الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

الخالق لكونه موجود غیر مادي.

وهذا هو موقف الماديين والملحدين.

٣ ـ الشك والتحيّر وهو موقف اللادريين والشكاك الذين لا يثبتون شيئاً ولا ينكرون شيئا.

ثم انه يظهر من كلمات الماديين انهم ربما لا يرون انفسهم بحاجة الى اقامة الدليل في انكارهم لما وراء الطبيعة ، بل الذي يحتاج ـ في نظرهم ـ الى اقامة الدليل انما هو الالهي ، بحجة أن الاثبات هو الذي يحتاج الى الدليل بينما يكفي المنكر عدم وجود الدليل في جانب الأثبات ، وهذا أمر باطل ، لان الانكار ـ الاثبات ـ قضاء وحكم ، فان الحكم بعدم وجود شيء وراء المادة مثل الحكم بوجود شيء ما يكشف عن ادعاء مبني على القطع والبت ، فكيف يثبت حكم (وهو هنا الحكم بنفي ما وراء الطبيعة) بدون دلیل؟.

ولما وقف بعض الماديين على ضعف هذا المنطق عمدوا إلى تصحيح مذهبهم الالحادي بما هو خلاصته :

ان ادوات المعرفة (في مجال النظرة العامة الى الحياة) تنحصر في التجربة والحس.

فما اثبتته التجربة والحس جاز الاذعان به ، وصح الاعتقاد بوجوده ، وما لم تثبته التجربة والحس لم يصح الاعتقاد بوجوده.

وبما ان التجربة لا تثبت سوى الوجود المادي ، كان الوجود مساوياً للمادة.

هذا هو خلاصة مذهب المادي ، وعلى ذلك فأساس مذهبه يتكون من أمرين :

١ ـ أصالة التجربة.

٢ ـ أصالة المادة.

٣٨١

وبين الاصلين ـ في نظر الماديين ـ تلازم ، وترتب ، فان القبول بالاصل الاول (وهو ان الوسيلة الوحيدة للمعرفة والعلم تنحصر في التجربة الحسية) يستلزم ـ عندهم ـ الاصل الثاني وهو اصالة المادة (بمعنى انه لا شيء في الوجود سوى المادة أو الطاقة المتحولة عنها).

بيد أن هذا الكلام باطل مقدمة ونتيجة وذلك لامور هي :

أولا : انه لا يمكن استنتاج الاصل الثاني من الأصل الأول ، لان للتجربة حق الاثبات في مجال الأمور الطبيعية ، وليس لها حق النفي في المجالات الأخرى. وتوضيحه هو : ان التجربة تتعلق بالأمور المادية خاصة ، واما ما هو خارج عن مجال المادة فلا يقع في اطار التجربة حتى تكون التجربة دليلا على عدمها.

فلو جربنا شيئاً بأدوات التجربة المختلفة المستخدمة في مجال الامور الطبيعية فلم نجد له أثراً في ذلك المجال فان أقصى ما تعطيه التجربة هو ان الشيء الذي نحن بصدد اثباته ليس موجوداً مادياً ، وأما انه ليس بموجود على وجه الاطلاق حتى في غير ذلك المجال فلا تفيده التجربة ابداً ، وهذا هو شأن كل اداة لها مجال استخدام خاص.

ولتوضيح هذا الامر تأتي بالمثال التالي :

لو اننا أدخلنا قطعة من «المغناطيس» تحت التراب ثم أخرجناها وقد علقت بها ذرات من الحديد فان هذه العملية تخبرنا عن وجود الحديد في هذه النقطة من الأرض أو عدمه خاصة ، ولا يمكنها أن تنفي وجود غیر الحديد من المعادن كالكبريت والفحم وغيرهما لان لاكتشاف كل شيء اداته المناسبة ، ولما كان الحديد دون غيره هو الذي يعلق بحجر المغناطيس ، فان هذا الحجر أداة لمعرفة وجود الحديد وعدمه خاصة.

٣٨٢

كذلك التجربة الحسية فاتها وسيلة لمعرفة وجود وخصائص كل ما هو مادي فحسب ، ولا يمكن التعرف بها على ما هو ليس بمادي.

وعلى ذلك فكون الموجود غير الطبيعي خارجاً عن اطار التجربة لا يكون دليلا على ان الاصالة للمادة وانه لا خبر ولا أثر عن غيرها ولا وجود له ابداً.

* * *

ثانياً : ان الأصل الأول ليس أمراً تجربياً حيث ان مفاده (وهو ان كل ما أثبتته التجربة فهو مقبول وكلّ ما لم تثبته التجربة فهو مرفوض) امر غير تجربي ، فكيف قبل المادي هذا الأصل مع انه غير مجرب؟.

أليس اعتراف المادي بهذا الأصل (مع انه غير مجرب) يعني القبول بأن أدوات المعرفة لا تنحصر في التجربة والا لما أمكن له قبول هذا الأصل الذي لم يجرب ولن يخضع للتجربة أبداً.

