الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

السائدة في عالم الفضاء ، والنبات ، والحيوان ، والانسان والجماد ، هو «النظام» بمعنى الترابط والتنسيق والمحاسبة والدقة والهدفية ، وكل ذلك يدل على وجود خالق مدبر علیم وراء هذا النظام الكوني البديع.

٧ ـ حساب الاحتمالات وهو صورة اخرى من برهان النظام يقتضي باستحالة توفر الحياة على الأرض ، المشروطة باجتماع ملايين الشروط والعلل الطبيعية ، وبنسب دقيقة متنوعة ، عن طريق الصدفة ، لان ذلك الاحتمال يكاد يصل إلى حد الصفر الرياضي.

٨ ـ التوازن السائد بين اشياء الكون ، والضبط الحاكم عليها وخضوعها لنسب ومقادیر خاصة متناسية ، يعتبر صورة ثالثة لبرهان النظم ، وهو يدل على وجود عقل جبار ، وفاعل حكیم خبیر ، وارادة عليا ارسی هذا التوازن اللازم للحياة وهذا الضبط الذي يكبح جماح الأشياء ، ويحد من نموها المطرد المضر بما أقر من قوانین واقام فيها من اجهزة وسنن.

٩ ـ اهتداء الحيوانات إلى اختيار ما يصلحها عند موارد غير متوقعة ، وابتكار بعض المواقف من الأدلة الأخرى على وجود الله.

١ ـ اهتداء الحيوانات ان كان ناشئاً من نظام تركيبها العضوي فهو يعتبر صورة رابعة البرهان النظم ، وان كان بالهام الله ووحيه كان دليلا مستقلا.

١١ ـ يمتاز برهان النظم على غيره من البراهين بامور هي : انه برهان حسي عقلي ، ولهذا فهو برهان بدیهی ، وهو لا يحتاج الا الى اثبات جانب من النظام ، كما ويتمشى مع تقدم العلوم ، وهو برهان سهل المأخذ ، ويتضمن بیان النعم الالهية ، وقد اهتم به القرآن الكريم أكثر من البراهين الأخرى.

٢٢١

اسئلة حول برهان النظم

(٤)

هل للنظم وجود في الواقع الخارجي؟

ليس هناك في عالم الطبيعة من يدرك هذا النظام بالمعنى الذي ذكرناه الا «الانسان» ولو لاه لم يكن للنظم أي مفهوم واقعي ، (أو بالأحرى أي واقعية خارجية).

وبعبارة أخرى : أن العالم ـ بصرف النظر عن الانسان ـ لا يختلف بین منظّمه ، وغير منظّمه ، أي أن الساعة المنظمة لا تختلف عن الأوراق المبعثرة في الجو ، في نظر الفأرة والبقرة مثلا ، فانهما ينظران الى الساعة والاوراق المبعثرة بشكل واحد دون تفريق بينهما.

وهذا يعني انه لا وجود لما يسمى بالنظم الا من وجهة نظر الانسان بحيث لو لم يكن هناك انسان لما كان للنظم أي مفهوم أو وجود في الواقع الخارجي.

الجواب

قبل الاجابة على هذه الشبهة لابد أن نعرف أن هذا الاشكال مما اعتمد عليه «الوجوديون» ويعطونه اهمية كبرى ، ويغرون به البسطاء من الناس ، فهم يقولون : ان هذا الكون ليس سوى امواج خالية عن أي تعين أو تطور ،

٢٢٢

والانسان هو الذي يضفي على هذه الأمواج أوصافاً وألواناً ويحدد لها تواریخ ويعطيها تعينات ومعاني ، ثم يقضي بنفسه بان هذا منظّم ، وذاك غير منظّم ، ولو لا هذا الانسان لكان الكون بلا معنى ، ولا تحدیدات.

ونقول في الجواب على هذه الشبهة : أن هذا الاشكال مبني على أن صاحبه لا يرى العلم طريقاً وكاشفاً عن الواقع ، ويتصور أن الواقعيات وليدة الذهن البشري وهذا هو محط النزاع بين «المثاليين» و «الواقعيين» ، فان «المثاليين» الذين يعبر عنهم في الفلسفة الاسلامية بالسوفسطائيين لا يرون للعلم صفة الطريقية ، ولا يعتبرونه كاشفاً عن الخارج وذلك لانهم بين منكر للعالم بالمرة ، وبين شاك او مشك فيه.

