الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

فان نسج العنكبوت لبيته ، أو صنع النحل للبيوت المسدسة ، أو الحركات الجنسية الصادرة عن الحيوان كلها أمور تقتضيها طبيعة الحيوان ، وجميعها تصدر عنه بعلم ووعي لكن من دون حرية واختيار.

وهذا بعكس الانسان ـ فهو بخلاف الحيوان ـ فانه قادر على تنفيذ غرائزه والسماح بظهور آثارها في حياته عن حرية واختيار أو عدم السماح لها بذلك فهو ليس مسخراً لها ولا محكوماً بحكوماتها القاهرة كما هو الحال في الحيوان بل هو بما جبل عليه من الحرية والاختيار هو الذي يقود الغرائز ويوجهها الى ما هو انسب لشأنه وحاله.

وأما الامر الرابع : وهو الامور الفطرية التي جبل عليها الانسان فتعمل وتصدر آثارها عنه بوعي واختيار.

فحب الاستطلاع ـ مثلا ـ وان كان له جذور ضاربة في اعماق الفطرة الانسانية الا ان للانسان ان يحد منه فيبقى في ظلمة الجهل ولا ينساق وراء رغبته في تحصيل المعرفة والاطلاع.

ثم ان ملازمة هذه الأمور ومبادئها للكينونة الانسانية تبلغ حداً لو سلبت عن الانسان لارتفعت الانسانية برمتها أو ارتفعت الحصة العظيمة منها وكأنها مقوماتها ، ودعائم ذاتها.

وبعبارة أخرى انها من الملازمة بحيث يقتضي فرض عدمها فرض عدم الانسانية ، او عدم حصة منها فكأن هذه الامور تشكل قسطاً كبيراً من انسانية الانسان.

اذا تبين هذا نقول : لقد فسر الالهيون ظاهرة التدين التي لازمت الانسان ابداً ، حسبما تشهد بذلك الاثار والحفريات ، بأنها من مقتضى الفطرة الانسانية التي خلق الانسان وجبل عليها ، حتى كأن العقيدة الدينية هي التوأم الذي يولد مع الانسان.

٨١

وعلى هذا الأساس يكون قد تطابق الفكر الانساني مع مقتضى الفطرة البشرية.

فان طبيعة الانسان تجره الى الاعتقاد بالله سبحانه ، وتدفعه الى التدين له وعبادته ، بينما يستدل جهازه الفكري والعقلي على وجود تلك «القوة العليا» بالأدلة والبراهين ، فيتطابق مقتضى الفطرة ومقتضى العقل ، وتشكل الفطرة والعقل جناحين يطير بهما الانسان نحو الكمال.

وهذا الوجه ـ لو ثبت وهو لا شك ثابت كما ستعرف عند استدلالنا عليه في المبحث القادم ـ اتقن ما يمكن أن تفسر به ظاهرة العقيدة الدينية من دون ان يرد عليه أي واحد من الاشكالات الماضية الواردة على التعليلات والتفسيرات التي سبقت.

فكيف يصح أن تفسّر «ظاهرة التدين» بعامل الخوف مع ان تقدم العلوم قد أذهب الخوف عن النفوس؟

أم كيف تعلل هذه الظاهرة بانها وليدة التضليل الاستعماري والاستغلالي مع ان البشر رغم وقوفه على حيل المستعمرين واساليب المستغلين لا يزال متمسكا بالعقيدة الدينية ساعيا وراء ندائها وآخذا بتعاليمها؟

كيف يصح تفسير ظاهرة الاعتقاد بالله والاخرة بعامل الخوف ، وقد كان الانبياء الذين ضربوا أروع الأمثلة في حب الله ، يمثلون أعلى مظاهر الشجاعة والبسالة ، ولم يكونوا جبناء ولا ضعفاء؟

كيف يصح ذلك والشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل اعلاء كلمة الله ، واعزاز دينه أقدموا على ذلك بشجاعة لا تقبل الشك؟

ان تركیز قوى الاستعمار والاستغلال الكبرى جهودها للقضاء على الدين ومحو اثاره وملامحه في المجتمعات البشرية في مختلف الاعصار ، والتوسل

٨٢

لذلك بكل حيلة ووسيلة ، وفشلهم في هذا السبيل خير دليل على تجذر هذه الظاهرة في اعماق الفطرة الانسانية وملازمة غريزة التدين للنفس البشرية دون انفكاك.

