الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

وفي هذا نافذة كبرى على عالم الغيب وخير طريق التعرف على تلك الاسباب والأمل ، والعوالم غير المادية التي لا تدخل في نطاق الحواس ولا في متناول التجربة.

ثم اننا لا نقول أن كل ما يدعی من خوارق العادات الصالحين صحيح على اطلاقه ، ولكننا ـ في نفس الوقت ـ لا يمكن أن ننكر وقوع قسم منها ، وصحته.

كما واننا لا ندعي بأن الخوارق تتحقق بدون علل واسباب ليكون خرقا ناموس العلية ، وشرخاً في قانون السببية المتفق عليه بين جميع الفلاسفة والعلماء.

بل الذي نقوله هوان هذه الخوارق لا يمكن تفسيرها بالعلل المادية والاسباب الطبيعية فلا مناص من الاعتراف بعلل اخرى خارج نطاق الطبيعة هي التي تكمن وراء تلك الخوارق.

وفي امكان القارئ ـ اذا أراد أن يكمل معرفته بهذا المجال ـ أن يطالع حياة المرتاضين وما يقومون به.

فهم يقومون أحياناً بأعمال شاقة جداً لا يمكن تعليلها بالاسباب الطبيعية ، ولذلك لابد من الاعتراف بأن هناك عالماً آخر هو الذي يؤثر في اعمالهم.

ويمكنك ان تقف على أعمالهم وتصرفاتهم العجيبة من الصحف والمجلات والكتب التي تهتم بذكر هذه الأمور.

ومن الجدير بالذكر ـ في خاتمة هذا البحث ـ أن نشير إلى نقطة مهمة ، وهي اننا لا نستدل بوجود هذه الخوارق على وجود الله سبحانه حتى يقال بان ذلك استدلال دوري.

اذ يقال : أن صحة المعجزة لا تثبت الا اذا تحققت النبوة.

٤٤١

والنبوة لا تثبت الا اذا ثبت الوحي.

ولا يثبت الوحي الا اذا ثبت وجود الله فكيف يستدل بخوارق العادات على وجود الله؟

كلا فاننا نقصد أن في حياة البشر اموراً تدعی بـ «خوارق العادات» وهي مما لا يمكن تفسيره بالعلل المادية التي نحس بها ونلمسها ، وأن عالم الاسباب والعلل أوسع بكثير وكثير من الأسباب المادية والعلل الطبيعية.

نعم لا يهمنا هنا التعرف على حقيقة العلل والأسباب التي تكمن وراء هذه الخوارق ، أهي النفوس القوية التي يمتلكها أصحاب هذه الأعمال أم غيرها.

ولقد أشار الشيخ الرئیس ابن سينا الى هذه الحقيقة اذ قال :

اذا بلغك أن عارفة اطاق بقوته فعلا ، أو تحريكا ، أو حركة ، يخرج عن وسع مثله ، فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار ، فلقد تجد الی سببه سبيلا في اعتبارك مذاهب الطبيعة» (١).

٥ ـ الالهام في النفس

ومن النوافذ المشرعة والمفتوحة على عالم الغيب هو ما تلقاه بعض النفوس من بعض المواضيع والامور حال اليقظة ، وتلك حقيقة واقعة لا تقبل الشك والجدل كما هو الحال في الأمور التي يتلقاها الانسان في حال النوم.

ويسمى ذلك التلقي والالقاء ، في مصطلح الفلسفة بالالهام (٢).

__________________

(١) شرح الاشارات ج ٣ ص ٣٧.

(٢) وقد عبر القرآن الكريم عن الالهام بالوحي والايحاء أيضاً اذ قال : وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ (٧ / القصص).

٤٤٢

والالهام بهذا المعنى كثير في حياة الناس لدرجة انه لا يمكن لاحد انكاره والتشكيك فيه ، بل ربما نسب الكثير من الاختراعات والاكتشافات ، والمضامين الشعرية الرفيعة السامية جداً ، الى الالهام ، لأنها تظهر عند الشخص من دون ان يفكر فيها مسبقا ، أو يكون ملتفتا اليها ، وأيضاً من دون أن يقف الانسان على العامل الملهم لها ، أي مصدر الهامها.

