأبى التقليد الأعمى ، وترفض التبعية الجاهلة.

هذا مضافاً إلى ما يرد على هذا الرأي من اشكالات سوف نذكرها عند مناقشة نظرية توارث العقيدة قريباً.

* * *

ثانياً : لو كانت علة نشوء العقيدة الدينية في النفوس هي الجهل والخوف من دون دخالة أي عامل عقلاني وفكري لوجب أن يكون مثل هذا الاعتقاد سارياً بين جميع دواب الأرض وحيواناتها ، وان يصدر من الحيوانات كل ما يصدر عن الانسان المعتقد المتدین من عبادة الله ، والايثار في سبيله والاحساس بالمسؤولية تجاهه مع ان البداهة تقضي ببطلان هذا الامر (١).

__________________

(١) وهذا لا يخالف ما عليه القرآن الكريم من تسبیح جميع الموجودات بحمد الله اذ يقول : وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (الاسراء ـ ٤٧) فان اقصی ما تدل عليه هذه الاية هو تسبيح كل شيء له سبحانه ، وهذا غير ما يفعله الانسان تجاه الله فهو يقدسه ويعبده ويجاهد في سبيله ويضحى بنفسه ونفيسه من أجله ويشعر بالمسؤلية تجاهه ، والعرفان بهذا النحو غير موجود لدى غيره.

٤٥

فاذن لابد أن يكون هناك عامل آخر ينضم إلى ما ذكروه من الجهل والخوف حتى ينشأ عنه مثل هذه العقيدة في الأذهان والنفوس الانسانية ، اذ لا يمكن ان يكون الجهل والخوف البسيطان مبعثين لمثل هذا الاعتقاد العام ، ومنشأين لهذه الحركة العظيمة ، ومنبعين لهذه العقيدة الشاملة الخالدة ، السائدة في جميع ادوار التاريخ والى اليوم الحاضر.

فلابد أن نقول ـ عندئذ ـ ان الانسان عندما وقف على جهله باسباب الحوادث صار ذلك موجباً لتحرك قواه العقلية باتجاه البحث عن سببها ، فتصورت «سبباً» لها ، بغض النظر عما اذا كان الذي توصلت اليه وتصورته من «السبب» صحيحاً أو خطأ.

المهم أن الجهل لم يكن وراء ابتداع فكرة الاله بل كان ارضية مساعدة لان ينشط العقل البشري ويتحرك باتجاه كشف الأسباب.

وهكذا الحال في الخوف فان الانسان عندما واجه إحداث الطبيعة المخيفة صار ذلك الخوف موجباً لان يبحث بعقله عن ركن وثيق يدفع عنه الخوف.

فلم يكن الخوف بما هو سبباً لنشأة العقيدة الدينية بل كان ارضية صالحة لتحرك القوة العقلية باتجاه البحث والتفتيش عن ملجأ طبيعي يسكن الانسان في كنفه.

فنستنتج من ذلك ان الاعتقاد بالله الخالق انما هو نتيجة تحرك القوة العاقلة ودخالتها ، وتحريها الطبيعي للاسباب والعلل ، لأن العقل الإنساني لم يفتأ يتساءل ـ كلما واجه حدثاً ـ عن علته وسببه ، فكان مواجهته للحوادث الطبيعية الرهيبة وما تولد منها من الجهل والخوف سبباً لان يستيقظ العقل ويلتفت ويوسع دائرة تساؤلاته وينتقل من السؤال عن علة الاشياء الصغيرة الجزئية ، إلى السؤال عن علة النظام الكوني الكلي ، وما يقع في اطاره من أحداث جسام وحوادث كبری.

٤٦

من هنا يتضح أن منشأ ظهور العقيدة الدينية ليس هو السبب البعيد (أي الجهل والخوف) بل ان ذلك صار سبباً لتدخل «القوة العاقلة» في المقام ، وبدخالة هذه القوة وتحريها وتحليلها نشأت العقيدة ، وراح الانسان يعتقد بخالق لهذا الكون ومبدع لنظامه العظيم.

فالدور الأساسي ـ هنا ـ انما هو للعقل والوعي لا للجهل والخوف.

