الله خالق الكون

الشيخ جعفر الهادي

الله خالق الكون

المؤلف:

الشيخ جعفر الهادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة سيّد الشهداء العلميّة
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٠

أم لا ، فهو أمر لا يتكفل باثباته هذا البرهان ، ولا انه من رسالته ومقتضاه بل لابد في هذا المورد من الاستفادة من براهين أخرى مثل برهان «الامكان» او برهان «امتناع التسلسل» الذي سيأتي بيانه على وجه التفصيل في الأبحاث القادمة.

وخلاصة القول : ان برهان النظام يكشف عن وجود فاعل ذي عقل وادراك وراء نشأة هذا الكون واما خصوصیات هذا الفاعل فلابد من التماسها من أدلة اخرى.

ونعود لنقول : أن «هیوم» تصور ان برهان النظام قادر على اثبات جميع معتقدات الالهيين حول الله ، في حين ان هذا البرهان لا یفي باكثر من اثبات أن لهذا النظام البديع صانعاً خالقاً ، واما صفاته مثل كونه واجب الوجود او ممكن الوجود ، قديماً ، او حادثاً ، واحداً او متعدداً ، محدوداً او مطلقاً ، ذا علم وقدرة مطلقتين ام لا ، وان كمالاته موجودة في ذاته بالفعل ، أم انها تحصل في ذاته تدريجاً عن طريق التجربة ، عادلا ام لا ، رحيماً ام لا فاثبات او نفي ذلك كله خارج عن رسالة هذا البرهان (أي برهان النظم) ونطاقه ومؤداه ، بل لابد من التماس هذه الامور وامثالها من براهین اخری.

بهذه المقدمة العاجلة تبين الجواب الاجمالي على مجموع الاشكالات الثلاثة (الثالث والرابع والخامس) ، واما الاجوبة شبه التفصيلية فهي :

اما الاشكال الثالث فجوابه هو : أن أكملية النظام الفعلي لا ترتبط ببرهان النظام ، فرسالة هذا البرهان ليست اكثر من اثبات هدفية في هذا الكون. واستحالة صدوره عن طريق الصدفة ، اذ النظام البديع يدل على أن فاعل هذا الكون متصف بالقدرة والعلم سواء كان النظام هو «النظام الاكمل» أولا ، لان برهان النظام لا يتكفل ببيان واثبات وصف فعل هذا الفاعل (وهو الأكملية).

٢٨١

واما الاشكال الرابع الذي يرتبط بالعلم الالهي وهل أنه فعلي ام لا ، فجوابه الاجمالي هو أن العلم الالهي «علم فعلي» ولا سبيل للقوة والامكان الى ذاته ليكون علمه علماً بالقوة ، وحاصلا من القوة الى الفعلية عن طريق التجربة.

وبعبارة اخرى ، ان علمه وادراكه كله حاصل بالفعل وليس شأنه شأن الموجودات الامكانية التي يزداد علمها ، ويتكامل ادراكها شيئاً فشيئاً ، وتنتقل من مرحلة القوة الى مرحلة الفعلية تدريجاً.

هذا وللفلاسفة ـ في هذا المجال ـ قاعدة يعتبر مضمونها افضل جواب على الاشكال الرابع وهي قولهم : «واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات».

وأما الاشكال الخامس الذي يرتبط بالصفات الالهية الاخری كالعدل ، والرحمة وغيرهما فجوابه : أن برهان النظام لا يهدف اثبات هذه الصفات ، فذلك خارج عن رسالته ، بل لابد من اثبات هذه الصفات بأدلة اخرى سنعرض لها في بحث «الصفات الالهية». هذا إلى جانب أن واجب الوجود واجد لجميع صفات الكمال ، فليس من كمال الا وهو متصف به ، ثابت في ذاته.

وأما الاشكال السادس فهو مما يمكن القبول بارتباطه ببرهان النظام ، لان الحوادث غير المتوازنة كالسيول والطوفانات والزلازل المدمرة لا تتفق ـ حسب النظرة السطحية ـ مع وجود عقل وشعور وراء النظام الكوني ، وقد بحثنا حول هذا الاشكال ، وتبين الجواب بما لم يدع مجالا للشك.

وعلى هذا الأساس لا يرد من اشكالات «هيوم» الستة على برهان النظام سوی اشكالین فقط ، وقد مرت الاجابة عنهما في البحثين السابقين فراجع.