* * *

ثالثاً : ان القبول بالاصل الثاني ينقض الأصل الأول ويقضي عليه ، فان انحصار الوجود في المادة ونفي ما سواها أمر لم يقع في اطار التجربة لماعرفت من أن التجربة انما يصح حكمها وقضاؤها في المجال المادي فحسب.

وبعبارة أوضح : ان قضية «لا شيء في الوجود سوى المادة» ليست أمراً تجربياً ، ليثبت صدقها وصحتها بالتجربة اذ لا يمكن بالتجربة الحسية أن نجرب أن هذا الشيء غير المادي موجود أولا ، فقبول هذا الأصل (أعني أصل : لا شيء في الوجود سوى المادة) ينقض انحصار ادوات المعرفة.

وتلخص أن الأصل الاول ينتقض بنفسه مرة وبقبول الأصل الثاني مرة أخرى.

هذه الإشكالات وغيرها تكشف عن أن الماديين يواجهون أسئلة محرجة ، واعتراضات عديدة على مسلكهم لا جواب لهم عليها ، وهو يعني ـ بكلمة واحدة ـ آن منهجهم المادي غير قادر على الوقوف والثبات أمام المناقشة والنقد والتحليل.

٣٨٣

هذا وللبحث حول ادوات المعرفة من حيث الكمية والكيفية ومدى النتائج مجال آخر هو ابحاث نظرية المعرفة.

ولكي تزداد وقوفاً على بطلان هذا المذهب المادي الذي يرفض كل شيء غير المادة ، يتعين علينا أن نشير الى بعض النوافذ المطلة على عالم الغيب والتي جعلها الله سبحانه في حوزة البشر ومتناول كل انسان ليتمكن عن طريقها أن يرفع جهله بذلك العالم الغائب عن حسّه. وهي كثيرة ـ في الحقيقة ـ ولكننا نكتفي هنا بالاشارة الى بعضها مع شيء من التفصيل الذي يناسب هذا الكتاب.

انقسام الوجود الى المادي والمجرد

لا ريب ان الانسان الذي يعيش في عالم المادة يجد نفسه محاصراً باطارها وجدرانها حتى انه ليتصور ـ في بادىء النظر ـ ان الوجود ينحصر في المادة حسب ، ولكن الأدلة العقلية والتجريبية تثبت أن الوجود لا ينحصر في المادة والطاقة بل هو اوسع نطاقاً منهما فالوجود ـ حسب الحقيقة والواقع ـ ينقسم الى نوعين : الوجود المادي ، والوجود المجرد.

وقد أشير الى كلا القسمين في كتاب الله العزيز وسمّيا بعالمي الغيب والشهادة.

فالمحسوس منهما هو عالم الشهادة لكونه قابلا للشهود بالحواس.

والخارج عن اطار الحس هو عالم الغيب لكونه غائباً عنه (١).

__________________

(١) ان تقسيم الوجود الى الشهادة والغيب انما هو بالنسبة الى الانسان المحدود وأما بالنسبة إلى الله سبحانه فالكل شهود له ، ولا يغيب عن وجوده شیء قال سبحانه «لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض» (سبأ ـ ٣) وسيأتيك تفصيل ذلك في الاجزاء التالية من هذه المجموعة.

٣٨٤

ولما كان التعرف على «عالم الغيب» يكاد يكون متعذراً على الانسان المحصور في نطاق العالم المادي لذلك أوجب عليه سبحانه الايمان بذلك الغيب حيث قال : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (البقرة ـ ٢).

فعالم المادة عالم قابل للتجربة ، والتقدير بالادوات المادية.

وأما عالم الغيب فلا يخضع للحس والتجربة ، وانما يمكن التعرف عليه عن طريق العقل ، ولهذا وجب الايمان به عن طريق الاستدلال والبرهنة ، ويندرج في ذلك الايمان بوجود الله وصفاته ، والأرواح والملائكة والجنة والنار وعالم البرزخ وغير ذلك من العوالم الروحية الخارجة عن متناول الاحساس.

غير ان الله سبحانه فتح على الانسان كوی ونوافذ على عالم الغيب ليستدل بها على وجود ذلك العالم الغائب عن حسه ، ويستعين بها في الايمان بالغيب.

وها نحن نذكر بعض تلك النوافذ للقارئ الكريم ليكون ايمانه بعالم الغيب قائماً على الدلائل القطعية المحسوسة.

تاركین تفصيل القول في هذه النوافذ إلى الكتب المفصلة التي التفت في هذا المجال :

١ ـ الرؤيا الصادقة

ان للفلاسفة والحكماء ، وعلماء الطبيعة ابحاثاً مستفيضة حول «حقيقة النوم وما يرتبط به من الرؤی» خارجة عن موضوع بحثنا هذا.

