الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

التحليل الفلسفي لمسألة الشرور

وحاصل هذا التحليل واجماله هو : أن ما يظن بعض الناس انه من الحوادث الشاذة غير المنظمة ناشئ من نظرتهم الضيقة المحدودة الى هذه الأمور ، فلو نظروا الى هذه الحوادث في اطار «النظام الكوني العام» لاذعنوا بانها خیر برمتها ، وانها ذات فوائد عظيمة وجمة تتضاءل بل تضمحل عندها المضار الصغيرة الناشئة منها ، وتكون المسألة كما قال الحكيم الالهي السبزواري :

ما لیس موزوناً لبعض من نغم

ففي نظام الكل كل منتظم

وخلاصة القول : ان النظرة الضيقة الى هذه الحوادث وملاحظة العقل البشري اليها من زواية محدودة وخاصة ، دفعته الى الاعتقاد بانها شرور ، في حين انها اذا لوحظت بنظرة واسعة وشاملة ومن خلال ملاحظة النظام العام كانت اموراً حسنة لابد من وجودها في النظام الكوني الواسع ، فهي اذن شر نسبي وليس بشر مطلق.

هذا هو اجمال الجواب ، وخلاصة التحليل الفلسفي للظواهر الشاذة عن نظام الطبيعة ، وأما تفصيله فيتوقف على بيان امور :

١ ـ النظرة الانانية الى الظواهر غير المتوازنة :

ان وصف الظواهر المذكورة بانها شاذة عن النظام وانها شرور تتنافى مع ما یدعيه الالهيون من وجود عقل وشعور وتنظيم وراء هذا الكون ، ينبع ـ في الحقيقة ـ من نظرة الانسان الى هذه الأمور من خلال نفسه ومصالحها ، وجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الامور.

فعندما يرى انها تعود على شخصه وذويه بالاضرار والافات ينبری من فوره

٢٦١

الى وصفها بالشرور ، والقبح ، والقول بانها تتنافى مع وجود عقل شاعر يدبر الكون وشؤونه ، اذ لو كان لهذا الكون مدبر عاقل شاعر لوجب خلو الكون من تلك الظواهر التي تبدو أنها شاذة عن النظام ، بل ومضرة كالزلازل والسيول والحشرات القاتلة ، والطوفانات المدمرة.

انه لا ينطلق ـ في الحكم على مثل هذه الظواهر ـ الا من نفسه ومصالحه الشخصية أو مصلحة من يقر به خاصة ، ويتجاهل غيره وغيرهم من البشر الذين يقطنون في مناطق اخرى من العالم ، أو الذين عاشوا في غابر الزمان ، أو يعيشون في مستقبله ، وتكون هذه الحوادث ـ التي تبدو في نظره المحدود الضيق شاذة ـ لازمة ومفيدة لحياتهم.

انه لا يرى الا نفسه أو من يمت اليه في حياته وكأنه لا موجود سواه وسواهم على وجه البسيطة ، وكأن العالم قد خلق خصيصاً له ولاضرابه فقط!!

انه يرى الطوفان الجارف يكتسح مزرعته ، والسيل العارم يهدم منزله ، أو الزلازل الشديدة تزعزع بنيانه ، ولكنه لا یری ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج ايجابية في نقاط اخرى من الحياة البشرية.

وما اشبه الانسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يری جرافة تحفر الأرض أو تهدم ابنية متداعية مثيرة الغبار والتراب في الجو ، فيقضي من فوره بانه عمل ضار وسيء ، وهو لا يدري بان ذلك يتم تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ، ويعالج المصابين ، ويهييء لمئات الالاف من المحتاجين الى العلاج وسائل المعالجة ، والتمريض.

ولو وقف على هذه الأهداف النبيلة وهذه الغايات الانسانية لقضي بغير ما قضى ، وحكم بغير ما حكم ، ولوصف ذلك التهديم والتخريب بانه عمل خير ، وخطوة نافعة ، ولا ضير في تصاعد تلك الاغبرة ، وتناثر تلك الأتربة في

٢٦٢

الجو ، وما يرافق ذلك من صعوبة التنفس بعض الوقت ما دامت تستعقب مثل ذلك المشروع الانساني العظيم وتمهد له.

ان مثل هذا الانسان المحدود النظرة ، الأناني في تقييمه مثل الخفاش الذي يؤذيه النور لانه يقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون ، ويساعدها على الابصار والرؤية ، ويوفر لها امكانية الحياة (١).