ويمكن بيان ذلك بنحو آخر وهو ان الانسان خاف من الحوادث فصار خوفه ذلك موجباً لتفكره ، ولتفتيشه عما يرفع آثار هذا الخوف فانتهى إلى فكرة الاله الخالق وراء هذه الحوادث وانه هو الرافع لهذه الاثار المرعبة.

فبزوغ هذه الفكرة والعقيدة يرجع إلى التفكر وان كان الخوف ارضية مناسبة التحرك الفكر ومن ثم الوقوف على هذه الفكرة.

وهكذا بالنسبة الى الجهل فان الانسان جهل اسباب الحوادث ، ولاشك أن الجهل وحده امر لا حركة فيه فلا تنبثق منه أية عقيدة وانما دفع هذا الجهل القوة الفكرية لدى الانسان الى امور هي :

١ ـ : إنه لابد لكل ظاهرة من علة ، ولا يمكن حدوث الظاهرة بلا علة.

٢ ـ : حصلت ـ حينذاك ـ فكرة اخرى وهي أن هناك قوة كبرى هي العلة.

٣ ـ : بزغت العقيدة الدينية وما تستتبعه من مفاهيم.

فلو سأل سائل : هل الاصل لنشوء هذه العقيدة هو دخالة القوة العاقلة المفكرة ام نفس الجهل أو الخوف المجردين من كل شيء؟ كان الجواب هو الاول ، نعم غاية الأمر هو أن العقل (حسب زعم المادي) قد اخطأ في اصابة الهدف الصحيح وتشخيص العلل الحقيقية الواقعية وهذا امر آخر غير نسبة الاعتقاد بالاله إلى عامل الخوف مباشرة.

* * *

٤٧

وثالثاً : ان اصحاب هاتين الفرضيتين لم يميزوا بين الدافع للعقيدة ، وبين ما يترتب على ذلك الدافع ، في القيمة.

فلا يمكن أن تكون «الدوافع» لشيء و «ما يترتب عليها من الاثار والنتائج» ذات قيمة واحدة.

فقد يكون الدافع نحو الشيء امراً تافهاً لا قيمة له ، بينما تكون النتائج والقضايا الحاصلة من ذلك الدافع ذات قيمة عالية جداً كما في المقام.

فعلاقة الإنسان بالثروة والشهرة هي التي تدفع الى الاكتشاف والاختراع ، ومن المعلوم أن الدافع هنا أمر رخيص ، ولكن الأثر الناتج عنه ذا قيمة عالية.

كما أن الحرب هي وراء أكثر الاكتشافات والاختراعات ، والحال أنّ الحرب ـ كما نعلم ـ دافع رخيص ، بينما يكون ما ينشأ على أثرها من التحولات العلمية والصناعية ذات قيمة عالية.

ولهذا لابد من الفرز والتفريق بين «الدافع» و «الآثار» ، وعدم الخلط بينهما في تفسير ظاهرة من الظواهر.

ولنفترض ـ في المقام ـ ان الجهل والخوف هما اللذان دفعا الانسان الى التحري عن علل الحوادث ، ثم نشأت العقيدة على أثر ذلك ، الا أن كون «الدوافع» لنشأة العقيدة بلا قيمة لا يوجب أن تكون العقيدة ذاتها أمراً لا قيمة له ، بل يجب أن توزن نفس العقيدة وينظر اليها ـ ذاتها ـ بعين التقييم ، وانها هل هي مطابقة لمنطق العقل والبرهان أم لا ، فلو كانت مطابقة وثابتة بالبرهان لم تضر تفاهة الدافع النشأة العقيدة وردائته بأهميتها (على فرض صحة ذلك الدافع) ، وقد عرفت ان الدافع الى نشوء العقيدة أمران : الاول الفطرة الملهمة بأن هناك ملجأ للانسان وراء الكون ، والثاني هو الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام والاعتقاد بالخالق له.

يبقى أن نعرف أن كل ما ذكرناه في هذا المقام انما هو ـ بعد التسليم ـ

٤٨

بصحة الفرضيتين ، وقد عرفت ـ فيما سبق ـ بطلان هاتين الفرضيتين وأمثالهما من الأساس.

