الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

مواقفها ونظرياتها الاجتماعية ، ومن هنا فهي تتوخى من اثبات الارتباط العام ، والتأكيد عليه اموراً منها :

١ ـ اثبات أن البنية الفوقية في الحياة البشرية ويعنون بها (الدين والاداب والفنون والثقافة والعلاقات الاقتصادية) تابعة أبداً ودائماً للبنية التحتية وهي كيفية وسائل الانتاج ، فأي تغيّر في وسائل الانتاج مؤثر لا محالة في الاداب والفنون والثقافة والروابط الاقتصادية بالنظر إلى قانون «الارتباط العام» الذي مفاده ومحصله هو تأثير كل شيء في كل شيء ، وهذا هو في الحقيقة أهم ما تتوخاه الماركسية من اثبات أصل «الارتباط العام».

٢ ـ تبرير العيوب والنواقص الموجودة في الحياة الاشتراكية والنظام االماركسي القائم بتقرير أن انخفاض أجور العمال مثلا ، أو تأخر الجانب الزراعي لا یعنی عجز النظام الماركسی عن ضمان احتياجات الطبقة العمالية ، وتحقيق امال الكادحين أو فشله في سياسته الزراعية لان مثل هذا التصور ينشأ من النظرة التجزيئية إلى الأمور بخلاف ما اذا نظرنا إلى الأمور من حيث المجموع ، كما يقتضي أصل الارتباط العام فان مثل هذه النظرة الشاملة تكفي لأن تبرّر لنا هذا النقص اذ تقول أن هذا النقض اما هو نتيجة عوامل أخرى (لا عجز النظام الماركسي) واما لانه لو كان هنا عجز فان ذلك لا يعد عجزاً اذا نظرنا إلى مجموع ما حققته الماركسية في العالم وأيضاً ما حققته للعمال من الانتعاش والتقدم في الجوانب الاخرى.

وقد صرح بعض الكتاب مثل «جورج بوليتزر» بهذا الموضوع في كتاباتهم بهذا الموضوع ، والتحليل.

وهكذا يسعي الماركسيون ـ من خلال اثبات هذا الأصل ـ تبرير فشل النظام الاشتراكي الماركسي في تحقيق ماظلت تنادي به من الحياة السعيدة والرفاه العمال والفلاحين.

ولكن هذه النظرية التي تبناها الماركسيون يبطله ما عليه علماء الاجتماع

٥٨١

والنفس ، فان ما تسميه الماركسية بالبنية الفوقية لا تتغير بسبب التغيرات الحاصلة في البنية التحتية ، بل هناك عوامل لهذا التغير في البنية الفوقية (أعني الدين والاخلاق والآداب والفن وغير ذلك) من الغرائز وتلاقي المجتمعات ، والأحاسيس وتأثير الشخصيات وغير ذلك مما مر ذكره ، في مطلع نقاشنا للاسس الديالكتيكية.

٣ ـ تصحیح وتبرير كل عمل عدواني ، وكل رذيلة يرتكبه النظام الماركسي للوصول إلى مآربه ، فانهم بهذا الأصل يريدون أن ينكروا قداسة جميع القيم الاخلاقية والمثل الانسانية المقدسة بحجة انهم لو ارتكبوا جريمة هنا ، فانه بحكم كونه يرتبط بفائدة أخرى في مكان آخر ، أو لكونه يشد من ساعد الثورة الشيوعية لا يصح اللوم عليها ، لان النظر الشمولي الى الاحداث والظواهر الاجتماعية ـ بناء على أصل الارتباط العام ـ يقتضي أن ننظر الى الامور والاحداث والظواهر من حيث المجموع لا بنظرة تجزيئية وتجريدية.

وقد صرح بهذا اقطاب الماركسية مثل «لينين» واشباهه ولهذا أنكروا الاخلاق وتنكروا للقيم ، وجعلوا المقياس الحزبي فوق كل مقياس ، والمعيار الثوري فوق كل معیار.

وهذا هو الأصل الميكافيلي : «الغاية تبرر الواسطة» وهو ولاشك أخطر فكرة على البشرية اذ معها لا يبقى للاخلاق والحدود والحقوق والقيم الإنسانية أي وجود ولا تقوم لها أية قائمة.

الى هنا انتهى نقد النظرية المادية الديالكتيكية بأسسها الأربعة ، وتبين عدم صحة تفسير نشأة الكون بها.