وبالمناسبة يجب أن نعرف أن ظهور الالحاد لدى بعض الرجال السياسيين لا يدل على عدم كون هذه الظاهرة أمراً فطرياً اذ لا يجب أن تظهر آثار الامر الفطري في جميع الموارد والاحوال ، كيف والميول الجنسية رغم كونها من اظهر الأمور الفطرية قد يخبو أوارها ـ احیاناً ـ عندما يكبح الانسان جماحها أو يقمعها بالمرة أو يكاد.

كما ان «حب الاستطلاع» هو الاخر رغم كونه أمراً فطرياً قد يختفي لدى البعض عندما ينصرفون الى الغرائز الاخرى انصرافاً كلياً ويتمادون في أعمالها اكثر من الحد الطبيعي فلا يبقى مجال الاظهار غريزة حب الاستطلاع.

نعم إن الفطرة البشرية هي مبدأ ظهور التدين في المجمعات البشرية وانجذابها الى ما وراء الطبيعة ، ولكن التدين هذا يتكامل بفضل البراهين العقلية والادراكات الصحيحة المنطقية ، ولأجل ذلك يكون التدين وليد الخطرة والعقل معاً ، وهذا ما يتنبى هذا الكتاب اثباته ، وسيوافيك كلا الأمرين في الفصول القادمة.

٨٣

ملخص ما سبق

تلخص من البحث السابق امور :

١ ـ ان هناك مسألتين ـ في مجال العقيدة ـ اهتم بهما علماء النفس والاجتماع والتاريخ مؤخراً وهما : البحث عن عوامل نشوء العقيدة الدينية ، والبحث عن آثارها في الحياة البشرية.

٢ ـ ان الماديين لما نظروا الى ظاهرة التدين بمنظار مادي بحت ودرسوها بافكار مسبقة ومضادة حول الدين كاعتباره اعتقاداً بامر موهوم نحتوا لوجودها في حياة البشرية عللا طارئة ، واختلقوا لها نظریات بعيدة عن الواقع.

٣ ـ ان الماركسيين رغم محاربتهم للعقيدة ، واصرارهم على عدم حاجة البشر اليها لم يتحرروا من تقديس مبادئهم بعد اعتناقها والاعتقاد بها ، كما يفعل المتدينون.

٤ ـ ان الاغلبية الساحقة من البشر مؤمنون يعتقدون بما وراء هذا الوجود المادي على اختلاف مشاربهم ومسالكهم وليس هناك سوى قلة قليلة ـ بالقياس إلى تلك الكثرة الغالبة ـ لا تؤمن بالله لاغراض سياسية ، أو اخلاقية ، أو نفسية.

٥ ـ أن الضابطة الصحيحة والمعقولة في تفسير الظواهر الاجتماعية هو

٨٤

تقسيم الأمور الى ما له جذور في اعماق الفطرة أو مبررات وجيهة في منطق العقل فلا يجوز نحت الاسباب لظهوره ووجوده ، والى ما هو عارض على حياة الانسان لاسباب طارئة فيجوز تحت الأسباب له. والأول مثل ظاهرة الزواج وجمع المال ، والثاني مثل الاعتقاد بنحوسة الرقم ١٣ ونعيب الغراب.

٦ ـ الفطرة البشرية السليمة ، والرابطة العقلية المنطقية بين مشاهدة النظام الكوني والاعتقاد بالخالق ، يثبتان بان التدين والايمان بالله ، من النوع الأول فلا يصح نحت الاسباب لنشوئه في حياة البشر.

٧ ـ ان تفسير نشوء العقيدة بنظرية الخوف البشري من الحوادث الطبيعية مرفوض :

أولا : لانها تتجاهل فطرية الاعتقاد بالخالق ، ومنطقيته كما مر.

ثانياً : لان هذه النظرية لا تستند إلى أية أدلة موجهة بل هي ضرب من الخيال ، والافتراض ، والتخمين.

ثالثاً : لانها تعجز عن تفسير ايمان العباقرة والعلماء والمخترعين والمكتشفين بالله ، وهم ممن استطاعوا التغلب على اكثر المخاوف.

٨ ـ ان العقيدة الدينية ومفاهيم الدين وان كانت تبعث على الطمأنينة الا ان هذا من آثار العقيدة لا من دوافع واسباب نشأتها ، وليس من الصحيح أن نخلط بين اسباب النشوء والاثار المترتبة على الشيء.