ونضيف هنا ما ذكرناه في البحث السابق وهو ان هؤلاء المحللين قد افترضوا أمراً من عند أنفسهم وهو «ان الاعتقاد بالله اعتقاد بأمر موهوم وباطل» ، وبعد أن اعتبروا ذلك أمراً مسلماً لا نقاش فيه عمدوا إلى البحث عن أسباب نشوء هذا الامر الباطل الموهوم فنحتوا ما نحتوا ، والحال أن هذا نفس المدعى ، اذ لو لم يكن نفس الاعتقاد بوجود الله أمراً باطلا ـ في نظرهم ـ بل كان مما يدعمه الدليل الصحيح والبرهان الواضح لما نحتوا هذه الفرضيات لتفسير نشوئه فان الانسان العاقل لا يتحرى عن أسباب الاعتقاد بالمعادلة الحسابية التالية : ٢ × ٢ = ٤ مثلا لان هذا الاعتقاد بهذه المعادلة يستند الى أمر واقعي.

فلامجال فيه لاختلاق أسباب ، ونحت علل وفرضيات.

* * *

٣ ـ الدين ونظرية استغلاله

عندما تجاهل الماديون العلة الواقعية الروحية لنشوء العقيدة في حياة البشر ، والسبب المنطقي المتمثل في الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام ، والاعتقاد بقوة خالقة مدبرة ، عمدوا إلى اختلاق ونحت فرضيات خيالية لتعليل هذه الظاهرة الخالدة ، ليخدعوا بها أنفسهم ، ويظللوا بها السذج والبسطاء.

فتارة عللوا نشوء العقيدة الدينية بعامل الجهل بالاسباب الطبيعية للحوادث.

وتارة عللوه بعامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة.

وثالثة عللوه بعامل اقتصادي ، وهذا التحليل لا يختص بتفسير نشأة الافكار الدينية بل هم يحللون كل ما في المجتمع من علم وفلسفة وفن وثقافة ، وآداب

٤٩

وتقاليد وسنن دينية وأفكار ميتافيزيقية بعامل اقتصادي على النحو الذي سيأتي تفصيله وبيانه.

فالأفكار الدينية والفلسفة الميتافيزيقية ـ حسب تحليلهم ـ ليست الا ردة فعل للاوضاع الاقتصادية السائدة في المجتمع ، تماماً مثل بقية الظواهر الاجتماعية المذكورة من غير فرق بين ظاهرة وأخرى.

وقد اتفق جميعهم على هذا التفسير ، الا انهم قالوا مرة أن الدين والمفاهيم الدينيّة كانت آلة طيعة بيد المستغلين لاخماد ثورة المستغلين ، من الفلّاحين والعمال.

وقالوا مرة اخرى بان الدين بلسم مسكن كان يلجأ اليه المحرومون والمضطهدون أنفسهم للتخفيف من آلامهم ، وتبرير اوضاعهم ، وعجزهم عن اصلاحها.

هذا هو اجمال ما يقوله الماركسيون في هذا الصدد واليك تفصيل الكلام في ذلك.

يذهب الماركسيون إلى أن كل ما في المجتمع البشري ينقسم الى بنية تحتية ، وبنية فوقية.

والبنية التحتية عبارة عن الوضع الاقتصادي وتطور وسائل الانتاج وتكاملها ، وما ينشأ ـ بتبعها ـ من العلاقات الاقتصادية.

والبنية الفوقية عبارة عن الافكار الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدب والفن والدين والفلسفة ، فكل هذه الامور تتبع في شكلها ونوعيتها الوضع الاقتصادي ونوعية العلاقات الاقتصادية الناجمة بدورها عن تطور وسائل الانتاج وتكاملها.

قال «كونستانیتوف» : «ينبغي البحث عن منبع الافكار الاجتماعية والسياسية

٥٠

والحقوقية والدينية في الاقتصاد قبل كل شيء» (١).

هذا هو الأصل الذي اخترعه الماركسيون لتعايل جميع الظواهر الاجتماعية وبذلك أرادوا تقسيم الاشياء الي نوعين : أصيل ، وغير أصيل ، والاول متبوع والثاني تابع ، يتغير بتغير الأول ، ويتكامل بتكامله وتطوره.