ولاشك أن البحث في هذه الأسس يحتاج الى مجال أوسع ولكننا استكمالا الهذا البحث الاعتقادي تناولنا هذه النظرية بشيء من النقد والتحليل راجين أن تعود الى دراستها وتحليلها ونقدها في وقت آخر ان شاء الله.

٥٨٢

وهكذا تبين بطلان النظريات المطروحة لتفسير نشأة الكون ونظامه البديع وتعليلهما (وهي نظرية الخياليين والصدفة والخاصيّة والمادية الديالكتيكية) بعد أن تبين في ضوء ما سقناه من أدلة في نظرية الخلق والتدبير الالهية ان الكون بمادته ونظامه مخلوق لخالق قادر عليم وصانع قاهر حكیم.

٥٨٣

التوجه الى المادية في الغرب لماذا.؟

٥٨٤

في هذا الفصل

* التوجه الى المادية في العالم الغربي لماذا؟

* عوامل التوجه الى المادية ونبذ التدين :

١ ـ التصورات الخاطئة عن الله.

٢ ـ عدم وجود فلسفة جامعة ونظام عقائدي صحیح.

٣ ـ انهيار بعض النظريات العلمية القديمة.

* الغرور العلمي الكاذب

* العلماء الطبيعيون يعترفون بالعجز والقصور العلمي

٤ ـ ضجة الداروينية

* نقد النظرية الداروينية

٥ ـ الثار من محاكم التفتيش الكنسية

٦ ـ احلال التجربة مكان الاستدلال العقلي

٧ ـ انتشار الفساد الأخلاقي

* التلازم بين الماديتين الأخلاقية والفكرية

٥٨٥

التوجه الى المادية في الغرب لماذا؟

لقد اثبتت الابحاث المفصلة السابقة اتفاق العلم والفلسفة واطباقهما على ان الكون مخلوق لعلة عليا متصفة بالعلم والقدرة ، وان الطابع العام السائد في الشعوب والاقوام كان هو «التدين» والاعتقاد بوجود آله للكون وخالق لنظامه وان النزعة المادية التي كانت تظهر بين الفينة والفينة ، وبين الاونة والأخرى لم تكن سوى استثناء في هذا الأصل فهي لم تكن شائعة ومتفشية لدى الأمم ، كما هو الحال في التدين.

غير اننا ـ رغم ذلك ـ لا يمكن ان نتجاهل ان هذه النزعة قد تبلورت في ظل الحضارة الغربية ، واتخذت شكلا اقوى ، ومال اليها بعض العلماء والمشتغلين بالعلوم الطبيعية والمكتشفين وارباب الاختراع.

أن هذه الظاهرة تدعونا ، وتدعو كل باحث اجتماعي الى ان يبحث عن اسباب اعراض هذا الفريق من العلماء عن المسألة الدينية ، والاقبال على المادية مع ان تكامل العلوم ، وانكشاف المزيد من الحقائق العلمية وظهور ما كان خافيا على الانسان من اسرار الطبيعة وقوانينها وسننها كان يقتضي انتشار التدين والاعتقاد بوجود الله في هذه الطبقة قبل بقية الطبقات وفي هذا الوسط قبل بقية الأوساط ، حتى لا يبقى على وجه البسيطة اي معتنق للمادية ، واي منكر لما وراء الطبيعة ، في حين اننا نجد العكس حيث نشاهد اقبال فريق من العلماء في الغرب على المادية وسلوك طريق الالحاد فما هو السبب وماذا هو الدافع الى ذلك؟

٥٨٦

عوامل التوجه الى المادية

ان ظاهرة الإقبال على المادية لا تنحصر ـ في الحقيقة ـ في عامل واحد ، بل هناك عوامل ودوافع متعددة تعاضدت فيما بينها فسيبت ظهور النزعة المادية لدى هذه الطبقة من العلماء ، والمفكرين ـ وهم كما قلنا ليسوا بكثیرین ـ وها نحن نشير الى أهم هذه العلل والعوامل التي تتراوح بين عوامل فكرية ، واجتماعية ، وسياسية :

١ ـ التصورات الخاطئة عن الله

ان التصورات الخاطئة والانطباعات المغلوطة عن الله تعالى والأوصاف المنحرفة التي اعطيت له كان لها اكبر الأثر في دفع بعض العلماء والمفكرين في الغرب الى الأعراض عن الدين والاقبال على المادية ، فان بعض التصورات عن الله سبحانه وان كانت تلقى قبولا من الدهماء الا انها لا يمكن ان تلقی مثل ذلك القبول لدى ارباب الفكر ورجالات العلم والتحقيق.

