الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

الشمس والقمر ، والكواكب ، والمجرات عامة ، لاجابك بان ذلك النظام هو خواص هذه الاشياء .. أي أن خاصية كل شيء من هذه الاشياء ان تكون كذلك. فخاصية الشمس والقمر والمنظومة الشمسية أن يكون لها ذلك النظام من دون دخالة أي عامل خارجي وراء المادة!!

نقد هذه النظرية :

١ ـ ان نظرية الخاصية التي يفسر بها الماديون النظام الكوني ، الجزئي والعام ، والتي لجأوا ليها ـ في كتاباتهم مؤخرا ، بعد سقوط نظرية الصدقة ، دعوی بلا دلیل ، فهو ليس أكثر من احتمال ، وتفسير النظام البديع المتقن والمدروس بصرف الاحتمال تفسير خاطيء لا یركن اليه أي عاقل يتحرى الحقيقة ، ويطلب الواقع ، فان اقصى ما يدعيه المادي ـ في هذه النظرية ـ هو ان النظام البديع نابع من طبيعة المواد ، وان ذلك هو خاصيتها ، لا انه وليد عامل خارجي وفاعل حكيم ، بحجة انه لا يشاهد ذلك العامل الخارجي ، وانما يشاهد فقط حركة المواد باتجاه الانظمة التي تكون عليها. ومن هنا لابد من القول بأن اتخاذ المادة لتلك الأنظمة هو خاصيتها ، أي أن خاصيتها هي أن تكون على هذا النظام.

اذ يجاب عن ذلك : بأن هذه الحركة كما يمكن تفسيرها بنظرية الخاصية كذلك يمكن تفسيرها بدخالة عامل خارجي وفاعل حكيم أوجد ذلك النظام في المادة ، فالنظام البديع المتقن يحتمل أن يستند إلى أحد الأمرين ، فكيف اسنده المادي الى خاصية المادة حتماً ، وتجاهل العامل الاخر ، دونما دليل يرجح نظريته.

وبعبارة أخرى : اننا كما يمكن أن ننسب هذا النظام إلى خاصية المادة ، كذلك يمكن أن ننسبه إلى خالق مبدع حكيم ، فلماذا نسبه المادي الى الاول وتجاهل احتمال انبثاقه عن الثاني؟

٤٦١

ان الانصاف يقضي بان لا يرجح أحد هذين الاحتمالين الا بالدليل القاطع ، والبرهان القوي ولكن المادي يكتفي بالمشاهدة ويقول : ان المشاهد لنا هو ظهور الخلية البشرية ـ مثلا ـ في هذا الشكل من النظام البديع كلما توفرت شروطها ولا نلحظ ـ بالحس أو التجربة ـ دخالة أي عامل خارجي في ظهور هذا النظام ، ولهذا فلا يصح لنا تفسيره بوجود مثل هذا العامل ، ودخالته وعليته!!

بيد أن المادي نسي أو تناسى أن الحس والتجربة لا يقدران الا على اثبات أو نفي ما يقع في نطاقهما ومجالهما ، لا ما يكون خارج نطاقهما ، والذي يدعيه الالهي من العامل الخارجي الموجد لهذا النظام ليس مما يقع في اطار الحس أو نطاق التجربة ، بل هو على فرض صحته وثبوته مما يدركه العقل ، ويمكن الوصول اليه بالاستدلال العقلي.

وخلاصة القول :

ان الحس والتجربة من أدوات المعرفة التي لا ينكرها الالهي ، غير ان تلك الاداة لا تثبت الا ما يقع تحت نطاقها ، ويكون في مجالها ، وأما الامر الخارج عن اطار الحس والتجربة فلا يمكن اخضاعه للتجربة نفياً أو اثباتاً.

ولتوضيح هذه الحقيقة نذكر المثال التالي :

فنقول : ان الالهي يرى ان الانسان يتألف من بعدين : من الجسم والروح. وان أحد الجزئين ، وهو الجسم يخضع للتجربة والحس ، وأما الجزء الاخر ـ على فرض صحته وثبوته ـ فخارج عن نطاق الحس والتجربة.

فلو أن المادي أنكر وجود الروح بحجة أنه لا يشاهدها كما يشاهد الجسم في المختبر وتحت المجهر والمبضع ، كان انكاره غير مقبول ، بل ومحاولة سخيفة ، لان الروح على فرض صحته ، كائن يسمو عن الخضوع لما اتخذه

٤٦٢

المادي من أدوات للمعرفة ، فهو قد اتخذ أدوات لا تكشف الا ما كان يخضع للملاحظة بها ، لا ما لا يخضع لذلك ، فعدم رؤيته للروح في تلك المختبرات ، لا يعد دليلا على نفيه فهذا نظير نفي الذرات المتناهية في الصغر لعدم رؤيتها بالعين المجردة.

