الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

٦ ـ وعندما سئل عليه السلام عن نفس الآية أيضاً قال : «فطرهم على معرفة انه ربهم» (١).

هذه الايات والروايات وغيرها تشير الى كون الاعتقاد بالله ومعرفته والانجذاب إليه مسألة فطرية ، وأمراً جبلياً من شأنه أن ينتهي الى الايمان اليقيني الواضح والعقيدة القوية الراسخة اذا تركت وشأنها أو اذا حظيت بالعناية والرعاية والارشاد والتوجيه.

نقاط مهمة على هامش بحث الفطرة.

اذا وقفت على فطرية التدين ، وتأييد القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية لذلك يجب أن ننبه الى عدة نقاط هي :

الأولى : أن قولنا : «التدين أو الدين أمر فطري» له معنيان :

١ ـ أن الاعتقاد بالله الواحد أمر جبلي وفطري ، وهذا هو الذي سقنا الكلام لاجله في هذا البحث.

٢ ـ ان ما جاءت به الشرائع الالهية من اصول الأوامر والنواهي ، والقوانين الاجتماعية والأخلاقية ، والاقتصادية والسياسية أمور فطرية وذلك مثل اقامة العدل والقسط ، والاحسان إلى الاخرين والتعاون معهم والاجتناب عن الظلم والجور والاذى ، واكرام الوالدين والعطف عليها والامر بالتوطن والتمدن والعمران والنهي عن الرهبانية والعزلة والتغرب ، والدعوة الى السعي والعمل ، وترك البطالة والكسل ، واقرار الأمن والاستقرار ، والأمر بالدفاع عن النفس والمال والأهل ، واكل الطيبات والنهي عن تناول الخبائث وأكل الميتة والخمر ، والدعوة

__________________

(١) تفسیر البرهان ج ٣ ص ٢٦١ ـ ٢٦٣.

١٤١

الى الزواج والنهي عن العزوبة ، والنهي عن الزواج ببعض المحارم وغيرها.

فان هذه الأمور مما تقتضيها الفطرة البشرية السليمة السوية وتوافق عليها الجبلة الانسانية حيث تميل بطبعها الى خيرها ، وتنفر عن شرها.

ولكن هذا البحث غير مطروح هنا ، وقد يبحث في مباحث النبوة.

الثانية : أن فطرية التدين والاعتقاد بالله تعتبر من الأدلة القوية على وجود الله سبحانه غير أن هناك فرقاً بين دلالة الفطرة على وجود الله ودلالة البرهان العقلي على وجوده سبحانه ، فمما ذكرناه في معنى الفطرة ، وان التدين والايمان الفطري يعني انجذاب الانسان بحكم فطرته الى الله ، واقبال روحه علیه سبحانه بشكل ذاتي وطبيعي ، اتضح أن ذلك ليس وليد البرهنة والاستدلال ، بل هو أمر «وجداني» يجده كل انسان اذا توجه الى فطرته السليمة والتفت الى ما يحسه من الانجذاب الروحي ـ في نفسه ـ إلى الله وبهذا لا يكون دليل الفطرة مما يمكن تجسيده للاخرين ولا اقامته للطرف الاخر ، لكونه احساساً شخصياً.

وهذا بخلاف الاعتقاد بالله عن طريق الاستدلال العقلي فانه وليد البرهنة والتفكر واقامة الصغرى والكبرى بحيث لولا هذه المقدمات لما حصل الاعتقاد ولهذا يمكن اقامته للاخرين كما ستعرف.

الثالثة : أن غاية ما تثبته الفطرة البشرية هو أصل وجود الله دون بقية الأمور الاعتقادية مما تتصل بصفات الله الجلالية والجمالية فذلك كله لا يعرف الا من طريق العقل والنظر ، فان الفطرة لا تثبت الا ان هناك «قوة عليا» هي فوق كل قوة ، وهي القادرة على اعانته ، واغاثته ، وجبر ضعفه ، وان هناك صاحبا له يلوذ به عند الشدائد ، والنوائب ، ويلجأ اليه عند المصائب.

كما أن الفطرة ربما تثبت وحدانية الله أيضاً ، وهذا هو كل ما تثبته لا أكثر.