ثم انه قد يتحقق «الالهام» بسماع صوت من دون أن يرى السامع متكلماً فاننا نجد ونعرف في المسلمين رجالا قد بلغوا هذه المرتبة الرفيعة في الكمال فتلقي في روعهم بعض الأفكار والمطالب الشامخة ، وربما سمعوا ـ في ذلك ـ أصواتا وكلمات.

على اننا لا نقصد ـ هنا ـ تصديق كل من يدعي الالهام في نفسه أو سماع اصوات كهذه ، ولكننا نقصد بان كثرة وقوع امثال هذه الحالة في الحياة البشرية قد وصلت الى حد لا يمكن لاحد انكارها وتجاهلها.

ولقد انتبه الروحيون الى هذا الأمر عند البحث في قضايا الروح ، ونقل العالم المشهور موریس میتر لنج نماذج من ذلك اليك واحدة منها :

يعد «الكابتن ماك گودن» أخويه الشابين أن يأخذهما الى الملهى ، فيشتري تذاكر الملهي قبل الموعد بيوم ، وفي صبيحة اليوم التالي يسمع صوتاً يقول له : لا تأخذهما إلى الملهى ، اذهب بهما إلى المعهد ، فلا يكترث بهذا الصوت ولكن حيث ان الصوت المذكور لا ينقطع ، فانه ينصرف عن الذهاب الى الملهی ، فيدخل بذلك الحزن على أخويه ، وفي الليلة نفسها يحترق ذلك الملهی وتلتهم النيران كل شيء فيه ويحترق في وسط السنة اللهب أكثر من ثلاثمائة متفرج».

كما نذكر هنا قصة اخرى في هذا المجال بلغتنا عن طريق الثقاة.

٤٤٣

ذكر أحد الدكاتر الكبار الايرانيين وهو رئيس أحد المستشفيات الكبرى فی ایران ان صاحب متجر كبير كان ذلك الدكتور يبتاع منه حاجيات المستشفى وكان ذلك الرجل معروفاً بالأمانة والصدق والنزاهة ومتصفاً بالتقوى والاخلاق الرفيعة ، وكانت المعاملات بينه وبين ادارة المستشفى تجرى على أحسن حال.

(ثم أضاف الدكتور قائلا) وذات يوم راجعني ذلك التاجر وقال لي بمنتهى الجدية : انا سأموت بعد ثلاثة أيام ولم أخبر أحداً بهذا الامر سواك ، وحيث انني لا أحب أن أموت في منزلي فانني أرجو أن تحجز لي سريراً في المستشفى حتى تكون وفاتي هناك.

فتصورت انه قد أصابه شيء في عقله ، فأجرينا عليه بعض الفحوصات الطبية ، أظهرت سلامته الكاملة ، وخلوه عن اية حالة مرضية.

وحيث كانت العلاقة بيني وبينه علاقة ودية وأخوية قوية جداً لم يمكننی الا تلبية طلبه ، فأدخلناه المستشفى ، وخصصنا له غرفة خاصة.

ولما كان اليوم الثالث ارسلت اليه ـ في الساعة الثانية عشرة ـ صباحاً ـ ممرضة لنرفع لي تقريراً عن حالته الصحية ففعلت وعادت الي لتخبرني بانه في حالة صحية جيدة للغاية.

وفي الساعة الثانية ارسلت الممرضة ذاتها مرة اخرى لتخبرني عن حالته فزارته وعادت تخبر انه في غاية العافية وانها وجدته مشغولا بتناول الفواكه.

وأرسلتها للمرة الثالثة في الساعة الرابعة ، ولكنها عادت هذه المرة لتخبرني بأنه يعاني من الاحتضار ثم مات على أثره (١).

__________________

(١) وهذا الموضوع وان كان لا يثبت بقصة أو قصتين أو ثلاث أو أربع ، غير ان الهدف هو ايمان القارئ على وجود مثل هذه النافذة ، التي يتحقق من وجودها عند

٤٤٤

* * *

٦) الفراسة ، أو قراءة الضمائر

وهي قوة يستطيع معها الانسان ، على استبطان الأشخاص ومعرفة ما يدور في خلدهم من أفكار ومشاعر وأحاسيس من مجرد نظرة يلقيها الانسان على بعض أعضاء الإنسان أو أثر من آثاره.

ووجود مثل هذا الأمر يهدم الحصار الذي يضر به الماديون حول أدوات المعرفة ، حيث يدعون بأن أدوات المعرفة تنحصر في الحس والعقل (١).

