الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

أخرى ، أو جماعة بشرية دون جماعة بشرية ثانية ، بل نجدها في كل دورة من أدوار التاريخ البشري ، وكل نقطة من نقاط الارض حطت للانسان فيها قدم ، وليس ذلك الا لملازمة مبادئها (وهي تلك الغرائز الأصيلة الأربع) للانسان دائماً وأبداً.

ان لكل واحد من هذه الغرائز أثراً بالغاً في بناء جانب من جوانب الحضارة الانسانية ، وتحقق تطور عظيم وعميق في ناحية من نواحي الحياة البشرية. وهي بالتالي متعاونة فيما بينها لبناء الحضارة الانسانية ، فهي أشبه بفنيين من ذوي الاختصاصات المختلفة الذين يتعاونون لبناء قصر جميل المنظر ، منسق الاركان.

فما اتفه قول ماركس بأن «الصراع الطبقي» هو العامل الوحيد والاساسي لجميع التطورات والتحولات الاجتماعية والفلسفية والفنية والعلمية وغيرها ، فهذا الكلام أشبه بمن يريد تفسیر زلزال عظیم بهبوط صخرة من قمة جبل.

* * *

١١ ـ الاسباب المتنوعة للتحولات الاجتماعية

تصر الماركسية على ان تفسر جميع التحولات الاجتماعية في الحياة الانسانية وكل تغيير لنظام اجتماعي الى نظام اجتماعي آخر بالأصل الديالكتيكي المزعوم وهو : «الصراع الطبقي» في حين أن ما وقع ، أو يقع ، في حياة البشر من تحولات وتطورات لها مناشئ وعوامل أخرى غير ما ذكروه ، وتوضيح ذلك ان التحولات المؤدية ـ في الأغلب ـ الى تأسيس الانظمة السياسية أو تغيرها تتنوع الى ثلاثة أنواع :

النوع الأول : ما يقع بواسطة بعض الطغاة الذين يعمدون إلى التوسّل

٥٠١

بكل وسيلة وحيلة للحصول على السلطة على الناس بحجة انهم أولى من غيرهم بالحكم والسلطان ، لما يتمتعون به من قوة ومال وعشيرة ، فلا يدفعهم الى ايجاد مثل هذه الاوضاع الا دافع حب الجاه والمنصب ، وحب الذات ، والشهوة وهم بالوصول الى مأربهم ومطامعهم في الحكم والسلطان يرضون رغبتهم ، ويشبعون جوعهم الى السلطة ، ويروون عطشهم الى الشهوة والشهرة.

ويوجد في مقابل هذا الفريق فريقان آخران ، الفريق الاول : المحرومون المسلوبوا الحقوق الذين ينهضون في وجه الحكام ، ويثورون على أنظمتهم السائدة لانقاذ حقوقهم ، ودفع الحرمان عن أنفسهم ، ويقع التصارع والتنازع بينهم وبين تلك الاجهزة الحاكمة ، وينتهي أحياناً بانتصار المحرومين ، وأحياناً بهزيمتهم ، لقوة الحكام وضعف وسائل المحرومين ، وهذا هو النوع الثاني من التحولات الاجتماعية التي لها عامل آخر يختلف عن النوع الاول.

وفي هذا النوع يكون للعامل الاقتصادي دور بارز في اشتعال الثورات وقيام الكادحين من العمال والفلاحين وغيرهم من المحرومين في وجه الحكام وأرباب السلطة والمال والعمل.

الفريق الثاني وهم : الذين لا تدفعهم الى مقاومة الحكام ، والثورة على الانظمة القائمة ، الا الدوافع الانسانية النبيلة مثل حب العدل والحق وحسب النوع الانساني والرحمة وغيرها من الغرائز الانسانية العالية (١) ، فهم يندفعون ـ تح تأثير هذه الدوافع ـ الى الثورة على الحكام الجائرين الذين يجورون ويظلمون ، وينهبون الثروات ، ويهدرون كرامة الانسان دون أن يكونوا في ثوراتهم ودعواتهم مدفوعين بأي دافع شخصي ، ودون أن تكون نهضتهم لتحقيق أي مكسب لانفسهم.

__________________

(١) هذا اذا لم نأخذ في الاعتبار التكليف الالهي لهم.

٥٠٢

ويتألف هذا الفريق في الأغلب من الأنبياء العظام ومن سار على نهجهم من العلماء والمصلحين.

فهذا هو النبي العظيم «ابراهيم الخليل» في وجه «نمرود» لانه تمرد وتفرعن واتخذ عباد الله خولا ، ومال الله دولا ، وعاث في الأرض فساداً.

وهذا هو النبي العظيم «موسى الكليم» ينهض في وجه فرعون ، لانه عبّد الناس ، واستغلهم ، وقتل الرجال واستحيا النساء ، واستضعف شعبه ، وعلا وطني في الأرض.