فان الدهماء تقبل كل شيء دون أن تفكر في مدى انسجامه مع الموازين العقلية بخلاف المفكرين والعلماء فانهم لا يقبلون شيئاً الا اذا ثبتت صحنه ومعقوليته ، وثبت امام النقد والنقاش.

كما اننا يجب ان لا نغفل عن ان ما يقال عن الله خطأ مما يلقي الى الأشخاص في فترة الطفولة مثل وصف اله مجسم موجود في مكان ما في السماء يری بالعين ويسمع بالاذن ـ مثلا ـ وان كان لا يضر بالنسبة لمن يبقى على نفس المستوى من التفكير والعقلية الطفولية الا أنه ولاشك سوف يكون مضراً اذا توسعت معارف الأشخاص ، وتعمقت معلوماتهم ، واتسعت مداركهم ونضجت

٥٨٧

عقولهم ، ولم يعودوا يقبلوا بالاشياء عن تقليد.

فان الذين يبلغون درجة سامية من العلم لا يمكنهم ان يتعقلوا ربة ذا مواصفات جسمانية واحتياجات على غرار المواصفات والاحتياجات البشرية ولهذا فان امثال هؤلاء يندفعون الى انكار الموضوع من الأساس ، ورفض مسألة الدين من الاصل.

ولهذا سرت «النزعة المادية» في الغرب وتفشت ظاهرة انكار الخالق في اوساط خاصة هي أوساط العلماء وبعض الفلاسفة ممن تحرروا عن التقليد ، وواجهوا قضايا الدين وغيرها بالنقد والتحليل ، والمناقشة والاستفهام ، فوجدوا ما كان يلقى اليهم عن الله وما طالما سمعوه من رجال الكنائس لا يوافق العقل ، ولا يتفق مع العلم فبادروا الى انكار اصل وجوده سبحانه وقد كان السبب في كل ذلك هم أرباب الكنائس ، وما جاء في الكتب المنسوبة إلى السماء من الترهات والتوافه (١) مثل جهل الله وندمه ومغلوبيته.

ولاجل التوضيح نذكر فيما يلي نصاً من العهد القديم :

جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين من العهد القديم :

«وسمعا صوت الرب الاله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنة ، فنادى الرب الاله آدم وقال له : أين أنت فقال : سمعت صوتك في الجنة فخشيت لاني عريان»!!! هكذا يصف العهد القديم خالق الكون والهه فهو يتمشى في الجنة ، ويغني ويجهل مخبا آدم!!!

__________________

(١) لاشك أن الكتب السماوية الواقعية لا تحتوي على اية فكرة تضادد احكام العقل السليم فما هو السبب لمثل هذه التوافه انما هو الدس والتحريف الذي تعرضت له تلك الكتب على ايدي القساوسة والبابوات والأحبار.

٥٨٨

وجاء في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر التكوين منه أيضاً :

«فبقى يعقوب وحده ، وصارعه انسان حتى طلوع الفجر ولما رأى انه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه ، وقال : اطلقني لانه قد طلع الفجر ، فقال : لا اطلعك ان لم تباركني. فقال : ما اسمك؟ قال : يعقوب. فقال لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل اسرائيل لانك جاهدت مع الله والناس وقدرت ، وسأل يعقوب وقال : أخبرني باسمك ، فقال : لماذا تسأل عن اسمي ، وباركه هناك.

فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل قائلا : لاني نظرت الله وجهاً لوجه ، ونجيت نفسي».

وجاء في رسالة هوشع عن يعقوب انه : «جاهد مع الله ، جاهد مع الملاك وغلب».

هكذا تصف التوراة اله الكون ، الهاً اسطورياً عاجزاً ، مغلوب على أمره مقهوراً للبشر.

ولم يكتف الاباء الكنسيون بهذا بل جعلوا المسيح الهاً مجسداً ، نزل الى الارض ليطهر البشر ويخلصهم عن النجاسة ثم صلب فداء عن الناس ، ثم نزل من الصليب ودفن ثم قام الى آخر ما هنالك من السفاسف والسخائف كما هو موجود في العهد الجديد.

فهل يمكن لعالم متبحر أو حكيم مفكر أن يقبل باله من هذا النوع يقتل ويصلب ويدفن ويفدي بنفسه جميع الخلائق ويتحمل اللعنة عنهم ، ويسمح لهم بالخطيئة وغير ذلك.

