الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

تاسعاً) أن تدهور أمر العقيدة الدينية وانحسارها في بعض المجالات والفترات التي نشط فيها الاقتصاد العام وانتشر الرفاه لا يعود الى ما ذكروه من النسبة التعاكسية بين «انتعاش الحالة الاقتصادية العامة» و «انحسار العقيدة الدينية» بحيث يكون انتعاش الحالة الاقتصادية العامة للكادحين سبباً في الأعراض عن العقيدة والمفاهيم الدينية ، وترديها سبباً لرواج العقيدة الدينية ، بل يعود الى ان طغیان غريزة من الغرائز من شأنه أن يغطي على الجوانب الاخرى في الحياة الانسانية ، وهذا لا يختص بغريزة حب المال والثروة ، بل يعم غريزة وحب الجاه والجنس وغير ذلك من الغرائز ، فاذا زادت الاستفادة من غريزة معينة كما لو تمادی المرء في غريزة حب المال وجمعه أو الجنس نسي سائر ما عنده من الغرائز بل وحتى ما اعتقده من افكار ثبتت لديه بالأدلة القاطعة كالدين وما شاكل ذلك.

وبعبارة أخرى : ان العقيدة المقدسة كالاعتقاد بالله التي لا تنفك عن تحمل المسؤوليات لا تزدهر ولا تتجلى بقوة في كل ما اتفق من بيئة ومحيط ، بل تزدهر وتنمو في بيئة سليمة من هيمنة الغرائز الطافحة وسيطرة الشهوات الطاغية التي تغطي على كل شيء سواها.

ومن هنا يكون من الطبيعي أن يتضاءل دور ونفوذ العقيدة الدينيّة ، وتكاد تختفي معالمها في البيئات التي تغطي عليها المادية ، ويكون الانسان فيها غارقاً في الشهوات من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ، ففي هذه الحالة لا تترك التوجهات المادية الطاغية الحادة مجالا لظهور الافكار الدينية وتجلي التوجهات الميتافيزيقية.

وليس هذا الانحسار تجاه طغيان شيء من الغرائز خاصاً بالدين بل يشمل بقية الجوانب الانسانية والغرائز البشرية.

فكلما طغى شيء اختفى في شعاعه شيء آخر من الأفكار أم من الغرائز.

٦١

عاشراً) ن استخدام المستغلين للعقيدة الدينية في سبيل مصالحهم شيء ، والدوافع الموجدة للعقيدة الدينية شيء آخر والبحث انما هو في الثاني دون الأول وما قاله الماركسيون يرجع الى الاول دون الثاني ، فالعقيدة حقيقة موجودة في طبيعة الانسان ومختمرة بفطرته ، وقد استغلها بعض الاشخاص لمصلحته ، وهذا واقع في أشياء أخرى أيضاً ، كما في الطب وأشباهه ، فلا يصح أن يقال : ان الطب قضيّة مخترعة لا واقع لها ولا ضرورة لان بعض الأشخاص أو بعض الاطباء استخدم الطب لاستدرار الارباح ، واستجرار المنافع من ورائها.

قال ويل ديورانت : «ان الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لاغراضه فقط كما يستخدم السياسي ما للانسان من دوافع فطرية وعادات ، فلم تنشأ العقيدة الدينية من تلفيقات والاعيب كهنوتية انما نشأت عن فطرة الانسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع» (١).

* * *

حادي عشر) لو سلّم بما ذكره الماركسيون من أن الدين كان يستخدم كوسيلة لمصلحة الاثرياء وأضعاف الفقراء فان ذلك ـ لو صح ـ فانما يصح بالنسبة للمذاهب التي طالتها أيدي التحريف ، أو التي أوجدها الاستعمار ، ولا يصلح ذلك دليلا لتعميم هذا الحكم على كافة الشرائع.

كیف ونحن نجد القرآن الكريم الذي صدع به نبيّ الاسلام محمّد صلی الله عليه وآله يزخر بتصريحات هامة وواضحة للانبياء السابقين ضد المستغلين وتجد أيضاً كيف ان دعواتهم كانت ملجأ للمحرومين والمظلومین وسبيلا إلى كسر شوكة الظالمين ودحر المستغلين ، واعادة الحقوق إلى أصحابها.

__________________

(١) قصة الحضارة ج ١ ص ١٧٧.

٦٢

ففي سورة القصص يقول سبحانه :

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (القصص ٤ ـ ٦).

وفي سورة الشعراء يحكى سبحانه عن النبي موسى عليه السلام احتجاجه على فرعون استعباده لبني اسرائيل اذ يقول :

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (الاية ـ ٢٢)

وفي سورة الشعراء يقول سبحانه وهو ينقل موقف بعض الأعيان والاثرياء من الرسالة الاسلامية التي ناصرها المحرومون والضعفاء :

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (الاية ـ ١١١).