٧ ـ رؤية الحوادث عن بعد

وهي ما يسميها العلماء المعاصرون بالحس السادس ، فالانسان في ظل هذه الحاسة يكتشف وقائع المستقبل ، أو يقف على وجود الحوادث من بعيد ، وبشكل خارق للعادة والمألوف. واليك بعض ما ذكره بعض العلماء في هذا المجال :

١ ـ يقول مترلينج في احد مؤلفاته : آن قروياً اخبر ـ قبل شهرين من موعد الاعلان عن اسماء من خرجت القرعة باسمائهم للخدمة العسكرية ـ أن الرقم من القرعة خرجت باسمه وانه سيخدم العلم في الوحدة رقم ولما حان موعد اجراء القرعة ، حضر هذا القروي الى المحل الذي تجري فيه القرعة

__________________

مراجعته لعشرات الحالات والقصص المشابهة لما ذكرناه هنا ، وعند ملاحظة الأحاديث والنصوص في هذا المجال.

(١) وربما عبر عن هذا أو ما شابهه الان بالتلپاتي. راجع ما كتبه فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين وراجع كتاب الطاقة الانسانية لاحمد حسین.

٤٤٥

فسأل المسؤولين : هل خرج الرقم من الصندوق فقيل له كلا. فقال : الان ساخرجه بيدي ، ثم ادخل يده في الصندوق على مرأى من الحضور واخرج ـ وسط دهشة الجميع ـ الرقم ، ولما سئل عن السبب قال بانه رأى (قبل شهرين من هذا اليوم ، وعندما ادى الى فراش نومه) شبحا او شبها كبيراً مرسوماً في سقف الغرفة كتب في وسطه الرقم فمر على قلبه بان هذا الرقم مرتبط بالخدمة العسكرية وانه يحدد وحدته التي سيخدم فيها.

وقد ذكرت قصص أخرى من هذا القبيل في كتاب على حافة العالم الأثيري وغيره فراجع.

هذه هي بعض النوافذ على عالم الغيب ، وهي كافية لان توقف الباحث المتجرد على أن العالم لا ينحصر في اطار المادة والمادي بل هناك عالم آخر خارج عن نطاق الوجود المادي يمكن الوقوف والاستدلال عليه بما ذكرناه في هذه الأبحاث.

الأولياء وخوارق العادة

على ان خوارق العادة لا تنحصر في ما يقوم به الأنبياء على سبيل الاعجاز ، بل هناك من الأولياء المقربين الذين عبدوا الله سبحانه بصدق واخلاص ویقین من يقدر على بعض التصرفات في عالم التكوين لغايات مقدسة وبغير الوسائل المعروفة والمألوفة ، لأن العبادة الخالصة جعلت من انفسهم جوهرة وقوة قادرة على الإتيان بهذه التصرفات الخارقة ، لغايات ومصالح معينة معقولة.

وما اكثر العلماء الأتقياء والعارفون البررة الذين بلغوا هذه المرتبة السامقة ، وسجل التاريخ أعمالهم وما صدر عنهم في هذا المجال.

ولقد اشارت النصوص الاسلامية الى امكانية حصول مثل هذه القدرة لمن عبد الله باخلاص وخضع له بصدق ويقين نعرض عن ذكرها هنا رعاية الاختصار.

٤٤٦

٢

نظرية الخياليين

قد عرفت أن مجموع النظريات المطروحة حول تفسير الظاهرة الكونية تنحصر في خمس نظريات أولها ، واكثرها انصاراً ما تقدم البحث فيه بتفصيل ، وهي «نظرية التقدير والتدبير والخلق» وفي ما يأتي عرض لبقية النظريات المطروحة في هذا المجال.

بيد أن الجدير بالذكر هو أن نظرية واحدة من بين هذه النظريات تفارق غيرها جوهراً ، فان عامة النظريات سواء تلك التي تقول بالتقدير والتدبير والخلق ، او التي تقول بالصدفة او تقول بخاصية المادة ، او تتبنى المادية الديالكتيكية ، تبحث في المسألة بعد التسليم المسبق بوجود الواقع الخارجي والحقائق المحسوسة خارج الذهن» ولكنها تختلف في علة تكون النظام السائد في العالم وحصول التنوعات الكثيرة في الطبيعة ، فمن قائل بأن كل ذلك نشأ بفعل خالق أعلى ، ومن قائل بان ذلك حدث بالصدفة ، ومن قائل بان ذلك من خواص المادة ، ومن قائل بان التنوعات نشأت وتنشأ وفقا للاصول الديالكتيكية.