أم هل يمكن أن يقبل العلماء والمفكرون بفكرة التثليث الخاطئة التي راحت الكنيسة تصر عليها اصراراً بالغاً ، وتعتبره من صميم الدين ، فاذا جادلهم

٥٨٩

أهل التوحيد قالوا نحن موحدون واذا سئلوا عما في عقيدتهم من التثليث قالوا : إنه لا يضادد التوحيد وادعوا بأن الله واحد في حال كونه ثلاثاً ، وثلاث في حال كونه واحداً.

فها هو المستر هاكس الأمريكي يقول عن التثليث : «ان الطبيعة الالهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر أي الاب والابن وروح القدس والاب هو خالق جميع الكائنات بوساطة الابن والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك في رتبة واحدة ، وعمل واحد» (١).

فكيف يمكن أن يقبل المفكرون بهذا التناقض الواضح ، وهل أمامهم الا طريق واحد وهو نبذ هذه الترهات التي وصفت مع الاسف بأنها جزء من الدين الأمر الذي سبب النفور من الدين لدى هذه الطبقة من الناس في الغرب.

أم هل يمكن أن يقبل المفكرون باله يصلب على خشبة دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه ، أو دون أن يستطيع شريكه أو جزؤه الاخر من تخليصه.

فقد جاء في انجيل متى في الإصحاح السادس والعشرين المقطع ٢ : «وكان المجتازون (على المسيح عندما كان مصلوباً على الخشبة) يجدقون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين : یا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك ان كنت ابن الله فانزل عن الصليب ... قالوا : خلص آخرین وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها ، ان كان هو ملك اسرائیل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلينقذه الان ان أراده لانه قال : أنا ابن الله.

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس : قارن هذا بالتوحيد الذي نادى به الاسلام ودعا اليه ، واقرأ سورة الاخلاص اذ يقول سبحانه قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ * اللَّـهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ واحكم أيهما هو المعقول الموافق للفطرة السليمة والعقل المستقيم : التوحيد أم التثليث.

٥٩٠

وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه يعيران معه»!!!.

أم كيف يمكن أن يقبل العقلاء والمفكرون أن يتحول بدن المسبح الاله الى خبز يستحيل الى مسیح آخر في جسم كل انسان أكله ، أو يتحول خمر الى دمه في كيان كل من شربه.

استمع الى انجيل متى الإصحاح السادس والعشرين المقطع ٢٦ :

«وفيما هم ياكلون أخذ يسوع (المسيح) الخبز وبارك وكسر واعطی التلاميذ وقال : خذوا كلوا هذا جسدي وأخذ الكأس وشكر واعطاهم قائلا : اشربوا منها كلكم لان هذا هو دمي» (١)!!!.

وقد كانت هذه السخافات حول اله الكون هي السبب الجوري لثورة بعض القساوسة على أفكار الكنيسة ، وانكارها ، والارتداد عنها ، والدعوة الى تصحيحها لما فيها من المحال ، واللامعقول في شأن اله الكون ، وخالقه وبارئه سبحانه.

هذا وقد أشار بعض المفكرين الغربيين الى أثر هذا العامل (أي وجود الخرافات حول اله الكون) في ارتداد بعض المفكرين والعلماء عن الدين والحادهم ، وهو «وولتر اوسكار لندبرج» عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية اذ قال :

«في جميع المنظمات المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في اله مو على صورة الانسان بدلا من الاعتقاد بان الانسان قد خلق خليفة الله على الأرض. وعندما ينمو العقل بعد ذلك ويتدرب على استخدام الطريقة العلمية فان تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع اسلوبهم في التفكير أو مع أي منطق مقبول ، وأخيراً عندما تفشل

__________________

(١) وهذا هو الذي يسمى بالعشاء الرباني ، أو العشاء السري.

٥٩١

جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة ، وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي ، نجد هؤلاء المفكرين يتخلصون من الصراع بنبذ فكرة الله تعالی كلّية» (١).

٢ ـ عدم وجود فلسفة جامعة وصحيحة

لم يتوفر خلال التحولات التي وقعت في الغرب (٢) ، وأتت على الكثير من الفروض والنظريات الفلسفية والرياضية والطبيعية والفلكية السائدة ، أيّ منهج فلسفي رصین وصحیح يستطيع ان يعالج ما برز عند العلماء والمفكرين من مشاكل فكرية وشبهات اعتقادية في مجال المعارف الالهية ، ولم يتح عرض أصول الفلسفة الالهية ومبادئها ومفاهيمها فيما يتعلق بالله سبحانه وصفاته وأسمائه وكل ما يتعلق بما وراء الطبيعة عليهم.