وأما «الواقعيون» فهم يرون ان علم الانسان كاشف عن الواقعيات الثابتة خارج الذهن لا ان الواقع وليد العلم ، او نسج الذهن.

فالمثلث ، او الشمس البازغة ، أو الشجرة المثمرة التي نعلم بها ، ما هي ـ في الحقيقة ـ الا امور حقيقية موجودة في الواقع الخارجي ، بصرف النظر عن وجود الانسان وعن ذهنه وعلمه ، وقد توصل الانسان الى ادراكها عبر الاجهزة والأدوات التي زود بها بحيث لو لا الانسان ، ولو لا ادراكه لهذه الأمور والأشياء ، لكان لها واقعية ووجود خارجي ، وقف الانسان عليها ام لم يقف.

وبذلك يتبين ان الاشكال المذكور ، يقوم على مسلك المثاليين السوفسطائيين المرفوض في الأوساط العلمية ، فان الادعاء بان النظم السائد في الكون مما یدركه الانسان وحده بحيث لو انتفى وجود الانسان لما بقي للنظم مفهوم ولا واقع ، هو عین ما يدعيه المثاليون والسوفسطائيون ، اذ ما الفرق بين ادراك «وجود» الشمس والقمر والشجر ، وادراك «الاتصال الوثيق والتعاون العميق بين اجزاء الظاهرة المادية لتحقيق هدف معين»؟

افهل يمكن ان يتفوه عاقل بنفي وجود القمر والشمس والشجر ويقول بانه

٢٢٣

لو لا الانسان لما كان لوجود هذه الاشياء معنی ، ولا واقعية؟ فاذا لم يكن هذا الموقف مما يرتضيه عاقل فكيف يمكنه القول بان النظم بمعنی «الاتساق والتعاون السائدین بین اجزاء الظواهر المادية لتحقيق غاية معينة» مما یدركه الانسان وحده بمعنی انه من ولید ذهنه بحيث لولاه لما كان لهذا النظم أي وجود في اشياء الطبيعة؟

وحاصل القول : ان الانسان يدرك بدرك كاشف ـ فرقاً واقعياً ثابتاً ، خارج الذهن البشري بين الساعة المصنوعة باحسن وجه ، والأوراق المبعثرة المتطايرة في الجو ، حيث يرى في الاول ملامح الترابط والاتساق والتعاون بين اجزائه لتحقيق هدف معين ، وهو بيان الزمن والوقت ، ويفتقد مثل ذلك في الثاني.

وتلك واقعية راجعة إلى نفس الموجودين سواء أدرك الانسان ذلك ام لا؟.

٢٢٤

اسئلة حول برهان النظم

(٢)

هل النظم المحدود يكشف عن دخالة الشعور؟

ان شمول النظم لبعض الموجودات والظواهر الطبيعية الواقعة في اطار العلم البشري لا يدل على شمول هذا النظم وسريانه في الكون كله ، فان ما وقع علیه ادراك الانسان من هذا العالم هو اقل بكثير مما لم يقع عليه ادراكه ، ومع ذلك كيف يمكن أن يستكشف من هذا النظم القليل المحدود دخالة الشعورفي تكون النظام الكوني كله ، في حين من المحتمل أن تكون هناك عوالم خارجة عن نطاق ادراكه يسودها الفوضى والهرج والمرج مما لم يدركه الانسان ولم يقع ضمن مدركاته ومعلوماته؟

الجواب :

ان الاجابة على هذا السؤال واضحة ، اذ حتى لو فرضنا ان الانسان لم يقف على تلك العوالم الخارجة عن ادرا كه فان هذا لا يدل على خلوها عن النظام ، فكيف يحكم المادي ـ بقاطعية بانه لا مجال للاعتقاد بدخالة الشعور في تكون هذا العالم ، هذا اولا.