ولكن النظرية المذكورة التي تباین كل هذه النظريات تقوم على اساس انكار العالم الخارجي او التشكيك في امكان اثباته خارج الذهن ، وهي النظرية التي اصطلح الفلاسفة الجدد على تسميتها بالمثالية ، وكان يصطلح على تسميها

٤٤٧

في الفلسفة الإغريقية بالسفسطة.

ان اهم اتجاه للمثاليين (١) يتلخص في :

١ ـ من ينكر الواقع الخارجي انكاراً مطلقا ، فلا يعترف بشيء منها ابداً ، اولا يعترف بسوى نفسه وذاته وتفكيره ، بل وربما شك او شكك في وجوده ونفسه ، واعتبر نفسه والعالم المحيط به خيالا في خيال.

٢ ـ من يشكك بعلمنا بالواقع الخارجي ، ويدعي بأن الانسان لا يمكنه التوصل الى الواقعيات والحقائق الخارجية بأدوات المعرفة المجهز بها ، فهي تعاني من أخطاء كثيرة تجعل الاطمئنان إلى معارفه وتصوراته متعذراً.

وأغلب الظن أن المثاليين يقصدون الثاني أي انهم يشككون في تمكن الانسان من ادراك الحقائق الخارجية كما هي ، وذلك لمناقضة الادعاء القول مع الفطرة البشرية ومخالفته للوجدان ، ولان اكثر ما أقاموه من الأدلة والبراهين تنطبق على النظرية الثانية.

* * *

بعض أدلة الخياليين

ولكي نقف على ضعف هذا المذهب ، وتفاهته نستعرض أهم أدلتهم ، وما يرد على هذه الأدلة من النقد والاشكال على نحو الاختصار فنقول ان

__________________

(١) الأولى ان يسمى المثاليون بالخياليين لانهم يرجعون كل شيء الى الخيال ، والا فان لفظة المثال تعني كل ما يكون في قمة الكمال ، لدرجة انه يضرب به المثل ، ويعد معياراً لمعرفة وتمییز ما هو حقيقة وما هو زيف.

هذا وللبحث في تاريخ تطور استعمال هذه اللفظة ، واصناف من سموا بالمثاليين مجال اخر ، وانما اكتفينا بالالماع إلى هذا المنهج دون الاسهاب نظرا لحجم هذه الدراسة.

٤٤٨

الخياليين استدلوا على عدم تمكن الانسان من التوصل الى الحقائق الخارجية المحسوسة المستقلة عن مجال التصور والذهن بالأدلة التالية :

١ ـ وقوع الخطا في الحواس

يقول الخياليون : ان حواسنا مع انها أقوى وسيلة لاتصالنا بالواقع الخارجي ، وادراك الحقائق المحسوسة ، ووصولنا إلى مراتب الواقع ، فانها لا تخلو عن الخطأ والاشتباه.

ولهذا قال جورجياس : «ليس هناك شيء موجود وان فرض أن هناك ما هو موجود فلا يمكن لأحد ان يعرفه واذا أمكن لأحد أن يعرفه فلن يستطيع أن يوصل معرفته الى الاخرين» (١).

وقال جورج باركلي : «المعرفة الحقيقية هي المقصورة على ما يبدو للشعور باعراض محسوسة ، وان ما لا يبدو محسوساً وهم محض» (٢).

وقال كارنیاد : «ان الحواس التي هي عرضة للضلال والخطأ دائماً لا يمكن ان تتخذ اماماً وهادياً ، كما ان التقاليد ليست بأحسن حالا منها لانها تختلف باختلاف الأوطان.

ثم قال : ان الصور التي نراها في الاحلام تفرض علينا بنفس القوة المقنعة التي لصور اليقظة ، فالوحش الذي يطاردنا في الاحلام ليس أقل ترويعاً لنا من وحوش الغابة» (٣).

ويجاب عن ذلك : بأن الوقوف على خطأ الحواس وادراك ان بعض

__________________

(١) الفلسفة اليونانية اصولها وتطورها ص ١٢.