نعم ان الذي يمكن أن يقال عن «النوم» هو ان «النوم» نظیر «الموت» ، ففي الموت تتعطل القوى والاثار تعطيلا كاملا ، وتنتهي كل النشاطات والتفاعلات الحيوية في الجسم ولكن في «النوم» يشمل هذا التعطيل جانباً معيناً من

٣٨٥

الفعاليات البدنية ، بينما تبقى بقية الفعاليات (مثل فعاليات الدماغ والقلب والكبد والكليتين وما شاكل ذلك) مستمرة.

بعض أقسام الرؤيا

ثم ان الرؤيا التي يراها الانسان في منامه على أقسام هي :

أ ـ أضغاث أحلام :

وهي الأحلام التي تنشأ من هموم الانسان ، وافكاره التي يعيشها في نهاره ، فهي تراوده عند النوم في صورة «الاحلام» وذلك مثل احلام الطالب المقبل على امتحانات صعبة ، المستغرق في همومها ، والتاجر المبتلى بالديون والمجرم الملاحق قانونياً لجريمة ارتكبها ، أو جناية جناها.

فان كل واحد من هؤلاء يری ـ في منامه ـ ما يناسب افكاره التي تشغل باله في النهار ، وهمومه التي يعاني منها في اليقظة ، ويسمى هذا القسم من الاحلام بأحلام اليقظة لانها تعكس أفكار اليقظة في صورة الاحلام.

ب ـ تجلى اللاوعي في صفحة الوعي :

ويمثل هذا النوع من الأحلام تلك الرغبات المكبوتة في أعماق النفس الانسانية جنسية كانت أو عدوانية أو غير ذلك.

فان مكبوتات اللاشعور تطفو على صفحة الشعور عند النوم بطريقة رمزية وتتجلى عقد النائم وحالاته النفسية وأسراره في صورة أحلام.

فان الانسان كثيراً ما يخفي في نفسه اسراراً أو رغبات ، ولا يريد لاحد ان يلتفت إلى وجودها فيه ، ولكنه عندما ينام ، ويفقد مع النوم سيطرته على مواصلة

٣٨٦

الاخفاء تتجلى تلك الأسرار على شاشة الوعي مع تغيير في الصور والاشكال دون الحقائق والماهيات.

ولهذا القسم أهمية كبيرة في «علم النفس» اذ يمكن الانسان من التعرف على ضمائر الأفراد ومكبوتاتهم ، ومكتوماتهم (١).

وهذان النوعان من الرؤی وما شابههما من الاحلام لا يمتان ببحثنا الراهن وانما المهم هو القسم الثالث الآتي :

ج ـ الرؤيا الصادقة :

فان هذا القسم ليس من قبيل أحلام اليقظة ولا هو من قبيل تجلي مكبوتات اللاشعور في صفحة الشعور ، وانما هي صور واقعية عن أحداث قطعية وقعت قبل الرؤيا أو حينها أو بعدها.

ولقد اشار الشيخ الرئيس ابن سينا الى هذا النوع من الاحلام ودلالتها على عالم الغيب اذ قال.

«التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نیلا في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع ذلك النيل في حال اليقظة الا ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه امكان.

اما التجربة فالتسامع والتعارف (اي ان اخبار الاخرين ، والمعرفة الشخصية)

__________________

(١) ولقد احرز العالم النفسي «فرويد» نجاحاً كبيراً في شرح هذا القسم من الرؤی والاحلام بيد انه خلطه بالقسم الثالث الاتي ، فقضى على الجميع بحكم واحد ، وتصور ان عامة الرؤى انما هي من ظهور مكبوتات اللاشعور في صفحة الشعور مع ان ما ذكره يرجع الى القسم الثاني الذي لا ننكره بل يثبته العلم والدين معاً دون القسم الثالث الذي لا يمت الى ما ذكره اصلا.

٣٨٧

شهدان به ، وليس لأحد من الناس الا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته الصديق ، اللهم الا ان يكون احدهم فاسد المزاج نائماً قوي التخيل والذكر» (١).

ويريد الشيخ أن لكل احد تجارب شخصية في حقل الأحلام الصادقة ، الا ان يكون فاسد المزاج.

ولاشك أن هذا القسم هو غير القسم الثاني والذي اشار اليه فرويد في ابحاثه النفسية كما عرفت.

ويدل على ذلك أن هناك احلام ورؤى تحكي عن احداث واقعة في عالم اليقظة دون أن يكون لها جذور في اعماق النفس ، ودون أن يكون لها سوابق في باطن الانسان.

وها نحن نذكر نماذج من ذلك وهي ليست سوى غيض من فيض ، ومن اراد الوقوف على المزيد فليراجع الكتب المؤلفة حول المنامات والاحلام التي تذكر رؤی صادقة لا حصر لها ، كما أن لكل انسان تجارب عديدة في هذا المجال ، ولو جمعت اكثر هذه المنامات لبلغت عشرات المجلدات.

١ ـ هناك عالم فاضل يعيش بيننا الان ، قد توفيت زوجته قبل مدة ، وكان لها على أحد دین استلمت في مقابله وثيقة خطية رسمية ، وبعد مضي اشهر من وفاة تلك المرأة ، وحلول موعد اداء الدين تقدم ورثتها الى المدين يطلبون منة سداد المبلغ المذكور ، فطالب بالوثيقة الخطية الرسمية ليسدد الدين ففتشت بنت المتوفاة كل مكان في البيت بحثاً عن تلك الوثيقة ولكنها لم تجدها ويئس الجميع من تحصيل الدين او كادوا.