٢٨٢

ابرز الأدلة على وجود الله الخالق

البرهان الثاني

حدوث المادة يدل على محدثها

يعتبر الحدوث والقدم من اوضح المفاهيم عند الجميع ، بحيث لم تكن هناك حاجة إلى تفسيرهما وشرحهما ، غير اننا ـ لمزيد التوضيح ـ نقول :

أن الحادث يطلق ـ في العرف ـ على الكائن في عمود الزمان ، وتطلق الحادثة على الظاهرة الطبيعية.

وان القديم يطلق على من عمر زمناً طويلا ، والمقصود من الحادث والقديم في المقام معنى يقرب مما اشير اليه.

فالحادث ـ في هذه البحوث ـ هو «الموجود المسبوق بالعدم» ای الذي لم يكن ثم كان.

والقديم هو «الموجود غير المسبوق بالعدم» ای الذي كان وجوده أزلياً ولم يكن له أي بداية.

ثم ان الشيء الحادث لكونه وجد بعد أن لم يكن موجوداً ، بحاجة الى «علة» تأتي به الى حيز الوجود لما ثبت في «قانون العلية» ، واحتياج الممكن الى علة.

٢٨٣

فلو ثبت أن العالم ـ بعامة اجزائه المادية وصورها ـ حادث لزم ان يفترض له محدث اخرجه من العدم ، وأفاض عليه الوجود. فهاهنا مقدمتان (احداهما صغری والاخری كبری) ونتیجة ، وهي كالتالي :

١ ـ الصغرى تتكفل باثبات حدوث العالم.

٢ ـ الكبرى تتكفل باثبات احتياج كل حادث الى محدث وعلة.

٣ ـ النتيجة وهي أن العالم محتاج الى محدث اذن.

ولما كانت المقدمة الثانية (اي الكبرى) ثابتة عند الجميع لاعترافهم باحتياج كل حادث الى علة محدثة يتحتم تركيز البحث على اثبات الصغرى اي اثبات كون العالم حادثة بمادته وصورته.

* * *

ومن الضروري أن تلفت نظر القارئ ـ هنا ـ الى نكتة سبق ان اشرنا اليها وهي : أن ثمت فرقاً اساسياً بین برهان «حدوث المادة» هذا ، و «برهان النظام» الذي قد مر تفصيله بصوره الاربعة.

فان الثاني (اي برهان النظام) ليس مبنياً على حدوث المادة ، وانما هو مبني على خضوع هذا العالم لنظام متقن ، ومحاسبة دقيقة ، اذ أن مثل هذا النظام المتقن والمحاسبة الدقيقة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة العمياء ، ولا ناشئة من المادة ، ولا انها مقتضی خاصیتها بل هو من فعل خالق مبدع ، وعقلية جبارة وراء المادة.

ومثل هذا الاستنتاج من النظام السائد على الكون يحصل للمرء سواء بحدوث المادة او ازلیتها ، وسواء قال بان النواة الأصلية لهذا الكون قديمة أو حادثة.

فبرهان النظم يتمشى مع القول بحدوث المادة ومع القول بقدمها أيضاً.

٢٨٤

نعم أن القول بقدم المادة يتنافى مع توحيد القديم ، ووحدانية الازلي سبحانه وتعالى وستعرف عند بحثنا للصفات الالهية انحصار القديم في الله سبحانه دون سواه.

أما البرهان الحاضر (اعني برهان حدوث المادة) فهو يقوم على اثبات حدوث المادة ، ولهذا فاننا نهدف هنا الى اثبات وجود الخالق من خلال اثبات حدوث المادة ، وتواجدها بعد العدم ، وابطال أزليتها.

ولما كنا في غنى عن البحث في اي شيء سوى اثبات حدوث نفس المادة نركز البحث عليه فاذا ثبت حدوثها ألحقنا بها الكبرى ، وهي القاعدة المسلمة عند الجميع اعني «احتياج كل حادث الى علة» وحصلنا على المطلوب وهو احتیاج هذا العالم الى خالق محدث له.

ولأجل ذلك نشرع في هذا الأمر فنقول :

اثبات حدوث المادة

ان حدوث المادة يمكن اثباته بطريقين :

الأول) : الطريق العلمي الذي يستند الى معطيات الفيزياء الحديثة والعلوم الطبيعية والتجريبية.

الثاني) : الطريق الفلسفي الذي يعتمد على البراهين العقلية والفلسفية.

وها نحن نبدأ بالاول ثم نذكر الثاني بعده.