(٢) تاريخ الفلسفة الحديثة ص ١٤٨.

(٣) الفلسفة اليونانية اصولها وتطورها ص ٢٢٨.

٤٤٩

مدرکاتها لا تنطبق على الواقع خير دليل على الأمور التالية :

١ ـ ان الخيالي قد اعترف بأن هناك واقعية خارجية وراء ذهنه ، وذهنياته.

٢ ـ انه قد عرف الواقع في بعض الموارد بحدوده وخصوصياته.

٣ ـ انه قد وقف على أن ما أدركه بفضل الحواس في بعض الموارد لا ينطبق على الواقع الذي أدركه بحدوده وخصوصیاته.

فهذا الدليل يثبت خلاف ما یبتغية المستدل ولهذا قال العلامة «الطباطبائي» في هذا المجال :

ان هذا الاستدلال يبطل نفسه ، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس هذا الاستدلال.

أضف إلى ذلك أن الاعتراف بوجود الخطأ ، وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل وجود الخطأ أو يزيد عليه.

مضافاً إلى ان القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصدیق ، بل ان ما يدعيه في الجملة.

وبعبارة أخرى : انه يدعي الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي ، والحجة لا تفي بنفي ذلك (١).

وخلاصة القول ، آن وقرف الانسان على خطأ حواسه (كما في مثل تصور القطرات التي تشكل بتتابعها خطاً مستقلا وتلاقي الخطين المتوازيين في نهايتهما ، وتلاقي الافق مع الارض واحساس المريض بمرارة الماء الحلو ، ورؤية الكبير صغيراً من بعيد أو بالعكس) أوضح دليل على ان الانسان قادر الى أن يصل الى الواقع الخارجي ، وان يدرك المحسوسات الخارجية كما هي

__________________

(١) الميزان ج ١ ص ٤٧.

٤٥٠

عليه في الجملة فانه قد وقف ـ في هذه الأمثلة ـ على ان تصوّراته غير منطبقة على الواقع ، ولاشك ، انه لو لم يكن هناك مثل هذا الواقع المعلوم لدى الانسان لما استطاع أن يدرك بأن حواسه قد أخطأت الواقع في هذه الموارد.

* * *

٢ ـ الاختلاف في القيم والتقاليد :

ان الأشياء تتصف بالحسن أو القبح عند طائفة بينما تتصف بعكسها عند آخرین ، فلو كان الانسان قادراً على الوصول الى الحقائق ، وادراك الواقعيات كما هي ، لما اختلف في تقسيم الأشياء ووصفها بالحسن تارة ، وبالقبح تارة آخری.

والجواب عن هذا واضح : فان اختلاف الناس انما هو في الأمور التي تختلف باختلاف الأزمان والمجمتعات والبيئات.

وبعبارة أخرى : فان اختلاف الناس في التقييم انما هو في الأمور التي يكون للمدنية والبيئات والتحولات الحضارية دخالة وتأثيراً في تحسينها وتقبيحها ، في حين ان هناك ثوابت في القيم لا يختلف فيها اثنان كقبح الظلم والخيانة وحسن العدل والوفاء وما شاكل ذلك.

وبتعبير ثالث : ان هناك اموراً يحكم بها الانسان على وجه الاطلاق لنفسه ولغيره في هذا الزمان وفي الزمان الاخر ، وتلك هي المثل الأخلاقية التي لا تتغير ولا تتبدل باختلاف الحضارات والبيئات والاجتماعات.

وأما ما يتبدل فهو ما ليس لنفسه ـ في حد ذاته ـ أي حسن أو قبح ، وانما يتصف بأحد الوصفين المذكورين بملاحظة الاعتبارات والظروف الطارئة.

وهذا أمر يبحث في «التحسين والتقبيح الذاتيين» الذي سيأتي في

٤٥١

الاجزاء اللاحقة لهذا الجزء ، عند الحديث عن الصفات الالهية ان شاء الله.