وغيرها من الآيات التي تفيد أن الدعوات الإلهية كانت موجهة ضد الطغاة والمستكبرين والظالمين ، وكذا ضد المعتدين والمستغلين.

ولهذا كان المحرومون يبادرون إلى تأييدها قبل أي جماعة أخرى.

بل نجد القرآن يحث اتباعه على الأعداد العسكري لمواجهة أعدائهم من الذين لا ترضيهم تعاليم الاسلام العادلة اذ يقول سبحانه :

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ (الانفال ـ ٦٠)

كما وهاجم المرابين الذين يستغلون حاجة الناس ويمتصون جهودهم بقوله :

يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ

٦٣

أَثِيمٍ (البقرة ـ ٢٧٦)

وبقوله :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (البقرة ـ ٢٧٨ ـ ٢٧)

ونددبكانزي الثروة اذ قال :

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة ٣٤ ـ ٣٥)

وغيرها من الايات الناهية عن الاستغلال والاستعباد والتي تدل على ان دعوات الانبياء وجهودهم ركزت اهتماماً كبيراً على استنقاذ حقوق المحرومین وتخليصهم من الحرمان وحتی باستعمال القوة في بعض الحالات.

* * *

ثاني عشر ـ ان الماركسيين الذين ذهبوا إلى تعليل العقيدة الدينية بأنها كانت آلة طيعة لاخماد ثورة المستضعفين والكادحين لعلهم قصدوا بعض المفاهيم الخلقية في الدين التي ربما تقع وسيلة بأيدي أصحاب الثروة لاخماد نائرة العمال والفلاحين المحرومين المضطهدين مثل :

أ ـ القضاء والقدر بمعنى الاستسلام والخنوع.

ب ـ الصبر بمعنى السكوت والخضوع للعدو.

ج ـ الزهد بمعنى الرغبة عن الدنيا وترك الفعاليات.

٦٤

د ـ التوكل بمعنی ترك الأخذ بالأسباب الطبيعية غير ان تفسير هذه المفاهيم بما ذكروه ينم عن جهلهم بمعانيها الحقيقية أو تعاميهم عنها ، فان لها من المعاني ما يجعلها خير وسيلة للتحرك والانطلاق ، والثورة والانعتاق ، لا الخمود والركود ، والخضوع والعبودية كما زعموا.

وسوف تأتي على ذكر هذه المفاهيم ، ونعرض لتحليلها في الأجزاء اللاحقة من هذه المجموعة باذن الله تعالی.

على هامش النظرية الاقتصادية

وتعود مرة أخرى لدراسة النظرية الاقتصادية في تفسير ظاهرة العقيدة الدينية في الحياة البشرية لنرى ما اذا كانت ترتكز على قاعدة صحيحة أم لا؟

فنقول : لقد استدل أصحاب النظرية الاقتصادية في تفسير ظاهرة العقيدة الدينية ، لاثبات نظريتهم بأن الطبقة المستغلة من الأسياد والاقطاع والرأسماليين عمدت الی ترویج العقيدة والمفاهيم الدينية لهدفين :

أولا : التمكين حاكميتهم على من استغلوهم ، وذلك بایهامهم بأنهم نواب الله ووكلاؤه ، وان ما يجري في حياة الناس انما يجري بمشيئته ، وان التمرد على هذا الوضع مخالفة لأوامره وتقديراته ، وان احترام الأسياد والحكام لیس الا تكريماً لله ، واحتراماً لأوامره.

ثانياً : أن ما كانوا يطيقونه على المستغلين من أحكام جائرة وظالمة كان ينذر بانتفاضة اولئك المحرومین وثورتهم لاستنقاذ حقوقهم وتخليص أنفسهم من الأذى والاضطهاد ، فكان يلزم أن يكون هناك ما يخفف هذه النقمة ويجنب المستقلين هذه الثورة والانتفاضة ، ولهذا روجوا بينهم المفاهيم الدينية التي تدعو الى الرضا بالقدر والصبر لقاء ما يحصلون عليه من عوض اخروي ، وعدم

٦٥

الحزن على ما فات ، وما شاكل ذلك من المفاهيم المهدئة للخواطر (١).

ونجيب على ذلك بأننا قد نوافقهم على ما ذكروه في الأمر الأول بعض الموافقة ، فقد كانت السلطات الأموية تروج فكرة الخلافة الالهية بمفهومها المحرف المخدر كلما كانت الشعوب المضطهدة في ظل حكمهم تعمد الى الاعتراض على أحكامهم التعسفية ، وممارساتهم الظالمة ، فيوهمون الناس بتلك الفكرة ، ويدعون بأنهم يمثلونها وانهم ينفذون ارادة الله ومشيئته فعلى الناس أن يرضخوا لحاكميتهم ، واحكامهم.