٢ ـ فرضية الخاصية لا تفسر التناسق الكوني :

ان تفسير النظام السائد في الكون بفرضية خاصية المادة ، وارجاع هذا النظام الى خواص الأشياء ، أمر كان من الممكن أن يكون مقبولا وصحيحاً لو ان أشیاء هذا الكون كانت مفككة ومتفرقة ومبعثرة ، لا ترابط بينها ، ولا تعاون ولا انه بحيث يكمل بعضها بعضاً ، ولم يتحسب فيها للمستقبل وحاجاته ، وللطوارئ وضروراتها ، بل كانت مثل صيدلية فيها أدوية كثيرة ، وعقاقير مختلفة ، أو دكان بقالة فيها أشياء متنوعة كالفلفل والملح والسكر والعدس والرز والماش ، ففي هذه الحالة ربما يصح أن يقال : بأن خاصية كل واحدة من هذه الأشياء والأدوية هي التي جعلته كذلك ، لا غير.

فخاصية السكر جعلته حلوا ، وخاصية الملح جعلته مالحا ، وخاصية الفلفل جعلته محرقاً ، وخاصية الدواء الفلاني جعلته مفيداً لعلاج ذلك المرض الخاص دون غيره.

ولكننا عندما نشاهد عالماً مترابط الاجزاء ، مرتبطاً بعضه ببعض ، مثل هذا الكون ، قد تحّسب فيه للحاجات المستقبلية ، والحالات الطارئة ، والضرورات الاحتمالية ، ونسقت فيها الأشياء بحيث يكمل بعضه بعضا ، ويمهد بعضها للبعض الاخر بحيث يكون من وراء ذلك هدف مقصود وغاية متوخاة ، وبحيث يكون فيه شيء كثير من التوازن والتعادل ، والتعاون والمحاسبة ، ففي هذه الصورة

٤٦٣

لا يمكن تفسير كل هذا التناسق والانسجام والتحسب للمستقبل وحاجاته وطوارئه بأنه خاصية الأشياء ، فان خاصية كل شيء هو نظامه الخاص به ـ على فرض صحة هذه النظرية ـ لا التنسيق مع الأشياء الأخرى والتحسب للمستقبل ، والتهيوء للطوارئ.

وبعبارة اخرى : ان غاية ما تعطيه خاصية المادة ، هي ان تبلغ بنفسها فقط الى مرحلة معينة من التكامل الخاص ، والنظام المعين ـ على فرض صحة هذا القول ـ لا ان تتحسب للمستقبل ، وتتهيأ للحاجات الطارئة ولا ان تقيم حالة عجيبة ورائعة من التناسق والانسجام بينها وبين الأشياء المختلفة ، والعناصر المتنافرة في الخواص والانظمة والتي تبلغ ملايين الملايين.

ان النحسب للمستقبل وحاجاته الطارئة لا يمكن أن يكون من خواص المواد ، فخاصية كل مادة تفيد في تحديد مسیرها التكاملي خاصة ، ولا يمكن أن تتحسب للمستقبل وتهيء الأشياء الأخرى التي تقع خارج نطاقها لنفسها.

ولنأت بمثال لما ذكرناه عن مسألة التحسب للمستقبل وتهيئة الأجواء للحاجات ، وهو مثال واحد من آلاف الأمثلة في هذا الكون : هب آن خاصية الخلية البشرية عندما تستقر في رحم المرأة ، هي أن تتحرك نحو الهيئة الجنينية ، ثم تصير انساناً ذا أجهزة منظمة. ولكن هناك في الكون في مجال الانسان تحسبا للمستقبل ، وتهيوء الحاجاته القادمة لا يمكن أن يستند الى خاصية المادة (أي الخلية البشرية) وهو أنه قبل أن تتواجد الخلية البشرية في رحم الأم وجدت المرأة ذات تركيبة خاصة ، فهي لها ثديان تنتهيان بحلمتين تتناسبان مع فم الرضيع ، وقد جعلت الحلمتان ذات ثقوب ونوافذ ينفذ اللبن من خلالها بالمقدار الذي يتناسب مع حاجة الطفل ، وجهزت الثديان بلبن سائغ لطيف يتناسب مع مزاج الرضيع ورقة أجهزته ، كما جعلت الثديان بشكل يمكن

٤٦٤

للطفل أن يقبضهما بيديه ، إلى غير ذلك من خصوصيات الثدي ، ثم أن هذا اللبن لا يتكون الا عندما يكون هناك جنين ، لا في غير ذلك من الحالات.