* * *

حدوث المادة من زواية العلم التجريبي :

لقد اثبتت العلوم الطبيعية الحديثة أن الكون يسير باتجاه موت حراري

٢٨٥

وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء بالانتروبي فقد توصل اسحاق نیوتن ، نتيجة تحقيقاته الى أن العالم يتجه ـ باستمرار ـ نحو التفكك والتحلل ، والبرود والاهتراء ، وسيأتي اليوم الذي تتساوى فيه كل الأجسام في حرارتها ، وتغدو كالماء الذي استقر في الأواني المستطرقة بصورة متساوية السطوح ، وحينئذ ستتوقف كل حركة ، ويترك الصخب والضجيج مكانهما للجمود والسكوت ، وتترك الحياة مكانها للموت.

لقد اثبت من خلال دراسته للحرارة انه في جميع التغيرات الحاصلة في الحرارة يتحول قسم من «الطاقة ذات الوجود الحراري» الى «طاقة غير ذات وجود حراري» ولا يمكن العكس أي أن تنتقل الطاقة غير ذات الوجود الحراري الى الطاقة ذات الوجود الحراري.

ويسمى هذا بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يسمي بقانون الطاقة المتاحة أيضاً.

فهذا الكشف يثبت أن الحرارة تنتقل بصورة تدريجية من وجود حراري الى عدم حراري والعكس غير ممكن ، وهو أن تنتقل هذه الحرارة من وجود حراري عدم الى وجود حراري أكثر ، ويعني هذا أن يأتي وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل والتحرك ، ويترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيمياوية والطبيعية وتنتهي الحياة.

اذ أن وجود الحركة والحياة في هذا الكون انما هو نتيجة التفاوت والاختلاف الموجود بين أجزائه في الحرارة ، فاذا انتقلت الحرارة من الاجسام الحرارية الى الاجسام الأخرى وتساوت الحرارة في الجميع وحلت البرودة مكان الحرارة لم يبق مجال التفاعل الذي هو نتيجة الاصطكاك بين الأجزاء

٢٨٦

المتفاوتة والفعل وردة الفعل.

هذا هو الأصل العلمي الذي اتفقت عليه كلمة علماء الفيزياء الحديثة ، ونحن نستنتج من هذا الأصل «حدوث المادة» بالبيان التالي :

الاستنتاج الفلسفي من القانون الحراري :

ان الكشف المذكور يعد دليلا قوياً على حدوث الكون اذ لو كان هذا العالم المادي أزلياً لزم أن تبرد فيه الحرارة منذ زمن بعيد ، وان تنعدم فيه الحياة منذ وقت طويل ، لان العالم محدود في طاقاته فكيف يمكن أن يكون هذا العالم موجوداً منذ الأزل الى الان وهو يفقد كل يوم هذه الكمية الهائلة من حرارته نتيجة الانفجارات المتلاحقة في ذراته؟!

وبعبارة ثانية : أن العالم لو كان أزلياً لكان ينبغي أن تنعدم الحياة والحركة فيه منذ أقدم العصور نتيجة فقدان أجزائه للحرارة ، وانتقال طاقاتها المتاحة الی طاقة غير متاحة ، وتوقف العمليات الطبيعية والكيمياوية ، والزم أن لا نجد علی الارض أي أثر للحياة والأحياء ، وأن لا يبقى الى الان أية حرارة الشمس لحصول الموت الحراري الذي أشار اليه الكشف المذكور منذ زمن بعيد ، نظراً للكمية المحدودة للحرارة في الكون.

فنستنتج من ذلك أن لهذا الكون بداية وانه حادث ، وليس أزلياً ، فالكون يشبه السراج النفطي الذي يفقد أجزاء من وقوده عند الاضائة باستمرار فلا يمكن أن يكون مشتعلا منذ الازل اذ يلزم من ذلك أن ينتهي نفطه ووقوده منذ وقت طویل لان الوقود المحدود لا يمكن أن يبقى الى الابد.

فاذا وجدناه لا يزال مشتعلا استنتجنا من ذلك كونه حادثاً ، وعرفنا ان اشتعاله واضاءته لم تكن من الازل.