افقد سأل معبد الجهني ـ وكان تابعياً صدوقاً ـ استاذه الحسن البصري عن مدى صحة ما يعني به الأمويون من مسألة القضاء والقدر وتبريرهم لاعمالهم الجائرة والفاسدة بأنه من القدر الإلهي الذي لا مجال لمعارضته ومناقشته فأجابه : كذب اعداء الله هؤلاء» (٢).

الا انه يرد على مجموع هذه النظرية اشكالات عديدة هي :

أولا : إن معنى هذه النظرية هو أن العقيدة الدينية انبثقت أول ما انبثقت في ذهن الطبقة المستغِلة ، ثم نقلتها هذه الطبقة الى المستغّلين ، مع أن التاريخ لا يدل على مثل هذا التقدم والتأخر ، بل يثبت عكس ذلك ، حيث انه يدل على ان الناس ـ مع انقسامهم الى طبقة مستغلة ومستغلة ـ كانوا سواء في الاعتقاد والعبادة ، فليس هناك أي دليل على ان العقيدة الدينية ظهرت أولا بين الأسياد والحاكمین والمستغلين ثم انتقلت بفعلهم ـ الى المحرومين والمضطهدين.

* * *

__________________

(١) نعم ان التقدير ـ بهذا المعنى ـ وهو أن مصير الإنسان مرسوم دون ارادته ، وانه لا حيلة له في تغييره باطل ومرفوض ، كما ستعرف في الأبحاث القادمة.

(٢) تاریخ علم الكلام لشبلي النعماني نقلا عن تاريخ مصر المقریزی.

٦٦

وثانياً : أن ما ذكره أصحاب هذه النظرية لا ينفع في المقام لان البحث ـ هنا ـ انما هو في بيان سبب نشوء العقيدة الدينية ، ومنشأ ظهورها في الحياة البشرية والحال أن ما ذكروه لا يتناول هذه الجهة ولا يوضح حقيقة هذا الأمر ، فان أقصى ما يدعيه أو يثبته هو استغلال جماعة معينة للعقيدة الدينية في سبيل أغراضهم ومصالحهم ضد طبقة أخرى ، وهو خارج عن محط البحث الراهن.

* * *

وثالثاً : أن التاريخ يدل على ان الانسان كان يحمل العقيدة الدينية في نفسه وعقله ، ويمارسها في حياته العملية منذ أن كان يقطن في المغارات والكهوف.

فان جميع تلك الجماعات البدائية كانت تخضع لمعبودات حقة أو باطلة.

بل يذهب بعض مؤرخي الديانات إلى أبعد من ذلك حيث يعتقدون أن الناس في أدوار التاريخ الأولى كانوا يتفقون على «اله واحد» وان التعددية وظاهرة الشرك طرأت على عقائدهم فيما بعد ، وهذا يعني أن التاريخ الحقيقي للعقيدة يسبق التاريخ الذي تقصده وتحدده هذه النظرية التي تقول بأن الاعتقاد بالله وبالمفاهيم الدينية جاء نتيجة علاقة الظالم والمظلوم والسيد والمسود ، وانه نتيجة الصراع الطبقي ، وحاكمية المستغلين على المستغلين ، اذ التاريخ يثبت ـ كما أسلفنا ـ أن العقيدة كانت رائجة بين الناس ، يوم كانوا أمة واحدة ، لا طبقات ولا أصناف.

* * *

رابعاً : أن النظرية المذكورة انما تكون صحيحة اذا كانت صادقة بالنسبة الى جميع الأدوار ، وكان موضوعها شاملا لجميع الموارد ، في حين نجد أن هناك دعاة إلى العقيدة الدينية لم يكن هدفهم ترسيخ حكومة الظالمين ولا تكريس حرمان المحرومين بل على العكس من ذلك كان هدفهم هو مقارعة

٦٧

الظالمين وكسر شوكتهم ، ودفع الناس إلى استعادة حرياتهم المصادرة واستنقاذ حقوقهم المغتصبة ، وأفضل شاهد على ذلك حركة النبي ابراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ضد نمرود ، وحركة النبي موسى ـ عليه السلام ـ ضد فرعون ، والدعوة المحمدية ، وثورة الامام الشهيد الحسين بن علي عليه السلام ضد السلطات الأموية الجائرة المستغلة ، وغيرها وغيرها. (١)

وأما ادعاء أصحاب هذه النظرية باستغلال العقيدة الدينية من قبل بعض الطبقات فانه لا يثبت أكثر من ان المستغِلين استخدموا الدين كذريعة لتحقيق مطامعهم وحفظ مواقعهم ، والابقاء على مصالحهم ، وهذا ليس مما ينكر فان من طبيعة المستغل أن يستخدم كل ما يخدم مصالحه ، ويحقق أطماعه ، ويضمن أرباحه ، ولذلك فهو يستخدم العقيدة الدينية في هذا السبيل كما يستخدم الالحاد أيضاً ، ويروجه ويشجعه اذا وجده يحقق له مآربه ، ويخدم مقاصده.