فمن تری هیأ غذاء الطفل وتحسب لحاجته قبل أن يتخلق.

ومن تحسب لكل هذه الخصوصيات في ثدي الام من قبل أن يولد الطفل؟؟

هل يمكن أن نعتبر كل هذا التحسب من خواص الخلية البشرية ، وما علاقة هذا بذلك؟

ان خاصية المادة تفسر نظام الشيء المفرد ، ولا يمكن تفسير التلاؤم والانسجام والتناسق الموجود بين شيئين بل أشياء متعددة ، كالأم والطفل ، واللبن بالخاصية؟؟.

ألا يدل ذلك التحسب للمستقبل وحاجاته وطوارئه ومتطلباته ، على ان لهذا الكون منظماً خبيراً ، ومنسقاً حكیماً هیأ غذاء الطفل قبل أن يولد في بموجود آخر؟؟ وعلى الجملة فلو كان هذا العالم أشياء متفرقة لا ترابط بينها ، وموجودات مفردة لا علاقة بينها ولا تناسق لصح ـ افتراضاً ـ تفسير الأنظمة القائمة بالاشياء المفردة بالخاصية ، والادعاء بأن النظام في كل شيء هو مقتضی خاصته ، وطبيعته. وأما اذا كان العالم سلسلة واحدة منسقة من حلقات كثيرة مترابطة خاضعة لنظام واحد تحسب فيه للمستقبل وتهيء فيه للطواريء ، فلا يمكن ولا يصح أن يفسر الا بأنه من فعل خالق حكیم ، وفاعل قدير خبير ، نسق بين الاشياء المختلفة الخواص تنسيقا دقيقا ، لو لاه لما أمكنت الحياة.

* * *

تقرير هذا الموضوع ببيان آخر :

ان التناسق في النظام الكوني العام لا يخرج ـ من حيث نشأته ـ عن أحد

٤٦٥

فروض ثلاثة.

١ ـ اما أن يكون هذا التناسق أثر وخاصية كل واحد من المواد الموجودة في الطبيعة. ٢ ـ اما أن يكون هذا التناسق أثر وخاصية اجتماع المواد جميعها كيفما اتفق هذا الاجتماع.

٣ ـ اما أن يكون هذا التناسق أثر وخاصية اجتماع المواد جميعها ، ولكن بنحو خاص.

وحيث لا يمكن القبول بالفرض الأول لبداهة عدم حصول هذا النظام من كل مادة بمفردها ، بل لابد من انضمام المواد الى بعضها.

كما لا يمكن القبول بالفرض الثاني لان اجتماع الاشياء كيفما اتفق لا يمكن هو الآخر أن يحقق تناسقاً خاصاً يترتب عليه ـ دون سواه ـ هدف معين وآثار معينة.

فيبقى الفرض الثالث وهو ان يكون التناسق مرهوناً باجتماع هذه المواد بنحو خاص ، وحينئذ نتساءل :

ما الذي سبّب أن تجتمع هذه المواد ذات الخواص المتنوعة على هذا النحو الخاص ـ دون غيره من ملايين الصور الأخرى للاجتماع والتركيب ـ لان هذا النحو هو الذي يحقّق ـ دون سواه ـ الهدف المطلوب في حين ان حصول مثل هذا التناسق الخاص والتركيب المعين وتحقق الهدف المترتب عليه ، لم يكن من الخواص الذاتية للمواد بمفردها ـ والّا لصحّ الفرض الأول الذي ثبت بطلانه.

وللمزيد من التوضيح نقول : ان جملة (افلاطون كان فيلسوفاً) تتكون من (١٧) حرفاً ، وهي عبارة عن (أ ـ فـ ـ لـ ـ ا ـ ط ـ و ـ ن ـ ك ـ ا ـ ن ـ

٤٦٦

ف ـ يـ ـ لـ ـ سـ ـ و ـ فـ ـ ا) ، فلو أن أحداً قال : أن لكل حرف من هذه الحروف صوتاً خاصاً يختص به ، وان هذا الصوت هو خاصية ذلك الحرف لما قال جزافا.