٢٢٥

وأما ثانياً ، فان ما یدركه الانسان من النظام البديع السائد في المحيط الطبيعي الواقع تحت ادراكه يكفي لاثبات دخالة الشعور والعلم في تكونه وایجاده.

فان العين ـ على سبيل المثال ـ بما فيها من دقة الصنع وعمق التركيب ، اذا لوحظت بكافة اجهزتها واغشيتها ومياهها وما يسود فيها من الترابط والاتساق والتعاون لتحقيق هدف خاص وهو الابصار ، وما بين هذه الحاسة وسائر اعضاء الجسم من التعاون ، حكم الانسان ـ من فوره ـ بان هذا النظم (بالمعنى المذكور) لا يمكن أن يوجد الا بدخالة شعور وقصد ، دون ان يحتاج في حكمه هذا إلى الاحاطة بعموم الكون كما توهم المعترض.

ونمثل لذلك بمن يدخل في مكتبة كبرى ويتصفح كتاباً من كتبها ، وبعد أن يقف على شطر منه يسود فيه الترابط والتناسق والتعاون بين السطور والفصول الذي يتوقف عليه بيان امر خاص ، فانه يذعن من فوره بوجود مؤلف عاقل وقدير وراء هذا الكتاب ، سواء تفحص بقية الكتب الموجودة في تلك المكتبة اولا ، فان في النظم والنسق الموجود في الكتاب المذكور كفاية للدلالة على وجود مؤلف قادر.

ان الانسان الذي ينظر الى الطبيعة المحيطة به بواسطة الاجهزة التي زود بها كلما تفحص اكثر ، وقف على مزيد من النظم والترابط والتناسق في اجزاء الطبيعة ولم يقف أحد الى الان على مورد واحد يسوده الفوضى ويعمه اللانظام والعشوائية.

العلماء المحققون والاعتقاد بدخالة الشعور :

ان جهود العلماء وما يجرونه من اختبارات وفحوص بالميكروسكوب أو التلسكوب يدل على انهم يعتقدون في قرارات نفوسهم بسيادة نظم دقيق في

٢٢٦

ارجاء الطبيعة ، ولهذا فهم يجتهدون غاية الاجتهاد لاكتشاف النواميس والقوانين الحاكمة في الطبيعة للانتفاع بها في الحياة البشرية ، ولو لم يكن عندهم مثل هذا الاعتقاد لما تجشموا عناء الفحص والاختبار والتحقيق ، اذ لا معنى لذلك لو كان العالم في نظرهم فوضى لا نظام له ولا قانون.

ولا يحصل مثل هذا الاعتقاد القطعي بوجود النظم الا بعد الاعتقاد بدخالة الشعور والعقل والقصد في تكون النظام الكوني ، فلولا هذا الاعتقاد لما أمكن أن يدعي العالم الفاحص القطع بوجود النظام في الكون ، ولهذا قلنا فيما مضان المادي المنكر للصانع الحكيم بلسانه ، مؤمن بذلك بوجدانه وضميره اذ لا شك أن المادي والالهي يقفان على صعيد واحد من حيث الاعتقاد بسيادة النظم في هذا الكون ، ولهذا يتساويان في الفحص عن الضوابط والنواميس الطبيعية ، وهذا يعني انهما يعتقد ان قبل ذلك بوجود تلك الأنظمة والنوامیس ، والا لما كان لبحثهم وتحقيقهم مبرر ، ولا يصح الاعتقاد القطعي بوجود النظم الابعد الاعتقاد بد خالة الشعور والقصد في تكون العالم ولولا الاعتقاد الأخير لما امكن للباحث أن يدعي القطع بوجود النظم فان الاعتقاد بالتصادف لا ينتج القطع بالنظام بل أقصاه هو احتماله.

وبتعبير آخر أن السعي لاكتشاف النواميس والقوانين في الطبيعة ناشئ من القطع بوجود النظم في الكون وهو بدوره ناشئ من الاعتقاد بدخالة الشعور والقصد في ايجاده فهذا هو الذي دفع العالم الفاحص ـ مادياً كان أو الهياً ـ الى الايمان القطعي بسيادة النظام في الكون ، اذ ان الاعتقاد بدخالة التصادف في نشأة الكون لا يمكن أن يحمله على الاعتقاد بسيادة النظام فيه على وجه القطع ، لان القول بالتصادف لا يورث الاذعان بوجود النظام القطعي في العالم.