غير أن السؤال المحير هنا هو : كيف استطاع هؤلاء المستغلين أن يتوسلوا بالعقيدة الدينية لخدمة مصالحهم اذا لم تكن العقيدة شيئاً واقعاً في الأذهان ، مقبولا لدى النفوس ، أي أنها لم تكن مما تقتضيه الفطرة وتطلبه ، ولم تكن العقول تقضي به لوجود رابطة عقلية بين مشاهدة النظام الكوني والاعتقاد بالخالق المنظم؟

ألا يدل ذلك على أن العقيدة الدينية كانت تجد هوى في النفوس ، وقبولا في العقول ، وان ذلك كان بمثابة الفرصة التي استغلها المستغلون ، وكانت بمثابة الأرضية المناسبة التي ساعدتهم على استخدامها في سبيل مصالحهم ، والا فكيف

__________________

(١) بل وكل الحركات الدينية وخاصة الاسلامية التي سارت على خطى الرسول الاكرم والامام الحسين وغيرهما من قادة الاسلام ، لمكافحة الاستبداد أو الاستعمار أو الاستغلال.

٦٨

يمكن أن يتقبل الناس ما لا يلقی هوى في نفوسهم ، وقبولا في عقولهم بالمرة بل يستوحشون منه كما يستوحشون من الأشباح والغيلان.

أجل ان شأن العقيدة الدينية شأن البضائع التي يقبل عليها الناس ويطلبونها بدافع من حاجتهم الفطرية ورغبتهم الطبيعية ، وميلهم الذاتي.

فهذا الاقبال هو الفرصة المناسبة التي تساعد الذين يبحثون عن الأرباح الطائلة بأن يسلكوا سبيل الغش فيها ويسهل لهم أن يخدعوا الناس بالبضائع المنمقة ظاهراً.

وخلاصة القول : أن الشيء ما لم يكن مقبولا ذاتياً عند الناس لم يمكن لأحد أن يستغله ويتوسل به لتحقيق مطامعه فيهم.

فالاسكافي والخياط لا يمكنهما خداع الناس بما يعرضانه من ألبسة وأحذية زاهية في الظاهر ، مغشوشة في الباطن لو لم يكن هناك رغبة ذاتية ، وأولية ، وطلب طبيعي لدى الناس لهذه الاشياء ، يستغلها أمثال هؤلاء الأشخاص.

* * *

القرآن ونظرية الاستغلال

ان افتراء الماديين على رجال الوحي لا ينحصر في باب دون باب ، فانهم كما افتروا عليهم في النظرية السابقة فقد افتروا عليهم في هذه النظرية أيضاً اذ ادعوا أن رجال الوحي كانوا يمالئون المستغلين والظالمين ، والحال ان صحائف تاريخهم الساطعة تشهد بخلاف هذا الزعم.

فقد كان النبي يدعو الناس ـ قبل أي شيء ـ الى كلمة الاخلاص والتوحيد وهي «لا اله الا الله» (راجع سورة الأعراف والانبياء).

ولنتدارس هذه الكلمة التي يرددها ملايين البشر على وجه الأرض ، لنقف

٦٩

على دلالالتها.

أو ليست هذه الكلمة دعوة صريحة الى نبذ كل معبود سوى الله ، وكل حاكم دونه ، وكل ولاية عدا ولايته؟

أو ليست حركة لمحو ورفض حاكمية المسرفين والظالمين والطواغيت يحمل لواءها رجال الوحي والدعاة إلى الله؟

أجل أن كلمة لا اله الا الله نفي لكل معبود وردع للانسان عن عبادة أي شيء سوى الله والتذلل لاية قدرة دون قدرته ، والخضوع لحاكمية دون حاكميته.

ومع ذلك كيف يصح لاصحاب النظرية المذكورة أن يفسروا دعوة الانبیاء بأنها كانت في مصلحة المستغِلين وانهم كانوا يمالئون الظالمين والمستكبرين.