٢٨٧

ان نظامنا الشمسي بل مجرتنا التي يعتبر هذا النظام الشمسي جزءاً صغيراً منها أشبه ما يكون بالسراج النفطي المذكور الذي تتناهی طاقاته لان هذه المجرة تملك طاقات محدودة فلو كانت هذه المجرة قديمة في وجودها وانفجاراتها لزم أن يكون قد انتهى كل ما فيها من الطاقات ، وللزم أن لا نرى الان أي أثر للعمليات والتفاعلات الطبيعية والحال اننا نشاهد استمرار هذه العمليات والتفاعلات ، ونلاحظ ـ تبعاً لذلك ـ استمرار مظاهر الحياة التابعة لذلك ، وهذا يكشف بجلاء ـ عن وجود بداية لهذا الكون ، ويبطل القول بأزليته وقدمه.

ونعود لنقول توضيحاً للبرهان الحاضر : أن علماء الفيزياء قد قاموا باثبات أصل علمي وهو قانون الانتروبي الذي يعني حصول الشيخوخة التدريجية للكون.

غير اننا نستنتج من هذا الأصل العلمي أصلا فلسفياً وهو «حدوث مادة العالم» وذلك بأنه لو كانت المادة ، وانفجاراتها الملازمة لها قديمة وأزلية للزم أن ينفذ كل ما فيها من الطاقات لضرورة انتهاء كل طاقة محدودة اذا كانت فعالة في زمن غير متناه وغير محدود.

ولا بأس في بناء أصل «فلسفي» على أصل «علمي» ثابت بالتجربة كما هو محقق في موضعه.

على اننا لم ننفرد بمثل هذا الاستنتاج فقد سبقنا اليه بعض المحققين من العلماء والمفكرين وها نحن نذكر بعض نصوصهم.

١ ـ يقول الدكتور «ادوارد لوثر كيسيل» في الرد على من يقول بأزلية هذا الكون :

«... ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي الاخير (أي القول بأزلية الكون) فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً فهناك انتقال حراري مستمر من الاجسام الحارة الى

٢٨٨

الاجسام الباردة ، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة الى الاجسام الحارة ، ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تساوى فيها جميع الاجسام وينضب فيها معين الطاقة ، ويومئذ لن تكون هنالك عمليات كيموية أو طبيعية ، ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون ، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة ، ولا تزال العمليات الكيموية والطبيعية تسير في طريقها ، فاننا تستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون ازلياً ، والا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود ، وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية ، وهي بذلك تثبت وجود الله لان ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه ولابد له من مبدئ ، أو من محرك أول أو من خالق هو الاله» (١).

٢ ـ يقول الدكتور «فرانك آلن» :

«... ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً وأنها سائرة حتماً الى يوم تصير فيه جميع الاجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض في الصفر المطلق ، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الاجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.

أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون وأساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة فهو اذن حدث من الاحداث ومعنى ذلك أنه لابد لاصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية» (٢).

٣ ـ يقول الدكتور «دونالد روبرت كار» :

__________________

(١ و ٢) : الله يتجلى في عصر العلم ص ٢٧ و ٦.

٢٨٩

ان هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً ، ولو كان كذلك لما بقيت فيه أي عناصر اشعاعية ، ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية» (١).

سؤال وجواب :

القائل أن يقول : يمكن أن تكون المادة ذاتها قديمة وأزلية ، ولكن السبب الذي صانها من الموت الحراري الى الان هو عدم وقوع هذه الانفجارات فيها منذ الأزل ، بمعنى أن المادة كانت راكدة متساوية الأجزاء منذ الأزل ، ولمدة طويلة جداً ثم حدث فيها الانفجار ، ولهذا بقيت حية نشطة الى الان ، وفي هذه الصورة كيف يصح الاستنتاج المذكور؟!

ولكن الاجابة على هذا السؤال واضحة فان فرض كون المادة راكدة منذ الأزل خالية عن الانفجارات ، ثم فرض حصول الانفجار فيها في الزمن اللاحق ، يستلزم وجود عامل يضع نهاية لذلك البرود والركود ، وهذا العامل لا يخلو عن أن يكون عاملا كامناً في ذات المادة او خارجاً عنها.

أما الاول فيتوجه اليه سؤالان :

١ ـ أن العامل الموجود في ذات المادة والذي سبب الانفجار فيها فيما بعد قد كان مقروناً بها فلماذا لم يؤثر فيها ، ولماذا لم يسبب الانفجار في تلك الازمنة غير المتناهية الماضية.