وهذا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خاتم النبيين وهو من أعز قبيلة في العرب ، وهو تلك الشخصية المكرمة المحترمة يقوم في وجه الأصنام وأصحابها ، ويثور على طغاة مكة بل وكل الطغاة والمستكبرین حاملا الى البشرية جمعاء ، رسالة الاسلام الالهية التي هي رسالة التحرير والخلاص ، والسعادة والفلاح.

وقد تحمل جميع هؤلاء الرسل العظام في طريق دعوتهم وقيامهم أشد أنواع الأذى والعذاب من قومهم والطغاة في عصورهم دون أن يدفعهم الى ذلك اي دافع غير الدافع الانساني والمسؤولية الالهية الملقاة على عاتقهم ، ومن دون ان يكون الدافع لهم هو تعرض مصالحهم الشخصية للخطر بل كان العامل المؤثرهو المسؤولية التي تحملوها من جانب الله اولا ، ومن جانب ضمائرهم ثانياً ، ولهذا نرى المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام عندما سئلوا عن علة اقدامهم على فتح ایران اجابوا قائلين :

«الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة الله ، ولنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الاسلام» (١).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ١ ص ٣١ ـ ٣٢٠.

٥٠٣

وهكذا لا يندفع هذا الفريق الى مكافحة الأنظمة السائدة واحلال أنظمة اخرى مكانها الا بدافع انساني وآلهي لا اقتصادي وطبقي.

اذن فالأسباب الداعية الى الثورة ، والباعثة على مكافحة الحكام ، وقلب الأنظمة وبناء مجتمع انسانی جدید لا تنحصر في ماذكرته الماركسية من الصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية بل هي :

اما العامل النفسي المنحرف المتمثل في حب الذات والمال ، والشهرة ، والسلطان.

واما العامل الأخلاقي والروحي المتمثل في غريزة حب العدل والقسط ، والرحمة على البشر ، أو المسؤولية الالهية المتمثلة في الرسالات السماوية.

ولا يمكن مع ذلك انكار أن للعامل الاقتصادي والاختلاف الطبقي دوراً في وقوع طائفة من التحولات وليس جميعها.

* * *

١٢ ـ دور الصراع الداخلي في ظهور التنوعات

أن الهدف من طرح قانون «الصراع الطبقي» في المادية الديالكتيكية هو تفسير ما للكون من الكمالات والفعليات ، من هذا الطريق وبالتالى ادعاء ان للصراع والتناقض دور البناء والخلاقية في الطبيعة ، فكل ما يبدو للعيان في الطبيعة من الكمال والتنوع ناشيء من التضاد والصراع الداخلي ، فهو بمنزلة العلة الفاعلية (أي معطي الوجود في الفلسفة الالهية. وهنا لابد لنا من الوقوف على حقيقة الحال في هذه المسألة ، والوقوف على مدى دور التضاد والصراع الداخلي في ظهور الأنواع والكمالات في صفحة الطبيعة ، فنقول :

لاشك ان للتضاد دوراً هاماً في الأمرين التاليين :

٥٠٤

١ ـ حدوث جمال الطبيعة وتنوعها ، فلولا وجود عناصر مختلفة ، وطاقات متنوعة في الكون والطبيعة لم يكن من الجمال المشهود الان أي أثر أو خبر ، ای لو كان في العالم عنصر واحد أو طاقة واحدة لبقي العالم على صورته البسيطة البدائرة.

٢ ـ ازالة الفعاليات السابقة ومحوها وتجريد المادة عن الفعلية الأولى ، وهذا هو المشاهد في التضاد الخارجي بلا اشكال ، فلو لم يكن للنار ضد من الماء او الريح او غيره لبقيت المادة اسيرة في قبضة الصورة السابقة ، غير ان ورود الضد عليه أو جب انخلاع المادة عن الصورة السابقة ومثله التضاد الداخلي ليس له الا خلع المادة من الفعلية السابقة ، فالبيضة ـ حسب فرض ماركس ـ بما انها تحتوي على تناقض داخلي فان هذا التناقض والصراع يوجب تحریر مادتها عن الصورة السابقة.

غير أن الماركسية تدعي أمراً زائداً على هذا وهو دور الخلاقية للصراع والتناقض وهذا ما نبحثه في المقطع التالي :

١٣ ـ هل للتضاد دور الخلاقية للفعليات؟

ان الماركسية تدعي أن للتضاد دورا آخر مضافاً إلى هذين الأمرين وهو دور الخلاقية ، واليك تحليل هذه النقطة من فلسفتهم فنقول :

ان الماركسية تصر على ، أن للتضاد الداخلي دور الأخلاقية بمعنى انه هو السبب في ظهور الفعاليات والكمالات الجديدة ، وان التضاد والتصارع الداخلي اثراً مباشراً في ازالة ومهو صورة الروضة من مادتها ثم افاضية صورة الفرخ علی تلك المادة فهو اذن ، بمنزلة الملة الفاعلية عند الالهيين.