٩ ـ تفسير نشوء العقيدة الدينية بنظرية «الجهل البشري بالعلل الطبيعية للحوادث» مرفوض أيضاً :

أولا : لانها تتجاهل فطرية الايمان بالله وعقلانيته كسابقتها.

ثانياً : لانها تنم عن جهل اصحابها بمنطق الالهيين الذين يعتقدون بالعلل الطبيعية ، والنظام العلى ، ويعتبرونه دليلا على وجود خالق لمجموع ذلك النظام.

٨٥

ثالثاً : انها تثبت بشكل غير مباشر بان البشر كان يعتقد دائماً بالعلية ولهذا اعتقد بوجود خالق للكون ، وان اخطأ أحياناً في احلال الخالق محل بعض العلل الطبيعية ، لو صح ذلك.

رابعاً : لان العقيدة الدينية موجودة حتى في المجتمعات المتحضرة العارفة بالعلل الطبيعية.

خامساً : لان الاعتقاد بالله لو كان مبعثه الخوف أو الجهل لكان الدواب والبهائم اولی بهذا الاعتقاد لعجزها الاشد وجهلها الأكبر.

فيتلخص من ذلك أن الجهل والخوف لو صح كونهما علة لنشوء العقيدة فهما من قبيل العلة البعيدة لا العلة القريبة بمعنى انهما هيئا للعقل فرصة ودافع التفكير في منشأ الكون وحوادثه ثم الاعتقاد بوجود خالق له. فالايمان بالخالق وليد العقل لا الجهل ووليد الفطرة لا الخوف الساذج.

١ ـ ان تفسير نشوء العقيدة بالنظرية الاقتصادية الماركسية التي تقول بأن الدين ردة فعل للاوضاع والعلاقات الاقتصادية وأنها استغلت لتحرير الشعوب هي الأخرى مردودة.

اولا : لان ذلك يتعارض مع أصالة التدين وفطريته وعقلانيته فليس تابعاً للتغيرات الحاصلة في وسائل الانتاج.

ثانياً : أن استغلال الدين من قبل بعض الوصوليين من الحكام والكهنة شيء واصالة الدين والتدين شيء آخر.

ثالثاً : ان هذه النظرية ان صحت فانما تصح بالنسبة إلى الأديان المحرفة التي طرأ عليها التحريف لصالح طبقة معينة ولا تصح بالنسبة الى الاسلام النقي في اصوله وفروعه وتعاليمه وبرامجه الانسانية العادلة من اي تحريف.

رابعاً : ان التدين الصحيح خير عامل للتقدم العلمي ، وخير دعامة للاخلاق

٨٦

وخير عامل للتحرك والاستقامة وخیر باعث على التقيد بالنظام والقانون وخیر رادع عن الجريمة.

خامساً : أن العقيدة الدينية كانت يوم لم يكن ـ في فجر التاريخ البشري ـ اي طبقيات.

سادساً : ان جعل الفكر والدين من توابع التغيرات الاقتصادية ينفي صحة هذه النظرية الماركسية نفسها لانها بذلك يمكن اعتبارها من ولائد ظرف اقتصادي خاص فلا تكون صحيحة على اطلاقها.

سابعاً : ان الاقتصاد ليس محوراً وان كان أمراً مهماً ، فطغيانه على بقية الأمور لا يلغي اصالة التدين كما أن طغيان بعض الغرائز لا يعني نفي الغرائز الأخرى بالمرة.

ثامناً : أن العامل الاقتصادي ليس هو المحرك الوحيد للتاريخ فهناك الغرائز وهناك الشخصيات المصلحة ، وهناك الافكار الاجتماعية مثل فكرة القومية.

تاسعاً : ان انتشار التدين بين الطبقات المحرومة يكشف عن انه كان مقبولا عقلياً لديهم والا فكيف اعتنقوا ما كان يتوسل به المستغلون للاضرار بهم.

عاشراً : ان التدين لم يختص بالفقراء والمحرومين فما اكثر المتدینین بين الأثرياء وما أكثر تضحياتهم بالنفس والنفيس في سبيل العقيدة الدينية.

حادي عشر : أن انتعاش الحالة الاقتصادية للمحرومين لم يلازم انحسار العقيدة الدينية عن حياتهم دائماً كما ادعى الماركسيون ، والحضارة الاسلامية واليونانية خير شاهد على ازدهار هما معاً في آن واحد.