٢ ـ أن هذه الفرضية تستلزم الدور الباطل لان أي نوع من أنواع التأثير ، وایجاد الانفجار يتحقق اثر زوال حالة التساوي الحراري في المادة ، ولا يتحقق الزوال الا بسبب الفجر في المادة حتى تصير المادة مثل المائع المخلف السطوح وهذا هو الدور الواضح فما الجواب؟

وبعبارة أخرى : ان زوال حالة الركود والسكون يتوقف على تحقق الانفجار

__________________

(١) الله يتجلى في عصر العلم ص ٨٥.

٢٩٠

بينما تحقق الانفجار يتوقف على زوال حالة الركود وصيرورة المادة قابلة لتحقق الانفجار فيها.

هذان هما السؤالان اللذان يتوجهان الی من افترض كون العامل للانفجار داخلياً.

واما اذا افترضنا ذلك العامل عاملا خارجاً عن المادة فهو اعتراف بقوة عليا خارجة عن الطبيعة مسيطرة عليها ، مسيرة لشؤونها وهذا هو القول بوجوده سبحانه الذي خلق المادة ودبرها وصورها واوجد فيها ما فيها من الانفجارات وغيرها من الحالات.

* * *

برهان فلسفي آخر مبني على النظرية المذكورة :

وهاهنا برهان فلسفي آخر يدل على حدوث المادة وهو مبني ايضاً على هذا الأصل التجريبي ولكن ببيان آخر غير البيان الذي مضى وهو :

ان الاصل العلمي المذكور اثبت نفاد الطاقات الموجودة في الكون ، وانتهاءها إلى درجة تنطفئ معها شعلة الحياة ، وتنتهي بسسببه فعالياتها ، ونشاطاتها ، فاذن بدل نفاد الطاقات وانتهاؤها على أن وصف الوجود والتحقق للمادة ليس امراً ذاتياً لها ، اذ لو كان الوجود والتحقق امراً ذاتيا لها لزم أن لا يفارقها ازلا وأبداً ، فنفادها وزوال هذا الوصف عنها دليل على عدم كونه ذاتياً لها.

وبعبارة أخرى : ان سلوك المادة لسبیل الفناء والنفاد واتجاهها نحو الانطفاء وانتهاء الطاقات وصيرورتها شيئاً غير قابل للانتفاع خير دليل على ان الوجود امر عرضي للمادة والطاقة غير نابع من صميم ذاتها اذ لو كان نابعاً من صميم ذاتها لما كان لها نفاد ، فلما ثبت نفاذها ثبت كونه غير ذاتي لها وغير نابع من نفسها فيلزم

٢٩١

من ذلك ان يكون لوجودها بداية اذ لو لم يكن لوجودها بداية وجب ان يكون هذا الوصف أمراً ذاتياً لها كما هو شأن كل امر ذاتي ، اذ لو كان ذاتياً لها وجب أن لا يكون لها نهاية وقد اثبت العلم هذه النهاية لها.

وثبوت النهاية للمادة دليل على وجود البداية لها ، وهذا هو ما نعنيه ونقصده بحدوث المادة.

ولاجل ان يقف القارئ على ما يميز به الذاتي عن غير الذاتي ، وكيف ان الذاتي للشيء ملازم للازلية والابدية ، ولا يفارقهما ، بخلاف غيره نأتي بمثال يوضح المراد ، وان كان بين المثال والممثل له فرق ، من جهة اخرى (١) ، فنقول :

ان تساوي أضلاع المربع أمر ذاتي للمربع اي انه يلازمه ما دام مربعاً ، فهذا الحكم بما انه ذاتي ازلي لا تفترض له اية بداية مثل كل القوانين الرياضية وكون نتيجة ٧×٧ هي (٤٩) امر ذاتي له لا يفارقها ابداً ، ولا يمكن ان يفترض له أية بداية او نهاية.

وليس هذا الانتيجة ذاتية لخصيصة المربع و ٧×٧. ومن هذا المثال يتضح ما هو ذاتي وما هو غير ذاتي ، ويتبين كيف أن الأمر الذاتي لا يخضع البداية او نهاية.

فلو كان الوجود والتحقق للمادة المتحولة إلى الطاقة امراً ذاتياً لها وجب أن لا يفارقها ابداً ، وأن لا تصير المادة الى الفناء والعدم ، والحال ان العلوم الطبيعية ، اعترفت بان المادة سينتهي سلطانها وتفنى قوتها ، وطاقاتها ، وتموت ، وتبرد ، فالمفارقة من جانب النهاية دليل على عدم كون الوجود ذاتية للمادة ،

__________________

(١) والفرق هو ان الازلية في المثال في اطار الذهن خاصة والحال ان الازلية المقصودة في الممثل له هي الازلية حسب العينية الخارجية اي الازلية في الواقع الخارجي ، الا ان المثال يقرب من وجه ويبعد من آخر.