٣ ـ اختلاف المفكرين في مسائل العلوم

لو كان الانسان قادراً على أن يصل الى الحقائق كما هي وقادراً على كشف معلومه من غير تخلف فلماذا وقعت الاغلاط في الآراء والأفكار ، ولماذا التناقضات الكثيرة في النظريات العلمية والخلاف بين روادها وأصحابها؟

أو ليس اختلافهم هذا خير دليل على عدم قدرة الانسان على الوصول إلى تلك الحقائق ، وادارك تلك الواقعيات؟

والجواب على هذا واضح كذلك : فان الاعتراف بالواقعيات الخارجية ، أو الاعتراف بصحة كشف العلم عن معلومة ، ليس بمعنی تصدیق كل مفكر في رأيه والموافقة على كل نظرية ، بل بمعنى ان هناك حقائق محسوسة خارج الذهن وان أخطأت الأفكار في تقييمها وتشخيصها أحياناً.

وصفوة القول أن المفكرين مع اختلافهم في الأصول والفروع يتفقون في كثير من الامور البديهية والنظرية ، بحيث يكون المتفق عليه بينهم أكثر من المختلف فيه.

فهل نجد في المفكرين من يختلف في القوانين الرياضية والهندسية وما اثبته التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء أو من يختلف في الأصول الكلية الفلسفية كقانون العلبة والمعلولية إلى غير ذلك (١)؟

* * *

__________________

(١) راجع أصول الفلسفة للعلامة الطباطبائي بقلم الاستاذ الحجة الشيخ جعفر السبحاني ج ١ ص ١ ـ ٤.

٤٥٢

٤ ـ المدرك هو الصور العلمية لا غير :

ان الاعتقاد بوجود الأشياء خارج اذهاننا يقوم على اساس اننا نراها ونلمسها مع ان الذي نلمسه ليس الا صور ذهنية ، وهذا ليست الأشياء التي ندركها سوى أفكار.

وبعبارة أخرى : كل ما قصدتا نیل شيء من الاشياء الخارجية ، لم ننل عند ذلك الّا العلم به لا نفسه ، فكيف يمكن أن ندعي امكان الوصول الى الشيء نفسه.

قال «جوزج باركلي» : (اذا كنا لا ندرك بالحواس غير المعاني والصور فقط ، دون أن ينتقد ادراكنا إلى الأشياء المادية مباشرة ، فلا مجال للعلم ـ بعد ـ بوجود العالم المادي» (١).

وتجيب على ذلك بأن الواقعيين لا يدّعون بأن الانسان ينال نفس الواقع الخارجي مع ما له من الاثار ، وانما يدّعون بأنه ينال الخارج عن طريق الصور الذهنية.

والاشكال انما حصل من الخلط بين تصور كون الصور الذهنيّة اموراً واقعيّة في عالم الذهن كسائر الأشياء ، وبين كونها مرایا تعكس الخارج ، والخياليون نظروا الى «العلم» من الزاوية الأولى ، واعطوا له موضوعية في جانب سائر الصفات الانسانية كالحسد والبخل والجبن ، والحال لو اننا نظرنا الى العلم من الزواية الثانية ، أي بما هو حاك عن الواقع وعاكس له على شاشة الذهن لما بقي للاشكال أي مجال ، ولهذا يسمى «العلم» اذا لوحظ من الزاوية الأولى بالعلم الموضوعي واذا لوحظ من الزاوية الثانية بالعلم الطريقي.

__________________

(١) تاريخ الفلسفة الحديثة ص ١٦٢ ـ ١٧.

٤٥٣

والحاصل ان الاشكال المذكور مبني على انكار وصف «الكاشفية الذاتية» للعلم.

قال العلامة «الطباطبائي» : «ان الاعتراف بوجود حقائق خارجية يتعلق بها العلم والادراك لا يستلزم حضور الحقائق بواقعياتها الخارجية عند تعلّق علمنا بها ، حتى يصير مآل العلم بها وصول العالم الى نفس واقعية الاشياء بما لها من الاثار ، بل يكفي في الانكشاف وتعلق العلم كونها حاضرة عند المدرك بصورتها الذهنية التي تحكي عنها.

وان شئت قلت : ان الحاضر بذاته عند المدرك وان كان هو الصور العلمية دون الهوية الخارجية ، ولكن الصورة العلمية تحمل وصفاً ذاتياً وهو وصف الكشف عن واقع سواها.

والقائل نظر الى العلم بما هو هو أي بالنظر الاستقلالي لا بالنظر الالي والطريقي فألغى جهة كشفه ، وطريقيته» (١).