وهكذا فسروا ظاهرة العقيدة الدينية فزعموا أنها تابعة للظروف والعلاقات الاقتصادية ، وان المفاهيم الدينية ليست سوى ردة فعل الاوضاع الاقتصادية المتدهورة.

ولأجل ذلك فان أصحاب الرق والاقطاعيين والرأسماليين في عهود (الرق والاقطاع والرأسمالية) كلما خشوا ثورة العبيد والفلاحين والعمال في وجه المستغلين لهم بسبب ما يلاقونه من الضغوط عمدوا إلى التوسل بالمفاهيم الدينية والروحية وروجوها بين المحرومين والكادحين الناقمين بهدف تخديرهم والتخفيف من غضبهم ، وصرفهم عن الانتفاضة والثورة ، وبهدف تكريس خضوعهم واستسلامهم لارادة الاسياد والاقطاعيين والرأسماليين واستغلالهم ، وكان من ذلك الدعوة الى الصبر ، وبأن التذرع به يستعقب أجراً عظيماً في اليوم الآخر ، ووعدهم بالجنة ونعيمها المقيم.

وهذا التحليل المفتعل هو الذي قصده ماركس وانجلز بقولهما : «وما القوانين والقواعد الأخلاقية ، والأديان بالنسبة الى العامل الّا أوهام برجوازية تستتر خلفها مصالح برجوازية» (٢).

وهو الذي قصده لينين اذ قال (عام ١٥) : الدين افيون الشعوب ، والدين ورجال الدین يخدران أعصاب المظلومين والفقراء ويجعلانهم يخضعون

__________________

(١) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع ص ٤.

(٢) النظام الشيوعي ص ٥٢.

٥١

للظلم» (١).

كما قصده ستالين اذ قال (عام ١٢٧) : «اننا نرى في الأديان خطراً على الحضارة الانسانية ، فالاديان افيون مخدر» (٢).

وقال عام (١٤٤) : «لا نريد أن نجعل الدین مسيطراً علينا لاننا لا نريد أن نكون سكاری» (٣).

وربما قالوا : إن المحرومين والفقراء ومن أسموهم بالطبقة المستغلة هم أنفسهم لجأوا إلى هذه المفاهيم الدينية ولاذوا بها ليسلوا أنفسهم ، ويخففوا عن آلامهم ويبرروا عجزهم ، وواقعهم الفاسد ، أو يخدروا بها عقولهم ومشاعرهم عندما يفشلون في استعادة حقوقهم من أرباب العمل والأرض والاسياد المستغلين لهم السارقين لجهودهم.

قال ماركس : «ان الدين زفرة الكائن المثقل بالالم وروح عالم لم تبق فيه روح ، وفكر عالم لم يبق فيه فكر ، انه افيون الشعوب ، اذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع» (٤).

وقال لينين (عام ١١٣) : ليس صحيحاً ان الله هو الذي ينظم الاكوان ، وانما الصحيح هو أن الله فكرة خرافية اختلقها الانسان ليبرر عجزه ، ولهذا فان كل شخص يدافع عن فكرة الله انما هو شخص جاهل عاجز (٥).

وبالجملة فالدين بما فيه من وعد للمظلومين والمحرومين كان يقلل من حرارة الثورة في نفوس المحرومين ، ويمتص نقمتهم على الأسياد والاقطاعيين وأصحاب الثروة المستغلين.

__________________

(١ و ٢ و ٣) : النظام الشيوعي ٩٢ و ٥٢ و ٥٣.

(٤) كارل ماركس ص ١٦ ـ ١٧.

(٥) النظام الشيوعي ص ٥٣.

٥٢

ويستشهد الماركسيّون على كون الدين ردّة فعل للاوضاع والعلاقات الاقتصادية بأنه كلما تحسنت الأوضاع الاقتصادية لدى الطبقات الكادحة وظهرت في قلوب المحرومين بوارق الامل والرجاء اختفت الأفكار والمعتقدات الدينية وحلت محلها الأفكار المادية.