٢٩٢

وكونه غير ذاتي يلازم ان يكون لها بداية.

الاجماع على حدوث العالم

هذا ولقد كان حدوث العالم موضع اتفاق جميع الفلاسفة والحكماء.

قال الحكيم الالهي صدر الدين محمد الشيرازي في الأسفار وهو ينقل اتفاق الأمم الماضية من اتباع الشرائع بل جميع الفلاسفة الكبار على القول بحدوث الكون :

«اعلم أن ما ذكرناه واوضحناه سابقاً ولاحقاً من حدوث العالم بجمیعه من السماوات وما فيها ، ومن الأرضيات وما معها ، هو بعينه مذهب أهل الحق من كل قوم من أهل الملل والشرائع الحقة وجميع السلاك الالهية الماضية واللاحقة لان قاطبة أهل الحق والموحدين في كل دهر وزمان لهم دین واحد ومسلك واحد في اركان العقيدة وأصول الدين ، واحوال المبدأ والمعاد ورجوع الكل اليه سبحانه».

ثم قال : «واعلم ان الظن باعاظم الحكماء واساطينهم حسب ما وجدناه من كلماتهم وآثارهم وقد اتفقت افاضل كل عصر وزمان على فضلهم وتقدمهم وشهدت اماثل كل طائفة بزهدهم وصفاء ضمائرهم وانخلاعهم عن الحس وتجردهم عن الدنيا ورجوعهم الى المأوى وتشبههم بالمبادئ وتخلقهم باخلاق الباري ـ أنهم متفقون على اعتقاد حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وافلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته الا أن هذه المسألة لغاية غموضها لم یكن لغيرهم من الباحثين والناظرين في كتبهم تحقيقها وفهمها على وجه يسلم من التناقض والانحراف عن القواعد العقلية» (١).

__________________

(١) الاسفار ج ٥ ص ٢٦.

٢٩٣

ازلية الخالق :

أن البراهين التي مرت في الأبحاث السابقة لم تثبت اكثر من «وجود» خالق للنظام الكوني أو للكون نفسه خالق أوجد المادة من العدم ، وافاض عليها صورتها ونظامها البديع دون أن تتمكن من اثبات ان ذلك الخالق هو ما يطلب اثباته علماء العقيدة ، أي الخالق الأزلي ، الغنيّ في وجوده عمن سواه والذي تنتهی الیه سلسلة الموجودات جميعاً وتستند اليه في وجودها ، في مادتها وصورتها دون ان يحتاج هو الى علة توجده ، ومحدث يحدثه.

ان غاية ما اثبتته الأبحاث السابقة هو وجود خالق ما لهذا الكون ، لان تلك البراهين لم تكف لاكثر من ذلك فبقيت «ازلية» هذا الخالق وغناه عمن سواه بحاجة الى اثبات بادلة مستقلة ، اذ لاحد أن يدعي ـ بعد الاذعان بوجود خالق الكون في ضوء تلك البراهين ـ ان لذلك الخالق خالقاً وان لذلك الصانع صانعاً آخر أوجده وصنعه.

ولأجل هذا لابد من التماس دليل آخر يثبت «ازلية» الخالق وقدمه وغناه عمن سواه.

ومجمل هذا الدليل هو أن يقال : أن هذا الخالق المفروض وجوده ان احتاج الى خالق آخر ، واحتاج الخالق الاخر الى خالق ثان ، والثاني الى ثالث ، وهكذا ، لتسلسلت العلل والمعاليل الى غير نهاية ، فلابد من برهان يثبت وجوب انتهاء هذه السلسلة من العلل والمعاليل الى «فاعل أزلي» موجود بالذات غني عمن سواه.

وهذا ما يتكفله برهان «ابطال التسلسل» الذي خصصنا لبيانه البحث الحاضر.

ولقد تعرض الفلاسفة وعلماء العقيدة والكلام في كتبهم لبرهان التسلسل

٢٩٤

واقاموا على بطلانه أدلة كثيرة ، غير أن ما يهمنا هنا هو اقامة ما يوافق الوجدان منها ويوضح المقصود دون تعقيد.