١٤٢

ملخص ما سبق

تلخص من البحث السابق أمور :

١ ـ أن معرفة الله والانجذاب الیه مسألة فطرية.

٢ ـ ان الفرق بين الامر الفطري والأمر غير الفطري ، هو : أن الأمر الفطري هو ما يميل اليه الانسان بدافع من طبيعته وذاته دون أن يكون مفروضاً عليه من الخارج ، بعكس الأمر العادي ، والأول مثل الميل إلى الأكل والجنس والنوم والثاني مثل كيفيات الملبس والمسكن والزينة.

٣ ـ ولذلك فان من علائم الأمر الفطري ، ظهوره لدى الانسان ظهوراً تلقائياً وبدون معلم أو ملقن ، وعدم تأثره بالعوامل الخارجية الجغرافية ولا بالدعاية المضادة وجوداً وعدماً ، ووجوده في جميع أدوار التاريخ ، وفي جميع مناطق العالم على السواء.

٤ ـ والتدين مما تنطبق عليه جميع هذه الأوصاف والعلائم فهو موجود في عمق الزمن والتاريخ وفي كل بقاع العالم وهو يظهر لدى كل أحد ويتجلى خاصة عند البلوغ ، ولا ينعدم بتغير المناخات الطبيعية أو الضغوط السياسية والاعلامية كما في البلاد الشيوعية.

٥ ـ ان نظرية البعد الرابع للروح الإنسانية مما تؤيد فطرية التدين وتؤكد اصالته في وجود الانسان.

٦ ـ القرآن الكريم والأحاديث الشريف تؤيد وتؤكد بل وتنص على فطرية الاعتقاد بالله عند البشر.

١٤٣

٧ ـ قولنا «التدين أو الدين أمر فطري» يعني أن أصول التعاليم الالهيّة والشرائع الدعوة الى العدل والقسط والتعاون وما شاكل ذلك أمور فطرية ، ويعني أيضاً أن الاعتقاد بوجود «قوة عليا» خالقة لهذا الكون مما تقتضيه جبلة الانسان.

٨ ـ الايمان الفطري بوجود الله لا ينفع الا صاحبها لانه أمر وجداني لا يحس به الا صاحبه ، ولا يمكن نقله الى الاخرين ، نعم يمكن تذكير الاخرين بفطرتهم ليسمعوا نداءها ، بخلاف الأدلة العقلية ، على وجود الله والايمان عن طريق الاستدلال العقلي.

٩ ـ الفطرة تدل الانسان على وجود الله بدون توسيط شيء بخلاف معرفة الله بالعقل فانه لابد من توسيط المقدمات.

١ ـ غاية ما تثبته الفطرة البشرية هي وجود الله وتوحيده فحسب ، فلا يتوقع اثبات الأمور الاعتقادية الأخرى كالصفات الالهية وما شابه ذلك بها.

١٤٤

الفصل الرابع

خمس نظریات فی تفسیر

الظاهرة الکونیة

١٤٥

في هذا الفصل

* التفسيرات الخمس للظاهرة الكونية.

* ١ ـ نظرية «التدبير والتقدير والخلق» (نظرية الالهيين).

* أبرز الأدلة على وجود خالق الكون.

* أ ـ برهان النظام (بصوره الأربعة : النظم ، برهان محاسبة الاحتمالات.

* الضبط والتوازن ، الهداية الالهية في عالم الحيوانات).

* اسئلة حول برهان النظام.

* ب ـ برهان الحدوث.

* جـ ـ برهان الصديقين.

* ازلية الخالق

* نوافذ على عالم الغيب

* ٢ ـ نظرية الخياليين

* ٣ ـ نظرية الصدفة

* ٤ ـ نظرية خاصية المادة

* ٥ ـ نظرية المادية الديالكتيكية

١٤٦

التفسيرات الخمس للظاهرة الكونية

أن الهدف الأسمى لجميع المفكرين والفلاسفة هو تفسير الظاهرة الكونية بنحو فلسفي وعلمي ، وقد طرحت في هذا المجال تفسيرات ونظریات عديدة تبلغ خمسة هي :

١ ـ نظرية «التدبير والتقدير والخلق» :

هذه النظرية ترى أن العالم بمادته وصورته مخلوق لقوة عالمة قادرة ، هي التي أوجدته ، وأخضعته لهذه النواميس والقوانين ، وان تلك القوة وذلك الموجود العالم القادر هو الله سبحانه الذي خلق فسوى ، وقدّر فهدى.