أوليس القرآن الكريم يدعو بصراحة إلى عدم الركون إلى الظالمين اذ يقول :

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (هود ـ ١١٣)

أم كيف يسمح الماديون لانفسهم بأن ينسبوا هذا الوصف المشين الى الانبیاء مع أن القرآن يعلن بصراحة بأن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء والرسل هو اقامة العدل والقسط في المجتمع البشري الذي لا يمكن الا بازالة كل مظاهر الاستغلال والاستعمار والاستعباد اذ يقول :

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحدید ـ ٢٥)

٧٠

لا نظن أن من ألمّ بالقرآن ونداءاته وتعاليمه يسمح لنفسه بان ينسب مثل هذه الوصمة الى انبياء الله ورسله ويدعي بانهم كانوا یمالئون المستغلين ويوافقونهم على ممارساتهم مع ان القرآن الكريم وهو كتاب نبي الاسلام يصرّح بان ألدّ خصوم الأنبياء هم المترفون المسرفون وهم الظالمون الذين يتخذون مال الله دولا ، وعباد الله خولا. هم الذين يحملون أنفسهم على أكتاف الناس ويفرضون حاكمیتهم عليهم بالقهر والقوة ، والذين كان الأنبياء من أقوى المحرضين على الثورة عليهم وتحطيم حاكميتهم ، وازالة سيطرتهم. قال سبحانه :

مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (سبأ ٣٤ ـ ٣٥)

ان القرآن الكريم يصرّح بأن أول من استجاب للانبياء وانضوى تحت لوائهم هم المستضعفون والمحرومون.

فها هم المستكبرون ينددون بالانبياء لانهم آووا الأراذل والضعفاء من الناس اذ يقولون كما یحكى سبحانه عنهم ـ :

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (هود ـ ٢٧)

وهكذا كان الدعاة إلى الله ـ وفي طليعتهم الانبياء ـ على النقيض من المستكبرين والظالمين أبداً ، وكانت دعواتهم حرباً شعواء على الظلم والاستغلال.

لقد كانوا يؤكدون ـ دائماً ـ على أن سيطرة الظالمين على المحرومين لم

٧١

تكن الّا بسبب سكوتهم وعدم ثورتهم ضدهم ، وانهم ما لم يغيروا أوضاعهم الفاسدة بانفسهم ، لم يغيّر الله من أمرهم شيئاً.

وهذه سنة تاريخية ثابتة في مجال الاجتماع لا مندوحة منها ولا مناص ، فكل امة تريد أن يعود اليها مجدها ، وسيادتها لا تحصل على ذلك الا اذا غيّرت وضعها بنفسها أولا.

قال سبحانه :

إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد ـ ١١)

اذن فسيطرة الظالمين باقية مستمرة ما دام الناس لم يثوروا في وجه الظالمين ولم يتمردوا على أوامرهم وتحكماتهم.

٤ ـ العقيدة الدينية ظاهرة طفولية

ثم ان ثمت نظرية أخرى لا يليق أن نذكرها في عداد النظريات لتفاهتها وسخافتها الفاضحة ، وهي : ان الانسان يوم كان طفلا كان يحس بالحاجة الشديدة الى الحماية تجاه الأخطار المحيطة به بسبب ضعفه وعجزه ، فكان يجد هذه الحماية عند امه ، ولما أدرك تفوق الاب لجأ اليه ، ولما أحس بعجز أبيه أيضاً تجاه الأخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر قدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يحلّه محلّ أبيه ، وهكذا نشأت عنده فكرة الاله.

والمجتمع وان تخلص اليوم عن بعض ما يعلق بضمير الطفل من الحاجة في اللجوء الى الأم أو الأب حيث انه قد بلغ مرتبة كبيرة من البلوغ العقلي والفكري الّا ان اعتقاده بالله استمر لاستمرار الحالة الطفولية التي كانت تعلق بضمير المجتمعات الغابرة التي كانت من حيث العقل والقهم بمنزلة الطفل.

٧٢

وخلاصة القول : أن عقيدة الانسان بالله في الاجتماعات البدائية ماهي الّا استمرار لعقيدة الطفل بالحاجة الى حضن الام ، وكنف الاب وحمايتهما ، فهذه العقيدة أو الحالة الطفولية هي التي أوجدت في عقله فكرة الاله القائم مقام الاب.

والجواب عن هذه النظرية هو انه ـ مضافاً الى ما ذكرناه من الأجوبة المشتركة عن النظريات الاخر في هذا المورد ـ يرد عليه :

أولا : أن صاحب هذا التحليل خلط بين «الدافع» والنتيجة المتحصلة من ذلك الدافع من حيث القيمة ، كما ألمحنا الى ذلك في ما سبق.