فانّ العالم الغربي كان اذا حصلت له بعض الشبهات لم يجد منهجاً فلسفياً اعتقادياً ، صحيحاً وجامعاً يتلقى منه اجابات شافية ومقنعة تريح وجدانه ، وترضي عقله ويستريح اليها فكره ، وتزيح شكوكه وتبدد حيرته.

وقد كان فقدان هذا الأمر هو أحد العوامل القوية في اعراض بعض العلماء والمفكرين في الغرب عن الدين ، والاقبال على المادية والالحاد ، وفيما يأتي نذكر شواهد على ذلك للبرهنة على مدى تأثير خلو الساحة الغربية من مثل هذا المنهج الفلسفي الاعتقادي القادر على حل المشكلات وعرض المفاهيم الصحيحة :

* * *

__________________

(١) الله يتجلى في عصر العلم ص ٣٢.

(٢) خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.

٥٩٢

الشاهد الاول

ان من أبرز الشواهد في هذا المجال هو ما قاله الفيلسوف الفرنسي «اوغست كونت» مؤسس الفلسفة الوضعية عن الله والعلم :

«ان العلم أعفى الله أبا الطبيعة عن شغله وساقه إلى زاوية العزلة مقدراً له اتعابه»!!!

ان هذه العبارة تكشف عن مدى تصور هذا الفيلسوف الغربي عن الله ، وعن فكرته حول خالق الكون ودوره سبحانه بالنسبة إلى النظام الكوني ، وهو يدل على عدم وجود ما يزيح له هذا الابهام ویریه سواء السبيل.

وتوضيحاً لكلامه ولكي نقف على مواقع النظر فيه نقول :

ان «كونت» تصور ان الالهيين كانوا يعتقدون بأن الله هو والد الطبيعة ، وانه موجد الظواهر الطبيعية مباشرة.

فهو يقول : إن البشر البدائي كان في عصور الجهل يعتقد بأن كل الظواهر الطبيعية من صنع الله مباشرة ، فهو الذي يوجد الزلازل ، وهو الذي ينزل المطر ، وهو الذي ينبت الثمر ، وهو وراء هبوب الرياح ، وانه بالتالي يستند اليه كل شيء من الحوادث والظواهر الطبيعية دون تخلل شيء.

وقد كان البشر على هذا الاعتقاد يوم لم يكتشف بعد العلل المادية ، والاسباب الطبيعية لتلك الظواهر فقد كان ـ بحكم فطرته التي تقضي بان لكل معلول علة يسند كل ذلك الى الله ، ويريح بذلك نفسه ويرضي وجدانه.

ولكنه ما ان اكتشف العلم الأسباب والعلل المادية الحوادث والظواهر ، واثبت ان الهطول المطر ، وحدوث الزلزال ، ونبات الكور اسبابها الخاصة وعللها المناسبة استختی بالاعتقاد بالعلل التي كشف عنها العلم عن الاعتقاد

٥٩٣

بالله ، ولم يعد لله في نظره أي شغل ولا أية مسؤوليات في الكون ، وبهذا انزوی الاله في عزلة بعد أن كان له سلطان على عقل البشر وضميره.

آن ابرز ما يلوح للنظر من هنات في كلام «كونت» هو :

أولا : انه لم يستطع التحرر من مفاهيم الكنيسة ـ رغم معاداته لها ـ فهو استخدم في كلامه لفظة «الأب» و «الابن» وهي من الفاظ الكنيسة ومصطلحاتها لانها تعتقد بالثالوث المكون من الاب والابن .. الى آخر ذلك ، فهو يعتبر خالق الكون بمنزلة الاب للطبيعة ، والطبيعة بمنزلة الابن الله تعالى ، وهو يشعر بمدى تأثره بالعقائد الكنسية المنحرفة.

ثانياً : أن ما ذكره «كونت» يكشف عن جهله بمنطق الالهيين ، وتصورهم عن دور العلة العليا بالنسبة إلى النظام الكوني.

فقد جهل وغاب عنه أن الفلسفة ـ كما اسلفنا ـ لا تسند الظواهر الطبيعية الا الى عدلها المادية الخاصة ، ولا تحاول ـ مطلقاً ـ اثبات وجود الخالق عن طريق اسناد هذه الظواهر اليه ليكون اكتشاف العلل والأسباب المادية الحقيقية لهذه الظواهر سبباً للاستغناء عن وجود الله ، ثم نفي وجوده بالمرة.