ولكن لو قال بأن هناك وراء صوت كل حرف وخاصيته أمراً آخر وهو التناسق والتناسب والانسجام الذي يؤدي إلى بيان ما یوجد في ذهن المتكلم من المعاني ، هو كون افلاطون فیلسوفاً ، وان هذا التناسق هو خاصية كل حرف من هذه الحروف.

أي ان خاصية كل حرف ـ مضافاً الى خاصية الصوت الخاص به ـ هو طروء هذا التناسق والتركيب الذي يعبر عما في ذهن شخص ، فقد ارتكب خطأ كبيراً ، بل ادعی أمراً سخيفاً. فان خاصية كل حرف هي صوته الخاص به ، ولا يستدعي الحرف هذا التناسق مع انه يمكن ان تتشكل وينشأ من هذه الحروف آلاف الأشكال والانظمة الأخرى ، غير نظام «افلاطون كان فيلسوفاً».

فاذا لم يصح هذا في جملة صغيرة مركبة من عدة احرف ذات أصوات مختلفة وخواص متنوعة ، فكيف بالكون والنظام الكوني العام المؤلف من بلايين المواد والخواص والأنظمة الجزئية المتنوعة.

٣ ـ خاصية المادة والتنبؤ بالمستقبل :

اذا كان النظام الكونی هومن خاصية المادة فعلا ـ كما تدعيه نظرية الخاصية ـ أي كان في المادة ، (أو المواد) خاصية النظام والتناسق والانسجام ، لزم أن تكون المعرفة بالمادة مستلزمة لمعرفة كل ما يطرأ عليها من نظام ، فالنظام ـ بموجب هذه النظرية ـ معلول لنفس المادة ، فيلزم من التعرف على المادة التعرف على ذلك النظام المتولد منها ، لأن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول ، والحال أن الماديين

٤٦٧

لا يقولون بهذا ، لأن هذا غير ممكن في المادة.

وهكذا تتهافت فرضية خاصية المادة ، ولا يبقى أمامنا ـ لتفسير النظام الكوني العام ـ سوی طریق واحد ... هو الاعتقاد بوجود خالق مبدع وفاعل خبير ، هو الذي أوجد هذا النظام ، وأقام هذا التناسق العظيم.

* * *

٤٦٨

٥

نظرية «المادية الديالكتيكية»

قد عرفت ـ في ما سبق ـ نظرية «التقدير والتدبير والخلق» التي يفسر بها الالهيون الظاهرة الكونية ووقفت على البراهين والأدلة التي يقيمونها في هذا المجال.

كما قد عرفت النظريات الثلاث الأخيرة (الخيالية والصدفة وخاصية المادة) والنظريتان الأخيرتان مما طرحهما الماديون.

غير أن الماديين حاولوا ـ مؤخراً ـ تفسير الظاهرة الكونية بنظرية رابعة ، وهي تفسير الكون بالاصول الديالكتيكية.

وهذه النظرية تقوم ـ في حقيقتها ـ على اصول موروثة من الاغارقة اليونانيين غير أن «هيجل» الفيلسوف الألماني أشاد من هذه الاصول منطقاً خاصاً ، وأعطاها نظاماً جديداً ، ثم اخذها عنه ماركس وأجرى عليها بعض التغييرات.

وهذه الأصول هي :

٤٦٩

١ ـ تناقض التطور «او صراع المتناقضات»

٢ ـ حركة التطور «أو حركة المادة».

٣ ـ التبدلات الكمية الى النوعية «أو قفزات التطور»

٤ ـ الارتباط العام «أو العلاقات المتبادلة بين الظواهر»

هذه هي الأصول التي يبني عليها الماركسیون مذهبهم الالحادي الذي ينطوي على انكار العوالم الغيبية ونفي احتياج الكون الى خالق مدبر وادعاء إن المادة تتكامل هي بنفسها ـ في ضوء هذه الاصول ـ وتأتي بالتنوعات المختلفة وبهذه الطريقة يفسرون الظاهرة الكونية.

واليك في ما يأتي توضيح هذه الأصول وما يرد عليها على نحو الاجمال ، مستندین ـ في ذلك ـ إلى النصوص المنقولة عن أصحاب هذه النظرية ، ولأجل أن يقف القارئ الكريم على كيفية تفسير الماركسية للظواهر الكونية وتحليلها بهذه الأصول تأتي بالمثال التالي.