٢٢٧

ان العالم الذي يجلس وراء المجهر ليقف على النواميس الحاكمة في الخلية أو الدم لو سألناه : ما الذي دفعك إلى الجلوس وراء المجهر وتجشم عناء الفحص؟ لاجاب : بأن هناك نظاماً سائداً في هذه الكائنات اريد أن أكشف القناع عنه ، فاذا سألناه ثانية : ومن أين علمت بسيادة النظم على الكون علماً قطعياً؟ فان أسنده الى القول بدخالة الشعور والعقل في تكون العالم صح له ادعاء الإذعان القطعي بوجود النظم ، وان أسنده الى التصادف لم يصح له ادعاء القطع بوجود النظام لان التصادف لا يحمل انساناً على الاعتقاد القطعي ، لان معنى التصادف هو انه «يمكن أن يكون كذا أو كذا» ومثل هذا لا يورث العلم القطعي ولا ينتجه.

٢٢٨

٢٢٩

اسئلة حول برهان النظم

(٣)

هل النظم من نسج الخيال البشري؟

ليس في الكون أي واقع للنظام الذي يدعيه الناس فان ما يسميه الانسان منظماً ، انما هو من نسج تخيله ، أي انه بتخيله يضفي على الكون وما فيه «نظماً» كما يفعل ذلك مثلا في ليلة مقمرة عندما تقع عيناه على قطع متناثرة من الغيوم فيتخيل احداها على هيئة أسد ، والأخرى على هيئة بعير ، في حين نعلم أنه ليس هناك أية أنظمة بحسب الواقع ، بل هي أشباح وصور وأشكال خيالية نشأت من تخيل ذلك الانسان المتطلع في السماء ، ولو صح اطلاق النظام عليه لما كان له مبدأ الا حركة الريح غير الشاعرة بفعلها فليكن هذا النظام المتصور في العالم مثل هذه الأشباح والصور ، أي أن النظام المدعي في الكون اما انه أمر خيالي من نسيج الخيال ، أو انه على فرض وجوده ـ نظير السحب التي أوجدتها التصادفات.

ويشبه هذا ما اذا ملأ أحد بندقية صيد بكمية من الصبغ الاسود ـ مثلا ـ تم اطلق ذلك الصبغ باطلاقة من بندقيته على ستار أبيض ، فانتشر الصبغ في ذلك الستار وبرزت من ذلك صور بديعة تكاد تشبه حيواناً أو زهرة ، في

٢٣٠

حين نعلم أن كل ذلك لم يتحقق عن شعور وقصد فالنظام الحاصل في الستار من رش الصبغ وليد التصادف.

الجواب :

ان هذا الاشكال ناشئ من خطأ المعترض في تفسيره للنظم ، وتحديده لمفهومه.

وبعبارة أخرى أن صاحب هذا الاعتراض استخدم وصف النظم في ما لم يكن من مصادیق النظم واليك بيان ذلك :

أن النظم ـ كما سبق تعريفه ـ هو عبارة عن «الترابط والتناسق والتعاون بين أجزاء مجموعة واحدة لتحقيق هدف معين بحيث لو ارتفع أحد تلك الاجزاء لاختلت المجموعة وفقدت الاثر المترتب عليها».

فالساعة وغيرها من المصنوعات التي يتسم تركيبها بالترابط والاتساق والتعاون بين أجزائها على النحو المذكور ، هي من مظاهر النظام بالمعنى الذي عرفت للنظم.