بينما ينعكس الأمر عندما تنعكس المعادلة ، فكلما ساءت أوضاع الكادحين والمحرومين ظهرت العقيدة الدينية وراج سوقها ، ونشط دور رجال الدين ، ولجأ الناس الى مفاهيم الدين.

وهذا يعني أن بين الوضع الاقتصادي والاقبال على المفاهيم الدينية علاقة متعاكسة فكلما تحسن ذاك تدهور هذا ، وكلما تدهور ذاك تحسن هذا.

ولهذا يقول لينين : «الدین مرتبط بالظلم دائماً فحيثما يوجد الظلم يوجد الايمان بالدين ، واذا ما تخلصنا من الظلم وجب أن نتخلص من الدين ، بل ان تخلصنا من نفوذ الدين يساعدنا على التخلص من الظلم» (١).

مؤاخذات على هذه النظرية

هناك مؤاخذات عديدة على هذه النظرية وما قيل في تبريرها ، بحيث يجعلها فكرة خاطئة لا يمكن عدها من الفروض القابلة للدراسة بل يجعلها في عداد النظريات التي أخترعت لهدف خاص هو اشاعة الالحاد والاباحية. ونحن نكتفي هنا بذكر جملة منها هي :

أولا) ان معلومات هذا الفريق من الماديين عن الدين ومفاهيمه ، وجذوره وأفكاره ، يرجع الى انطباعاتهم عن سلوك آبائهم ، أو ما وجدوه في المجتمع من غث وسمین منسوب الى الدين ، ولاشك أن الكثير من هذه التصرفات والمواقف

__________________

(١) النظام الشيوعي ص ٥٣.

٥٣

والتصورات لا تمثل حقيقة الدين الناصعة ، وجوهره الصافي ، فقد طرأ على الأمور الدينية من التشويه والمسخ والاعوجاج ما غيّب تلك النصاعة والصفاء خلف غيوم من الأيام والانحراف.

ولو أن هؤلاء الماديين اعتمدوا المنابع الدينية الأصيلة لدراسة الدين ، وجعلوا سيرة قادته المخلصين وسلوكهم النقي من الشوائب والانحرافات ملاكاً لحكمهم على العقيدة والافكار الدينية لقضوا بغير ما قضوا ، هذا أن كانوا غير متأثرين بأفكار مسبقة وغير مندفعين بنيات مبيّتة.

لقد اتخذ هؤلاء ذلك الموقف المعادي والسلبي من الدين وهم يعيشون في البيئات الغربية التي يسود فيها دين الكنائس الذي تنسب نفسها وعقائدها وممارساتها المشينة إلى المسيح زوراً ، وغير خفي على المطلع آن دين الكنائس في تلك البلاد كان قد انتهى الى مجموعة من الخرافات والتحريفات والاباطیل والمهازل وهي التي بررت للماركسيين ان يطلقوا مثل هذا الحكم القاسي والسلبي على الدين على وجه الاطلاق. ولمعرفة هذه التحريفات ، وهذه الخرافات تكفي مراجعة عابرة لكتب العهدين (التوراة والانجيل) وعظات القساوسة المنشورة.

* * *

ثانياً) أن هؤلاء تغافلوا عن ما للدين والعقيدة الدينية من الاثار الايجابية البنّاءة في حياة الانسان ، وكيف أنها من أهم عوامل التحرك والتقدم والرقي والصعود لا الجمود والركود.

وقد عقدنا لبيان هذه الآثار فصلا موسّعاً ستقف عليه قريباً ، الا اننا نستعرض هذه الأثار هنا بسرعة خاطفة وعلى سبيل الأجيال استكمالا لهذا البحث فنقول :

٥٤

ان للعقيدة الدينية آثاراً عديدة في حياة الانسان وأهمها ما يلي :

أ ـ التقدم العلمي في ظل الدين : فان التدين يسند وجود العالم إلى فعل قوة عليا عالمة قادرة ، والمادي بسنده إلى التصادف الأعمى ، ومن الطبيعي أن تكون العقيدة الأولى هي الباعثة على اكتشاف السنن والانظمة دون الثانية فان اقبال العالم على اكتشاف الروابط والنواميس الكونية فرجع علمه بوجود سنن قطعية على سبيل الاجمال وهو لا يحصل الّا مع العلم بأن الكون من صنع الخالق العالم القادر المدبّر الحكيم ، وهذا مما لا يتوفر عند من يقول بوجود الكون عن طريق الصدفة اذ الصدفة تعني الفوضى واللانظام.