بل ان الفلسفة الالهية تعتقد بان المستند اليه هو مجموع النظام البديع بما فيه من الاسباب والمسببات والعلل والمعلولات الطبيعية المنظمة فهو صادر عنه ، ومخلوق له ، وموجود بفعله ، لاستحالة أن يصدر مثل ذلك النظام البديع الامن فاعل خبير ، وصانع قادر عليم.

وهذا هو ما يرمي الى اثباته برهان النظم وغيره من البراهين التي قررناها في الأبحاث السابقة.

غير ان «كونت» تصور ـ مع الدهماء ـ ان الله جزء من الطبيعة والنظام الكوني ، وانه في عرض العلل المادية بحيث تستند الظواهر الطبيعية ـ علی

٥٩٤

فرض وجوده ـ اليه مباشرة. فلما كشف العلم الحديث القناع عن الاسباب والعلل المادية لكل ظاهرة من الظواهر الطبيعية لم يعد الكون بحاجة الى «الله» الحلول العلم محله!

ان هذا التصور يكشف ـ بوضوح ـ عن عدم وقوف هذا الرجل على دور «العلة العليا» ومكانتها من النظام البديع ، ويحكي عن جهله بأن الله خلاق المادة ، وما يسود عليها من نظام علي ومعلولي ، فهو الذي أوجدها ، وهو الذي ارسی فيها نظام السببية والعلية ، ومن ثم فان تقدم العلوم والوقوف على المزيد من قوانين الطبيعة يعزز مكانة «الله» الخالق لانه يزلزلها فكلما ترقی العلم ، وكشف الانسان عن البواطن ، ووقف على اسرار الخلقة ، وتجلى له نظام العلل والمعلولات ، تعمق لديه الاعتقاد بوجوده سبحانه لان كل ذلك النظام البديع يستحيل أن يكون صادرة الا عن خالق مبدع حكيم ، وفاعل قادر خبير.

وقد تقرر ـ في مطلع هذه الدراسة ـ أن اسناد ظهور الاعتقاد بالله في الحياة البشرية الى جهل الانسان من أسوء الاخطاء ، وأفسد الاراء ، وثبت أن البشر لم يتدين بسبب جهله بالعلل المادية الطبيعية ، وانما ساقه إلى ذلك ـ مند اقدم العصور ـ أحد البراهين والأدلة التي وقفت عليها في خلال البحوث السابقة والتي ترجع في اساسها الى قانون العلية الوجدانی العقلي.

* * *

الشاهد الثاني :

ومما يدل على أثر خلو الساحة الغربية من فلسفة صحيحة في ظهور المادية ما كتبه الفيلسوف الانجليزي راسل في كتابه : «لماذا لست مسيحياً» حيث فان ما حاصله : انه في شبابه كان يعتقد بما يعتقد به الالهيون ، ولكنه عدل عن تلك

٥٩٥

العقيدة حينما ننبه الی ان ازلية الخالق التي بدعها الالهيون ما هي الا تخصیص في القاعدة العقلية التي تقول بأن لكل موجود علة ، وحينما طرح على نفسه ، هذا السؤال : ومن خلق الله ، ولم يجد له عند الالهين جواباً اعرض من العقيدة الدينية ، واختار المادية والالحاد!!.

في حين ترد على مقالة «راسل» ذذه عدة اشكالات وهي :

أولا : ان من المجیب ان يمر هذا السؤال سبباً في ارتداد «راسل» عن الايمان بالله ، وهو من ابسط الاشكالات التي أجاب عنها الالهيون منذ أمد بعيد.

بل واعجب من ذلك انه تنبه اليه في أعربات حياته وهو من الاسئلة التي تطرح نفسها على الانسان في أيام شبابه ، فكيف لم ينتبه اليه «راسل» طوال هذه المدة المديدة ، وكيف لم يعثر على جواب عليه.

أليس هذا يدل على ان «راسل» وأضرابه لم يتعرفوا على الفلسفة الصحيحة ولم يقفوا على المفاهيم والمبادئ الاعتقادية التي يعرفها كل الهي عادي فضلا عن الفيلسوف والعالم؟

ثانياً : ان هذا السؤال ليس متوجهاً الى الالهيين خاصة ، فالمادي والالهي امامه سواء ، لأن المادي والالهي كلاهما يعترفان بانتهاء الكون الی «مبدأ ازلي» غير مخلوق لشيء ولا معلول لعلة ، وهو عند المادي «المادة الأولى» وعند الالهي الخالق سبحانه وتعالى ، فكيف وجه راسل هذا السؤال الى الالهيين ، ولم يوجه الى الماديين القائلين بازلية المادة أيضاً؟!