فاذا كان هذا هو حقيقة النظام فلندرس معاً المثالين الذين ضربهما المعترض لنرى هل هما من مصادیق النظام أم لا؟

ان النظر في ذينك المثالين يقودنا إلى الحقائق التالية ، أو انه يتطلب طرح الامور التالية :

أولا : هل قطع السحب المتناثرة التي يتخيلها الناظر في السماء على هيئات وصور حيوانية معينة تخضع لمثل هذه الترابط والتعاون والتناسق الذي تترتب عليه غاية معينة حتى يصلح للتمثل به في المقام أم لا؟

لا شك انه لا يوجد مثل هذه المواصفات في تلك القطع المتناثرة من

٢٣١

السحب ، فأي اتصال يحكم على أجزائها؟ وأي تعاون يقوم بينها وبين بقية القطع؟ وأي هدف ينشد من أشكالها التي تخيلها الرائي؟

فهل يكون مجرد انضمام بعضها إلى بعض على وجه الاتفاق اتصالا وتعاوناً على الوجه الذي يحقق غاية خاصة؟

ان أقصى ما يمكن أن يدعيه الانسان في هذه السحب هو أنها اتخذت لنفسها أشكالا بديعة وهيئات جميلة تستحسنها الطباع.

وهكذا الحال في الصبغ المرشوش من البندقية بهدف اللعب على الستار الأبيض الذي تتكون منه هيئات جميلة واشكال بديعة.

ولكن هذا الجمال الخيالي شيء ، والنظام الملحوظ في الكون بالمعنی الذي ذكرناه للنظام شيء آخر.

والشاهد على أن ذلك الجمال الذي ربما يدركه الانسان المرهف الذوق من السحب المتبددة في الجو ، أو الصبغ المرشوش على الستار هو غير النظم ، اختلاف الناس في درك هذا الجمال بل واعتباره.

فليس هذا الجمال مما تدركه جميع الاذواق بشكل واحد فقد يستحسنه بعض ، ويصفه بالجمالية وقد لا يستحسنه آخرون ولا يصفونه بذلك ، في حين لا يختلف في النظام السائد في الساعة أحد ، كما لا يرتبط تقييمه باختلاف الأذواق والسلائق ، وهذا هو الفرق الواضح بين المقامين وهذا هو المصحح لان ينسب أحدهما الى انه من قبيل نسج الذهن دون الأخر.

فان كل من التقت الى الساعة اعترف فوراً بوجود نظام سائد على اجزائها دون اختلاف ، وهذا بخلاف السحب المتناثرة أو الصبغ المرشوش فان كل واحد من الناظرين اليها يصفها حسب ما يؤدي اليه تخيله الذي يختلف عن تخيل غيره.

٢٣٢

فقانون الجاذبية العامة ، وانكسار النور وقوانين الزهرة مما لا يختلف في فهمها الشرقي والغربي ، مهما اختلفت سلائقهما واذواقهما اذ ليست للسلائق والاذواق أي دخالة أو مجال في تقييمها لكونها اموراً واقعية وذات معايير ثابتة في معزل عن ذوق الانسان وتخيلاته وتصوراته.

وثانیاً : ان النظام انما يكون بحيث يمكن أن يصل الانسان بالسير على نهجه ، واتباعه إلى نتائج معلومة وقطعية ، كما نشاهد ذلك في الحياة البشرية.

فالانسان يبني أكثر نشاطاته التكنولوجية ومخترعاته العلمية على اساس النظم والنواميس والقوانين الطبيعية التي اكتشفها من الكون المحيط به.

ولهذا استطاع أن يطلق الاقمار الصناعية إلى الفضاء ، وينزلها على القمر في الوقت المحدد وبالسرعة المعينة ، وفي المكان المطلوب لها. ولولا وجود هذه النظم لما استطاع أن يتوصل الى معرفة النتائج سلفاً ، ولما استطاع أن يتنبأ بموعد الهبوط على وجه التحديد ، ومكان النزول بشكل معلوم ومطلوب ، وبالتالي لما استطاع أن يصل الى هذه الغايات من دون ان تخطأ حساباته.

في حين لا يمكن بناء هذه الاعمال التي تستلزم المحاسبة والنظام ، علی الصور والهيئات المتخيلة والتي يتصورها المعترض انها من مصادیق النظام.

ثالثاً : أن النظم والمنظّم قابلان للتكرار اذا روعيت نفس المحاسبات والنسق فيمكن مثلا ایجاد آلاف الساعات من نوع الساعة المعينة بينما لا تكون الصور المتخيلة في المثالين السابقين قابلة للتكرار ، فقد لا تكرر نفس المناظر التي حدثت من أول اطلاقة للاصباغ بالبندقية ، وان تكرر الاطلاق والرش بذات البندقية عدة مرات.