فلو اننا فرضنا صحة هذا التحليل ـ ولن يصح أبداً ـ وارتضينا ما يقول من أن الحالة الطفولية هي التي دفعت البشر الى اتخاذ العقيدة الدينية ، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية العقيدة الدينية وان كان الدافع اليها أمراً تافهاً ، وذلك لما قلنا من أن الدافع وما یندفع اليه ليسا سواء ولا متحدين في القيمة.

فربما يكون الدافع أمراً تافهاً ، ولكنه يدفع الانسان الى امر ذي بال ، كما لو دفعت الحرب الى اختراع اجهزة مفيدة ، أو دفعت غريزة طلب الجاه أو الشهرة أو الثروة الى ابتداع مكتشفات نافعة.

ثانياً : انه يرد عليه ما نبهنا اليه أكثر من مرّة وهو أن هذه النظرية وسابقاتها من قبيل التحليل القائم على أمر غير ثابت أبداً ، بل مما ثبت خلافه ، وهو ان «العقيدة الدينية أمر موهوم لا علة له من فطرة أو عقل» ولما كانت العقيدة عندهم أمرا موهوماً أخذ يشرّق أصحاب هذه النظريات ويغربون ، ويحاولون أن ينحتوا لنشوء هذا الأمر الموهوم علة ، وهم يرون بان نشوء العقيدة الدينية من قبيل الاعتقاد بنحوسة العدد ١٣ ، ونهيب الغراب ، وما شاكل ذلك.

٧٣

ولكن وصف «العقيدة الدينية» بذلك وجعلها في عداد الاوهام والخرافات من أسوء الموافف تجاه الحقائق ، فان العقيدة الدينية علة فطرية ، واخری منطقية ، ولهذا لا مجال لنحت الفرضيات لتفسير جودها ونشوئها والسماح للخيال بابتداع التبريرات والعلل.

* * *

ثالثاً : ان هذا التحليل سيف ذو حدّين لأن الظاهر منه هو أن صاحبه يعبد عقائد الناس الى العقد الروحية التي تعلق بالنفس الإنسانية في فترات من عمر الانسان.

فلو صحّ ذلك فلماذا لا تصحّ هذه النظرية بالنسبة الى نفس هذه العقيدة التي اختارها المحلل تجاه الدين ومفاهيمه ، حيث قال ان العقيدة الدينية ترجع في ابتدائها الى عقدة روحية ، ولماذا لا يكون الحاد هذا المحلل (وهو فروید) وخصومته مع الله سبحانه راجع الى عقدة روحية اصيب بها في فترة معينة من فترات عمره ، خاصة وانه قد نقل عنه بانه كان متعلقاً بمربية له في طفولته ، وكان يذهب معها إلى الكنيسة ، ولما طرد والده تلك المربية من منزلهم بتهمة السرقة نشأت لدى فرويد عقدة تجاه أبيه الذي حرمه من تلك المربية فصار خصماً لوالده منذ ذلك الوقت.

فلماذا لا تكون خصومته لله امتداداً لخصومته لوالده؟

أضف إلى ذلك أن هذا المحلل لم يمكنه أن يتحرر من رواسب العقائد المسيحية المحرفة التي علقت بالضميره منذ كان طفلا يتردد على الكنائس ، فان تنزيل الاله منزلة الأب والتعبير عن خالق الكون بالأب فكرة مسيحية ، تستقي جذورها من العقائد المسرحية المحرفة.

والناظر في أمثال هذه التحليلات لا يشك في ان كل واحد من المحللين

٧٤

قد نظر الى العقيدة السائدة في عصره وبيئته فجعلها مقياساً لتحليله ، ومعياراً لتقييمه.

ولم يكن أولئك المحللون ذوي خبرة والمام بالشرائع والعقائد ، السماوية حتى يميزوا المحرّف عن غيره والصحيح عن السقيم ، كما عرفت.

رابعاً : ان هناك شخصيات بارزة في التاريخ الغابر وكذا في العصر الحاضر يعتقدون بالله سبحانه ، ويعبدونه لكونه المثل الأعلى للكمال والجمال ، وغير ذلك من الصفات العليا لا لكونه يقوم مقام الأب في ازالة الخوف عنهم ، وتوفير الحماية اللازمة لهم.

وقد مرت بعض النصوص المنقولة عنهم والتي تؤيد هذه الحقيقة ، بصراحة لا غموض فيها ، فراجعها.

القرآن ونظرية استمرار الحالة الطفولية

لقد وقفت على اجمال هذه النظريّة وكيف أن «فرويد» ادعى أن الحالة الطفولية لدى الانسان والتي تتطلب له أباً رؤوفاً ياوي اليه لدى الأموال هي التي جرته إلى أن يخترع فكرة الاله ليقيمه مقام الأب الحامي له في فترة الطفولة حتي تحصل له الطمأنينة ويتوفر له الاستقرار النفسي.