وذات يوم اسرعت خادمتهم اليهم وهي تصيح لقد رأيت سيدتي (المتوفاة)

__________________

(١) الاشارات ج ٣ ص ٣.

٣٨٨

في المنام ليلة امس وهي في غاية الابتهاج والسرور ، وقد اخبرتني بان الوثيقة الخطية الرسمية موجودة في احد جيوب الثوب الفلاني (وقد سمته) فاسرعت بنت المتوفاة الى ذلك الثوب ، وفتشته فوجدت الأمر كما اخبرت الخادمة ، وحصلوا الدين بعد دفع الوثيقة المذكورة إلى المدين.

ان هذه الرؤيا لا يمكن أن تفسر بما ذهب اليه فرويد من أن الرؤيا والحلم هو ظهور الرغبات المكبوتة او الافكار المكتومة في اعماق النفس على شاشة الشعور في حالة النوم وعندما يفقد الانسان السيطرة على اخفائها ، اذ لم يكن للخادمة اي علم مسبق بمحل الوثيقة الخطية الرسمية مطلقاً ، وهذا يعني أن علمها بموضع الوثيقة جاءها في النوم ، أي كان حادثا طارئاً.

٢ ـ جمع الدكتور «كامیل فلاماريون» العالم الفرنسي المعروف والذي كان يشتغل في الدراسات الروحية ، طائفة كبيرة من الاحلام والرؤى العجيبة الصادقة التي حصل عليها من أشخاص متعددین نذكر منها الرؤيا التالية :

يكتب «الكسيس آربوسوف» الحاكم السابق ليسكوف الذي كان منكراً للروح ولكن آمن بها بعد الوقوف على سلسلة طويلة من الشواهد على وجود الروح والرؤى الصادقة ، يكتب ـ قائلا :

في يوم ١٩ أبريل ١٨٤ والذي كان يصادف عيد الفصح ذهبت الى لقاء أحد الأصدقاء ، وتقرر أن أبيت عنده الى الصباح من اليوم القادم ولكنني فجأة أحسست باضطراب وقلق شديد لم أستطع تحمله ، وكأن ندءاً غيبياً يخبرني عن وقوع كارثة غير متوقعة ، فتحركت من ذلك المكان من دون ارادتي ، واتجهت مباشرة الى لقاء والدتي التي كان التفكير فيها يستحوذ على فكري ونفسي أثناء ذلك الاضطراب والقلق الذي ساورني واعتراني فوصلت اليها ، واطمأننت على صحتها ورأيتها في وضع جيد مع بقية أفراد العائلة ، فهدأ

٣٨٩

روعي ، وسكن قلبي وغادرتني جميع تلك الوساس والأفكار المقلقة وعرفت تفاهتها. ثم عمدت مرتاح البال الى غرفة نومي التي كانت تبعد عن غرفة والدتي بمسافة كبيرة وآويت إلى فراشي وغرقت في النوم ، ولكنني استيقظت في الصباح فزعاً من هول الحلم الذي رأيته في الليلة السابقة ، وكنت أرتجف وقد غطى العرق جميع جسمي.

لقد رأيت في الحلم أن امي جاءت الى غرفتي وقبلت جبيني ، وقالت : «بني لقد حان أجلي وسأموت ، استودعك الله».

فنهضت من فراشي سريعاً وقصدت الذهاب الى غرفة والدتي للاطمئنان على سلامتها وحياتها ولكن فاجئني عويل النساء وصراخهن لتخبرني عن وفاة والدتي.

والجدير بالذكر أنه تبين بعد التحقيق أن وفاة والدتي اتفقت ووقعت في الساعة التي كنت أنا نائماً فيها وهي الساعة السابعة والنصف (١).

٣ ـ عن ابن معد الموسوي رأی محمد بن النعمان شيخنا المفيد ليلة في منامه أن فاطمة عليها السلام دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ، ومعها ولداها الحسنان عليهما السلام صغيرين فقالت له : علمهما الفقه ، فانتبه متعجباً فلما تعالى النهار دخلت عليه فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها الرضي والمرتضی فقالت : «وأحضرتهما اليك لتعلمهما الفقه» فبكى المفيد وقص عليها المنام وتولى تعليمهما وفتح الله لهما من العلوم ما اشتهر (٢).

٤ ـ قال الشيخ البهائي رحمه الله قال والدي : دخلت في صبيحة بعض

__________________

(١) الموت وغامضته للاستاذ كامیل فلاماريون.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید ج ١ ص ١٣ ـ ١٤ طبعة دار احیاء التراث العربي بیروت.