وهذا الدليل يتوقف على معرفة الفرق بين «العلة» في مصطلح الفلاسفة الالهيين والمراد منها في مصطلح الماديين واليك بيان ذلك فنقول :

العلة عند الالهيين والماديين :

إن العلة اطلاقين :

١ ـ اطلاق عند المادیین.

٢ ـ اطلاق عند الفلاسفة الالهين.

اما عند الماديين فالمراد من «العلة» هي المادة التي فيها قابلية الانتقال الى مادة أخرى لتكون المادة الفاعلة المنقلبة هي «العلة» وتكون المادة المنقلب اليها هي «المعلول».

وربما تطلق «العلة» عندهم على «محدث الحركة» في المادة كالنجار الذى يلملم الأخشاب من هنا وهناك ، وينجرها ، ويضم بعضها إلى بعض بنحو خاص وتصير على هيئة الكرسي ، أو البناء الذي يجمع الأحجار والطين من هنا وهناك ويرتبها فوق بعضها فتصير جداراً وبناء ، فالذي قام به النجار والبناء هو جمع المواد وتأليفها من هنا وهناك ، وایجاد الحركة فيها ، وأما الصور الحادثة المعتورة لتلك المواد مثل هيئة الكرسي ، وهيئة الجدار فانها قائمة بنفس ذات الاجزاء ، وليس للبناء أي دور في ذلك الا الجمع ، والتحريك ، وضم الاجزاء المتناثرة بعضها إلى بعض.

وخلاصة القول : ان الماديين يطلقون لفظ العلة على المادة الموجودة المتحولة إلى مادة أخرى كالحطب المنقلب إلى رماد ، والوقود المنقلب الى الطاقة ، والكهرباء المنقلب الى ضوء ، وصوت ، وحرارة. أو من يحرك هذه

٢٩٥

المادة ، الذي يقال له : فاعل الحركة كالنجار.

فهذا هو ما يسميه الماديون «علة» ، وهو ينطلق من موقفهم تجاه مسألة «العلل» فان المادي لا يعترف الا بنوعين من العلل الاربعة التي يعترف بها الالهيون كما ستعرف ذلك عما قريب.

وأما عند الفلاسفة الالهيين فالمقصود من العلة هو «مفيض الوجود» أي من يفيض الوجود على الأشياء فيخرجها من العدم ، ويصيرها موجودة بعد أن كانت معدومة.

ان العلة في مصطلح الفلاسفة الالهيين هي ما يكون المعلول ـ بمادته وصورته وبجميع شؤونه ـ منوطاً بها ، فهي تعطي وجود المادة وصورتها ، وكل شؤونها ، وهي التي بالتالي تخرجها من ظلمة العدم الى حيز التحقق والظهور.

وللتوضيح نمثل لذلك بالصور الذهنية والنفس الإنسانية وان كان بين الممثل له والمثال فرق من جهات أخرى ، فنقول : ان النفس الإنسانية توجد الصور في الذهن ایجاداً فتكون الصور الذهنية معلولة للنفس الإنسانية بكل شؤونها.

صحيح أن النفس قد تستمد ـ في خلقها لبعض الصور ـ من امثلة خارجية محسوسة عن طريق الحواس ولكن قد تخلق النفس ـ احياناً ـ صوراً في الذهن لاشياء لا مثيل لها ، ولا أعيان في الخارج كبحر من زئبق مثلا.

وملخص الكلام : ان العلة التي يقصدها الفلاسفة الالهيون هي التي تفيض الوجود على الأشياء ، فتوجدها من العدم ، وان ما يدعيه الالهيون ويدعمونه بالادلة الكثيرة هو : أن الكون ـ مادة وصورة ـ لم يكن موجوداً قط ، ثم أوجده الخالق ، بأن خلق المادة ، وأفاض عليها صورتها ، وأحاطها بشبكة من النظام البديع الذي لم يكن قبل ذلك قط أيضاً ، ويتضح هذا الأمر أكثر فأكثر

٢٩٦

بملاحظة «برهان الحدوث» ، الذي سيأتي بيانه.

وبهذا يكون هذا الكون مرتبطاً بعلته ارتباطاً حقيقياً ومستنداً اليها بجمع شؤونه وخصوصياته فهو لم يكن من قبل ثم وجد بسبب علته ، مادة وصورة جوهراً ونظاماً.