والسؤال المطروح هنا هو : بأي دليل جنح ماركس وانصاره الى هذا الرأي ، واعطوا للتضاد الداخلي مثل هذه المنزلة اعني دور الخلاقية بمعنى ايجاد الصورة

٥٠٥

الجديدة ، والكيف الجديد.

أو ليس ذلك لأن الماركسيين لا يرون لظهور الصور والفعليات الجديدة علة أخرى.

أجل أن دافع الماركسية الى اتخاذ مثل هذه الفكرة ليس الا اتخاذها لموقف مسبق في تحليل الظاهرة الكونية وفعلياتها ، فانها اذ اتخذت المادة أصلا ، وأنكرت وجود كل العوالم غير المادية ، نظرت إلى العالم من زاوية هذه الفكرة الخاصة فلم تجد ما يصلح لاسناد ظهور الفعليات اليه غير «الصراع والتناقض الداخلي» في جوهر الاشياء فاعتبرته علة مفيضة للفعاليات وسبباً بناءاً للكمالات ، فأقامته مقام العلة الفاعلية في الفلسفة الالهية.

ترى هل يصح لمن يحاول تفسير الكون بموضوعية وجدية أن يعتمد على مثل هذه الفكرة التي لا دليل له عليها سوى الموقف المسبق؟!

وها نحن نلفت نظر القارئ الى أمرين لاثبات عدم كفاية التضاد الداخلي الظهور ما في الكون من الحركات والتنوعات والتوجه نحو الكمال تاركين التفصيل الی محله :

الأول / ان المادة ـ في حركتها ـ تتوارد عليها فعليات جديدة ليست من سنخ المادة ، كالشعور والادراك والمشاعر النفسانية التي برهن العلماء في الفلسفة الاسلامية على تجردها عن المادة ، فما هو العلة لظهور هذه الكمالات في المادة؟ وهل يمكن ان نعتبر «الصراع الداخلي» علة لظهور الأرواح والنفوس والحالات الروحية والنفسانية (١)؟ والمادي وان كان ينكر كل شيء يتصور وراء المادة ، الا انه لا قيمة لانكاره بعد اطباق الأدلة الفلسفية والتجارب العلمية على وجود تلك العوالم والحقائق في ما وراء الطبيعة والمادة.

__________________

(١) وقد عرفت بعض الأدلة على تجرد الروح عن المادة نلاحظ ص من هذا الكتاب.

٥٠٦

الثانی / انه سيوافيك في مبحث «الحركة الجوهرية» أان الحركة ليست جارية في سطوح الأجسام ، وظواهر الطبيعة وقشورها بل هي نافذة الي أعماقها وصميم جوهرها ، فالكون بأعراضه وجواهره متحرك غير ساكن وما هو متحرك ذاتاً وجوهراً يجب أن يكون له محرك من غير نفسه اذ لا يمكن أن يكون ذلك المحرك هو نفسها ، لانه يستحيل أن يكون الشيء المتحرك محركاً لنفسه لان الحركة من مقولة «الانفعال» ، والمحركية من قبيل «الفعل» ، وهما لا يجتمعان في شيء واحد ، لأن ملاك الأول هو : الفاقدية والاخذية ، وملاك الآخر هو : المالكية ، والاعطائية ، ومن هنا يكون اقامة «التضاد الداخلي» مكان العلكة الفاعلية أشبه بالهزل.

بل سيوافيك ان معنى الحركة الجوهرية ونتيجتها فوق هذا الذي ذكرناه من كون المادة متحركة ومحتاجة إلى المحرك ، بل ان معنى الحركة في الجوهر هو كون الطّبيعة ذات وجود سیال مستمر ونابع كنبعان الماء من منبعه ، وجريان الزمان وتصرّمه ، فعالم المادة ـ على ذلك ـ أشبه شيء (١) بالوجود والتحقق من جانب والانعدام والفناء من جانب آخر ، وما هذا شأنه يحتاج إلى علة فاعلية تضفي عليه الوجود في كل آن وحین (٢).

__________________

(١) انما عبرنا بقولنا أشبه لان الطبيعة المنصرمة الماضية وان كانت غير موجودة في القطعة اللاحقة غير أنها موجودة في ظرفها ومحلها ، ولا يمكن سلب الواقعية عن شيء بعد تحقته في ظرفه نحو الاطلاق ولأجل ذلك يقول الالهيون «المتدرجات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر».

(٢) وسيوافيك تفصيل هذا البحث عند دراسة الأصل الثاني من الاصول الديالكتيكية وهو «الحركة».

٥٠٧

١٤ ـ الأصول الديالكتيكية لا تستلزم الالحاد

ان الأصول الديالكتيكية التي طرحها الفيلسوف الألماني «هيجل» لم يهدف من ورائها الالحاد ، وانكار العوالم الغيبية وراء المادة ، ولكن تلميذه «فورباخ» هو الذي استنتج منها «الالحاد» ورتب عليها انكار الخالق حيث تصور أن العالم بما فيه من «الصراع الداخلي» وان المادة بما تحتوي من الجدلية والتضاد يمكن أن يفسر تحول المادة وتكاملها من جانب نفسها ، ومن دون الحاجة إلى أي عامل خارجي!! مع ان الالهي والمادي سواء تجاه هذه الاصول ، فلا الاعتقاد بالعوالم الغيبية ووجود الخالق يستلزم نفي هذه الأصول ولا اثبات هذه الأصول يستلزم نفي تلك العوالم الغيبية.