٣٩٠

الايام على شيخنا الشهيد (الثاني) المعظم (وهو زين الدين الجبعي العاملی المستشهد عام ٦٥ هجـ) فقال : يا أخي أظن أن أكون ثاني الشهيدين فانی رأيت البارحة في المنام أن علم الهدی (المرتضی) عمل ضيافة جمع فيها علماء الامامية بأجمعهم في بيت فلما دخلت عليهم قام علم الهدي وقال لي : يا فلان اجلس بجنب الشيخ الشهيد (١) فجلست بجنبه فلما استوى بنا المجلس انتبهت ، ومنامي هذا دلیل ظاهر علی كوني تالياً له في الشهادة (٢).

٥ ـ قال سهل بن هارون : اني لمحصل أرزاق العامة بين يدي يحيى البرمكي في داخل سرادقه وهو مع الرشيد بالرقة وهو يعقدها جملا بكفه اذ غشيته سآمة وأخذته سنة (أي غلبه النوم الخفيف) فغلبته عيناه فنام أقل من فواق بكية أو نزح ركية (أي نام قليلا) ثم انتبه مذعوراً فقال : يا سهل ذهب والله ملكنا ، وذل عزنا ، وانقطعت أيام دولتنا ، فقلت : وما ذاك؟ قال : كأن منشداً أنشدني :

كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فأجبته من غير روية ولا اجالة فكر :

بلی نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العوائر

قال سهل : والله ما زلت أعرفها فيه وأراها ظاهرة منه إلى الثالث من يومه واني لفي مقعدي ذلك بين يديه أكتب توقيعات في أسفل كتبه لطلاب الحوائج اليه قد كلفني اكمال معانيها باقامة الوزن فيها اذ وجدت رجلا ساعياً إليه حتى أتاه مكباً عليه فرفع رأسه وقال : مهلا ويحك ما أكتم خيراً ولا أستر شراً قال : قتل الرشيد الساعة جعفراً قال : أو فعل؟ قال : نعم. فما زاد آن رمى بالقلم من يده وقال : هكذا تقوم الساعة بغتة (٣).

__________________

(١) أي الشهيد الاول محمد بن جمال الدین المكي العاملي المستشهد عام ٧٨٦ هجـ.

(٢) الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي في ترجمة الشهيد الثاني.

(٣) الاغاني للاصفهاني.

٣٩١

٦ ـ قال عبد الملك بن سليمان بن أبي جعفر : رأيت في نومي المتوكل ، والفتح بن خاقان وقد أحاطت بهما نار ، وقد جاء المنتصر (وهو ابن المتوكل) فاستأذن عليهما فمنع الوصول ثم أقبل المتوكل عليّ ، فقال : يا عبد الملك قل للمنتصر : بالكأس الذي سقيتنا تشرب ، فلما أصبحت غدوت على المنتصر فوجدته محموماً فواظبت على عيادته في آخر علته يقول : وعجلنا فعوجلنا فمات من ذلك المرض (١).

يقول المحقق الشيخ محمد تقي التستري في كتابه آيات بينات في حقية بعض المنامات ـ بعد ذكر هذه القصة ـ : قلت وفي أمالي الشيخ سمع المنتصر أباه (المتوكل) يشتم فاطمة عليها السلام فسأل عن ذلك فقيل له : قد وجب عليه القتل الا أن من قتل أباه لم يطل له عمر فقال : ما ابالي بذلك (٢).

٧ ـ بنی «حنظلة بن أبي عامر» غسيل الملائكة بأمرأته جميلة بنت عبد الله ابن أبي سلول ليلة كان في صبيحتها قتال احد الذي قتل فيه فأرسلت المرأة الى أربعة من قومها فأشهدتهم على حنظلة انه دخل بها ، فقيل لها بعد لم فعلت هذا؟ قالت : رأيت كأن السماء انفرجت فدخل حنظلة فيها ثم أطبقت ، فقلت : هذه الشهادة ، وعلقت بابنه عبد الله بن حنظلة تلك الليلة ، وقتل عبد الله يوم الحرة (وهي المذبحة التي أجراها يزيد بالمدينة بعد قتل الامام الحسين عليه السلام) (٣).

__________________

(١) مروج الذهب للمسعودي ج ٤ ص ١٣٤.

(٢) راجع ص ١٧١ من كتاب آیات بینات في حقية بعض المنامات.

(٣) أسد الغابة ج ٣ ص ١٤٨ ترجمة عبد الله بن حنظلة.

ثم ان هناك كتبا خاصة ألفها علماء الإسلام قديماً وحديثاً حول المنامات وذكروا فيها نماذج كثيرة من الاحلام والرؤى الصادقة منها :

١ ـ كتاب دار السلام فيما يتعلق بالرؤيا والمنام المحدث الكبير الشيخ الميرزا حسين النوري الطبرسي المتوفى عام ١٣٢٢ هـ.

٣٩٢

هذه هي بعض الرؤى الصادقة التي يقف الانسان بسببها على ما حدث أو يحدث في مستقبل الزمان وهي خير دليل على ان الانسان مزود بحاسة سادسة غير الحواس الخمس والعقل.