وهذا هو ما ظلّ يتبناه الالهيون في مختلف العصور والأزمنة.

٢ ـ نظرية خيالية الكون :

وترى هذه النظرية أن العالم خيال في خيال ، ووهم في وهم ، فلا اصالة للكون ، ولا وجود أبداً ، أو أن الإنسان لا يقدر أن يصل إلى درك هذا العالم وواقعياته.

وهذه هي النظرية التي يتبناها الخياليون الذين سموا خطأ ـ بالمثاليين.

١٤٧

٣ ـ نظرية الصدفة :

ويرى أصحاب هذه النظرية أن المادة قديمة في وجودها وأن صورها وأشكالها تحققت بالصدفة من دون دخالة أي عقل وشعور.

٤ ـ نظرية الخاصية :

ويعتقد أرباب هذه النظرية أن النظام الكوني العام وليد خاصية المادة. وهذا يرجع في مصطلح القوم الى المادية الميكانيكية.

٥ ـ نظرية المادية الديالتيكية :

ويذهب أصحاب هذه النظرية الى ان النظام السائد في الكون جاء نتيجة التضاد الديالتيكي الموجود في أجزاء الكون ، المحرك نحو هذا النوع من النظام.

وهذه النظريات الثلاثة الأخيرة تشترك في الاعتقاد بقدم المادة وأزليتها ، ولكنها تختلف في بيان تحقق الصور والانظمة السائدة في الكون.

هذه هي الآراء المطروحة من قبل المفكرين ، لتعلیل وتفسير الظاهرة الكونية ، فهلمّ معنا ندرسها واحدة تلو الأخرى ، في ضوء العقل والمنطق لنری ما يصح منها وما لا يصح ، وما هو سليم مقبول منها ، وما هو سقيم مرفوض ، وان أي واحدة منها قادرة ـ واقعاً ـ على تفسير الكون ، وتبیین اسراره ، وفك رموزه والغازه ، بشكل معقول ومقبول ، ونبدأ بنظرية الخلق الالهية أولا.

١٤٨

١

نظرية التدبير والتقدير والخلق

العقل يقود الى الله

قد ثبت في الفصل الأول أن السبب الواقعي لنشأة التدين انما هو أمر يرجع الى فطرة الانسان وجبلته ، أو انه أمر يتجلى في مداركه العقلية وبذلك تبين ضعف الوجوه التي استند اليها الماديون في تفسير ظاهرة التدين ، ومسألة الاعتقاد بالله.

كما اننا قد برهنا في طليعة الفصل (الثالث) على تلك الفطرة وانها أمر لا ينفك عن الانسان ، وان وجود الإنسان لم یزل متلازماً مع هذا الميل الذاتي إلى الله.

ويجب الان أن نقف على كيفية وصول الانسان الى اثبات وجود الله سبحانه عن طريق الاستدلال والبرهنة العقلية. وهذا هو الفصل المهم في هذا المجال.

ان من العجب العجاب ان تبقى القافلة البشرية منذ ان وجدت والی اليوم مشدودة بفطرتها وفكرتها إلى موجود خارج عن نطاق حسها لا تدركه بحواسها ، ولا تناله بشيء من جوارحها.

ان من العجب العجاب ان تظل الانسانية تعتقد بهذا الموجود أشد الاعتقاد

١٤٩

وتتعلق به أشد التعلق فتعكتف عند بابه ، وتعتقد بان له كل التأثير في حياتها ، إلى درجة انها لا ترى للحياة معنی بدون التعلق به ، ولهذا تفدي في سبيله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص ، وهو من أقوى الأشياء في الواقعية وأشدها في الخفاء وان كان من أظهرها في الآثار والتجليات.

ولقد كان هذا الاعتقاد ولا يزال من أقوى العوامل التاريخية الباعثة على سلسلة من الحروب ، كما كان وراء الكثير من حالات الصلح والهدنة والوفاق أحياناً أخرى.