ثالثاً : ان «راسلاخطأ خطأ فضيعاً عندما تصور ، وادعى بان كل «موجود» بحاجة الى علة ، ولهذا استنتج من ذلك بأن الله باعتباره موجوداً لابد له من علة فما هي علته ، ومن أوجده؟.

٥٩٦

وقد غفل «راسل» أن ملاك الاحتياج ليس هو الوجود بل وجود الشيء بعد ان كان معدوماً فالموجود الذي لم يكن له وجود سابق بل كان مسبوقاً بالعدم هو الذي يحتاج الى علة لتوجده ، أي تنقله من كتم العدم الى حيز الوجود لاكل موجود.

فاننا لو افترضنا الله موجوداً أزلياً لم يسبق وجوده أي عدم ، ولم ينفك عنه الوجود لحظة أبداً كما اسلفنا في بحث «ازلية الخالق» ، لم يكن حينئذ بحاجة الى علة ، لانه لم يحتج الى الايجاد ليحتاج الى علته ، حتى يكتسب الوجود منها ، ويلبس رداء التحقق بسببها ، وقد سبق منا أن امتناع التسلسل يحتم علينا القول بلزوم انتهاء سلسلة العلل والمعلولات الی موجود واجب وجوده ازلي كونه ، لم يسبقه عدم ، ولم يلحقه وجود بل الوجود والوجوب ذاته وعينه.

وحق القول ان «راسل» لم يكن فيلسوفاً متخصصاً في قضايا الفلسفة بل كان عالماً رياضياً واجتماعياً ومن هنا التبس الامر عليه وغابت الحقيقة عنه.

ثم ان هذا يدل على أنه لم يجد منهجاً فلسفياً صحيحاً ورصيناً يزيح له شبهاته ويعالج له مشكلاته.

* * *

الشاهد الثالث :

ما ذهب اليه اوغست كونت في كتابه محاضرات في الفلسفة الوضعية من تقسيم تاريخ تطور الفكر الانساني الى ثلاث مراحل :

الأولى : «المرحلة اللاهوتية» وهي التي فسر الانسان الحوادث والظواهر الطبيعية فيها باسم الاله وأسندها اليه مباشرة.

الثانية : «المرحلة الميتافيزيقية» وفيها فسر الانسان الحوادث باسم عناصر خارجية ما وراء الطبيعة ومبادئ مجردة كالقوى الروحية والنفوس والعقول.

٥٩٧

الثالثة : «المرحلة الوضعية» التي أخذ الانسان يفسّر فيها الاحداث باعتبارها خاضعة لقوانين عامة يمكن ادراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية والتجارب.

وقد أخطأ «كونت» في نقطتين :

الاولى : انه تصور ان هذه المراحل ـ في الفكر ـ مراحل طولية وعمودية وان البشر كان يأخذ في بعض العصور بالتفسير الاول ثم أخذ ـ في ما بعدها ـ بالتفسير الثاني ، ثم أخذ في العصر الحاضر بالتفسير الثالث ، وانسه من غير الممكن لشخص واحد في زمان واحد ان يجمع بين كل هذه التفاسير الثلاثة للظواهر الكونية ، في حين لا يوجد أي تزاحم بين هذه المراحل والتفاسير في معتقد الالهي ، فان الفلسفة الالهية كما تعترف بالنظام العليّ الماديّ السائد على الكون ، وقيام هذا النظام بالقوى المجردة فانها تعترف بالعلة العليا التي ينتهي اليها مجموع هذا النظام الطبيعي والقوى المجردة.

فليس الاعتقاد بهذه التفاسير (التفسير اللاهوتي والتفسير بالمجردات والتفسير الطبيعي العلمي) اعتقاداً بامور متضادة متباينة لان هذه العلل واقعة في طول الاخرى لا في عرضها ، فان العلل المجردة والمادية امتداد لخلاقيته سبحانه ، فانه سبحانه ينفذ مشيئته في الكون عن طريق العلل المجردة والمادية وهذا هو سر نسبة الظواهر الطبيعية الى الله سبحانه ـ في مواضع عديدة من القرآن الكريم ـ تارة ، والی عللها المادية الطبيعية أو المجردة كالملائكة تارة اخرى ، فهو لاشعار ان هذه الأسباب تؤثر بارادته سبحانه ، وانه سبحانه شاء ان ينفذ ارادته ومشيئته عن طريق الاسباب في عالم الطبيعة ، وهو بحث سیاتی تفصيله عند دراسة صفاته سبحانه وأسمائه.