يقول الماركسيون : قد يصاب الانسان في اثناء حياته بجراثیم مرضية فتسارع بعض الكريات الموجودة في الدم إلى مواجهة الجراثيم فينشأ من هذا الصراع مناعة في جسم الانسان ضد المرض. وما دام هذا الصراع قائماً ومستمراً يواصل الانسان حیاته فاذا غلبت الجراثيم على الانسان حان آنئذ وقت حصول التغيرات الكمية الى كيفية جديدة ويتحقق الموت.

وستظهر كيفية تحليلهم وتفسيرهم للظواهر الكونية بصورة أفضل من خلال الابحاث والأمثلة القادمة.

واليك فيما يأتي عرض للاصول الديالكتيكية الأربعة :

٤٧٠

اسس المادية الديالكتيكية

الأصل الأول

صراع المتناقضات

يعتبر قانون «صراع المتناقضات» الاصل المهم في الديالكتيك لدرجة انه يسمى بـ «نواة الديالكتيك الماركسي وجوهره ولبه». كما يتضح ذلك من كلمات وتصريحات مؤسسي هذا المذهب ، وأقطابه.

فهذا «لينين» يقول :

«الديالكتيك بمعناه الدقيق هو دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء» (١).

وقال : «التطور هو صراع التناقضات» (٢).

وقال أيضاً : «شرط معرفة جميع عمليات العالم في وجودها الحي هو معرفتها كوحدة المتضادات (٣).

__________________

(١) راجع ما كتبه «لينين» في كتاب حول التناقض.

(٢) المادية الديالكتيكية لجماعة من كبار الكتاب السوفييت ص ٢٦١.

(٣) المادية الديالكتيكية ص ٢٦.

٤٧١

وهذا «ستالین» يقول :

«ان نقطة الابتداء في الديالكتيك خلافاً للميتافيزيقية هي وجهة النظر القائمة على أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية لان لها جميعها جانباً سلبياً وجانباً ايجابياً ، ماضياً وحاضراً ، وفيها جميعاً عناصر تضمحل أو تتطور فنضال هذه المتضادات هو المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية الى تغيرات كيفية» (١).

وهذا «ما وتسي تونغ» يقول :

«ان قانون التناقض في الأشياء اي قانون وحدة الأضداد هو القانون الاساسي الاهم في الديالكتيك المادي» (٢).

وهذا الأصل كغيره من الأصول والقوانين الديالكتيكية ليس أصلا مبتكراً كما ادّعى «ماركس» حيث زعم بأنه هو الذي وقف عليه وقام بعرضه على الأوساط العلمية الى جانب غيره من القوانين الديالكتيكية المماثلة ، فهي بأجمعها متخذة من فلسفة «هيجل» الذي بني فلسفته على الأصول الثلاثة التالية :

١ ـ ان الحركات تنشأ من التناقض والتضاد الداخلي في جوهر الأشياء أي أن للتضاد دور الخالقية للحركة فهو الموجد لها ، وهو منشؤها.

٢ ـ الحركة العامة في الطبيعة.

٣ ـ ان كل حركة متصاعدة نحو التكامل.

ثم أن الماركسية اخذت هذه الأصول ، وأجرت عليه بعض التحوير

__________________

(١) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص ١٢.

(٢) المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ص ١٢.

٤٧٢

والتغيير وعممت نظريته على الذهنيات والعينيات ووقائع المجتمع البشري جميعاً ، وادّعت بأن تكامل الافكار والمفاهيم الذهنية ، وكذا الاعيان الخارجية وحصول التطورات والانقلابات في المجتمعات البشرية ناشئ برمته من الصراع الداخلي في صميم جوهر هذه الأمور بمعنى أن لكل شيء من هذه الأمور ثلاث مراحل :

١ ـ مرحلة الاثبات ، او «تز».

٢ ـ مرحلة النفي ، او «انتي تز».

٣ ـ مرحلة نفي النفي ، او «سنتز».

وتفصيل ذلك هو : أن المرحلة الأولى هي مرحلة وجود الشيء وهويته.

ثم ينبع من صميم الشيء ما یضادده ويناقضه ، ويصارع ذلك الشيء ويسعی لنفي وجوده ، والأول هو «تز» والثاني هو «انتي تز».

ثم يتولد من هذا الصراع شيء ثالث هو «سنتز». وهو عبارة عن نفي النفي.

وهكذا تنشأ جميع الحركات والتكاملات في ظل الصراع الداخلي في جوهر الشيء بين تز وانتي تز.

وبتعبير آخر : ان المرحلة الأولى هي مرحلة وجود الشيء قبل أن يقع في مسير الرشد والتكامل.