ان المشاهدة والملاحظة تشهدان ـ بما لا ريب منه ـ على ان الانسان يرمق ـ في مصيره ـ قمة شامخة ، وان الجميع يحاول الوصول اليها بالعبادة والرياضة والعشق ، وقد بلغ تشوق الانسان الى هذا الأمر أحياناً إلى درجة انه تحت وسائل غير صحيحة للبلوغ الى تلك القمة السامقة ، والوصول الى تلك الذروة العالية بعبادته وتخضعه ، كما هو الحال في عبدة الأصنام حيث اتخذوا أصناماً لتقربهم إلى الله زلفی كما يقول القرآن الكريم :

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ (یونس ـ ١٨)

وقال :

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ (الزمر ـ ٣)

ان الاعتقاد بالله قد أوجد فنوناً وخلق حركات بديعة ، وأحدث علوماً ، وتسبب في ظهور الكثير من الاداب ، وكان وراء بعثة طائفة من صفوة البشرية هم الأنبياء ، كما وقد لعب دوراً عميقاً في التحولات ، والتطورات وكان له حظ عظيم جداً في حياة البشر ، وكان بالتالي أقوى ظاهرة في الحياة الانسانية

١٥٠

ظهوراً وتأثيراً.

ثم انه لابد ـ قبل أي شيء ـ ان ننبه إلى أمر مهم في هذا المجال وهو ان العقلاء وبالاخص المفكرين منهم كانوا في مقابل ظاهرة الكون علی صنفین :

١ ـ من يعتبر هذا العالم خيالا في خيال ، فلا يرى له حقيقة أبداً أو انه ينكر امكانية الوصول الى حقيقة على الاقل.

٢ ـ من يرى لنفسه ولما يحيط به من عالم خارجي حقيقة وواقعية.

والبحث في هذا الفصل انما هو مع الصنف الثاني دون الأول ، اذ البحث مع الصنف الأول أعني المثاليين (١) بل الخياليين في خصوص اثبات الخالق غير مفيد وهم ينكرون الواقعية الخارجية أو يشككون في امكانية الوصول اليها على الأقل ، فلابد من أن يكون البحث معهم على نطاق أوسع وهو اثبات آن وراء أنفسهم عالماً خارجياً ذا حظ عظيم وكبير من الواقعية والوجود ، وان في مقدور الانسان ان يصل الى طائفة من هذه الواقعيات.

ولكي يقف القارئ على مدى ضعف هذا الاتجاه ووهنه نشير الى مقالتهم وبعض ما یقیمونه من أدلة في هذا المجال في آخر هذا الكتاب على وجه الاجمال اذ للبحث في هذه المسألة مجال آخر وهو ابحاث نظرية المعرفة.

__________________

(١) المصطلح الفلسفي الرائج في التعبير عن اتجاه هذه الطائفة هو «المثاليون» غير اننا نستحسن ان لا نستعمل في حقهم هذه الكلمة التي ترمى الى معنى صحيح والاولى أن يعبر عنهم بـ : «الخياليين» والوهميين والی غير ذلك من الاسماء التي تناسب التعبير عن تلك النظرية الخاطئة الشاذة عن فطرة الانسان.

ولا يخفى أن للمثال معني آخر في اللغة ومصطلح الأخلاقيين ولا سيما في مصطلح الفلسفة الإغريقية.

١٥١

ابرز الادلة على وجود الله الخالق :

البرهان الأول

برهان النظام

«ان الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق» .. هذه الجملة المعروفة بين الالهيين والفلاسفة منهم خاصة تشير الى كثرة الأدلة والبراهين على وجوده سبحانه وتنوعها ، بحيث يناسب كل طريق منها افهام جماعة من الناس وبهذا تكون معرفة الله متاحة لكل أحد ، وممكنة لجميع فئات الناس من مثقفين إلى عاديين ومن حضريين الى بدويين ، فلكل فئة من هذه الفئات المختلفة في الافهام والمستويات أن تهتدي الى وجود الله بأحدى هذه الطرق والادلة ، كل فئة بحسب فهمها وقدرتها على النظر والاستفادة من هذه الأدلة وها نحن في هذا القسم من البحث نقف على برهان آخر من هذه البراهين.