كما قد عرفت ـ أيضاً ـ ما يرد على هذه النظرية من النقد الهادم لاسسها. وها نحن بعد ذلك كله نكس نظرية القرآن الكريم في هذا المقام فنقول :

أن القرآن الكريم يجعل الطمأنينة أثراً من الاثار الطبيعية لذكر الله سبحانه اذ يقول : أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد ـ ٢٨)

٧٥

كما انه يصف الله سبحانه بأنه منزّل السكينة في قلوب المؤمنین به اذ يقول :

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (الفتح ـ ٤)

غير انّ الفرق بين النظرية التي طرحها فرويد وهذا الأمر واضح لا يخفى على المتأمل البصير ، فان ذلك العالم النفساني جعل تحصيل الاطمئنان والاستقرار والسكينة علة موجدة ، وسبباً باعثاً على ايجاد «فكرة الاله».

وأما القرآن فهو يجعل حصول كل هذه الأمور من نتائج ذكره سبحانه ، ومن آثار التوجه الله تعالی.

وأما الانتباه الى وجوده سبحانه فهو امّا من طريق الفطرة أو من طريق البرهان ليس الا.

ثم أن القرآن يشدد النكير على كل من يصف الله سبحانه بالابوة كما تفعل النصارى الذين يعدونه أباً ، وينزلونه منزلة الوالد فيقول :

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشوری ـ ١١)

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (الصافات ـ ١٨)

ولا شك أن فرويد قد تأثر في تقييمه لمسألة العقيدة الدينية بالفكرة المسيحية حول الله وهي فكرة الابوّة والبنوّة الالهية التي يستنكرها القرآن ويشجبها بشدة ويهاجمها بعنف اذ يقول :

مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (١) (مریم ـ ٣٥)

__________________

(١) ولقد ورد هذا المضمون في آيات عديدة أخرى هي البقرة ١١٦ ، ويونس ٦٨ ، والاسراء ١١١ ، والكهف ٤ ، والأنبياء ٢٦ ، والفرقان ٢ ، والزمر ٢ ، والجن ٣ ، وغيرها.

٧٦

٥ ـ نظرية توارث العقيدة

ذهب جماعة ـ ممن لم يرتضوا النظريات السابقة ـ الى نظرية جديدة في تفسیر وجود العقيدة الدينية في الحياة البشرية ملخصها : أن العقيدة الدينية أمر فكري ورثته الاجيال اللاحقة من الأجيال السابقة حتى وصلت الى عصرنا الحاضر ، وبهذا أراح أصحاب هذه النظرية أنفسهم ، وظنوا بأنهم اهتدوا الى تحليل سلیم في هذا المجال.

والجواب : أن هذه النظرية كسابقاتها ـ في غاية الضعف والبطلان لوجوه نذكرها فيما يلي :

أولا : أن غاية ما تفيده ، وتثبته هذه النظرية ـ على فرض صحتها ـ هو أنّ علة انتقال العقيدة من الأجيال السابقة إلى اللاحقة ، وتواجدها في جميع العصور هو «التوارث الفكري» وهو أمر آخر لا يرتبط ببحثنا الحاضر المنعقد حول تفسیر «نشوء العقيدة الدينية» أساساً.

فما ذكروه يعلل وجود العقيدة الدينية في الأجيال المتلاحقة ، لا نشوء العقيدة ابتداءاً. اذن فصاحب هذه النظرية لم يأت بشيء جديد في هذا المجال.

* * *

ثانياً : ان سريان العقيدة الدينية وسيادتها في جميع أبناء البشر وفي جميع الأجيال يكشف عن ان العقيدة الدينية من الامور الملازمة للروح والفكر البشري بحيث لا يعقل انفكاكها عنهما ، فهي تماماً مثل الاكل والشرب والملبس وغيرها من الفعاليات والحاجات الجسدية التي لا تفارق البشر ولا تنفك عنهم.

ومثل هذا الحضور الدائم للعقيدة الدينية في الفكر البشري والحياة العقلية الانسانية منذ العصر الحجري والى عصر الفضاء هذا يكشف عن واقعية هذا

٧٧

الامر اذ لا يمكن ان يكون لشيء ما مثل ذلك الحضور الشامل لولا كونه كذلك.

* * *

القرآن ونظرية توارث العقيدة

قد عرفت ان صاحب هذه النظرية يعتبر الاعتقاد بالله امراً خرافياً ورثته الأجيال اللاحقة من السابقة.