والفيلسوف المؤمن بالاشياء الخارجية لا يروم من الوصول اليها أزيد من هذا ، ولا تجدن أحداً يدعي بأن حقيقة العلم هي الوقوف على الواقعية الخارجية وحضورها بنفسها (أي بلا واسطة الصورة الذهنية) عند المدرك.

وحيث أن هذه النظرية ـ برمتها ـ نظرية تافهة بل ومهجورة ، ولا قيمة لها في ميزان النظريات ، ولا أنصار لها بين أصحاب الفكر والرأي ، مضافاً الى ان هذه الأبحاث تتوقف على البحث في «نظرية المعرفة» بصورة مفصلة وموسعة فاننا نكتفي بهذا القدر من البحث في هذه النظرية ، وننتقل إلى دراسة بقية النظريات المطروحة لتفسير الظاهرة الكونية.

كما ونكتفي بایراد ما ذكره العلامة «الطباطبائي» حول هذا الموضوع ،

__________________

(١) اصول الفلسفة ج ١ ص ٨٦ ـ ٨٧.

٤٥٤

فهو بعد أن قسم المثاليين الى طائفتين مكابر وآخر مشتبه ، وعرض لمعالجة كل واحد طريقاً خاصاً فقال : «ان هناك طريقاً آخر لحسم فسادهم وهو أن يتعامل معهم حسب مقتضی عقائدهم فهم ينكرون الحياة والعذاب وینفون العلم والادراك ولا يعترفون باحساس وشعور ، فعلى هذا لا عتب على الانسان أن يعاملهم معاملة الجمادات ، اذ هم والجماد ـ حسب اعترافهم ـ سواسية لا يفترقان أبداً. فلا عتب علينا اذا ضربناهم أو أحرقناهم أو عذبناهم بأنواع العذاب» (١).

__________________

(١) اصول الفلسفة ج ١ ص ١٢٥.

٤٥٥

٣

نظرية الصدفة

ويدعي أصحاب هذه النظرية ان «النظام الكوني» نشأ من دون دخالة فاعل عاقل ، وخالق علیم ، بل صدفة واتفاقاً.

وتقوم هذه النظرية على ثلاثة أمور :

أولا : الاعتراف بالواقع الخارجي وراء الذهن ، وبالحقائق المحسوسة خارج عالم التصور ، وتشارك في هذا الأصل جميع النظريات التي تحاول تفسير الظاهرة الكونية بشكل وبآخر.

ثانياً : الاعتراف بقدم المادة ، وأزليتها ، فلا يبحث أصحاب هذه النظرية عن علة وجود المادة ، وانما يركزون بحثهم على تفسير الأنظمة ، والتنوعات الموجودة في العالم المادي.

ثالثاً : المراد من الصدفة ـ في قولهم ـ ليس هو وجود المعلول بلا علة أصلا ، بل المراد هو ان النظام الفعلي السائد في الكون حدث أثر وقوع وتابع الحوادث التدريجية أو الدفعية الكثيرة جداً.

وبعبارة أخرى ، ان الصدفة ـ في كلامهم ـ تعني ان الحركات اللاارادية

٤٥٦

الكثيرة لاجزاء المادة ، أوجدت نظماً جزئياً ، وبتتابع الحركات واستمرارها وجدت أنظمة جزئية ، وانتهى انضمام بعضها إلى بعض ، وتراكم بعضها على الاخر الى قيام النظام الكلي السائد في الكون وظهرت الانواع المختلفة في الارض والفضاء.

وبتوضيح أكثر ، ان الصدفة تطلق ، ويراد منها :

اما تحقق المعلول بلا علة.

واما حدوث الانظمة البديعة أثر تراكم حوادث كثيرة من دون دخالة فاعل مدبر.

وما ان وجود المعلول يكون لازماً لشخص العلة لا لنوعها.

والمراد هنا هو المعنى الثاني أي حدوث النظام الكلي السائد في الكون أثر حصول أنظمة جزئية تدريجية وتراكمها ، لا المعنى الأول اذ لا يقول به الانسان العادي فضلا عن العاقل اللبيب ، ولا المعنى الثالث وهو ان نوع العلة لا يستتبع هذا المعلول في كل مورد ، وان كان شخص العلة في مورد ما یستتبع ذلك المعلول.

فحفر البئر ـ بما هو هو ـ لا يستتبع العثور على الكنز مطلقاً ، وان كان قد عثر عليه في شخص هذه العلة.