٢٣٣

اسئلة حول برهان النظم

(٤)

هل مصلحة الانسان هو الملاك في تقييم النظام؟

ان ما يسميه الالهي نظاماً في العالم ليس الا شرائط اعدادية لتحقق مصالح الانسان ، ولأجل ذلك يسمي هذه الشرائط المرتبطة بحياته نظاماً مع ان هذه الشرائط ليست لها أية صلة بحياة سائر الموجودات.

وعلى ذلك فالشيء المسمى بالنظام السائد في الكون ليس الا نظاماً نسبياً (لكونه يرتبط بحياة الانسان ومصالحه خاصة) لا نظاماً مطلقاً ، ولهذا فلا يمكن الاستدلال به على دخالة الشعور والقصد في تكون العالم.

الجواب :

ان ما ادعاه القائل بان «ما يسميه الالهي نظاماً ليس سوی شرائط اعدادية تحقق حياة الانسان وتضمن مصالحه» دعوی بلا دلیل فان هناك انظمة كثيرة يعترف بها الانسان في فحوصه واختباراته في الكون دون أن يكون لها في بادئ النظر ولا في ثانیه ای صلة بحياة الانسان ، بل وحتى لو كان لها صلة ـ في الواقع ـ بها فانها ليست موضع التفاته وذلك نظير النظام السائد في الذرة الذي وقف عليه العلم الحديث ، ونظير النظام السائد في اجسام الحيوانات

٢٣٤

التي لا ترتبط بحياة الانسان ، أو لا يلتفت الانسان الى صلتها بها خلال فحصه واكتشافه ، وكالنظام السائد في عالم الكواكب والنجوم من الثوابت والسيارات وما بينها من الفواصل وغير ذلك مما وقف أو يقف عليها الانسان في تحقيقاته ويخبر عنها دون أن يكون ملتفتاً الى ما لها من الارتباط بحياته ، ومصالحه.

فلا يمكن أن توصف كل تلك النظم بانها نظم نسبية ، لانها لا تعد نظماً الا عندما تقاس إلى حياة الانسان وما لها من الدور في تحقيق مصالحه ، وتلبية حاجاته الحياتية ، لانها قد لا تمت الى الانسان وحياته ومصالحه بصلة ، أو أن مكتشفها لم يكن حال كشفه لها ملتفتاً الى نسبتها إلى حياة الانسان وصلتها بمصالحه ومتطلبات معیشته.

ثم اننا لو سلمنا بما يدعيه القائل ، فان النظام الواقع في طريق حياة الانسان المحقق لمصالحه هو بنفسه اوضح دلیل علی دخالة الشعور والقصد ، فهو ـ بما جعل عليه بحيث يعود على الانسان وحياته بالفائدة والنفع ـ يدل على ان هناك صانعاً عاقلاً قادراً قد رتب الشرائط وهيأها بحيث تحقق مصالح نوع من انواع الموجودات وتضمن حياته وبقاءه ، وان لم تكن هذه الشرائط مناسبة لغيره.

لنفترض معهداً مزوداً بانواع الأدوات العلمية والوسائل والالات التربوية والرياضية المناسبة ـ من حيث انظمتها ـ لتعليم الطلاب والطالبات وترقيتهم في مدارج العلم.

فان هذه الأدوات والالات وما يسودها من الترتيب والتنظيم لها صلة بحياة الطلاب والطالبات ، وليس لأحد أن ينكر ذلك وان لم تمت هذه الأدوات والالات والوسائل بحياة واحتياجات طوائف أخرى من المجتمع كالجنود أو المرضى ، بصلة.