أما أنها غير الحواس الخمس فلان هذه الحواس تدرك تحت شرائط خاصة والمفروض انتفاؤها حال النوم ، فالحواس وفعالياتها معطلة في هذه الحال ، ولذلك لا يمكن نسبة هذه الامور اليها.

وأما أنها غير العقل فلان ادراك العقل يتوقف على البرهنة والاستنتاج.

وربما ادعى الماديون في كتبهم عند تفسير الرؤى والأحلام ، ان الحواس تدرك أمواجاً من الحادثة الواقعة في مكان بعيد وهذا يعني أن هناك شيئاً تصدر عنه الأمواج.

ولكن هذا الادعاء والتحليل يصدق ـ ان صح ـ في شأن الأمور الموجودة بالفعل فان غاية ما يفيده هو ان يحس الانسان ـ عن طريق الاحتكاك الخاص بالامواج ـ بموجود كائن بالفعل ولو في افق بعيد ، ولكنه لا يستطيع أن يفسر بذلك الحالة أو الحادثة التي لم تقع بعد أصلا بل تقع في المستقبل مما لا يمكن أن يدركه الحس ، ومع ذلك تدركها النفس الإنسانية في المنام.

كما ان تطابق مثل هذه الأحلام والرؤى الصادقة مع الواقع الخارجي في ما بعد لا يمكن أن يحمل على التصادف ، لاستحالة تكرار هذا التطابق مثات المرات عن طريق الصدفة.

وخلاصة القول ان هذه الرؤى التي كشفت عما يقع قبل وقوعه خير دليل على ان الانسان مزود بقدرة ثالثة (غير قدرة الحواس وقدرة العقل) يستطيع

__________________

٢ ـ آيات بينات في حقية بعض المنامات. للمحقق المعروف المعاصر الشيخ محمد تقي الشوشتري.

٣٩٣

بها من الوقوف على حقيقة احداث وحالات قبل أوان وقوعها أو حين وقوعها مع وجود المسافة الشاسعة بين الحالم والحادثة كما عرفت من الفهم السابقة وأشباههما!

ان ذلك يرشدنا إلى أن هناك عالماً آخر في بطن هذا العالم لا تناله حواسنا ولا تخضع للالات والأدوات المادية.

* * *

الرؤيا الصادقة في النصوص الاسلامية

ثم ان موضوع الرؤى الصادقة وغير الصادقة مما ذكرته النصوص الاسلامية وأشارت اليه أكثر من مرة.

فقال النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن القسم الأول والثاني من الرؤی (أعني أحلام اليقظة) :

«ومنها الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام» (١)

وقال في شأن هذا القسم الذي مبعثه مكتومات النفس وعقدها :

«والذي يحدث به نفسه في منامه» (٢)

وكأن النفس تظهر مكنوناتها في صفحة الوعي والشعور فسماه رسول الله صلی الله عليه وآله «بتحديث النفس».

وأشار الى القسم الثالث أعني الرؤيا التي يحكي عن نفس الواقع فقال :

«ان الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوه» (٣)

كما ان القرآن الكريم نقل طائفة من المنامات والرؤى الصادقة التي رآها الأنبياء ، وتحققت أحداثها في المستقبل بشكل وآخر. وها نحن نشير الى

__________________

(١ و ٢ و ٣) بحار الانوار ج ١٣ ص ١٣ ، ١١ ، ١٧١.

٣٩٤

عناوينها تاركين التفصيل لمكان آخر :

١ ـ رؤيا النبي يوسف الصديق عليه‌السلام (١).

٢ ـ رؤيا أحد زميلي يوسف في السجن (٢).

٣ ـ رؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه‌السلام (٣).

٤ ـ رؤيا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الأنفال (٤).

٥ ـ رؤیاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمودخول مكة (٥).

٦ ـ رؤياه صلى الله عليه وآله ونزو بني أمية على منبره (٦).

وفي الختام تعيد ما ذكرناه في أول البحث وهو : ان هذا القسم من الرؤى يكشف عن أن أدوات التعرف على الواقعيات لا تنحصر في الحس والعقل وان الانسان مزود بأدوات أخرى يتعرف بها على عالم آخر خارج عن افق الحس المعطل ، كما ان هذا القسم يدل على ان هناك عالم غير هذا العالم المحسوس بحواسنا الخمس.

__________________

(١) سورة يوسف ـ ٤ : إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ.

(٢) سورة يوسف ـ ٣٦ : قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ... .

(٣) سورة يوسف ـ ٤٢ : وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ.

(٤) سورة الأنفال ـ ٤٣ : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّـهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ... .

(٥) سورة الفتح ـ ٢٧ : لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ... .

(٦) سورة الاسراء ـ ٦ : وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ۚ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ... .

٣٩٥

٢ ـ الروح الانسانية المجردة

تدل براهين كثيرة على أن الروح كائن مجرد غير مشوب بالمادة وآثارها وتجرد الروح الانسانية هذا يعتبر من النوافذ المشرعة إلى عالم الغيب ، وخير دليل لاثبات وجود الكائنات المجردة ، والموجودات غير المادية.