ب ـ الدين دعامة الأخلاق : ان اعتقاد الإنسان بالله سبحانه ، وأنه خلقه لغاية وهدف ، وان الموت ليس نهاية الحياة يولّد في الانسان رادعاً قوياً ، يردعه عن الانسياق وراء شهواته الرخيصة واهوائه ونزواته ، كما أنه يولّد فيه مثلا أخلاقية ، وتوجب نموّ السجايا الخيّرة في كيانه فلا يرتكب كل ما تمليه عليه مصالحه الشخصية كما هو دأب المادي أمير المؤمن بالله.

فان العالم الكيمياوي اذا اقترح عليه بان يصنع سلاحاً مدمّراً ، أو قنبلة سامة فتاكة لقاء عرض مادي مغر ، لا ينفذ هذا الطلب اذا كان مؤمناً بالله بخلاف العالم المادي الذي لا يعتقد برقابة الهية ولا بجنة ولا نار ، وهذا غير ما سيوافيك من أثر العقيدة الدينية في مجال القانون.

ج ـ الدين عامل التحرك والاستمرارية : فان الانسان الذي يعتقد بأن وراء هذا الكون قوة عليا قادرة على دفع الشدائد ودرء المصائب عنه ، إذا توجه اليه واستعان به فان اعتقاده هذا يساعده على الاستمرارية والاستقامة بل والتحرك والتقدم لانه يرى نفسه معتمداً على تلك القوة وآملا بنصرها وتأييدها بخلاف المادي الذي لا يركن الى ركن وثيق ، وهذا يعني أن الدين أكبر

٥٥

محفز ، وأشد ما یحتاج اليه الانسان هي الحوافز.

د ـ الدين والتقيد بالقانون : فالانسان الذي يرى نفسه في محضر الله سبحانه ، ويعتقد بانه يحصي عليه حركاته وسكناته ، بل ويضبط خطرات قلبه وأوهام فكره ، ونوايا ضميره ، لن يرتكب أيّة مخالفة قانونية ، خاصة اذا عرف بان تطبيقه للقانون يستتبع الثواب الاخروي الجزيل والاجر الالهي الجميل وتمرده عليه يستتبع العقاب الأليم بخلاف المادي الذي يتحايل على القانون بألف حيلة وحيلة ، ولا يرتدع عن مخالفته والتملص منه كلما سنحت له الفرصة لانه لا يؤمن بأية نظارة ورقابة ، ولا يخشى عقاباً ، ولا يرجو ثواباً.

إلى غير ذلك من الأثار الفردية والاجتماعية البناءة التي لا غنى للفرد والمجتمع عنها ، وقد شرحناها على وجه التفصيل في الفصل اللاحق ، فكيف يصف الماركسيون الدين بانه مخدر وانه افيون وانه يوجب الركود والجمود؟!

* * *

ثالثاً) أن البحث في علة نشوء العقيدة انما هو في نشأتها في العصور الأولى من حياة الانسان على الأرض ، في حين ان ما يذكره الماركسيون يرتبط بالأدوار المتأخرة جداً عن تلك العصور ، أي قبل أن توجد ظاهرة الرق والاقطاع والرأسمالية ، فان ما يذكرونه يرجع الى عصور الاغارقة أو ما جرى في اروبا في القرون الوسطى فتعليل العقيدة الدينية بهذه الظواهر المتأخرة عن الحياة البشرية الأولى جداً ، خطأ فضيع ، أو تعمّد مفضوح ، اذ ما الذي يفسر نشوء العقيدة الدينية ووجودها في العهود الأولى من حياة الانسان على الأرض ، وقبل وجود هذه الظواهر (أي الرق والاقطاع والرأسمالية).