ان أوضح البراهين العقلية وايسرها تناولا أو لمساً للجميع ، بعد دلیل الفطرة ، هو «دليل النظام» وهو الاهتداء إلى وجود الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في كل جوانب الكون ، ومن خلال ملاحظة القوانين والنواميس الدقيقة الحاكمة على كل ذرة من ذراته ويمتاز هذا الدليل على غيره بأمرين :

١ ـ ان هذا الدليل الذي يمكن الوقوف عليه من مطالعة اية ظاهرة من

١٥٢

ظواهر الكون ، يمكن تقريره بحيث يتمشى مع تقدم العلوم وتطورها.

وبعبارة أخرى : أن صدق هذا الدليل ودلالته تتجلى اكثر فاكثر كلما تقدمت العلوم وازدهرت ، وتوصل الانسان الى كشف المزيد من الحقائق الكونية والقوانين الطبيعية والعلاقات الدقيقة السائدة في عالم الأحياء وغير الاحياء فكما أن المرء في العصور الغابرة كان بامكانه ان يتمسك بهذا الدليل ويستدل به على وجود الله ، فإنه يمكن لانسان هذا العصر ، الذي وقف فيه على الكثير من أسرار الكون ، وقوانينه ، أن يستهدى به أيضاً لانه وقف على مصاديق أكثر وأدق لهذا الدليل ، وحصل على رصيد أعظم من الامثلة بعد وقوفه على تفاصيل هائلة عن الكون والحياة.

وبعبارة ثالثة : كما ان الانسان الذي كان يعيش في العصور الغابرة والعهود القديمة ويرى نشأة الكون من العناصر الأربعة (التراب ، الماء ، الهواء ، النار) ويقصر حجم هذا العالم على الافلاك التسعة أن يستدل بدليل النظام على وجود خالق لهذا الكون كذلك يمكن للإنسان الذي يعيش في عصر الذرة والاختراعات والكشوف العلمية المتقدمة التي عرف الانسان بسببها كيفية نشأة الكون من عناصر كثيرة ، ووقف على قوانین ونوامیس ، وتراكيب طبيعية معقدة جهلها السابقون.

فان الاختلاف في تفسير الكون وما فيه من عناصر وتركیبات لا يؤثر في دلالة هذا البرهان ، ولا يزلزله لاتفاق الجميع في اثبات نظام دقيق سائد في هذا الكون ، ولهذا فان تقدم العلوم لا يزيد هذا الدليل الّا وضوحاً ، ولا يعطيه الا عمقاً ورسوخا ، فان الجميع قديماً وحديثاً ، متفقون على سيادة نظم دقيقة خاصة على هذا الوجود ، انما الاختلاف هو في تشخيص نوعية هذه القوانين والنواميس وسعتها وضيقها ، وهو أمر لا يضر بالبرهان المذكور أبداً.

١٥٣

٢ ـ ان كل متخصص في ناحية من العلوم بامكانه ان يستدل بمعطيات العلم الذي تخصص وبرع فيه على وجود الله ، وهذا يعني ان عالم النبات والاحياء والفيزياوي ، والمتخصص في شؤون الفضاء ، والطبيب والإخصائي في الكيمياء سواء في الانتفاع بهذا الدلیل كما سيتضح دلك في الابحاث القادمة.

والان الى دليل النظام نفسه.

ما هو دليل النظام؟

ان دليل النظام يتكون من ثلاثة أمور هي :

١ ـ قانون العلية الذي يعني ان لكل ظاهرة علة ، ولكل حادثة سبباً ويقع بيان هذا الأمر واثباته على عاتق العقل البديهي أو العقل النظري ، على اختلاف في اعتبار قانون العملية اصلا (بديهياً) مثل ادراك الانسان للحرارة والبرودة أو (نظرياً) يحتاج الى التفكر والتأمل (١).