صحيح ان بعض الحيوانات تفترس بعضها ، وصحيح ان بعض الحيوانات يبدو انها لا تمت الى الحياة البشرية بصلة قريبة الا انها تؤدي في الطبيعة دوراً لا غنى للحياة البشرية عنها سواء على المدى القريب أو على المدى البعيد كما يقتضيه التعمق في اسرار الاحياء.

قال الحكيم الالهي صدر الدين الشيرازي :

«واعلم أنه قد تحيرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض ، وفيما جعل الله تعالى ذلك في طباعها وهيأ لها الالات والادوات التي يتمكن بها على ذلك كالانياب والمخالب والاظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرق والنهش ، والاكل والشهوة واللذة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل فلما فكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا الغاية والحكمة فاختلف عند ذلك بهم الآراء ، وتفننت بهم المذاهب حتى قال بعضهم : آن تسلط الحيوانات بعضها على بعض واكل بعض لبعض ليس من فعل حكيم بل فعل شریر قلیل الرحمة ظلام للعبيد فلهذا قالوا : أن للعالم فاعلين : خيراً ، أو شريراً.

__________________

(١)قال الإمام أمير المؤمنین علي بن ابی طالب علیه السلام في وصف الخفاش : «من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ، ويبسطها الظلام القابض لكل شيء» (نهج البلاغة الخطبة ١٥).

فهل يكون قضاء الخفاش على النور بانه شر ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة الطبيعية المفيدة.

٢٦٣

وانما لم يقفوا عليها لان نظرهم كان جزئياً ، وبحثهم عن علل الاشياء مخصوصاً ، ويمتنع ان يعلم اسباب الاشياء الكلية بالانظار الجزئية لان افعال البارئ تعالی انما الغرض منها هو النفع الكلي والصلاح على العموم وان كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً ، وهكذا خلق الله الشمس والقمر والامطار لاجل النفع والمصلحة العامة وان كان قد عرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر .. ولما كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلي كانت تلك الشدائد من جهته صغيراً جزئياً» (١).

وعلى هذا فليست هذه الظواهر الطبيعية شروراً او شذوذاً ، فان هذه النظرة ـ كما قلنا ـ ناشئة من انطلاق الانسان في قضائه على هذه الظواهر ـ من منطلق نفعي أناني ، وأما اذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلا يراها الا خيرات ضرورية التعادل النظام ولازمة لاتساقه ، ولاستمرار الحياة وبقائها.

٢ ـ الظواهر حلقات في سلسلة طويلة :

ان مطالعة كل ظاهرة من الظواهر بمعزل عن مطالعة بقية الظواهر في صفحة الكون مطالعة ناقصة ومبتورة ، لا تؤدي الا الى تلك النظرة المتشائمة.

فان الحوادث حلقات مترابطة متسلسلة في سلسلة ممتدة من اقصى الحياة الى أقصاها ، فما يقع الان يرتبط بما وقع في اعماق الماضي ، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعالیل ، والاسباب والمسببات.

من هنا لا يكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عن ما سبقها وما يلحقها ، وتقييمها جملة واحدة ، قضاءاً صحيحاً وموضوعياً ، ولا النظر اليها دون

__________________

(١) الاسفار ج ٧ من صفحة ٨ ـ .

٢٦٤

هذا الشكل نظراً صائباً يفعله العقل السليم والتفكير المنطفي ، فان كل حادثة علی البسيطة او في الجو ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما سبقها او يلحقها حتى ما يهب من النسيم في بيوتنا فانه يرتبط بما حدث او بما سيحدث ، اي ان الحوادث التي وقعت في الكون استوجبت هبوب هذا النسيم وحركة الهواء ، فلابد للمرء اذن أن يلاحظ جميع الحوادث المرتبطة في هذه السلسلة الطويلة حتى يكون حكمه صحيحاً وموضوعياً ، فلو لاحظ مجموع ذلك لتغير حكمه وتبدل قضاؤه ولم يصف شيئاً والشذوذ ، ولم يسم شيئاً بالشرور.

واليك فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك :

١ ـ اذا وقعت عاصفة على السواحل فانها لا شك تقطع الأشجار ، وتقطع الاكواخ ، وتقلب الأثاث والحاجيات في منطقة ما ، ولكنها ـ في نفس الوقت ـ تنطوي على آثار أخرى في حياة الناس في منطقة أخرى.