* * *

رابعاً) أن تقسيم الظواهر الاجتماعية إلى بنية تحتية واخرى فوقية ،

٥٦

وتصور أن الثقافة والفن والعلم والدين كلها من البنية الفوقية التابعة للبنية التحية (أي الاقتصاد) من شأنه ابطال كل نظريات الماركسيين في مجال الفلسفة والتاريخ والاقتصاد ، وكل تحليلاتهم وآرائهم فان هذه القاعدة التي اخترعها ماركس تستلزم أن يكون مجموع مناهجها في المجالات المختلفة نابعة من الحالة الاقتصادية وما كانت عليه وسائل الانتاج يوم أطلق ماركس وانجاز نظريتهما ، وعلى ذلك فلو تغيرت وسائل الانتاج ، وتغير الوضع الاقتصادي انتهى دور المناهج الماركسية في المجالات المختلفة ، فلابد أن تتخذ مناهج اخرى تضادد تلك المناهج ، تبعاً لمتغيرات الاقتصاد ، وتطوّر وسائل الانتاج ، والعلاقات الاقتصادية.

وعلى ذلك فنفس ما يقوله الماركسيون أي «الدين افيون الشعوب ، وانه عامل الركود» هو من نتائج الأوضاع الاقتصادية التي كانت تسود البيئة التي أطلق فيها ماركس كلمته هذه.

فحيث تطور الوضع الاقتصادي ، وتغير الى وضع آخر تغيرت النظرية إلى نظرية اخرى فربما يمكن أن تكون النتيجة هي أن الدین محفز للعمل ، ومحرك للامة ، وعامل من عوامل المقاومة والتقدم.

وهذا يعني ان ماركس قضى على جميع افكاره بنفسه ، وخاصة هذه النظرية حول الدين.

* * *

خامساً) أن تعليل هذه الظواهر الاجتماعية على سعتها وتنوعها وتشعب اطرافها (كالعلم والفلسفة ، والدين والثقافة والفن والاداب) بعامل اقتصادي اشبه ما يكون بتعليل زلزال هائل دمر مدينة عظمی ، بانهيار سقف خشبي في احدى ضواحي تلك المدينة.

٥٧

صحيح أن الاقتصاد يلعب دوراً هاماً في مجالات الفكر والظواهر الاجتماعية إلا أن الاقتصاد ليس هو العامل الوحيد الذي له مثل هذا الدور والتأثير ، فليس الاقتصاد هو القوة الوحيدة المحركة للتاريخ وليست وسائل الانتاج هي القوة الكبرى التي تصنع تاريخ الناس ، وتطورهم وتنظمهم بل هناك عوامل محركة اخرى للتاريخ نذكر بعضها :

أ ـ الغرائز التي جبل عليها الانسان ، فان لها دوراً مؤثراً لا يمكن انكاره في نشوء الحوادث الاجتماعية فقد اثبت الروحيون ان الانسان ينطوي على غرائز خاصة تفعل كل واحدة منها اثرها الخاص في الحياة والمجتمع مثل غريزة طلب العلم ، والجاه ، والجمال. وغيرها ، وما يتولد عنها من تطورات اجتماعية.

ب ـ الشخصيات البارزة فان لها أثراً كبيراً في خلق الظواهر الاجتماعية فان هذه الشخصيات لا تكتفي بالتفرج على الأوضاع ، بل تلعب أدواراً ، وتصنع أحداثاً ، وتوجد تغییرات ، وتاریخ الامم بما فيها من صفحات مشرقة خير شاهد على ان هذه الشخصيات قد اشعلت شرارة الكثير من الثورات الاجتماعية ، وأوجدت الكثير من التحولات ، وانه لولاهم لما حدث مثل تلك التحولات ، ولما تفجرت تلك الثورات.

ج ـ فكرة القومية فقد كان لها أثرها الخاص في التطورات الاجتماعية لدى الأمم المختلفة فهذا هو هتلر الالماني اشعل الحرب العالمية الثانية بفكرة القومية النازية.

ولهذا عمد بعض المفكرين في بعض البلاد الى التوسل بالقومية ، واحياء روحها ، والهاب مشاعر الناس بها ، للوقوف في وجه الأعداء أو تحقيق النهضة

٥٨

فيها (١).