ثاني عشر : ان كثيراً من الدعاة إلى الدين كانوا يدعون الى مقارعة الظالمين والمستغلين ، ويناهضون كل غاصب لاموال الناس هاضم لحقوقهم سارق لجهودهم.

١١ ـ ان نظرية «توارث العقيدة» لم تأت بشيء جديد ولم تفسر منشأ العقيدة

٨٧

بل بررت وجوده في جميع العصور.

١٢ ـ إن نظرية فرويد التي تقول بأن الاعتقاد بقوة وراء هذا الكون هي استمرار لحالة طفولية كانت تفرض على الانسان مذ كان طفلا أن يلتمس ملجأ وكهفا هي أيضاً مرفوضة لانها تعجز عن تفسیر ایمان الفلاسفة العظام والعباقرة الكبار والمجتمعات المتحضرة الواعية بالله سبحانه كما انها قد تستقي جذورها من عقد نفسية كان يعاني منها فرويد تجاه والده ، وربما يكون قد تأثر بالعقيدة المسيحية المحرّفة التي تعتقد ببنوة المسيح عليه السلام.

١٣ ـ فنستنتج من كل ذلك أن هذه النظريات كلها مؤسسة على التخمين وانها لم يذهب اصحابها اليها الا بعد أن افترضوا وهمية العقيدة الدينية واعتبروا ذلك أمراً مسلماً ولذلك اضطروا او عمدوا إلى اختلاق الاسباب وافتراض العلل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لظهورها ونشوئها في الحياة البشرية.

١٤ ـ كما نستنتج أن العقيدة حقيقة واقعة في حياة البشرية لها في فطرته جذور وفي عقله مبررات منطقية ، وفي حياته اثار ايجابية في غاية الأهمية والحيوية.

٨٨

الفَصْل الثّاني

آثار العقيدة في الحياة البشرية

٨٩

في هذا الفصل

* لماذا يجب البحث في المسائل الاعتقادية؟

* الاسباب الباعثة على دراسة العقيدة.

* ١ ـ البحث في العقيدة يساعد على فهم الحياة مبدأ وهدفاً ومصيراً.

* ٢ ـ البحث في العقيدة يضع نهاية للقلق.

* ٣ ـ الاعتقاد بوجود الله وصفاته يوجب الطمانينة.

* كيف يقضي الايمان بالله على عوامل الاضطراب؟

* ٤ ـ الاعتقاد بوجود الله وصفاته خير دعامة للاخلاق.

* ٥ ـ الاعتقاد بوجود الله وصفاته افضل ضمانة لتنفيذ القوانين.

* ٦ ـ العقيدة الدينية وسيلة للتكامل الشامل.

* ٧ ـ العقيدة الدينية يوفر معرفة اكمل.

* هل التوجه إلى الله غفلة عن الشخصية الانسانية؟

* أ ـ الارتباط بالكامل موجب للتكامل.

* ب ـ جذور التدين في الشخصية الانسانية.

* ج ـ مكانة المعلول بالنسبة إلى العلة.

* العقيدة الدينية والمشاكل الفلسفية.

* ملخص البحث.

٩٠

«لماذا يجب البحث عن الله وصفاته»؟

هناك من يتساءل مشككاً أو مستفهماً : لماذا يجب البحث عن «الله» ولماذا نبحث في المسائل الاعتقادية؟

أليس من الاجدر بنا أن نبحث فيما يتصل بحياتنا اليومية ، ويعالج مشاكلها ويكون مؤثراً في تحسين أحوالنا المعاشية؟

أليس الحديث عن الموجود أو الموجودات الخارجة عن نطاق الحس والتجربة ، والتي لا يكون لها أي أثر في حياتنا وجوداً أو عدماً غير نافع ولا مفيد؟

هذا هو ما يدعيه البعض ويردده خاصة بعد ظهور وانتشار المادية المتفلسفة لنفي الحاجة الى طرح المسائل الاعتقادية ودراسة العقيدة.

أن المتسائل أو المشكك يعتقد أن القضايا الاعتقادية لا أثر لها في تحسين الأحوال المعيشية ويرى أن العقيدة لا ربط لها بالحياة ولا أثر لها في اسعاد الانسان بل هي أمور لا تتجاوز حدود الذهن.