فهي مثلا توجب حركة السفن الشراعية المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الريح ، وبهذا تنقذ ، حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم ، وتوصلهم إلى شواطیء النجاة ، فهي اذن تنطوي على بعض الافات ، ولكنها بالنظر الى ارتباطها بحوادث أخرى تعتبر خيراً محضاً.

ان الرياح وان كانت تهدم بعض جدران الاسطح والاسوار ـ مثلا ـ الا انها في نفس الوقت تعتبر وسيلة فعالة في عملية التلقيح بين الأشجار والأزهار (١) ، وتحريك السحب المولدة للمطر (٢) ، وتبديد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل التي لو بقيت ، وتراكمت لتعسرت او تعذرت عملية التنفس لدى

__________________

(١) قال سبحانه في الكتاب العزيز : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ (الحجر ـ ٢٢).

(٢) قال سبحانه ايضاً : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ (الاعراف ـ ٥٧).

٢٦٥

سكان المدن ، والقاطنين حول تلك المصانع ، وغير ذلك من الاثار الطيبة لهبوب الرياح ، والحلقات الأخرى في هذه السلسلة الطويلة التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة او تكاد تنعدم بالمرة.

فبالنظر الى هذا الارتباط لا يبقى مجال لوصف هذه الظواهر بالشذوذ أو الشرور.

٢ ـ الزلزال وان كان يرافق بعض الخسائر الجزئية او الكبيرة في الأموال والنفوس الا انه ـ بناء على أن علته على بعض الفروض هو جاذبية القمر التي تجذب نحو نفسها قشرة الأرض ، فيرتفع قاع البحر ـ یوجب ان تصعد مياه البحار والانهر فتفيض على الأراضي المحيطة بها ، وتسقي المزارع والنخيل ، فتجدد فيها الحياة ، وتجود بخير العطاء.

فهل يبقى مجال ـ مع ملاحظة هذه الحلقات وهذا الارتباط بين الظواهر الطبيعية ـ لان نقضي فيها قضاء عاجلا ، ونلاحظها دون ما يسبقها وما يلحقها ، ودون ما یرافقها من فوائد ، وعوائد طيبة ، ومفيدة.

اجل ان علم الانسان المحدود هو الذي يدفعه الى ان يذهب هذا المذهب ، ويصف هذه الظواهر بانها شرور ، خاصة إذا عرفنا بان تقدم العلوم وتوسعها كشف عن جانب كبير من ذلك الترابط بين حلقات الظواهر ، وجعل الانسان يقف على الفوائد الجمة للكثير من الحوادث التي كان يحسبها زائدة أو شاذة عن النظام.

وهنا ندرك سر ما قاله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الانسان وقصوره وعجزه اذ قال :

وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الاسراء ـ ٨٥)

وقال ايضاً :

٢٦٦

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الروم ـ ٧)

ولهذا السبب نفسه نجد الكثير من العلماء المنصفين الذين لم تبهرهم منجزات العلوم ، ولم يغرهم ما حصل لهم من التقدم ، يعترفون بقصور العلم البشري ، ويحذرون من التسرع في القضاء والحكم على الأشياء ، ويدعون إلى الانتظار حتى تنجلي الأمور مع الزمن حتى ان احدهم وهو العالم الانجليزي الاستاذ «ولیم كروكش» مكتشف اشعاع المادة والمخترع لالات كيماوية كثيرة قال :

«من بين جميع الصفات التي عاونتني في مباحثي النفسية وذللت لي طرق اكتشافاتي الطبيعية وكانت تلك الاكتشافات احياناً غير منتظرة ، قلت من بين تلك الصفات عندي اعتقادي الصحيح الراسخ بجهلي» (١).

وقال الأستاذ «اوليفر لودج» من اكبر علماء الطبيعة الانجليز ومكتشف نظرية التلغراف اللاسلكی :

«ان الشيء الذي نعلمه ليس بشيء في جانب ما يجب علينا أن نتعلمه ، وقد يقال ذلك أحيانا بلا اعتقاد ، اما بالنسبة لي انا فهو الحقيقة الحرفية» (٢).

وقال الدكتور «الكسیس كاریل» العالم البيولوجي الفرنسي عن للانسان وعالمه المعقد والمليء بالاسرار والعجب :

«الانسان آلة معقدة جداً وغير قابلة للتقسيم ، وما من شيء يمكنه التعبير عن الانسان ببساطة ، وليست هناك من طريقة قط لفهم الذات الكاملة للانسان .. ان مناطق واسعة من عالمنا الداخلي مجهولة. ان من الممكن جداً طرح اسئلة كثيرة من هذه الأشياء التي تثير الكثير من الدهشة والتعجب ، ولكن الحقيقة

__________________

(١) على اطلال المذهب المادي ج ١ ص ١٣٦.