فان هذه الاصول ـ على فرض ثبوتها ـ لا تتجاوز عن كشف قوانين وأنظمة في الطبيعة تنجر إلى ظهور تنوعات ، وكمالات في المادة.

فلیس وجود هذه الأصول في عالم المادة والطبيعة دليلا على عدم وجود يد غيبية وراء العالم المادي ، أوجدت فيه هذه القوانين ، وأرست فيه هذه السنن.

فان الأصول الديالكتيكية الأربعة لا تتجاوز عن كونها شرحاً وتوضیحاً للنظام السائد في داخل المادة ، فهي مثل آلاف القوانين والسنن المكتشفة بواسطة العلماء والاختصاصيين في دراسة الطبيعة وغيرها ، أو ليس هذا النظام وهذه السنن تدل على ان هناك وراء هذا الكون قوة عليا شاعرة عاقلة قد أرست هذه الأصول والقوانين والسنن ، وأودعت في المادة هذا النظام الخاص دون غيره ، إذ أن انفجار المادة كان من المستحيل ـ لو تم عفوياً وبدون تدبیر علوي ـ أن يكون مولّداً لتلك الأصول.

هذه هي أبرز النقاط والمآخذ على هذا الأصل (وهو صراع المتناقضات) وتفسیر تنوعات الطبيعة بها ، وتمت مآخذ اخرى كثيرة اعرضنا عن ذكرها هنا.

٥٠٨

اسس المادية الديالكتيكية

الأصل الثاني

حركة المادة

ومفاد هذا الأصل هو أن كل شيء في هذا الكون خاضع للتطور والصيرورة ، أي ان كل شيء يتحرك ويتبدل في هذا الكون من أصغر الصغيريات الأولية الى الكواكب والمجموعات النجمية الهائلة ، ويدعي اصحاب الديالكتيك انهم وحدهم الذين يعتبرون الطبيعة حالة حركة وتغير دائمين.

قال «ستالین» : «ان الديالكتيك خلافاً للميتافيزيقية لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود ، حالة ركود واستقرار ، بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمین ، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان ، ففيها دائماً شيء يولد ، ويتطور ، وشيء ينحل ، ويضمحل ، لهذا تريد الطريقة الدياليكتيكية أن لا يكتفي بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض ، ومن حيث تكييف بعضها البعض بصورة متقابلة ، بل ان ينظر اليها ايضاً من حيث حركتها من حيث تغيرها وتطورها من حيث ظهورها واختفائها» (١).

وقال «انجلز» : «ينبغي ان لا ننظر الى العالم وكأنه مركب من اشياء ناجزة ، بل ينبغي أن ننظر اليه وكأنه مركب في أدمغتنا. ان هذا المرور ينم عن تغير

__________________

(١) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص ٧.

٥٠٩

لا ينقطع من الصيرورة والانحلال ، حيث يشرق نهار التقدم في النهاية ، رغم جميع الصدف الظاهرة والعودات الموقتة الى الوراء» (١).

وقال مؤلفوا كتاب المادية الديالكتيكية في شرح هذا الأصل في الصفحة ٩٠ :

كل شيء يتحرك ويتبدل في هذا العالم (من أصغر الصغيريات الأولية الى الكواكب والمجموعات النجمية الهائلة). وفي الكائنات الحية يحدث تبادل مستمر للمواد ، انها تتفاعل مع الوسط المحيط بها ، والأرض التي نعيش عليها تدور حول محورها وتتم دوارنها حول الشمس ، والشمس ذاتها ليست ثابتة ، أنها تسبح مع مجموعتها الكوكبية الدائرة حولها ، في الفضاء الكوني ، والكيان الذي يتألف منه الشمس يشبه الاعصار الناري الهائج الجامح باستمرار ، كل جسم يتكون من ذرات تتحرك باستمرار ، وكل ذرة تعج بالحركة الداخلية.

في الغشاء الخارجي للذرات تتحرك الاليكترونات ، أما في النواة فتتحرك البروتونات والنترونات بسرعة كبيرة .. وحركتها لا تقتصر على مجرد الانتقال من نقطة الى اخرى في النواة ، بل تشمل كذلك تحول بعضها الى بعضها الاخر بذبذبات مذهلة.

ان الحركة ليست حالة عرضية للمادة ، وليست شيئاً ما منفصلا عن الخصائص الاساسية للاجسام المادية ، وليست شيئاً ما خارجية بالنسبة اليها ، والاشياء لا تكون في الحال التي هي عليه الا بفضل الحركة الملازمة لها ، فالمجموعة الشمسية لا تبدو جسمة مادية نوعية الا لان جميع الكواكب التي تشكلها تتسم بحركة معينة ، ملازمة لكل كوكب منها».