وحيث اننا قد بحثنا مطولا في بطلان نظرية الصدفة حتى بالمعنى الثاني عند دراسة «نظرية التقدير والتدبير والخلق» في هذا الكتاب مستعرضين بعض البراهين الدالة على ذلك على فسادها ، فضلا عن أن نفس اثبات نظرية التدبير والتقدير والخلق تنفي صحة نظرية الصدفة على الاطلاق حيث أن تركيزنا البحث على النظرية الأولى واقامة براهين عديدة عليها لا يبقى أي مجال لنظرية الصدفة ، مضافاً الى أن الصدفة لا يمكنها أن تنتج الا الفوضى.

٤٥٧

وحيث ان نظرية الصدفة كان مما يعتمدها الملحدون والماديون سابقاً ، ولكنها بعد ظهور فسادها وتفاهتها فقدت هذه النظرية أنصارها الذين عدلوا إلى النظريات التالية فاننا نكتفي بهذا القدر من الحديث هنا راجين من القارئ العزیز مراجعة الفصل السابق ، وما ذكرناه حول الصدفة.

٤٥٨

٤

نظرية الخاصية

ظلت نظرية الصدفة وتفسير النظام الكوني بها هي النظرية الوحيدة التي يتمسك بها الماديون بها منذ ظهورها في الأوساط العلمية ، ولا يعتمدون على غيرها فترة من الزمان.

فكلما سئلوا عن علة النظام البديع السائد على الكون ، أجابوا بأن ذلك النظام وليد الصدفة ، والاتفاق!!.

غير أن هذه النظرية لم تلبث طويلا ، فقد أصبحت الان نظرية ممجوجة ترفضها العقول المتنورة ، بعد أن تبين فسادها وبطلانها في ضوء الادلة العقلية والعلمية القاطعة ، اذ لا يمكن للعقل المتجرد عن الهوى ، المتحرر عن كل رأی مسبق أن يفسر هذا النظام المتقن الذي يبهر العقول بمثل هذه النظرية الحمقاء ، والفكرة الطفولية ، لان الصدفة أعجز من أن توجد شيئاً من النظام ولأجل ذلك كله لجأ الماديون الی اصطناع نظرية أخرى يفسرون بها النظام الكوني البديع ، يمكن تسميتها بنظرية «خاصية المادة» وهي وان كانت تبدو

٤٥٩

ـ في نظر أصحابها ـ أكثر معقولية ، ولكنها تفسير لظاهرة النظام الكوني بأمر مهم جداً.

نظرية خاصية المادة باختصار :

وحاصل نظرية خاصية المادة ، هو أن الكون كتلة من المواد ، ولكل مادة خاصية معينة لا تنفك عنها وهذه الخواص هي التي جعلت الكون على ما هو عليه الان من النظام.

وبعبارة أوضح : أن لكل مادة خواصاً ظاهرة ، وخواصاً باطنة ، يبحث عنها اما في الفيزياء ، أو في الكيمياء ، فيقال مثلا : خاصية الملح هي الملوحة وخاصية السكر هي الحلاوة ، وخاصية النار في الحرارة ، وخاصية الضوء هي الاضاءة ، فالعالم ليس سوى مجموعة من المواد والخواص ، وقد أثرت هذه المواد بعضها في بعض ، فكان هذا النظام الكوني البديع ، وتنحصر مهمة العلوم الطبيعية في الكشف عن هذه الخواص ، وتقوم الصنائع برمتها على معرفتها.

فالنظام السائد في الكون ـ من جزئيه الى كلیه ـ وليد خاصية المادة ، بمعنى أن خاصية الخلية البشرية ـ مثلا ـ هي أن تتخذ صورة الجنين اذا استقرت في رحم الأم ، وهكذا حتى تتخذ صورة الانسان الكامل ، فلا حاجة في تفسير ظاهرة النظام السائد في جسم الانسان الى افتراض وجود عامل خارجي ذي شعور وحكمة وعقل وتدبير هو الذي أوجد هذا النظام في الخلية ... وهكذا بالنسبة إلى بقية المجالات.

فكلما سئل المادي عن علة النظام السائد في المخ أو القلب ، أو جهاز الهضم ، أو النظام السائد في عالم النباتات والأشجار ، أو النظام السائد في

٤٦٠