ولكننا سنعرف ـ من خلال الجهات التي سنستعرضها ـ أن للعقيدة صلة عميقة بالحياة الانسانية وان لها آثاراً هامة ومباشرة في جميع حقولها ومناحيها

٩١

وسنعرف ان الادعاء المذكور ناشئ عن عدم وقوف المدّعي على مبادئ الدين وتعاليمه ، وقضايا العقيدة وآثارها البناءة في الحياة البشرية وذلك لاحد أمرين :

اما لعدم اتصاله بأصحاب العقول النيرة من العارفين بشؤون العقيدة ، العالمين بمسائلها وقضاياها ليشرحوا لهم ما ألتبس عليهم منها ، أو خفي عليهم من آثارها وفوائدها في حياة الناس أفراداً وجماعات.

واما لأنهم لم يجشموا أنفسهم عناء البحث والفحص والتحقيق.

واليك بعض هذه النواحي والاثار الجمة للعقيدة الدينية التي غفل عنها أصحاب النظرة المادية نذكرها واحدة تلو الأخرى تحت أرقام متسلسلة ليقف القارئ بنفسه على بطلان الزعم المذكور بعد أن يعرف كيف إن العقيدة الدينية تتصل بصميم الحياة لا بهامشها.

الاسباب الباعثة على دراسة العقيدة

١ ـ البحث في العقيدة يساعد على فهم الحياة :

لم يزل الانسان منذ أقدم العصور يطرح على نفسه هذه الأسئلة الثلاثة :

من أين أتيت؟

لماذا أتيت؟

الى أين أذهب؟

ولم تزل هذه الأسئلة تطالبه بالجواب بالحاح شديد .. انه لا يمكنه أن يمرّ على هذه الاسئلة دون اكتراث ، وهو يرى لكل ظاهرة حياتية سبباً ، فكيف بهذا الكون العظيم وهذا الفضاء الواسع العريض وما يتسمان به من جلال وابداع؟

٩٢

كيف يمكنه أن يصدّق بان كل ذلك قد وجد صدفة دون خالق مبدع حكيم ، اليس لكل بناء بان ، ولكل كتاب مؤلف ، ولكل مصنوع صانع؟

كما لا يمكنه أيضاً بان يصدّق بان هذا الوجود لا ينطوي على هدف ، وان هذه الحياة لا ترمي الى غاية وهل يقبل العقل السليم ذلك ويرتضيه؟

ولقد انقسم الناس تجاه هذه الاسئلة الملحة إلى صنفين :

أ ـ من بقي في حالة الشك والحيرة لانه لم يجشم نفسه عناء البحث والتحقيق.

ب ـ من بحث وحقق وفحص ولاحق فاهتدى إلى الحقيقة ، وعرف بان لهذا الكون خالقاً وان لهذا الوجود غاية ، وان لهذه الحياة هدفاً ، وانه ما من شيء في صفحة هذا العالم الفسيح الا ويجري وفق تخطيط حكيم ، وقصد صحیح فلا صدفة ولا فوضى ولا عبثية.

ولقد كان طبيعياً أن يحظى هذا الفريق بالارتياح ودعة الضمير لانه عرف مبدأه ومنتهاه ، وابصر مسيره ومصيره ، فلم يكن كالسائر في متاهة ، العايش في الفراغ.

كما كان من الطبيعي والبديهي أن يعاني الفريق الأول من القلق النفسي والاضطراب الروحي بسبب شكه ، وحيرته ، فالشك والجهل بالماضي والحاضر والمستقبل حالة قاتلة وقاسية تعكر صفو الحياة ، وتقضي على كل بهجة وتجعل المرء كمن يمشي في تيه.

ولما كانت هذه الاسئلة الملحة لا تختص بمن مضى من البشر بل تراود كل أحد حتى في هذا العصر ولما كان البقاء في حالة الشك والحيرة أمراً مضنياً ، بل وخطراً للغاية على حياة الانسان ، لزم البحث عن الأجوبة الشاقية على هذه الأسئلة للتخلص من جحيم الشك القاسي ، والحيرة القاتلة.

٩٣

الا يجدر بالانسان وهو ينشد راحة الضمير أن يسعى لمعرفة حقائق هذا الوجود ، وأسرار هذا الكون وأهداف هذه الحياة ، وكلنا نعلم أن تحقيق مثل هذه الحالة للنفس والضمير منوط بهذه المعرفة ، ومتوقف عليها؟

هل من الجائز والصحيح أن يترك الشك ينخر كيانه وتعكر الحيرة صفو الحياة عليه بسبب انه يجهل كل شيء عن ماضيه وحاضره وعن المستقبل الذي ينتظره؟

آن البحث في العقيدة طريق الى تحصيل كل الاجابات الصحيحة الشافية على هذه الأسئلة الخالدة التي ظلّت تراود الذهن البشري منذ أن حط قدمه على هذا الكوكب ولا تزال تخالجه إلى هذا الحين.