__________________

(١) هذه هي الديالكتيكية ص ٧ ـ ٨.

٥١٠

نظرة عابرة الى ناموس الحركة

ان حركة المادة ليست امراً اكتشفه «ماركس» «وانجلز» وسبقا فيها الاخرين ، بل هي حقيقة ساطعة يقف عليها كل انسان مدرك ، تعامل مع الطبيعة منذ طفولته والی آخر لحظة في حياته.

فالفلاح ـ مثلا ـ پری كیف أن البذرة التي يدفنها في التربة تتفتح ثم تنبت ثم تصبح شجيرة ، ثم شجرة كاملة مثمرة ، وبالتالي يري ـ بعينيه ـ كيف تطرأ عليها الحركات التطورية المتتالية ، وتتحول من حال الى حال ، ومن شكل الی آخر.

بل الانسان اذا لاحظ نفسه ، رأی بام عينيه كيف تتوارد عليها التطورات والتحولات المستمرة من طفولة الى شباب الي كمال ثم الى شيخوخة.

وبهذا يتبين ان ما زعمه «ستالین» من ان الحركة التطورية حقيقة لا يدركها الا المادي خاصة ، وان الالهيين الميتافيزيقيين ينظرون إلى الكون على انه شيء جامد وساكن لا حراك فيه محض كذب وافتراء على الالهيين.

ولا غرو فهذا هو دأب الماركسيين الذين يتبعون الأصل الميكافيلي القائل «الغاية تبرر الوسيلة» فانهم لم يكذبوا في هذا المقام فقط بل غالطوا وكذبوا في بقية أصولهم ، حيث ادعوا بأنهم هم الذين اكتشفوها في حين نجد لها أبحاث في الفلسفة الاغريقية ، كما نجد ان الفلاسفة الاسلاميين القدامى قد ذكروا هذه الأصول وبحثوا فيها في مؤلفاتهم وبینوها بأفضل بیان.

فها هو الفيلسوف الاغريقي «ارسطو» قد استدل على وجود الخالق الصانع بـ : «الحركة» الموجودة في الطبيعة ، وقال بأن كل حركة لابد لها من محرك غير متحرك ، وقد عرف هذا البرهان باسمه في ما بعد ، ونقل عنه في

٥١١

المؤلفات الفلسفية (١).

ومع ذلك كيف يدعي الماركسيون انهم هم الذين وقفوا على قانون الحركة ، ولم يسبقهم اليه أحد؟!!

كيف يدعون ذلك وها هو الفيلسوف الاسلامي الكبير «ابن سینا» والفيلسوف الالهي «صدر الدين الشيرازي» قد بحثا مسألة الحركة بتفصيل يقف عليه كل من راجع كتابي «الشفاء» لابن سینا و «الاسفار» للشيرازي ، الى غيرهما من كبار الفلاسفة والمتكلمين في كتبهم؟!

بل صرّح القرآن بوجود الحركة الذاتية (٢) في الطبيعة حيث قال الله سبحانه :

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل ـ ٨٨).

وقال تعالى عن تطور السماء وتكاملها من الغازات الى ما هي عليه الان :

ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ

__________________

(١) وقد عزى ابن سينا الاستدلال بالحركة على الصانع الی الطبيعيين حيث قال في ص ٦٦ من ج ٣ من الاسفار : «والحكماء الطبيعيون أيضاً يستدلون بوجود الحركة على محرك ، وبامتناع اتصال المحركات لا الى نهاية ، على وجود محرك أول غير متحرك ثم يستدلون من ذلك علی وجود مبدأ أول».

وقال الحكيم السبزواري في منظومته الفلسفية ص ١٤٧.

ثم الطبيعي طريق الحركة

يأخذ للحق سبیلا سلكه

وراجع الأسفار الصدر الدين الشيرازي ج ٦ ص ٤٢ ـ ٤٣.

(٢) المراد من هذه الحركة هو الحركة الجوهرية التي سيأتي بيانها مفصلا عما قريب.

٥١٢

ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت ـ ١١)

كما انه سبحانه وتعالى صرّح بوجود هذه الحركة في الكائن البشري حيث يستعرض مراحل تخلّقه مذ كان نطفة والى أن يصير انساناً كاملا.

اذ يقول سبحانه :

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون ١٢ ـ١٤).

افبعد هذه التصريحات بوجود الحركة في كل جوانب الكون من الذرة الى المجرة في القرآن الكريم ومؤلفات الالهيين العظام يصح أو يجوز لستالین ورفاقه ان يتهموا الالهيين بانكار الحركة في الطبيعة والادعاء بأن الميتافيزيين يعتقدون بأن الطبيعة جامدة يخيم عليها السكون وكل شيء فيها ثابت لا يتغير ولا يتبدل وجميع هذه الدلائل تدل على انهم صرّحوا بها قبل أن يجد ماركس طريقه إلى الحياة.