هذا وقد أشار الامام جعفر بن محمد [الصادق] عليه‌السلام اذ يقول :

٥٩٨

«أبی الله أن يجري الاشياء الا بأسباب فجعل لكل شيء سبباً وجعل لكل سبب شرحاً ..» (١).

على ان الدليل الواضح الذي يعتمد عليه كل الالهيين ويمكن عرضه على عامة الطبقات من الناس هو الاستدلال بالنظام البديع السائد على الكون الذي يقوم على العلل والمعاليل التي تنسق الظواهر الطبيعية وتربطها ببعض. فهذا النظام البديع بهذا المعنى كان ولم يزل وسيلة لجميع الالهيين منذ أقدم العصور ومطمح نظرهم.

وللتدليل على ذلك ننقل لك مقتطفات من الحوار المفصل الذي دار بين سقراط واریستوديم الذي علم سقراط عنه بأنه ترك التوجه الى الاله ، والتقرب اليه بالصلاة والدعاء :

قال سقراط : قل لي يا اريستودیم! أترى انه يوجد رجال يستحقون منك الاعجاب في مهارتهم وحسن أعمالهم؟

قال اريستوديم : بلی

قال سقراط : الا تخبرنا عن أسمائهم

قال اريستوديم : اني في نوع الشعر التاريخي أعجب (بهومير) وفي الحماسة يطربني (میلاتیید) وفي المرائي يشجوني (سفوكل) ، ويروقني في التماثيل (بوليكيت) ويعجبني (زوكسیس) في فن التصوير.

قال سقراط : قل لي أيهما أحقهم من اعجابك بالقسط الأكبر ، الذين يعملون صوراً لا شعور بها ولا حراك ، أم الذين يخلقون الكائنات الحية المتمتعة بالادراك؟

__________________

(١) اصول الكافي ج ١ ـ كتاب الحجة ـ باب معرفة الأمام ، وبقية الحدیث كالتالي : وجعل لكل شرح علماً. وجعل لكل علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ونحن».

٥٩٩

قال اريستوديم : وحق الاله ، ان الاحق بالقسط الاكبر من الاعجاب هم الذين يخلقون الكائنات المتمتعة بالحياة ، اذا لم تكن تلك الكائنات نتيجة الصدفة ، بل كانت نتيجة حكمة وارادة.

قال سقراط : أرأيت لو عرضت عليك مصنوعات مختلفة منها ما هو خفي المنفعة ، ومنها ماله منفعة ظاهرة وحكمة في الوجود باهرة ، فأيهما أولى بأن تظنه من نتائج الصدفة والاتفاق ، أو نتائج العقل والحكمة؟.

قال اريستوديم : تقضي علينا بداهة العقل ، ان نقول أن الذي له حكمة في الوجود ظاهرة ، ومنفعة في نظام العالم بينه هو من فعل العقل والحكمة.

قال سقراط : ألا ترى معنا انّ الذي خلق الانسان وسوّاه قد أعطاه كلّ عضو من أعضائه لمنفعة خاصة ، وفائدة بينة ، ومتعه من الأجزاء والأجهزة بما يحس ويشعر بواسطته ، فمتعه بعينين ليرى بهما المحسوسات وباذنين ليسمع بهما الأصوات؟ ألا ترى انا كنا نتمتع بادراك الحلو والمر من الطعام ، وبالالتذاذ بمحبوبات الفم لو لم يكن لنا ذلك اللسان الذي وضع لتمييزها والحس بها؟

ألا ترى ان من دلائل التدبير والحكمة أن تمتع العين وهي ضعيفة بجفون تنفتح وتنغلق عند الحاجة وتنطبق عند النوم طول الليل ، وأن توهب تلك العين غربالا من اهداب لتقيها فعل الرياح الثائرة وأن تمنع تلك الحواجب كميزاب يمنع عنها غوائل العرق المتساقط من الرأس ، وأن تصنع الأذن على صورة لا تكل من سماع الاصوات ولا تعيا من الحس بها ، وأن تعطي جميع الحيوانات أسناناً أمامية لقطع الأغذية وأضراساً جانبية لطحنها وسحقها ، وأن يكون الفم الذي تدخل منه الحيوانات الأغذية الصالحة لها إلى أجوافها موضوعاً قريباً من العينين والمناخير ، وان المحل الذي يحصل منه الافراز للمواد المستقذرة بعيد عن مرمى النظر ، أترى نفسك بازاء كل هذه الاعمال التي تدل على تدبیر

٦٠٠