والمرحلة الثانية هي مرحلة وقوع الشيء في مسير الرشد والتكامل.

وعندئذ يقع الصراع بين الأمرين فتتولد المرحلة الثالثة بظفر الثاني على الأول ، وهذه المرحلة هي أكمل من المرحلتين السابقتين وهي ما تسمى بسنتز.

فالمرحلة الأولى تنتفي بالمرحلة الثانية ، وعندئذ يحصل من الصراع

٤٧٣

بين تينك المرحلتين شيء ثالث من غير فرق ـ بين ذلك ـ بین المفاهيم الذهنية ، أو العينيات الخارجية ، وحوادث المجتمعات البشرية وتطوراتها.

ففي مجال «الطبیعیات» ذكروا الأمثلة التالية :

١ ـ ان الحبة من الحنطة اذا وضعت تحت التربة تكون في مرحلة اثبات وجود نفسها ، ثم انه يصارعها في صميمها ما يريد نفي وجودها ، وثباتها ، فيتولد من هذا الصراع اخضرار الحبة ، ثم تطورها إلى نبتة خضراء وهكذا تتطور في ظل هذا الصراع حتى تتحول الى شجرة وثمرة.

٢ ـ ان الجذب والدفع لا ينفصلان عن بعضهما بعضا شأن السالب والموجب (١).

٣ ـ ان البيضة تحمل في باطنها ما یضاددها وبعد الصراع بين الاثبات والنفي يحصل الفرخ.

وفي مجال «الذهنیات» مثلوا بالمثال التالي :

عندما نقول : «الوردة هي زهرة» فنحن نعتمد على مفاهيم متقابلة فالوحيد (وردة) والعام (زهرة) (٢).

وفي المفاهيم الذهنية كل ظاهرة فكرية في المرحلة الاولی وجود نفسها وهويتها ، فاذا عارضتها فكرة اخرى وقع الصراع بين الفكرتين ، ويؤول ذلك الى انتقاض الفكرة الأولى ، بالفكرة الثانية ، ويتولد من ذلك فكرة ثالثة وهكذا حتى يحصل التطور والتكامل في المفاهيم الذهنية والافكار.

وفي هذا المجال كتب مؤلفوا كتاب المادية الديالكتيكية يقولون :

«ان الحقيقة تنشأ وتتبلور ، في الجدال ، في اصطدام وجهات النظر

__________________

(١) المادية الديالكتيكية ص ٦٢.

(٢) المادية الديالكتيكية ص٢٧.

٤٧٤

والافكار والآراء المختلفة» (١).

وقال «لينين» معلّلا ذلك :

«اذا كان ثمة تناقضات في أفكار الناس فذلك لان الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات فجدل الاشياء ينتج جدل الأفكار وليس العكس» (٢).

وفي مجال «الاجتماع» قالوا :

ان انتقال الدول الرأسمالية الى الاشتراكية سيتم لا نتيجة تصدير الثورة بل نتيجة الحل القانوني للتناقضات الاجتماعية بين بروليتاريا وبرجوازية هذه الدول (٣).

أي اذا كان هناك في أحد المجتمعات البشرية نظام اقطاعي مثلا ، فانه يحمل في باطنه ما يضادده ويناقضه فيقع الصراع بين ذلك النظام وما يضادده داخلية ، فيحصل من نفي ذلك النظام نظام آخر ، وهو النظام البرجوازي وهو أيضاً يحمل في باطنه ما يضاده فيقع الصراع بين المتناقضين فيتولد النظام الاشتراكي وهكذا.

ويكون الاقطاع «تز» وما يضادده في داخله «انتي تز» والبرجوازية الحاصلة من الصراع بين هذين المتناقضين «سنتز».

كما تكون البرجوازية «تز» وما يضاددها في جوهرها «انتي تز» والاشتراكية الحاصلة من نفي «انتي تز» لـ «تز» هي «سنتز» وهكذا.

ومثل هذا جار في العائلة فانها تحمل في باطنها ما يضادها وهي في أوج

__________________

(١) المادية الديالكتیكیة ص ٢٦٥.

(٢) المادية والمثالية في الفلسفة ص ٨٣.

(٣) المادية الديالكتيكية ص ٢٧٧.

٤٧٥

قدرتها وشدة سلطانها ، فيصارعها نقيضها ، ويهدمها ، وتضمحل العائلة ويحل مكانها شيء ثالث جديد ، وهكذا.