ان دراسة العقيدة الدينية تساعدنا على أن نفهم الحياة ، وندرك أهدافها ، ومصيرها فلا نبقى في الشك والحيرة ، والى هذه النتيجة القيمة أشار الحديث المعروف :

«رحم الله امرءاً عرف من این وفي این والی این؟».

هذه هي الناحية أو الفائدة الأولى من فوائد البحث في العقيدة الدينية ، ولنستعرض معاً الفائدة الثانية التي تترتب على مثل هذا البحث والتحقيق.

* * *

٢ ـ البحث في العقيدة يطرد القلق

عندما نراجع التاريخ البشري نواجه مجموعة كبيرة ممن يطلق عليهم «الانبياء» قد أخبروا بوجود الله خالق لهذا الكون ، وأنهم رسله إلى البشرية ، جاؤوا ليخبروهم بأن ثمة واجبات وتكالیف ، وأن هناك حياة أخرى وحشراً ونشراً وحساباً وعقاباً ، وجنة وناراً ، وان الناس جميعهم مسئولون محاسبون

٩٤

شاؤوا أم أبوا.

ولم يكن هؤلاء من مجاهيل الناس فقد عرفت سوابقهم الناصعة وتاريخهم النقي من كل شائبة ، كما ولم ينشد هؤلاء من وراء دعوتهم كسب سمعة ، أو جلب منفعة ، فقد واجهوا في سبيلها الصعاب وتحملوا المتاعب ، وضحوا بكل غال ورخيص ، وعرضوا أنفسهم لكل حادث خطير بشهادة التاريخ.

ثم انا نجد أيضا جمهورا كبيرا من الفلاسفة وأصحاب النبوغ ، ورواد العلوم الطبيعية ممن يعبأ الناس بآرائهم امثال ارسطو وافلاطون وسقراط وغيرهم قد أخبروا كذلك بتلك الحقائق وأكدوها بما توصلوا اليه نتيجة التأمل في الطبيعة والنظرة الفاحصة في الكون والوجود.

فهم أخبروا بأن ما يتمتع به هذا الكون من نظام متقن ودقيق وحركة منتظمة ومتسقة ، وما يتجلى في كل جزء من أجزائه من آثار الحكمة والتدبير كل ذلك يدل على صدور هذا الخلق عن مبدأ قادر حكيم ، قد أعطى كل شيء خلقه ، واتقن كل شيء صنعه.

كما أخبروا بأن الحكمة تقتضي أن لا تخلو حياة البشر من هدف معقول فلابد أن تكون هناك حياة خالدة يسعد فيها الانسان وتتحقق فيها كل تطلعاته وطموحاته وأمانيه اذ لا يمكن أن تكون هذه الحياة المحاطة بالحرمان والموت هي غاية الحياة الانسانية ، وهي كل الهدف من وجوده.

ولقد آمن هذا الجمهور الكبير من الفلاسفة والعلماء بهذه الحقائق ومضوا عليها داعين شعوبهم الى الايمان بها ومؤكدين بذلك ما أخبر به الأنبياء ، وصدعت به الرسل.

بعد الوقوف على هذه الحقيقة التاريخية الساطعة ، واخبار هذا الجم الغفير بهذه الأمور عن مبدأ الكون ومصير الانسان ، وما عليه من واجبات ، وما ينتظره

٩٥

من تبعات جسيمة اذا هو أهملها ، الا نحتمل أن يكون الأمر كما أخبروا ، والا نحتمل صدقهم في مقالتهم ، وألا يستوجب ذلك أن نبحث فيما أخبروا به ونتحقق منه ، ونحن نهتم بأبسط الأمور ، ونحسب لاضعف الاحتمالات حسابها؟

أجل ، أن مجرد هذه الاحتمالات تؤرق كل عاقل يحب سعادته وأمنه واستقراره.

ألا ترى لو ان أحداً أخبره بوجود حيوان كاسر في طريق ينوى سلوكه ، فاحتمل صدقه عمد إلى التحقيق وتجنب الطيش والاهمال ، والتهور.