وقد عرفت ـ في ما مضی ـ ان هذه النظرية ـ مضافاً الى وهنها وضعفها ـ لا تفي حتى بنفس مقصود القائل فان البحث ـ في المقام ـ انما هو في التعرف على علة نشوء العقيدة الدينية اساساً ، وهو بعد لم يأت بشيء ذي بال في هذا المجال.

غير اننا اذا رجعنا إلى القرآن لرأينا أن الأنبياء الذين كانوا في الرعيل الأول من الدعاة إلى الله يصرون اشد الاصرار على انه ليس لبشر عاقل ان يقتص آثار الأمم السالفة من دون تمحيص لها أو تحقيق ، ومن دون أن تكون مقرونة بالدليل والبرهان اذ يقول :

وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (الزخرف ـ ٢٣ ـ ٢٤) (١)

والعجب من قائل هذه النظرية أن يكرر نفس المقالة ويعتبر الدعوة الى الله

__________________

(١) وقد ورد هذا المضمون في آيات اخرى هي الأعراف ـ ٢٨ ، والانبیاء ٥٣ و ٥٤ والشعراه ٧٤ ـ ٧٦ ولقمان ـ ٢١.

وقد تكررت لفظة البينة في القرآن الكريم اكثر من ٧٠ مرة تقريباً.

٧٨

دعوة خرافية أخذت من الاسلاف مع أن بعض معارضي دعوات الانبياء ـ في عهود الجاهلية ـ كانوا يتفوهون بهذا الكلام ، ويعدون دعوة الانبياء من قبيل الاساطير. قال سبحانه :

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الانفال ـ ٣١)

على ان الانبياء كانوا كلما باشروا بالدعوة قرنوا نداءاتهم واقوالهم بالادلة واصروا على أن ما يقولونه مشفوع بالبينات التي هي الدلائل الساطعة على صدق مقالهم ، وصحة ادعائهم فكيف والحال هذه يصح أن توصف دعوتهم الى الله بأنها قضية وراثية وان ما كانوا يدعون اليه كان من الخرافات والأساطير التي لا يدعمها دلیل.؟

قال سبحانه :

قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّـهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ

(هود ٦٢ ـ ٦٣)

* * *

٦ ـ التدين وليد الفطرة الانسانية

لقد تبين لك فيما مضى ضعف الوجوه التي فسر بها الماديون ظاهرة العقيدة الدينية وعللوا بها نشوء الاعتقاد بالله ، وبما وراء الطبيعة.

ثم ان هناك علة أخرى لتكون ونشوء العقيدة الدينية ، ووجود ظاهرة الايمان بالله على امتداد الحياة البشرية الا وهي «الفطرة الالهية» المغروسة في اعماق كل انسان.

٧٩

ويتضح هذا الأمر اذا عرفنا ان افعال الانسان تتنوع الی انواع عديدة :

١ ـ الافعال الاكتسابية وهي التي يأخذها الانسان عن طريق التعلم ، سواء اصبحت عدد من المخدرات كالتدخين ، وشرب الشاي ، أو غير عادية كالكتابة والخياطة والرعي.

٢ ـ الافعال الطبيعية التي تكون من قبيل ردود الفعل كانقباض العين عند سقوط النور عليها وسحب الانسان رجله عند وخزها بابرة أو ما شاكل ذلك.

٣ ـ الأفعال الغريزية التابعة من الطبيعية المشتركة بين الحيوان والانسان كالرغبة الى الجنس الاخر ، وكنسج العنكبوت لبيته ، وهجرة الطيور من قطر الی قطر ، وحنان الأم على ولدها ، واجتناب الخطر ، والفحص عن علل الحوادث وغير ذلك.

فكل هند امور غريزية تابعة من الطبيعة المشتركة بين النوعين (الحيوان والانسان).

٤ ـ الامور الفطرية التي فطر عليها الانسان فهي تولد معه ، وتتكامل وتنمو بصورة تدريجية ، وذلك مثل حبه للعلم والكمال ، وميله الى الفن والجمال وانجذابه الى قيم الأخلاق ومحاسن الخصال.

فالاقسام الثلاثة الأخيرة تشترك في انها جميعاً تابعة من عمق الجبلة البشرية وناهضة من ثناياها ، وان كان بيتها قررت من جهة أو جهات.

فالافعال التي تدخل في خانة «ردود الفعل» تتحقق من دون علم صاحبها بخلاف النوعين الأخيرين فهما يصدران عن صاحبهما عن وعي وعلم.

أما الثالث (وهي الامور الغريزية) فهي تصدر عن الحيوان عن علم ووعي غير انها تسحر الحيوان وتسيطر على جميع تصرفاته حتى انه لا يجد من هيمنتها وتسخيره مخلصاً.

٨٠