هذا هو خلاصة ما قررته الماركسية حول هذا الأصل ، ولا يخفى على من له المام بالفلسفة الاسلامية ما في كلماتهم من المخاط والخبط ، والخطأ والاشتباه وفي ما يأتي بعض ما يمكن أن يقال حول هذا الأصل نذكره ضمن نقاط وامور : (١).

* * *

١ ـ الفرق بين التضاد والتناقض

لقد استعمل الماركسيون في نصوصهم كلمتي التناقض والتضاد معاً ، وعطفوا أحدهما على الاخر وهم يظهرون بذلك أنهما مترادفان مع ما بين الأمرين من بون شاسع واختلاف كبير ، واليك تعريفهما وبيان ذلك الفرق بينهما.

ان الفلسفة الاسلامية تبحث عن الوحدة والكثرة ، وتقسم الكثرة الى أقسام (٢) منها التقابل وينقسم التقابل الى الاقسام التالية :

أ ـ تقابل التناقض.

ب ـ تقابل التضاد.

__________________

(١) للبحث حول النظريات الماركسية في مجال نظرية المعرفة ، والأصول الفلسفية الاخرى وما يفسرون به تاریخ المجتمعات البشرية مجال آخر ، ونحن هنا نكتفي ببعض المناقشات وبيان بعض المؤاخذات على الأصول الديالكتيكية التي تفي بكسر شوكة هذه الأصول ، وزعزعتها.

(٢) من أقسام الكثرة : المتماثلان ، والمتخالفان ، وربما يعبر عن الكثرة بالغيرية في مقابل الهوهوية التي هي تعبير آخر عن الوحدة.

٤٧٦

ج ـ تقابل التضايف.

د ـ تقابل العدم والملكة.

وقد عرف أهل المعقول كل واحد من أقسام التقابل هذه بنحو يمنعه عن الاختلاط بالاخر واليك هذه التعاريف باختصار :

أ ـ تقابل التناقض :

وهو عبارة عن تقابل الوجود والعدم مثل تقابل الانسان واللاانسان (في التصوریات) ، ومثل قولنا : زید عالم وليس زيد بعالم (في التصديقیات).

ب ـ تقابل التضاد :

وهو عبارة عن الوصفين الوجوديّين اللذين يتعاقبان على موضوع واحد أي لا يجتمعان في موضوع واحد ، وزمان واحد ، ومكان واحد ومن جهة واحدة (١).

وذلك مثل تقابل البرودة والحرارة ، والبياض والسواد ، والفضيلة والرذيلة.

ج ـ تقابل التضایف :

وهو عبارة عن تقابل الوجوديين اللذين يتعقلان معاً ، ولا يجتمعان في موضوع واحد من جهة واحدة ، ويجوز ارتفاعهما.

بتعبير آخر ، انه عبارة عن امرين وجوديين لا يتعقل احدهما الا مع تعقل

__________________

(١) يبحث التناقض عن والتضاد في علم المنطق لمناسبة وفي الفلسفة الاسلامية لمناسبة أخرى ، وغير خاف على العارف بهذه الأبحاث نوع تلك المناسبات.

٤٧٧

الاخر ، وذلك كالابوة والبنوة ، والعلة والمعلولية.

والفرق بين المتضادين والمتضايفين (مع انهما يستحيل اجتماعهما في موضوع واحد ، وظرف واحد ومن جهة واحدة) ، هو وجود الملازمة بين الموصفين المتضايفين في عالم التعقل ، دون المتضادین (١).

وقد ذكر الحكيم «السبزواري» هذه الأقسام في منظومته الفلسفية : اذ قال :

قد كان من غيريّة تقابل

عرّفه أصحابنا الأفاضل

بمنع جمع في محل قد ثبت

من جهة في زمن توحدت (٢)

واذا تقابل الوجودیان

ان عقلا معاً مضايفان

ودونه ضدان بالحقیق صف

مع غاية البعد ولامعها أضف

إلى آخر الابيات :

٤ ـ تقابل العدم والملكة :

وهو عبارة عن تقابل الوصفين اللذين لا يوصف شيء باحدهما ما لم يصح وصفه بالاخر مثل العمى والبصر ، اذ لا يوصف بالعمی من ليس من شأنه الأبصار. وبعبارة أخرى ، العدم والملكة يطلق على أمر وجودي (عارض الموضوع من شأنه أن يتصف به) وعدم ذلك الأمر الوجودي في ذلك الموضوع كالبصر والعمى الذي هو فقد البصر من موضوع من شأنه أن يكون بصيراً.