وبما أن المادي والالهي كليهما يعترفان بقانون العلية ويصدّقان به فاننا نترك

__________________

(١) يذهب البعض الى ان قانون العلية «قانون فطري» أي تدركه الفطرة بالبداهة بلا حاجة الى التفكر والتأمل ، ويحتجون لذلك بتساؤلات الأطفال عن أسباب الحوادث والظواهر رغم انهم لا يعرفون الشكر والاستدلال.

ولكن الى ان هذه التساؤلات التي يطرحها الاطفال حول علة الظواهر انما تكون دليلا على «فطرية قانون العلية» اذا لم يلاحظوا قبل ذلك نماذج من نشأة الظواهر عن اسباب خاصة في حين أن الواقع يشهد بان الاطفال لا يتسائلون عن الاسباب والعلل الا بعد أن مروا بعشرات العلل والمعلولات والاسباب والمسببات وأدركوا الارتباط بین العلة والمعلول بافهامهم البسيطة.

ولهذا لا يمكن اعتبار قانون العلية امراً فطرياً.

١٥٤

البحث فيه هنا ، فما رمي به الالهيون من التنكر لهذا القانون ما هو الا محض افتراء أو مغالطة ، فهذه كتب الالهيين الكلامية والفلسفية شاهدة على أنهم بحثوا هذا القانون وأيدوه أكثر من غيرهم.

٢ ـ ان هذا الكون بأسره يخضع لنظام موحّد ومتين ابتداء من الذرة وانتهاءاً بالمجرة ، وان العلماء لم يقفوا في هذا الكون الفسيح الا على المحاسبة الدقيقة والتصميم المتقن.

ويقع بيان هذا الامر على عاتق العلوم الطبيعية فهي التي تشرح تفاصيل هذا النظام ، وتقدم لنا مظاهر منه ، وترينا نماذج من القوانين السائدة في الكون في جميع الحقول والمجالات.

ويكون هذا البند في برهان النظام بمثابة الصغرى حسب مصطلح المنطقيين.

٣ ـ ان العقل يحكم ـ ببداهة ـ بان هذا النظام البديع بما فيه من النوامیس المبنية على المحاسبات العلمية الدقيقة صادر عن عقل جبار محيط بالمادة وخصوصياتها ، ويعلم بكل القوانين والنواميس السائدة في الكون ، ولا يصح ان يستند هذا النظام إلى الصدفة أو إلى نفس المادة أو يصدر عنها ، وسنشرح هذه المسألة عندما نبسط الكلام في هذا المجال.

هذا ولابد أن يعلم القارئ الكريم أن «برهان النظام» برهان مستقل ولا يرتبط ببرهان (حدوث المادة) ودلالته على محدث وراءها.

وبعبارة أخرى أن «برهان النظام» الذي نحن بصدده الان يهدف إلى بيان أن النظام السائد في الكون ليس الا ولید عقل جبار محيط بالقوانين والسنن الطبيعية وان من المستحيل صدوره عن المادة نفسها سواء أكانت المادة قديمة ام حادثة فان هذا البرهان يجري على كلا الفرضين ولا يختص بفرض حدوث

١٥٥

المادة.

نعم هناك برهان آخر وهو برهان «حدوث المادة» الذي يحكم به العقل وتثبته العلوم الطبيعية وهو أمر يستلزم افتراض وجود محدث لها ، فهو ما سنتعرض له في البحوث القادمة.

وخلاصة القول أن هذا البند يكون بمثابة الكبرى في برهان النظام.

اذن يتكون برهان النظام ـ بعد الاعتراف بقانون العلية المسلم بين العقلاء ـ من :

١ ـ صغرى وهي أن هذا الكون باسره يخضع لنظام دقيق ، وهي حقيقة تثبتها العلوم الطبيعية التي تقدم نماذج من القوانين والمحاسبات الدقيقة في شتى مجالات الكون والطبيعة.

٢ ـ كبرى وهي أن النظام المبني على المحاسبة معلول لفاعل عاقل ، عارف بالنواميس والقوانين في ذلك النظام ، ويمتنع أن يكون من صنع المادة نفسها.