أن مجرد احتمال أن ينتظرنا حساب عادل ودقيق لكل تصرفاتنا جدير بأن يحملنا على البحث في العقيدة الدينية خشية أن نخسر الثواب الأبدي أو نواجه العذاب الخالد اذا كذبنا بهذه الحقائق وهذا هو حكم العقل الذي يقضي بوجوب دفع الضرر ولو كان محتملا.

أجل هذه هي الجهة الثانية الباعثة على دراسة العقيدة والبحث عن «الله» وما يتبع ذلك من قضايا الاعتقاد ، وقد أشار بعض علماء الكلام القدامى الى هذه الجهة اذ قال بتقريب يقارب ما قررناه :

انها (أي دراسة العقيدة وما ينجم عنها من معرفة) دافعة للخوف الحاصل ، للانسان من الاختلاف (الواقع بين البشر في أمر العقيدة فهناك جماهير غفيرة مؤمنة ، وثمة جماعات قليلة كافرة) ودفع الخوف واجب لانه ألم نفساني يمكن دفعه فيحكم العقل بوجوب دفعه ، فيجب دفعه (١).

اذا عرفت هذا فلننتقل الى الناحية الثالثة التي توجب علينا أن نتناول

__________________

(١) راجع الباب الحادي عشر للعلامة الحلي ، شرح الفاضل المقداد.

٩٦

العقيدة بالبحث والدرس والتحقيق الا وهي الآثار الروحية والاخلاقية والاجتماعية التي تلازم الاعتقاد بالله والايمان بالاخره ، وسنذكر هذه الاثار تحت اربعة عناوین هي :

* * *

٣ ـ الاعتقاد بـ «الله» مبعث الطمأنينة :

يواجه الانسان في حياته أموراً عديدة تنص عليه عیشه وتسبب له ازمة روحية مستعصية كلما تذكرها ولم يجد لها تفسیراً مقنعاً ومعقولا ، وهذه الأمور هي :

أ ـ هاجس الفناء.

ب ـ المصائب والنكبات.

ج ـ المادية المفرطة.

صحيح أن البشرية قد استطاعت بفضل ما أحرزت من التقدم العلمي والتقني أن تتغلب على جانب كبير من الطبيعة حتى أنه ادعى انه قهرها بعد ان وقف على الكثير من قوانينها ، ولكن كل ذلك لم يساعدها على الحصول على تفسیر صحیح وبیان مقنع وواضح في هذه المجالات.

وحتى نعرف أولا كیف تسلب هذه الامور الثلاثة الطمأنينة من الانسان وتنغص حياته لا بد من الوقوف عندها قليلا واليك هذا التوضيح :

أ ـ هاجس الغناء :

لقد أحب الإنسان حياته وعشقها بحكم ما أودع في كيانه من غريزة حب الذات وحب البقاء ، ولذلك فهو يحافظ عليها اشد المحافظة ويحرص على حمايتها

٩٧

بكل ما أوتي من قوة ، فاذا تذكر الموت اعتراه أسى عميق لانه يعتبر الموت نهاية لهذه الحياة العزيزة عليه ، الاثيرة لديه. أنه يعتبر الموت فناء مطلقاً يأتي على حياته وكل ما جمعه وشيّده طيلة عمره. ومن هنا يظل الموت كشبح مخيف وكریه يلاحقه ويؤرقه وربما حاول التخلص منه باللهو والتسلية دون جدوى ، لانه سرعان ما يشبع منهما ويملهما.

ب ـ المصائب والنكبات

الحياة التي يمر بها الانسان مليئة بالمصائب مشحونة بالكوارث ، وكأن ذلك هو قانونها المحكّم ، وسنتها الثابتة ، فمن مرض الى فقد عزيز الى ضياع مال وغيره.

وهذه المصائب هي من أشد ما يعاني منها الانسان في حياته ، بل وقد تقضي عليه كمداً وحزناً اذا لم يجد لها تفسيراً معقولاً أولم يؤمن بعالم آخر يعوّض فيه عليها ويثاب ، فرب من أهلكه جزعه ، ورب من أردته أحزانه ، ممن فقدوا الصبر والاستقامة ، وحرموا الوعي الكافي ، والايمان الواقي ، والأمل في المثوبة والاجر.