(٢) على اطلال المذهب المادي ج ١ ص ١٢٧.

٢٦٧

الواضحة انه لا توجد ردود مقنعة على كل هذه التساؤلات (١).

ولقد سبق العلماء المسلمون الى تقرير هذه الحقيقة من قبل. وينبغي أن نعيد هنا ما قاله الحكيم الالهي حول بعض الظواهر الطبيعية التي يتوهم شذوذها عن النظام الكوني البديع :

ما لیس موزوناً لبعض من نغم

في نظام الكل كل منتظم

٣ ـ الشر أمر قیاسي :

ان التوحيد في الخالقية يقتضي أن يصدر كل ما في «النظام الامكاني» جلیله ودقيقه ، من جانب الله سبحانه ، فلا خالق سواه وحينئذ ينطرح هذا السؤال :

كيف تصدر الشرور عنه وهو سبحانه خیر محض ، واية صلة بين الخير المحض والشرور؟

كيف يخلق الله العقارب السامة ، والحيات القاتلة ، والحيوانات المفترسة والسباع والضواري وهي كما تبدو شرور؟

ولقد اجاب الالهيون عن هذا الاشكال في أبحاثهم وأحاديثهم عن مراتب التوحيد ، فقالوا بان الشر أمر عدمي اي ليس ذات واقعية في صفحة الكون ، بل هو أمر انتزاعي ، تنتزعه النفس من مقایسة امر الى أمر ، وتوضيح ذلك ، ان الصفات على قسمين :

١ ـ ما يكون له واقعية كموصوفه ، مثل ان نقول الانسان موجود ، أو أن المتر يساوي ١ سنتيمتر ، وهذا يكون صفة حقيقية ذات واقع خارجي موجود بالفعل سواء توجه اليه الذهن أم لا؟

__________________

(١) الانسان ذلك المجهول.

٢٦٨

٢ ـ ما لا يكون له واقعية مثل موصوفه ، بل ينتزعه الذهن اذا قایسه بشيء كالكبر والصغر ، فان الكبر ليس شيئاً ذات واقعية خارجية ، وانما هي صفة تدرك بالقياس الى ما هو اصغر منه.

وبعبارة أخرى : ان الصغر والكبر وصفان لا يصدقان على شيء الا بعد مقارنته بشيء آخر.

فالارض مثلا يمكن وصفها بالصغر اذا قيست الى الشمس ، وللكبر اذا قيست الى القمر ، فهما لا يدخلان في حقيقة الأرض والا لما صح وصف الأرض بهما معاً.

والشرور من هذا القبيل فهي امور قياسية نسبية لا حقائق واقعية ، فان الشر ليس جزء من ذوات الأشياء وانما هو وصف يتصف به الشيء اذا قيس الى أمر آخر.

قسم الحية والعقرب وغزارة المطر لا تكون شرورة في حد ذاتها واذا ما قیست بنفسها ، بل أن وجودها سبب لكمال أصحابها ، وموجب لبقائها. انما هي شرور اذا قيست الى الانسان وتضرره بها ، وفقدانه لكمالات معينة بسببها.

قسم العقرب مثلا موجب لبقاء تلك الحشرة نفسها لأنه وسيلة لدفاعها عن نفسها فهو خير ولكنه شر اذا قيس الى الانسان ولوحظ تسببه في فقدان حياته.

واذا كان الأمر كذلك (اي لم تكن الشرور امواً ذات واقعية) لم يتعلق بها خلق بمعنى انها لا تكون قابلة للايجاد لكونها أعلامة لا وجودات.

اي ان اتصاف الشيء بالشرية باعتباره امراً قياسياً وعدمياً لا يحتاج إلى موجد وخالق ، وانما يحتاج الى الخلق ذات السم ، وهو ـ كما عرفت ـ ليس شراً بالنسبة الى العقرب نفسه.

وهذا هو معنى قولهم : الشرور لیست مجعولة بالذات بل هي مجعولة بالعرض والتبع.

٢٦٩

قال الفيلسوف الاسلامي الكبير «صدر الدين الشيرازي» : «اذا تصفحت عن جميع الأشياء الموجودة في هذا العالم المسماة عند الجمهور شروراً لم تجدها في انفسها شروراً بل هي شرور بالعرض خيرات بالذات كما مر بيانه بالوجه القياسي» (١).