نعم هناك مسائل في هذا الصعيد ربّما غفل عنها الماديون أو أسدلوا عليها ستاراً من الاهمال والاغفال لابد من الاشارة اليها ، والّا فنفس الاصل أعني أصل «حركة التطور» أمر مسلّم بين الفلاسفة الاسلاميين عامة.

واليك هذه الامور واحدة تلو الأخرى :

* * *

٥١٣

اولا ـ ما هي حقيقة الحركة؟

لقد عرّفت الحركة بتعاریف مختلفة أسدّها وأصحها هو ما جاء في الفلسفة الاسلامية والالهية من أن الحركة عبارة عن «خروج الشيء من القوة الى الفعل على سبيل التدرج» والقوة عبارة عن امكان الشيء وقابلية وجوده والفعل عبارة عن وجوده حقيقة.

فهذا التعريف يشمل كل انواع الحركة : الجوهرية منها والعرضية وحتی المكانية (الانتقالية) فان نواة البرتقال تنطوي على قابلية خاصة وهي قابلية أن تكون شجرة ، في المستقبل ، فاذا وقعت تحت التراب تحوّلت تلك القابلية الى الفعلية وبالتدريج تخرج من القوة الى الفعل.

وكذا الخلية الانسانية لها قابلية أن تتحول الى انسان كامل ، فاذا تحركت هذه الاشياء نحو تحقق ما تنطوي عليه من الاستعدادات والقابليات فانها تكون ـ بالحركة ـ خارجة من القوة الى الفعل ومن القابلية للشيء إلى الوجود الحقيقي له.

وهذا التعريف كما يصدق على الحركة الجوهرية للاشياء يصدق ـ أيضاً ـ على الحركات الانتقالية فان الجسم المتحرك في مكان ، له قابلية الانتقال إلى مكان آخر ، فاذا أخذ بالحركة فقد أصبح بصدد ان تصير تلك القوة والقابلية الى الفعل ، ولو بعامل خارجي.

وعلى هذا فان التعريف الذي ذكره الالهيون يشمل كل أقسام الحركة التي ستبينها في المستقبل.

وربما عرّفت الحركة في بعض الكتب بانها عبارة عن «كون الجسم في مكان بعد كونسه في مكان آخر» أو ما يقرب من ذلك مثل «كون الشيء بين

٥١٤

المبدأ والمنتهی» وما أشبه ذلك ، ولكن هذا التعريف لا يشمل الا الحركة الانتقالية وان كان التعريف الأخير أفضل من الأول (١).

الا ان التعريف الجامع الشامل لعامة أنواع الحركة هو ما ذكرناه.

* * *

ثانيا ـ الحركة قانون عام في المادة

ان الحركة التي صرّح بها الفلاسفة الالهيون والأغارقة ، ولم نجد لها منكراً الّا ما نقل عن زينون (٢) اصل عام في عالم المادة خاصة ، لا في عالم

__________________

(١) ولكنه يشمل الحركة التوسطية دون الحركة القطعية ، والفرق بين الحركتين واضح لمن له المام بالفلسفة الاسلامية وعندنا أن الحركة الواقعية هي القطعية ، وأما التوسطية فهي أمر انتزاعي على خلاف ماذهب اليه الحكيم السبزواري ، وما ذكرناه هو المأخوذ مما حققه الحكيم صدر المتألهين.

(٢) وهو الذي أنكر وجود الحركة أي التغيرات المتسلسلة المتلاحقة السيالة ، وزعم ان كل ما یسمی بالحركة ، انما هو من قبيل الامور الدفعية الانية المنفصلة بعضها عن بعض ـ حقيقة ـ وان كانت حسب الحس اموراً متصلة ، حتى انه أكد على أن حركة المسافر من أقصى الارض الى أقصاها ليست الا سلسلة من تغییرات دفعية تتخللها سكنات متعاقبة ولا تدرج في الوجود.

من هنا يعرف أن الذي هو مدار البحث والنقاش بين مثبتی الحركة ، ومنكریها ، اليس هو نفس التغير والتبدل فالمنكر للحركة معترف بالتغير وشاهد له بعينه وحسه ، بل المدار في النقاش هو ان هذه التغيرات هل هي سلسلة متسلسلة لا يتخللها توقفات وسكنات أو هي عبارة عن التغيرات الدفعية من دون أن يكون لها وجود سیال تدريجي والمنكر (مثل زينون) على الثاني.

وبذلك تعلم قيمة ما يقوله الماركسيون في هذا المقام. فانهم خلطوا التغير بالحركة وزعموا مساوقة التغير الحركة ، ولأجل ذلك ترى انهم كثيراً ما يستعملون التغير مكان

٥١٥

الوجود بأسره لان الوجود أعم من المادة.