٢٣٥

أفهل يمكن لاحد ان ينفي دخالة الشعور في النظام الملائم للمدرسة ، واحتیاجات الطلاب والطالبات بحجة أن هذا النظام لا يرتبط بحياة الاصناف الاجتماعية الأخرى ، ولا يحقق متطلباتهم ، ولا يناسب احتياجاتهم ، فاذن هو نسبي وحیث كان نسبياً لم يكن مطلقاً ، ولهذا لا يدل على دخالة الشعور أم انه يعترف بان المناسبة والملائمة وان كانت بين تلك الأدوات والوسائل وبين حياة صنف معين خير دليل على وجود شعور وراءها وان لم يكن لها ارتباط بحياة الاخرين او مناسبة مع احتياجاتهم ومصالحهم؟

٢٣٦

اسئلة حول برهان النظم

(٥)

هل يكون النظام نتيجة التصادفات التدريجية؟

ان النظام لا يمكن ان يكون وليد التصادف اذا كان عدد التصادف محدوداً ومعدوداً والمواد المتفاعلة قليلة.

وأما اذا كان عدد التصادفات كبيراً جداً جاز أن تكون التصادفات والوقائع الاتفاقية المتلاحقة منشأ لحصول النظام ، وتواجد الشيء المنظم ، وذلك لان القائل بالتصادف لا يدعي ان النظام السائد في العالم حصل دفعة واحدة حتى يكون ذلك أمراً مستحيلا في نظر العقل ، وانما يدعي ان التصادفات غير المتناهية اوجدت في كل مرة جزءاً من النظام ، وهكذا تلاحقت هذه الأنظمة الجزئية الى ان تحقق هذا النظام الهائل الكامل.

فاحتمال حصول «خلية منظمة» عن طريق التصادف دفعة واحدة ـ مثلا ـ احتمال يستنكره العقل ، ولا يقيم له وزناً ، واما اذا كان عدد التصادفات كبيراً فلا مانع من أن يحصل النظام الكامل تدريجاً حينئذ ، وذلك بأن تتلاحق جوانب من

٢٣٧

النظام ، وتحدث شيئاً فشيئاً ، في الاونة بعد الاخرى ، حتى يحصل هذا النظام الهائل الكامل في هذه الصورة يكون احتمال حصول «الخلية المنظمة» عقيب التصادفات الكثيرة ، احتمالا مقبولا وغير مستبعد في نظر العقل ، وهكذا الحال في سائر الأنظمة الموجودة في الأشياء الأخرى.

الجواب :

ان الاجابة على هذا الاعتراض تكون من وجوه :

أولا : ان الانسان الفاحص في المخلفات الأثرية ، وبقايا الحضارات السابقة اذا وقف على قطع اثرية قديمة (كالكيزان الخزفية والأواني المعدنية المنقشة ، وغيرها مما دلت على مرور ازمنة طويلة على وجودها في الأطلال وتحت التلال ، قد تبلغ مأة الف سنة مثلا) لا ينسب تكون هذه القطع الأثرية الى التصادف ، حتی لو كان مادي الاتجاه والتفكير ، مع امكان احتمال تكونها من التصادف في تلك المدة الطويلة ، بل نجده على العكس من ذلك يستدل بها على وجود صناع مهرة وحضارات وثقافات ، وتقاليد خاصة لمن صنعوها ، وعاشوا في تلك المنطقة ، وعلى غابات لهم من وراء تلك الأشياء المصنوعة بدقة ، وظرافة ، وجمال.

فلماذا لا يذهب «المادي» الى احتمال تكون هذه الاشياء عقيب تصادفات طويلة وعديدة تلاحقت خلال ازمنة متمادية ، خاصة أن كل ما يدخل في صنع هذه القطع الأثرية كالكيزان الخزفية او الاواني المعدنية من عناصر ، موجودة بعينها في الطبيعة ، وفي تلك التلال او الكهوف؟ ترى عندما نقف على بقايا قصر متهدم تحت اكوام التراب ، قد استخدم في بنائه الطين والصخر والاخشاب والحجر ومضى على اندثاره آلاف الأعوام لماذا لا يحق لاحد ـ عقلا ـ أن يدعي بان هذا القصر المندثر قد وجد ـ يوم وجد ـ نتيجة حوادث اتفاقية ، وبسبب احداث

٢٣٨

عديدة وقعت على نحو الصدفة ، مثل أن يكون طوفان هائج هو الذي قلع الصخور من الجبال ، وقطع الاخشاب من الأشجار ، وجلب المياه من البحار ، وخلطها بالتراب ، ثم انتهى الأمر ـ بعد سلسلة من التفاعلات الاتفاقية المتكررة والتصادفات العديدة جداً إلى قيام ذلك القصر وانتظام تلك الصخور والاحجار والطين على هيئة اسس وجدران ، وسقوف وحيطان ، وابواب ونوافذ ، وسطوح وشرفات؟!