الى هنا نكون قد خرجنا بالنتائج التالية :

١ ـ ان وصف الانسان لبعض الظواهر الطبيعية بالشرية انما هو لاجل النظر اليها من زاوية ضيقة وأما اذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخيرية.

٢ ـ ان وصف الانسان لبعض الظواهر الطبيعية بالشرية انما هو قضاء متعجل مبني على ملاحظة الحادثة بمعزل عن أي شيء آخر ، أي من دون ملاحظتها على انها حلقة مرتبطة بحلقات كثيرة موجودة في غابر الزمان أو توجد في مستقبله ، ولو لوحظت بهذا الوصف لا تصفت بالخيرية ، والحسن.

٣ ـ ان بعض الحشرات والضواري والسباع وما لها من اجهزة فتاكة مما يصفها الانسان بالشرية لا يكون الموجود منها سوى ذات تلك السباع والحشرات واجهزتها المفيدة لها ، وأما اتصافها بالشرية فهو أمر انتزاعي لا وجود له ، بل ينتزعه الذهن اذا قاسها الى ما لا يلائمها ، فهو ليس الا أمراً ذهنياً لا خارجياً ، وبهذا لا يدخل في اطار الخلق.

ومن كل ذلك تبين ـ من الوجهة الفلسفية ـ ان تلك الامور لا تكون الا شروراً نسبياً لا شروراً مطلقة ، فلا بأس بخلقها لاحتوائها على النفع الكثير واليك تحليل هذه الأمور من ناحية الاثار التربوية.

الاثار التربوية للمصائب والبلايا :

فقد اتضح مما سبق أن تسمية الانسان لبعض الحوادث الكونية بالشرور

__________________

(١) الاسفار ج ٧ ص ٦٢.

٢٧٠

ينبع ـ في الحقيقة ـ من ضيق نظرته إلى ما يقع في صفحة الكون ، او أنانية تفرض عليه أن يقيس جميع الأمور بمصالحه ومصالح ذويه بحيث لو لاحظ تلك الحوادث بنفسها ومع ما لها من الارتباط الوثيق ببقية الحوادث الأخرى ، وما لها من آثار ايجابية في حياة الناس في أمكنة أخرى ، لما وصفها الا بالخيرية والحسن.

ولقد كان هذا هو التحليل الفلسفي الذي مر ، بيد أن هناك اجابة اخرى على هذا السؤال وهو أن لهذه الحوادث «آثاراً تربوية» مهمة في حياة البشر المادية من جانب ، كما انها توجب ازاحة الغرور ، والغفلة عن الضمائر والعقول من جانب آخر.

واليك فيما يلي توضيح هذه الآثار والثمار واحدة بعد الاخرى :

أ ـ المصائب وسيلة لتفجير القابليات :

يحط الانسان قدمه على هذه الأرض وهو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات والمواهب التي تبقى في مرحلة القوى وفي صورة الطاقات المعطلة المخزونة ، الا أن تتوجه اليها صدمة قوية تحرك القابليات ، وتفجر المواهب ، وتظهر المعادن ، وتصقل الجواهر.

وبعبارة واضحة : اذا لم يتعرض الانسان للمشاكل في حياته فان قابلیاته ومواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تتفتح ، بل تبقى في مرحلة القوة والذخيرة المهملة فاذا تعرض الانسان المشاكل والمدن تفتقت فيه تلك القابليات ، ونمت تلك المواهب ، وانتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوة الى مرحلة الفعلية ، وتفتح فكره ، وتكامل عقله.

ولا يعني هذا أن يعمد الانسان بنفسه إلى خلق المشاكل ، واثارة الشدائد

٢٧١

والمصائب وجرها الى نفسه ابتداءاً ، بل يعني ان يستقبلها الانسان ـ اذا جاءت ـ برحابة صدر ، ويستفيد منها في تفجير قابلياته ، وتنمية مواهبه ، واذكاء عقله ، وتقوية روحه ، لا أن يستسلم أمام عواصفها ، أو ينهزم او ينهار ، فلا يحصد الا الخسران ، ولا يقطف الا ثمرة السقوط المرة.

ان البلايا والمصائب والمحن خير وسيلة ـ لو أحسن المرء استغلالها واستخدامها ـ لتفجير الطاقات ، بل تقدم العلوم ، ورقي الحياة البشرية.