ج ـ المادية المفرطة :

لقد جبل الانسان على حب المال والميل الى ملاذ الحياة والتمتع بها لان في ذلك قوام حياته واستمرار وجوده ولكن قد تتحول هذه الغريزة الى حرص بالغ وجشع عريض ، ولما كان يتعذر عليه أن يحقق كل مطامحه وكل امانيه في هذه الحياة بسبب عجزه عن ذلك دخله همّ عظيم لهذا الاخفاق وأحس بمرارة كبيرة تستتبع بدورها آلاماً نفسية كما اصابه حزن شديد على

٩٨

مصير ما اجتهاد في جمعه وتحصيله لانه يتصور أن هذه الحياة هي كل شيء.

كل هذه المخاوف والأزمات الروحية تعثرين لا يملك أي توضیح مقنع في هذه المجالات.

آنها عقد وأزمات روحية يرجع اليها أكثر ما تعاني منه البشرية الحاضرة (وخاصة في المجتمعات غير المتدينة) من حالات الجنون والهستيريا والاقبال على الانتحار ، وتعاطي المسكرات والمخدرات ، كما تشهد بذلك تقارير وكتب ودراسات تتناول الأوضاع السائدة الان في المجتمعات المادية.

والسؤال المطروح الان هو : ما هو الطريق للتخلص من هذه الأزمات والالام الروحية وما يترتب عليها من مضاعفات ، وذيول.

الجواب هو : ان العقيدة الدينية الصحيحة هي وحدها الكفيلة بتوضيح هذه الأمور وازالة موجبات هذه الأزمات الروحية والبك تفصيل ذلك :

كيف تعالج العقيدة الدينية عوامل الأزمات الروحية؟

قلنا : ان العقيدة الصحيحة هي وحدها القادرة على مواجهة عوامل الاضطراب المذكورة ، وتحقيق السكینة للانسان والتخفيف من الأزمات الروحية التي يتعرض لها وذلك :

اولا : لان العقيدة الدينية الصحيحة بما تثبته من حياة اخرى تعطى للموت مفهوماً آخراً ، فترفض أن يكون الموت فناء مطلقاً للانسان ، ونهاية لحياته وضياعاً لاماله وجهوده وطموحاته ، بل تعتبره عملية انتقال من عالم ضيق الى عالم أوسع ، ونقلة من حياة زائلة إلى حياة أبدية ، مستقرة حقيقية.

وبهذا يتغير طعم الموت ما دام يعني التحليق الى عالم أفضل بالنسبة إلى

٩٩

المؤمنين الصالحين العاملين ولا يعود كابوساً يؤرّق الانسان ، ويعذّب الكهول والشيوخ خاصة.

ثانياً : لان العقيدة الدينية بما تقدمه من تفسيرات واقعية للمصائب والنكبات والمحن والالام الطارئة التي تنتاب الانسان في هذه الحياة تغيّر من معنی ، ومدلول هذه الامور :

فاذا عرف الانسان ـ حسب هذه التفسيرات ـ أن بعض المصائب والنكبات اختبار ولذا فهي لا تمر دون عوض مناسب وثواب لائق اذا صبر عليها ما دام اله الكون عادلاً رؤفاً ، أو أنها لا تخلو من مصلحة وحكمة ما دام خالق الكون عالماً حكيماً ، هذا إذا لم يكن ما أصابه من المحن والنكبات بسبب فعله.

أقول اذا عرف الانسان كل ذلك وغيره مما تبينه العقيدة الدينية في هذا المجال لم يأس على ما فاته ولم يحزن لما دهاه بل ازداد صلابة واستقامة ، وصبراً وجلداً.

ثالثاً : لان العقيدة الدينية بما تقدمه من تعاليم اخلاقية تحدّ من سورة الحرص الذي يسبب الاضطراب الناشئ عن الاخفاق ومن فورة الهلع الذي يسبب الغم نتيجة العجز عن تحقيق كل الطموحات المادية العريضة وأيضاً بما تقرره من برامج لتقوية السجايا والصفات الانسانية والمعنوية ، تقضي على أهم أسباب الإفراط في المادية ، فهي من جانب تشجع على البذل والعطاء ، مع التلويح والوعد بالثواب الجزيل والاجر الجميل ، ومن جانب آخر تقلل من أهمية هذه الحياة المادية اذ تعتبرها وسيلة لا هدفاً ، وممراً لا مقراً ، وزائلة غير باقية.

هكذا تعالج العقيدة الدينية الصحيحة الازمات الروحية وتخفف من شدتها ووطأتها. فلو أن الإنسان نظر الى الحياة من هذا المنظار الديني لم يعد يشعر

١٠٠