اليس ذلك لان العقل ، كلما شاهد آثارالاتساق والانسجام والترابط والتعاون بين مجموعة من الأشياء والأجزاء على نحو يحقق غاية معينة ، وهدفا خاصا يأبى أن ينسب ذلك الى التصادف والاتفاق؟

* * *

ثانياً : ان كثرة التصادفات ، وان كانت تؤدي الى احتمال تكون بعض النظام ، الا ان هناك احتمالا آخر وهو أن تصادفاً واحداً من تلك التصادفات يمكن أن تقضي على ذلك النظام البسيط الجزئي الحاصل من التصادفات السابقة.

ولأجل هذا لا يمكن ان ننسب «النظام الكامل» الى التصادفات المتعددة الكثيرة في الأزمنة المتمادية اذ أن كثرة التصادفات كما يمكن أن تؤدي إلى حصول شيء من النظام كذلك يمكن أن يؤدي تصادف واحد إلى انهيار كل ما وجد في السابق.

ولتقريب هذا المعنى الى الذهن نات بالمثال التالي ـ.

لو اننا جمعنا في برميل كبير مأة قطعة من الأجر مرقمة من واحد إلى مأة ، ثم خضضنا ذلك البرميل عشرات المئات لتنتظم تلك القطع فوق بعضها بالترتيب العددي عن طريق التصادف فاحتمال أن يتحقق ذلك بفعل التصادفات هو بنسبة واحد الى مأة ، وهذا الاحتمال وان كان غير مستبعد الا ان احتمال أن تؤدي

٢٣٩

هزة أخرى وتصادف اخر الى انهيار ذلك النظام الجزئي ، واضمحلاله امر وارد ايضاً ، بل هو أقوى بكثير من الاحتمال الأول ، ولهذا لا يمكن ان نعول على فكرة التصادفات الكثيرة في حصول النظام الكامل.

وبعبارة أخرى : أن التصادفات العديدة وان كان من المحتمل أن تنتهي الى النظم الجزئي لكنه في الوقت نفسه يحتمل أن يقضي بعض هذه التصادفات علی ما تحقق من النظم الجزئي اثر التصادفات السابقة ، فالتصادفات الكثيرة سيف ذو حدين يمكن أن تبني ويمكن أن تهدم. واحتمال الهدم اقوى بكثير من احتمال البناء.

* * *

ثالثاً) : ان الموجودات الطبيعية والمصنوعات البشرية أمام هذا الاحتمال (ای احتمال نشأتها بالصدفة) سواء فان العناصر الموجودة في المصنوعات البشرية كالساعة مثلا هي عين العناصر التي تتألف منها الموجودات الطبيعية كالجسم الانساني ، فلماذا تقوم الطبيعة وبطريقة التصادفات بصنع القسم الثاني دون القسم الأول؟ ، فكما ان العناصر التي تتكون منها الأشياء الطبيعية موجودة في الطبيعة ، كذلك العناصر التي تتالف منها الادوات والالات الصناعية هي الأخرى موجودة في الطبيعة أيضاً ، فلماذا تقوم الطبيعة بصنع الدابة والشجرة بسبب التصادفات ـ حسب زعمهم ـ ولا تقوم بصنع الساعة وما شابهها مع أن مقومات الجميع برمتها موجودة في نفس الطبيعة ،؟ وما الفرق ـ تری ـ بين هذين الصنفين من الكائنات.

أليس لو صح امكان حصول الساعة وما شاكلها بسبب الصدفة وجب أن نجد في غابات الامازون او في صحاري الجزيرة العربية التي قلما يتفق ان يمر بها انسان ، انواعاً عديدة من الساعات وغيرها من المصنوعات البشرية؟

ان العجيب هو أن الذين ينسبون تكون النظام السائد في الكون الى التصادف

٢٤٠