وفيما يلي أبرز هذه البراهين وأوضح هذه الأدلة الدالة على تجرد الروح والنفس والشخصية الانسانية نذكرها الواحد تلو الآخر بشكل يتلاءم مع حجم هذا الكتاب.

البرهان (العقلي) على تجرد النفس الإنسانية

ثبات الشخصية الانسانية في دوامة التغيرات الجسدية

ان هذا البرهان الذي أقامه الفلاسفة على تجرد الروح (١) ، أو الشخصية

__________________

(١) ان للنفس الإنسانية عند الفلاسفة تجردين لكل منهما خصوصية :

أ ـ التجرد البرزخي وهو عبارة عن خلو الموجود عن المادة والنقل والجرم ، وان لم يكن خالياً عن الابعاد.

ب ـ التجرد العقلى وهو التجرد الكامل. وللنفس الإنسانية باعتبار مراتبها تجردین :

والمراد من التجرد العقلي هو تجرد النفس عن المادة وآثارها من الكم والكيف وهو حاصل للنفس عند دركها المفاهم الكلية العقلية عن التصور والتصديق ، فهي في تلك المرتبة مجردة عن المادة (أي الثقل والجرم) وآثارها (أعني الكم والكيف).

وأما التجرد البرزخي فهو عبارة عن تجرد النفس عن نفس المادة دون آثارها ، وهو حاصل للنفس عندما تدرك الصور ذات الأبعاد والالوان والكمية والكيفية الخاصة.

ولا غرو في ذلك فان النفس في وحدتها ذات مراتب في كل مرتبة توصف بحكم ما

٣٩٦

الانسانية يتألف من مقدمتين :

الأولى : أن هناك موجوداً تنسب اليه جميع الأفعال الصادرة من الانسان من غير فرق بين الذهنية أو الجسمية.

وان لهذا الموجود حقيقة وواقعية يشار اليها بكلمة «أنا» وليست تلك الحقيقة أمراً انتزاعياً.

الثانية : أن هذه الحقيقة التي تعد مصدراً لافعال الانسان ، ثابتة ، وباقية ، ومستمرة في مهب التغيرات ، وهذا الثبات والبقاء في دوامة التغيرات آية التجرد.

وعلى ذلك فيجب علينا اثبات كل واحدة من المقدمتين ، حتى يبنى عليها صرح هذا البرهان. واليك كل واحدة من تينك المقدمتين بشيء من التفصيل :

ألف ـ الشخصية الانسانية المعبر عنها بالانا :

لم يزل كل واحد منا ينسب أفعالا كثيرة الى نفسه التي يعبر عنها بالأنا أو ببقية الضمائر المتصلة مثل قوله : «قرأت ، كتبت ـ أردت ، أحببت» بل يضيف كثيراً من أعضائه إلى تلك الحقيقة ويقول : «يدي ، رجلي ، عيني ، قلبي ، اذني» وما شاكل ذلك.

__________________

يتحد معها من العلوم والادراكات. ففي مرحلة درك المفاهيم الكلية العقلانية المحضة (مثل درك الانسان نوع) أو تصور ذات الانسان الكلي تكون مجرداً محضاً بحسب ما يدرك من المجردات كما انها في مرحلة تصور ذوات الأبعاد والالوان تكون مجرداً برزخياً متوسطاً بين المادية المحضة والمجرد الكامل ، وذلك بحسب ما يدرك من الصور التي هي أيضاً من هذا النوع من التجرد.

وقد أقام صدر المتألهين عای تجرد النفس تجرداً برزخياً براهين أربعة في الجزء الثالث من الاسفار (ص ٤٧٥ ـ ٤٨٧). كما انه بحث في تجرد النفس العقلاني المحض في الجزء الثامن منه ، وأقام أحد عشر برهاناً على تجرد النفس الإنسانية تجرداً عقلانياً (ص ٢٦ ـ ٣٣).

٣٩٧

وهذا الأمر مما يتساوى فيه الالهي والمادي ، ولا يمكن أن ينكره أحد (١).

غير أنه يجب علينا أن نتعرف على تلك الحقيقة المعبر عنها بالانا ، التي يسند كل انسان اليها أفعاله الذهنية (مثل فكرت وتصورت وحسبت) والخارجية (مثل كتبت ، طالعت ، اشتريت) أو يضيف اليها أعضاءه وجوارحه.

هناك موقفان في هذا المجال موقف للالهين وموقف للماديين ولكل حجته.

واليك فيما يلي استعراض موقف الإلهي ، والمادي في هذا المجال ثم استعراض حجتهما على ذلك.

نظرية الالهيين :

يعتقد الالهيون بأن «الانا» التي ينسب اليها كل انسان أفعاله وأعضاءه تشير الى «حقيقة مستقلة» وراء الأفعال والاعضاء ، هي منشأ كل تلك الفعاليات الانسانية الذهنية والعملية.