ثم ان طبيعة البحث وان كانت تقتضي تقديم الكلام في الصغری علی الكبرى أي اعطاء نماذج من القوانين والنواميس والسنن والمحاسبات السائدة في الكون قبل بیان ان هذه النظم ليست الا من صنع عقلية جبارة وحكيمة وعارفة هي التي جهزت المادة بهذه النظم ، الا اننا نقدم البحث في الكبرى اولا ليمكن الاستنتاج منها عند ذكرنا لنماذج من القوانين الطبيعية والسنن الكونية الحاكمة في عالم الفضاء وعالم النبات والجماد والحيوان والانسان.

* * *

وينبغي أن نقف ـ قبل أي شيء ـ على معنى النظم.

١٥٦

ما هو النظم

النظم هو عبارة عن الترابط والتعاون بين أجزاء مجموعة واحدة لتحقيق هدف معين بحيث يكون كل جزء في هذه المجموعة مكملا لها ، وبحيث يكون فقدان كل جزء موجباً لأن تفقد المجموعة الأثر المترتب عليها والهدف المتوخى منها.

ونرى مثل هذا النظام سائداً في «الساعة» ، فالانسان العاقل المجرد لنفسه عن كل هوى وعقيدة سابقة ، اذا نظر الى مجموعة واحدة بهذا الوصف انتقل ـ من فوره ـ الى ان هناك شعوراً وقصداً قد تدخل في تحقيق هذا التركيب من دون أن يتوقف في قضائه هذا على أمر آخر.

فلو وجدنا في الطبيعة نظماً بهذا المعنى ، بل بمعنى أدق من ذلك بكثير قضينا ـ بالبداهة ـ بأن هذا النظم لم يتحقق فيها الا بدخالة شعور وقصد ، وانه من فعل عقل جبار ، وحكمة بالغة.

فلو وقفنا عند سفح جبل بركاني على «ساعة يدوية» سليمة وعاملة ملقاة بين أكوام الحمم والصخور البركانية الباردة التي تطايرت من فوهة ذلك الجبل.

وافترضنا أن جميع العناصر المستخدمة في هذه الساعة موجودة برمتها في مكونات تلك الاحجار ، والحمم الباردة ، فهل يجوز لاحد أن يتصور أو يدعي انّ هذه الساعة خرجت ـ من تلقاء نفسها ـ من ذلك البركان مع تلك الحمم المتطايرة من دون أن يصنعها صانع ، بحجة أن ما يكونها من العناصر موجودة بعينها في تلك الأحجار والحمم.

ان العقل يرفض بقوة مثل هذا التصور مع أن جميع العناصر المستخدمة في «الساعة» موجودة بعينها في تلك الحمم الباردة التي تطايرت من الجبل البركاني قبل ذلك. وليس هذا الا لان العقل يحكم ـ بصميم ذاته ـ بأن كل

١٥٧

ما ساد فيه تنظم بمعنی «الترابط الوثيق والتعاون العميق بين أجزاء مجموعة واحدة بهدف تحقيق غاية معينة» لا ينفك ـ عقلا ـ عن دخالة شعور في تحققه.

وهذا هو ما يحكم به العقل في كل موجود ساد في أجزائه الترابط والتعاون والاتساق لغرض تحقيق غاية معينة من دون فرق بین مصنوع وآخر.

فاذاعرفت هذه الحقيقة يبقى أن نستعرض معاً الفرق بين ما هو من فعل المدبر الحكيم وما هو من نتائج الصديق والاتفاق واليك ذلك الفارق بين الصدفة والتدبير.

ان الجميع ـ كما اسلفنا ـ تعترف بالأنظمة العجيبة الدقيقة السائدة على الكون ، غير ان الكلام هو في منشأ هذا النظام البديع المتقن المبني على المحاسبة الدقيقة.

والسؤال المطروح هو : هل هذا النظام الكوني وليد الصدفة ، أم أنه من صنع فاعل خبير ، وصانع عاقل يفوق كل شيء حكمة وعلماً ، ويعرف بكل المحاسبات الدقيقة ، وتحيط بها احاطة كاملة وشاملة؟.

ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أمرين من شأنهما القاء الضوء على هذا المطلب ، والامران هما :

الأول : نقاط الالتقاء والافتراق بين الالهي والمادي :

ان المادي والالهي كليهما يعترفان بخضوع هذا الكون بأسره لنظام الاسباب والمسببات ، أي أن كليهما يعترفان بأن لكل ظاهرة من الظواهر المادية الكونية علة مادية ، بحيث لا تحدث هذه الظاهرة الا عقيب تلك العلة ، وتنعدم بانعدامها ، فما نراه من حوادث طبيعية ما هي الا نتيجة العلل الطبيعية سماوية كانت أو أرضية.

فهطول الأمطار وحدوث البروق والرعود ، كل ذلك وغيره من الظواهر

١٥٨

الطبيعية الكونية لا يحدث الا نتيجة التفاعلات الجوية ، والمقدمات الطبيعيّة ، وعالم النجوم والافلاك قائم في ظل قاعدة الجذب والدفع المسماة بقانون الجاذبية ، والانسان والحيوان يواصلان حياتهما في نطاق آلاف القوانين الطبيعية التي تضمن لهما البقاء والاستمرارية ، كما أن الأشجار والنباتات هي الأخرى مستمرة في حياتها وفعالياتها يفعل النواميس الحاكمة في عالم النبات.

وبكلمة واحدة فان كل ما يطرأ في صفحة هذه الطبيعة من حوادث وظواهر مادية دقيقة كانت او جليلة مدين في وجوده وبقائه للعلل مادية في عالم الطبيعة ، وهذا هو ما نقصده من «النظام السائد في الكون».

والالهى لا يقصد من اثباته لوجود الله انكار هذا النظام ، وتجاهل هذه العلل والاسباب الطبيعية ، وادعاء ان الله يقوم بكل ما يقع في عالم الطبيعة بصورة مباشرة دون توسط الاسباب والعلل الطبيعية المادية ، وكأنه يريد أن يجعل «الله» مكان العمل الطبيعية ، كلا فهذا أمر لا يدعيه الالهيون ابدا وما رمي به الالهي في بعض كتب الماديين فرية محضة.

فليس هناك اي الهي يؤمن بالكتاب العزيز ويعترف بالعقل يتنكر للعلل الطبيعية وينفي تأثير العلل ودور الأسباب المادية في ظهور الظواهر الكونية ، بل الالهيون ـ قديماً وحديثاً ـ مجمعون على تأثير هذه العلل ، وظهور الحوادث الطبيعية والظواهر الكونية عقيب عللها المناسبة وأسبابها الخاصة.

ان للقاری ان يقف بنفسه على مدى اعتراف الالهيين وتمسكهم ـ قديماً وحديثاً ـ بقانون الاسباب والمسببّات وبنظام العلل والمعلولات الطبيعية السائدة على هذا الكون ، وذلك اذا لاحظ :

(اولا) القران الكريم الذي يزخر بالحديث عن الأسباب المادية والعلل الطبيعية في هذا العالم مثل قوله تعالی :

١٥٩

أ ـ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (النور ـ ٤٣).

ب ـ اللَّـهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (الروم ـ ٤٨).

جـ ـ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (الرعد ـ ٤)

فاننا نجد في هذه الآيات كيف ينسب القرآن الظواهر الطبيعية إلى العلل الطبيعية والاسباب المادية ، ويقرر تاثيرها في معلولاتها ، وهو تصريح لا غموض فيه بنظام الاسباب والمسببّات.

(وثانیا) : ما درج عليه الفلاسفة الالهيون ، منذ أقدم العصور ، من تقديم بحوث مفصلة ومطولة في الطبيعيات تشمل بحوثاً في علم الفلك ، والفيزياء ، والكيمياء ، وعلم النبات وعلم الرياضيات ثم اتباعها ببحوث في الالهيات فانهم كانوا يجعلون القسم الأول من مؤلفاتهم الفلسفية في «الطبيعة» والقسم الثاني في «ما بعد الطبيعة» كما فعل ارسطو ومن جاء بعده ، وهذا هو خير دليل على عناية الإلهيين بالطبيعة ، واعترافهم بقوانينها ، وسننها ، ونظام الاسباب والمسببّات السائد فيها.

هذه هي النقطة المشتركة بين الالهيين والماديين واما نقطة الافتراق فهي أن

__________________

(١) الوذق : المطر.

١٦٠