وبذلك يظهران التضاد غير التناقض كما يظهر انهما غير التضايف ، وغير

__________________

(١) لاحظ كشف المراد طباعة لبنان ص ٦١ ـ ٦٢ وشرح المنظومة للسيزوازي ص ١١٥ ـ ١١٦ ونهاية الحكمة للطباطبائي ص ١٤٦ ـ ١٥٣.

(٢) هذا البيت تعريف لمطلق التقابل ، ثم اخذ الناظم يفسر أقام هذا التقبل واحداً بعد واحد ، ففسر المتضايفين بقوله اذا تقابل الوجودیان ، كما فسر المتضادين بقوله : ودونه ضدان إلى آخر ذلك.

٤٧٨

تقابل العدم والملكة.

فالنقيضان من قبيل الوجود والعدم ، والايجاب والسلب ، والوضع والرفع بخلاف الضدين فانهما من قبيل الامور الوجودية ، وان كان المتضادان لا يجتمعان في موضوع واحد.

وبذلك يعرف أن عطف التضاد على التناقض وتصويرهما شيئاً واحداً خطأ ناشئ عن عدم المعرفة بالابحاث العقلية.

* * *

٢ ـ استحالة الجمع بين الضدين والمتناقضين :

تصر الماركسية في نظريتها الديالكتيكية على المكان اجتماع التنقيضين ، والدین وتنفي بالحاح استحالة ذلك الاجتماع ، بل وتصر على ان عالم الطبيعة يقوم على اساس التناقض والتضاد ، فالحركة الموجودة في العالم نحو الكمال يحصل بسبب التصارع الموجود بين النقيضين والضدين في صميم جوهر الأشياء ، وهي بذلك ترد على اهل المنطق ، والفلسفة الاسلامية التي تقوم اصولها وصرحها على استحالة اجتماع التقيضين والصدين.

ولكشف النقاب عن وجه الحقيقة تأتي بالبحث التالي فتقول :

أما استحالة اجتماع التنقيضين فمن ابده البديهيات اذ لا يمكن العقل الان يحكم بجواز الجمع بينهما ، لان التأكيد على فكرة ، والاعتقاد الجازم بصحتها لا يتم الا بعد التأكيد على بطلان نقيضها والاعتقاد الجازم ببطلانه ، اذ لو صحت نفس الفكرة ، وصح فيجتيها نقيضها لامتنع التصديق بصحة تلك الفكرة فلو قلنا : الأربعة زوج ، وصح مع ذلك انها ليست بزوح ارتفع التصديق زوجيتها ولو انه لم يصح فان هذا ليس الا لاجل امتناع صدق المتناقضين.

٤٧٩

ومثله ما اذا قلنا : العالم حادث ، فانه لا يصح مع صدق نقيضه (وهو العالم ليس بحادث) والا لما صح ولما أمكن التصديق بحدوث العالم.

وبالجملة ، كلما صدق نقيض امتنع صدق النقيض الاخر ، ولذلك قال المنطقيون أن النقيضين لا يصدقان معاً ، ولا يكذبان معاً.

فزید اما موجود في المكان والزمان المعينين ، واما هو غير موجود في دينك المكان والزمان المعنين ، ولا يصح ـ ابداً ـ ان يكون زید موجوداً ولا موجوداً في ذينك الزمان والمكان المعينين ، كما لا يصح ان يكون موجوداً ولا غير موجود كذلك ، وذلك لان التناقض ـ كما عرفت عبارة عن حديث اجتماع الوجود والعدم ، والايجاب والسلب ، والنفي والاثبات المحال تحت شرائط خاصة (١).

__________________

(١) ـ يشترط المنطقيون لاستحالة اجتماع النقيضين وحدات ثمانية هي :

١ ـ الوحدة في الموضوع            فيستحيل اجتماع : وجود زید وعدم وجود زيد.

٢ ـ الوحدة في المحمول فيستحيل اجتماع : والعلم نافع والعلم ليس نافعاً.

٣ ـ الوحدة في الزمان   فيستحيل اجتماع : الجو حار صيفا والجو ليس بحار صيفا.

٤ ـ الوحدة في المكان   فيستحيل اجتماع : الجو بارد في القطب الشمالي والجو غير بارد في القطب الشمالي.

٥ ـ الوحدة في الشرط فيستحيل اجتماع : الماء يصبح حاراً اذا غلى والماء لا يصبح حاراً اذا غلى.

٦ ـ الوحدة في الاضافة             فيستحيل اجتماع : الواحد نصف بالنسبة

٤٨٠