فها هم علماء الحضارة يصرحون بان أكثر الحضارات لم تتفتق ولم تزدهر الا في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات حيث كان الناس يلجأون فيها الى استحداث وسائل الدفاع في مواجهة الأعداء المهاجمين ، أو اصلاح ما خلفته الحروب من دمار ونقص وتخلف ، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار ، مثلا.

فقد كانت ـ في مثل هذه الظروف ـ تتفتق المواهب وتتحرك القابليات الملافاة ما فات ، وتكمیل ما نقص وتهيئة ما يلزم.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :

«ان البحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الاحوال الطارئة على الانسان في المجتمعات يهدى الى ذلك فان المجتمعات العائلية ، والاحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الاغراض الحيوية دنيوية أو دينية في اول تكونها ونشأتها تحس بالموانع المضادة والمحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها ويستيقظما نامت من نفسياتها للتحذر من المكاره ، والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس. ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها ، وتتقوى وتتقدم حتی تمهد لنفسها فيها بعض الاستقلال ويصفو لها الجو بعض الصفاء ، وتأخذ بالاستفادة

٢٧٢

من فوائد جهدها (١)».

ثم اننا لا ندعي بأن هذه النتائج والثمار توجد دائماً في جميع الحوادث والكوارث ، وانما في اغلبها.

فان اغلبية هذه المصائب والبلايا تعطي دفعة قوية لقابليات الأفراد ، وتطرد الكسل عن نفوسهم والجمود عن افكارهم.

اليس الحديد يزداد قوة وصلابة كلما تعرض للنار ، واليس السيف يزداد حدة وقاطعية كلما تعرض للمبرد.

ومن هنا فان الوالدين اللذين يعمدان الى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفهة بعيدة عن الصعوبات والشدائد لا يقدمان الى المجتمع الا انساناً هزيلا ضعيف الارادة فاقد الطموح ، اشبه ما يكون بالنبتة الغضة في مهب الريح ، بل والتبنة الخفيفة الوزن امام هبوب العاصفة تأخذها يميناً وشمالا.

واما الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل والمصائب ، والمصاعب والمتاعب ، فانه يكون اشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كل السهام ، وتتحطم عندها كل العواصف أو كما وصف الامام علي ـ عليه السلام اذ قال :

«الا ان الشجرة البرية أصلب عودة والروائع الخضرة أرق جلوداً ، والنباتات البدوية أقوى وقوداً ، وابطأ خموداً» (٢).

والى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :

فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّـهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (النساء ـ ١)

__________________

(١) الميزان ج ص ١٢٤.

(٢) نهج البلاغة الرسالة رقم ٤٥.

٢٧٣

وقوله تعالی :

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. (الانشراح ٥ ـ ٦)

وقوله سبحانه :

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب (الانشراح ٧ ـ ٨)

أي تعرض للنصب والتعب بالاقدام على العمل والسعي والجهد كلما فرغت من العبادة وكأن النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان ، واخوان لا يفترقان.

وخلاصة القول : أن القدرة على المقاومة والظفر بالنجاح يتوقف على صلابة الانسان الحاصلة من المرور بالصعوبات والمشاق ، ليزداد قوة الى قوة ، وتماسكاً الى تماسك كما يزداد الحديد صلابة اذا تعرض لمطرقة الحداد ، ولكي يخلص عقله وروحه من علائق الكسل والجمود كما يخلص الذهب من الشوائب اذا تعرض لالسنة اللهب.

ب ـ المصائب والبلايا جرس انذار :

ان التمتع بالمواهب المادية ، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية.

فكلما ازداد الانسان تعمقاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، وربما انتهى به الحال الى ان ينسى نفسه بالمرة.

وهذه حقيقة يلمسها كل أحد في حياته ، وحياة غيره كما يقرأوه في صفحات التاريخ.

فلابد ـ حينئذ ـ من وخزة للضمير ، وهزة للعقل .. لابد من جرس للانذار

٢٧٤

يذكر الانسان بنفسه ويفيقه من غفوته ، وينبهه من غفلته ، وليس هناك ما هو أنفع ـ في هذا المجال ـ من بعض الحوادث التي تغير رتابة الحياة ، وتقطع على الانسان شروده وغفلته ، ولهوه ولذته ، فاذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات ، واعترضت لذته بعض المنغصات ، استيقظ من نومه ، وادرك عجزه ، وتخلى عن غروره ، وخفف من طغيانه.

ان الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه الى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق ، تسير على طريق مبلط فيغط في نوم عميق ، لا يستيقظ منه الا اذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة ، وتوقفت دون سابق اخبار ، أو مر على قطعة غير مبلطة ، فأحدثت رجفة قوية.