ومع ملاحظة هذا العوامل وغيرها من العوامل المحركة للتاريخ المبحوثة في محلها. وتأثيرها البالغ في الظواهر الاجتماعية كيف يصح للماركسیین ان يسندوا كل ما في المجتمع من مظاهر علمية وفلسفية وفنية وثقافية وأدبية ودينية إلى عامل اقتصادي فقط.

* * *

سادساً) لو لم تكن للعقيدة الدينية جذور فطرية أولم تكن هناك رابطة بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود المنظم ، فلماذا يتفق المستغلّون جميعاً على قبول هذه الظاهرة ، مع انهم يرون بام اعينهم أن هذا العامل وسيلة لاخماد ثورتهم ، وامتصاص نقمتهم ومنعهم من استنقاذ حقوقهم.

اليس يعني هذا أن المستغلين للطبقات المحرومة كانوا يستخدمون الدين في سبيل مصالحهم وهم يعتمدون على واقعية مقبولة لدى المستغلّين ذاتياً ، فلو لم يكن الدين والتدين أمراً فطرياً عند المحرومین ، او لم يكن امراً منطقياً لديهم فلماذا لم يرفضوا هذه الآلة التي تستخدم ضدهم؟

الم يكن بين جماهير الطبقات الفلاحية والعمالية طوال القرون المتمادية من يميز بين ما هو في مصلحتهم وما هو ضد مصلحتهم؟.

أن هذا الأمر يجعلنا لا نثق بهذه النظرية ، بل يدفعنا الى ان نذعن بان للعقيدة

__________________

(١) فكرة القومية مع ما لها من أثر في تحريك الجماهير فكرة خاطئة ومرفوضة من وجهة نظر الاسلام لانها تستند إلى رفع بعض الشعوب على بعض ، وحصر جميع الخدمات بشعب خاص على حساب شعوب أخرى ، والحال أن الواجب هو صرف الخدمات لصالح الانسانية جمعاء دون تمييز ولا استثناء ، وهذا هو ما اكد عليه القرآن الكريم والسنة النبوية واحاديث العترة.

٥٩

الدينية جذوراً وخلفيات أعمق في كيان الانسان وحياته ، وغير ما ذكره الماركسيون.

* * *

سابعاً) أن ما ذكروه يستلزم أن لا يوجد بين الطبقات المرفهة ، وأصحاب الثروة والمسكنة أي متدین ، لعلمهم بان الدين ليس سوى وسيلة تستخدم لاخماد الثورات وجلب المنافع ، والحال أننا نجد طول التاريخ أصحاب ثروة وقفوا اعمارهم وثرواتهم في سبيل تحقيق الأهداف الدينية المقدسة بحيث صار الغني والفقير والظالم والمظلوم!! ، والمضطهِد والمضطهَد!! في هذه الظاهرة سواء أي اننا نجد متدینین لیس بین الفقراء والمحرومين فقط بين الأغنياء واصحاب الثورة أيضاً ، وهذا يعني أن قضية الايمان بالله ليست ناشئة من عوامل اقتصادية كما ذكروا ، بل هي قضية روحية فطرية ، ومسألة عقلية يقود اليها الفكر السليم.

* * *

ثامناً) ان ما استشهدوا به لتبرير نظريتهم (وهو انه كلما انتعش حال الطبقات المحرومة اقتصادياً انحسرت العقيدة عن حياتهم ، وكلما تردت ، راجت العقيدة الدينية) جهل من هؤلاء المحللين بمجريات التاريخ.

فاننا نجد في الحضارة اليونانية والاسلامية كيف قد ازدهرت الحالة الاقتصادية العامة وتحسنت جنباً إلى جنب مع ازدهار العقيدة الدينية ورواج المفاهيم الميتافيريقية ، وكان لمعرفة أبيه والايمان به دور بارز ومكانة كبرى في هذه المدنيات والحضارات.

وهذه حقيقة يقف عليها كل من راجع تاريخ هذه الحضارات الكبرى ، بل هي من الثبوت والجلاء ما لا نحتاج معه الى ذكر الشواهد والنماذج.

* * *

٦٠