فلو كانت المادة ملازمة للحركة لم يعن ذلك أن الحركة تعم كل ما في الوجود ، ولأجل ذلك نجد الفلاسفة الالهيين مع اعتقادهم بالحركة لا يقولون بشمولها لعامة ما في الوجود. بل يقصرونها على «المادة» فحسب ، وما ينقل عن «هيراقليط» من انه لا يمكن للانسان أن يسبح في ماء واحد مرتين وذلك بسبب التحول المستمر الذي يطرأ على ذرات الماء يصدق على الوجود المادي خاصة لا عامة الوجود الذي هو أعم من المادة وغير المادة ، ولهذا نجد هناك اموراً خارجة عن نطاق المادة ، وبالطبع خارجة عن نطاق قانون الحركة.

واليك فيما يأتي نماذج من هذه الامور :

١) : القواعد الرياضية ، والقوانين الفيزياوية المحققة ، والاصول الفلسفية المسلمة ، فانها جميعاً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل أبداً.

فقانون استحالة اجتماع المتناقضين أو ارتفاعهما ، أو احتياج المعلول الى العلة ، وغيرها من القضايا الفلسفية ، مثلا قضايا ثابتة ، لا يجري عليها أصل الحركة الجاري ، في عالم المادة.

وكون هذه القوانين منطبقة على الأمور المادية لا يعني أن نفس القوانين أمور مادية أيضاً ، فما أكبر الفرق بين نفس القانون ، ومورد القانون ، فمورد القانون مثل «ورقة مربعة» تجري عليه الحركة وأما القانون (أي كون المربع

__________________

الحركة ، ويزعمون تساوقهما مع ان بين المفهومين عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فكل حركة تغير ، وليس كل تغیر حركة ، ولو اننا استعملنا لفظ التغير مكان الحركة ، فانما هو من باب اطلاق العام وارادة قسم منه.

حيث انهم عبروا عن الحركة في مقام التعریف ، بالتغير مع انك قد عرفت ان التغير والتبدل ليس هو مطار الجدل والنقاش.

٥١٦

ما تتساوى جميع أضلاعه الأربعة) فمما لا يتصف بالتغير والحركة ، بل هو أمر ثابت مدى الدهور والايام.

ويشبه هذا قولنا : «كل معلول يحتاج الى علة» فان كل واحد من العلل المادية ومعالیلها تعمه الحركة ويطرأ عليها التغيير ، ولكن نفس القانون لا يتبدل ولا تتغير وهكذا.

ومما يرشد الماديين إلى أن أصل الحركة محصور بالأمور المادية خاصة وأنه لا يعم القوانين الحاكمة عليها هو كون الاصول الديالكتيكية ـ عندهم ـ أصولا كلية ثابتة لا تجري عليها سنة التغيير ولا يشملها قانون الحركة ، لدرجة انه لا يجوز لأحد أن يخدش فيها ، ويشكك في صحتها وكأنها ـ كما يقول ستالين ـ قد سبكت من فولاذ وهي بالتالي حصون منيعة لا تطالها يد التغيير ولا تشملها حركة التحول والتطور. اذ لو اعترفوا بخضوعها للتغيير أيضاً لزم من ذلك بطلان منهجهم من الاساس.

فان تبدل هذه الأصول (أي تبدل أصل الحركة الى أصل السكون ، أو أصل الارتباط العام إلى الانفصام ، أو التناقض الى التوافق) يستلزم سقوط الأصول الديالكتيكية ، وانهيار ما بني عليها من بناء ، فلا مناص اذن من ادعاء ثباتها وديمومتها مدى العصور والدهور وخروجها عن سنة التحول والحركة والتغيير.

٢) : ان الأدلة القاطعة أثبتت ـ كما عرفت ـ ان وراء هذا العالم المادي عالماً مجرداً عير خاضع لسنة التبدل والتغير ، والحركة والتطور ، لما قلناه من الاعتقاد بوجود الحركة في عالم المادة ، ليس بمعنی سريانها في عالم الوجود على الاطلاق ، ولهذا فان وجود الله سبحانه والارواح ، وغير ذلك من العوالم الغيبية يتعالى على سنة الحركة ، ولا يخضع لقانونها الجاري على كل شيء مادي.

٥١٧

ان المادي لما جعل الوجود مساوقاً للمادة (أي تصور أن المادة هي كل ما في الوجود وان الوجود ليس غير المادة) وجعل الحركة من خصائص المادة زعم ان الحركة تعم الوجود بأسره ، وتلك غفلة فضيعة من الماديين عن أن دائرة الوجود أوسع وأعم من المادة وان الجسم والجسمانيات ليس سوى قسم من الوجود.

ثم أن المجردات التي لا تخضع لسنة الحركة وقانون التطور لا تنحصر في ما ذكرناه ، بل هي أكثر من ذلك غير اننا اكتفينا بذلك تنبيها على أن أصل الحركة خاص بالمادة لا انه من خصائص الوجود ، اذ المادة قسم من الوجود ليس الا.

* * *

ثالثاً ـ الحركة لا تلازم التكامل دائماً

لقد ادعى أصحاب نظرية «المادية الديالكتيكية» أن الحركة تتجه دائماً نحو التكامل ، أي أن كل حركة في الطبيعة من شأنها أن تنتج صورة أكمل من الصورة السابقة.