نظرية الحسيين :

يعتقد الحسيون ـ الذين لا يعتمدون في أبحاثهم وتحليلاتهم على غير الحس والتجربة ـ بأنه ليس هناك سوي مجموع الأفعال والافكار والتصورات البشرية المتلاحقة المتعاقبة.

__________________

(١) قال العلامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان : «لم يزل الإنسان فيما نعلم ـ حتی ان الاولى ـ يقول في بعض قوله : «انا» «ونفسي» يحكى به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدري ما يقول ويعلم ما يريد غير ان انصراف همه الى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالاعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه الفس المحكی عنها بقوله : «أنا ، ونفسي ، وربما ألقى ذلك في وهمه ان ذلك هو البدن لا غير (راجع الميزان ج ٦ ص ٨).

٣٩٨

فالأنا ليست سوى ما ينتزع من مجموع هذه الأمور لا أنها حقيقة مستقلة يشار اليها بالبنان.

والفرق بين النظر بنين في غاية الوضوح فالأولى تنفد ، بوجود حقيقة مستقلة وراء الأفعال الذهنية والخارجية ، والثانية تنفي وجود مثل هذه الحقيقة ، وتری أن «الانا» أمر انتزاعي ينتزعه الذهن من تراقب الأفمال الخارجية والذهنية الصادرة من جوارح الانسان وجوانح ، وليس هناك شيء آخر وراءها.

ان منشأ النزاع بين النظر بتين إرجع في الواقع الى الاختلاف في «أدوات المعرفة».

فبما أن المادي يكتفي في مجال المعرفة بالحس والتجربة ، ويرفض اغيرهما ، فانه لا يمكن له اثبات «جوهر قائم لنفسه» ، وهذا بخلاف الإلهي فانه ـ لسعة مشربه في مسألة أدوات المعرفة ـ يثبت ان هناك جوهراً واقعياً وراء الافعال الصادرة عن الأعضاء والجوارح ، نشير اليه بالانا.

واليك توضيح ذلك :

ان الفلسفة الاسلامية قسم الموجود الى نوعين : جوهر وعرض.

والجوهر هو الموجود القائم لنفسه غير المعتمد في وجوده على شيء الحجر والشجر والحيوان.

والعرض هو الحالة التي تقوم بذلك الجوهر وتعرض عليه ، مثل الحالات النفسية ، والعوارض الجسمانية كالطول والعرض والعمق ، والثقل.

ولما كان المادي لا يعتمد الا على الحس امتنع عليه أن يدرك الجواهر ، لان الحس لا يدرك سوى الأمراض الثقل والخشونة ، واما نفس الجوار فلا تخضع للتجربة ولا ينالها الحس.

ان الحس لا يدرك سوى الامتداد في الحديد عند مس الحرارة ، ولا يمكن

٣٩٩

له اثبات نفس جوهر الحديد.

وبعبارة أخرى فان اللامسة مثلا لا تدرك سوى الصفات كالخشونة والنعومة والحرارة والبرودة.

ولهذا استحال على المادي ان يرى غير الافعال المتعاقبة والأفكار والأدراكات المتلاحقة المتصلة الصادرة من جوارح الانسان وجوانحه ويعبر عنها بالانا دون أن تكون لهذه الأنا اية حقيقة مستقلة وراء ذلك ، لديه.

وقد غاب عن المادي انه يلزم من ادراك الحس لمجرد العوارض والصفات دون الجواهر ان لا يتمكن من اثبات المادة وتنوعاتها المختلفة كالشجر والحجر والانسان والحيوان لانه لا يدرك منها سوى عوارضها ، وبهذا ينهار اساس المادية.

واما الالهي فان لديه لاثبات الجواهر طريقاً يعرفه من له المام بموقف الألهين من أدوات المعرفة.

ثم إن الذي يدل على نظرية الالهيين بأوضح الدلالة ـ هو ان الافعال البشرية رغم صدورها عن أعضاء مختلفة ، فالابصار يكون بالعين ، والرفع يكون باليد ، والمشي يكون بالرجل ، والسمع يكون بالاذن ، فان الانسان ينسبها جميعاً إلى مصدر واحد فيقول : أنا شاهدت ، أنا رفعت ، أنا مشيت أنا سمعت.

ولهذا يجب أن نعترف بأن هناك وراء هذه المحمولات «موضوعاً واحداً» تحمل عليه جميع هذه المحمولات ، حتى يصح هذا الإسناد ، والا كانت القضية بلا موضوع ، لان المفروض انه ليس هنا مصداق واقعي للفظة الـ : «أنا» في القضايا المذكورة ، أو كان الموضوع عين المحمول لانه اذا كانت الأفعال المتلاحقة هي «الانا» كما يقول الحسيون ویكون «أنا» مفهوماً منتزعاً من تلك الأفعال يلزم أن يكون «المحمول» في «أكل ـ ذهب ـ ضرب» نفس الموضوع وهو «أنا». وكلا الامرين خطأ بالوجدان ، والبداهة.

٤٠٠