ولهذا تعمد الاجهزة المسؤولة عن الطرق والمواصلات الى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم ، والنعاس.

ولأجل ذلك يتضح وجه ربط الطغيان باحساس الغني والاستغناء في الكتاب العزيز اذ يقول سبحانه :

إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (العلق ٦ ـ ٧)

كما ولاجل هذا يعلل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بانها لفائدة الذكرى ، فالرجوع الى الله ، والتضرع اليه.

يقول سبحانه في هذا الصدد :

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. (الاعراف ـ ٩٤)

ويقول أيضاً :

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ

٢٧٥

يَذَّكَّرُونَ (الاعراف ـ ١٣)

فالايتان تصرحان بان المصائب والبلايا سبب لتضرع الانسان الى الله ، وتذكره ، فهو اذا نسي الله في غمار الشهوة والمادية ، ايقظته المحنة وذكرته بالله ، اذ بها يدرك أنه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، وان اللذة الدنيوية لذة عابرة ، وشهوة متصرمة وانه لا ملجأ له ، ولا معين الا الله.

وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الانسان ، وتذكره ، وتنبهه وتضرعه الى الله ، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنج التي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرضت لخطر الموت.

وهكذا توجب المحن والمصائب (التكامل الاخلاقي) كما توجب (التفتح العقلي) على ما عرفت في النقطة الأولى ، وقد يتخذ الانسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكره ويقظته والتخلي عن غروره وعندئذ تكون البلايا نعماً الهية في حق الانسان.

وقد لا يتخذ منها أي موقف أبداً فتكون في هذه الحالة ـ بالذات ـ مصيبة عليه ، وكارثة في حياته.

جـ ـ البلایا سبب للعودة إلى الحق :

ان للكون هدفاً ، كما أن لخلق الانسان هدفاً كذلك ، وليس الهدف من خلق الانسان الا أن يتكامل في جميع أبعاده ، وما بعث الأنبياء ، وانزال الكتب والشرائع الا لتحقيق هذا الهدف العظيم ، والغاية السامية.

ولما كانت المعاصي والذنوب من أكبر الاسباب التي توجب بعد الانسان عن الهدف الذي خلق الانسان من أجله ، وتعرقل مسيرة تكامله ، لان الذي يعيش طيلة حياته في الكذب والنفاق وغيرها من المعاصي لا يمكن أن يتوصل الى

٢٧٦

هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر ، كان لابد من صدمة تعيده الى رشده ، وتسرده الى صوابه وكذلك تفعل البلايا والمصائب فانها بقطعها نظام الحياة وايقافها للانسان العاصي على نتائج أعماله تو جب رجوعه الى الحق وعودته إلى العدالة ، أو تدفعه الى أن يعيد النظر في سلوكه ومنهجه في الحياة على الاقل.

ان القرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة ـ بوضوح لا ابهام فيه ـ اذ يقول :

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم ـ ٤١)

ويقول سبحانه في آية أخرى :

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (الاعراف ـ ٩٦)

نقطتان هامتان :

ويجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير الى نقطتين هامتين :

الأولى : أن بقاء الحياة على نمط واحد ووتيرة واحدة يوجب ملل النفس وكلل الروح ، وتعب العقل فلا تكون الحياة محببة لذيذة الا اذا تراوحت بين المر والحلو ، والجميل والقبيح ، والمحبوب والمكروه ، اذ لا يمكن معرفة السلامة الا عند العيب ، ولا الصحة الا عند المرض ، ولا العافية الا عند الاصابة بالحمى ، ولا تدرك لذة الحلاوة الا عند تذوق المرارة.

وبالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحة ، ولولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف ، وهكذا.

٢٧٧

ومن هنا نجد البنائين والمهندسين اذا بنوا داراً تفننوا في بناء الجدران والسقوف فبنوها متموجة متعرجة لا مسطحة خالية من أية تعرجات وتموجات لان النفس الميالة بطبعها الى التنوع لا ترتاح الا برؤيتها للجدار المتنوع الاشكال والسطوح.

ولعل لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال والاشواك الى جانب الورود ، والثمار المرة الى جانب الثمار الحلوة ، والماء الاجاج الى جانب الماء العذب الفرات ، وعبور الانهر والمياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول والاودية.

ان المصائب وان كانت مرة غير مستساغة ، ولا مأنوسة المذاق الا انها تبرز من جانب حلاوة الحياة وقيمة النعم ، وأهمية المواهب.

فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشئان من هذا التنوع والانتقال من حال الى حال ، والتبدل من وضع الی آخر.

الثانية : ان هناك من المحن ما ينسبها الانسان الجاهل الى خالق الكون والحال أن أكثرها من كسب نفسه ونتيجة منهجه.

فان الأنظمة الطاغوتية هي التي سببت تلك المحن واوجدت تلك الكوارث ولو كانت هناك انظمة قائمة على قيم الهية لما تعرض البشر لتلك المحن ولما اصابته اكثر تلك النوائب.

فالتقسيم الظالم للثروات ـ مثلا ـ هو الذي سبب في تجمع الثروة عند قلة قليلة ، وانحسارها عن جماعات كثيرة ، وتمتع الطائفة الاولى بكل وسائل الوقاية والحماية ضد الأمراض والحوادث ، وحرمان غيرهم منها هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال والامكانيات اكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم الوسائل الوقاية من الأمراض ، والحماية من النوازل.

٢٧٨

ولهذا يكثر الدمار والخراب والخسائر المالية والروحية بسبب الزلازل والسيول في القرى والأرياف ويقل ذلك في المدن التي تتمتع باعلى مستويات الوقاية والحماية والحصانة.

ولو ان الناس سلكوا السبيل الالهي المرسوم لهم ، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة والامكانيات لما تضرر احد بهذه النوازل والحوادث ، ولكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.

فالانظمة المجحفة ، وخروج الناس عن السبيل الالهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش والسلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرض الناس للمحن والكوارث.

اشكالات «هيوم» الستة :

ونذكر في ختام هذا البحث مجمل اشكالات «هيوم» الستة كما وعدنا بذلك في مطلعه ، وهذه الإشكالات هي :

١ ـ ان برهان النظام لا يتمتع بشرائط البرهان التجريبي لانه لم يجرب في شأن عالم آخر غير هذا العالم.

٢ ـ ماذا يمنع من أن نعتقد بان النظام السائد في عالم الطبيعية يدار من قبل عامل كامن في نفس الطبيعة ، اي ان النظام يكون ذاتية للمادة؟

٣ ـ من این نثبت ان النظام الموجود فعلا هو «النظام الاكمل» لاننا لم نلاحظ مشابهه حتى نقيس به؟

٤ ـ من يدري لعل خالق الكون جرب صنع الكون مراراً حتى اهتدى الى النظام الفعلي؟

٥ ـ لو فرضنا أن برهان النظام اثبت وجود الخالق العالم القادر ، بيد انه

٢٧٩

لا يدل مطلقاً على الصفات الكمالية كالعدالة والرحمة التي يوصف بها.

٦ ـ هناك في الطبيعة ظواهر وحوادث غیر متوازنة خارجة عن النظام وهي لا تتفق مع النظام المدعي ولا مع الحكمة التي يوصف بها خالق الكون.

الأجوبة الاجمالية :

والجواب على الاعتراض الأول (الذي يقول بان البرهان المذكور لا يتمتع بشرائط البرهان التجريبي) هو ان مطالعة ماهية النظام السائد في الكون تدفع العقل الى القول بانه لا يمكن ان يصدر هذا النظام عن طريق الصدفة والاتفاق بل لابد من دخالة شعور وعقل في ايجاد هذا النظام البديع.

والجواب على الاعتراض الثاني (الذي يرتبط بامكان نشوء النظام الكوني من ذات المادة او من عامل داخلي في نفس المادة) هو ان هذا الاحتمال هو نفس ما سنعالجه في بحث «نظرية خاصية المادة» ونثبت بطلانه وفساده.

والجواب على الشبهة الثالثة والرابعة والخامسة هو أن هذه الشبه والاشكالات ناشئة من عدم الوقوف على رسالة برهان النظام ومدى ما يسعی الى اثباته.

فقد تصور صاحب هذه الاعتراضات آن «برهان النظم» هو البرهان الوحيد الذي يمتلكه الالهيون في قضايا العقيدة المرتبطة بالخالق سبحانه ، في حين أن رسالة «برهان النظام» تتلخص في اثبات أن النظام السائد في الكون ليس ناشئاً من الصدفة ، بل وجد بفعل عقل وشعور ، ومحاسبة وتخطيط وبعبارة أخرى : اثبات ان للنظام الكوني خالقاً صانعاً.

واما أن هذا الخالق الصانع هو الله الواجب الوجود الأزلي الابدي

٢٨٠