والماركسون لا يهدفون من هذا الكلام الا اثبات أصل اجتماعی ، وهو ان كل نظام اذا تبدل إلى آخر كان اللاحق أكمل وأفضل من النظام السابق.

فالبرجوازية ـ مثلا ـ اذا تبدلت الى الاشتراكية كانت الاشتراكية نظام أفضل من البرجوازية وهكذا ..

ولأجل أن يعتمدوا في اثبات هذا الامر على أصل فلسفي ادعوا بأن كل حركة تسیر حتماً باتجاه التكامل ، أي تفرز باستمرار نوعاً أكمل وأفضل ، وبهذا استخدموا أصلا فلسفياً غير مبرهن لاثبات مطلب اجتماعي سیاسي.

٥١٨

وليس هذا الموقف يقتصر على هذا الأصل ، فان تلك الجماعة استخدمت أصولا أخرى لأثبات أفكارهم الاجتماعية والسياسية من دون أن يكون بين تلك الأفكار وهذه الأصول أي ارتباط مقبول.

ان التكامل من الأمور التي يعترف بها الاختصاصيون في شتى شعب العلوم بل ويبحثون عنه دائماً.

فالجيولوجيون مثلا يبحثون عنه في مجال الحضارات لمعرفة حلقاتها المتكاملة.

وعلماء الأحياء يبحثون عنه أيضاً بمقایسة الحيوانات البرية والبحرية بعضها الى بعض ودراستها لذلك الهدف وهكذا يفعل غيرهم في المجالات العلمية الاخرى.

ولأجل ذلك يعد التكامل من الحقائق التي لا يمكن لاحد انكاره كما ان انتهاء الحركة إلى التكامل في الجملة وفي بعض الأحيان مما لا مجال للمناقشة والتشكيك فيه ، ولكن البحث انما هو في ثبوت القاعدة الكلية التي يدعيها الماركسيون وهي : «ان كل حركة على الاطلاق ملازمة للتكامل ومنتهية اليه حتماً».

فلابد هنا من وقفة لاستجلاء حقيقة الحال ، ولابد أن نسأل ماذا يراد من ملازمة الحركة للتكامل؟ فان التكامل يطلق على معنيين اليك بيانهما :

الف ـ التكامل : تبدل القوى الى الفعليات

فان التكامل قد يطلق ويراد منه ان الحركة تلازم تبدل القوى والقابليات الى الفعليات وان كل حركة لا تخلو من ذلك ، فهذا صحيح ومقبول ، وقد سبق ان قلنا ـ في تعريف الحركة ـ انها ليست الا تبدل القوى والقابليات الى الفعليات.

٥١٩

ولكن الاعتراف بالتكامل بهذا المعنى لا يعني أن الفعليات اللاحقة أفضل وأكمل من الفعليات السابقة ، بل ربما تكون الفعليات اللاحقة متساوية مع السابقة وربما تكون أنزل مستوى ، وأحط نوعية من السابقة ، كما نلاحظ ذلك في الخشب المتحول الى الرماد ، والشجر المتبدل الى التراب ، والفاكهة الجيدة المتغيرة الى فاكهة متعفنة.

وبعبارة أخرى : لو اريد من ملازمة الحركة للتكامل ان كل حركة تقع في عالم الطبيعة تستلزم تبدل القوى والقابليات الى الفعليات فذلك مما لا ريب فيه ولا نقاش ، فان حقيقة جميع الحركات الجوهرية والعرضية هو تبدل القوى الى الفعليات ، وهذا جار في كل موارد الحركة اذ لا مناص فيها من تبدل القوى الى الفعلية ، حتى في انتقال الجسم من مكان إلى آخر ، فان الجسم قبل الحركة الى المكان الثاني فيه «قابلية» أن يكون في المكان الثاني ، وبالحركة تتبدل تلك «القابلية» والقوة الى التحقق والفعلية.

أي أن «قوة» الكون في مكان آخر تصير بمثل هذه الحركة «فعلية» لحصول الجسم في مكان آخر ، وان لم تستعقب تلك الحركة انتاج نوع جدید وأفضل في المتحرك.

باء ـ التكامل : حصول فعلية متكاملة

قد يطلق التكامل ويراد منه ملازمة الحركة لحصول نوع أفضل وأكمل من السابق بمعنى ان الجسم يكتسب كيفية جديدة أعلى من الكيفية السابقة.

كما يتبناه الماركسيون وهذا مرفوض حساً ووجداناً ، اذ لیست كل حركة تنتج كيفية جديدة وعالية في المتحرك حتماً ودائما ، بل ربما تكون الكيفية العارضة اللاحقة احط من الكيفية السابقة بمراتب ودرجات ، ويظهر ذلك في الحركات الدورانية وغيرها ولتوضيح هذا المطلب واثباته نشير الى الامثلة التالية :

٥٢٠