وقد أشار الحكيم الالهي السبزواري في منظومته الى الاختلاف المذكور بين الالهي والطبيعي في معنى العلة والمراد منها عند استعمالهما لها اذ قال :

معطي الوجود في الألهي فاعل

معطي التحرك الطبيعي قائل

ثم قال في شرح ذلك : «معطي الوجود باخراج الشيء عن الليس (اي العدم) الى الايس (أي الوجود) مهية ووجوداً ، ومادة وصورة ، في العلم الالهی (اي في الفلسفة الالهية) فاعل ، ولكن معطي التحرك الحكيم الطبيعي قائل بانه فاعل ، فهم يطلقون الفاعل على الذي لم يوجد مادة الشيء ولا صورته بل انما حرك مادة موجودة من حال إلى حال.

والالهيون كثيراً ما يطلقون الفاعل على هذا مثل ما يقولون : النجار فاعل للسرير ، والنار للاحراق لكن لا بما هم الهيون ، واشير اليه في الكتاب الالهی بقوله : «أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ الى آخر الآيات الثلاث» (١).

لزوم تناهي العلل :

اذا تبين بأن هذا الكون مرتبط بعلة أخرجته من كتم العدم الى حيز الوجود فان امام متحري الحقيقة أحد طر یقین عليه أن يسلك أحدهما بحيث اذا امتنع هذا الطريق تعين الطريق الآخر بلا اشكال والطريقان هما :

__________________

(١) المنظومة ، قسم الفلسفة ص ١٢٣.

٢٩٧

١ ـ اما أن يسند هذا الكون بمادته وصورته الى «علة أزلية» وموجد غير حادث أو ينهي العلل ـ في المآل ـ الى مثل هذه العلة الغنية عن سواها القائمة بذاتها.

٢ ـ اما ان لا یسند هذا الكون الى علة ازلية ، ولا يتوقف في تلك النقطة بل تتسلسل العدل والمعاليل عنده الى غير النهاية من دون أن يكون لهذه السلسلة آخر.

وهذا هو ما يسمى في مصطلح الفلاسفة بالتسلسل وهذا الشق باطل حسب ما تعرفه من البرهان ، فاذا بطل هذا الشق ، تعين الشق الأول ، وهو انتهاء سلسلة العلل الى علة غنية بالذات ، أزلية قديمة ، غیر محتاجة في وجودها الى شيء من صانع وخالق.

أما وجه بطلان هذا الشق فهو : انه بعد أن تبين أن «المعلول» في مصطلح الألهيين هو ما يكون مفاضاً ـ بمادته وصورته وكل شؤونه ـ من جانب العلة وقائماً بها ، وصادراً عنها ، وهذا يعني أن كل حلقة من تلك الحلقات ، وكل معلول من تلك السلسلة كان معدوماً فوجد بسبب علته ، وتحقق بجميع شؤونه بفضلها ، فبما أن أفراد هذه السلسلة برمتها تتسم بصفة «المعلولية» كان جميعها متصفاً بالفقر والتعلق بعلته ، أي لو اننا سألنا كل حلقة عن كيفية وجوده لاجابتنا بلسان التكوين بأنها مفتقرة في وجودها ، وفي جميع شؤونها الى العلة التي سبقتها ، فاذا كان هذا هو لسان حال كل واحدة من حلقات هذه السلسلة ، تكون السلسلة برمتها سلسلة فقر واحتیاج ، سلسلة تعلق وارتباط ، وعند ذلك ينطرح هذا السؤال :

كيف انقلبت هذه السلسلة الفقيرة الفاقدة لكل شيء الى سلسلة موجودة بالفعل؟ وكيف وجدت هذه السلسلة المرتبطة بحسب ذاتها من دون أن تكون

٢٩٨

هناك نقطة اتكاء قائمة بنفسها؟

وبعبارة اخرى : أن أمامنا ـ تجاه سلسلة العلل والمعالیل ـ فرضين لا ثالث لهما :

الفرض الاول) ـ أن نقول بانتهاء هذه السلسلة الى نقطة لا فقر فيها ولا احتياج الى علة تسبقها ، أي أن نذعن باستناد هذه السلسلة الى تلكم العلية الغنية القائمة بنفسها وهو «الخالق الازلي» لتخرج هذه السلسلة من التناهي ، الثابت بطلانه.

الفرض الثاني) ـ أن نقول بعدم انتهاء هذه السلسلة الى مثل هذه النقطة وعدم اتكائها على صنع خالق أزلي موجود بنفسه ، غني في ذاته عن كل ما عداه.

وحيث ظهر بطلان الفرض الثاني في ضوء التقرير السابق يبقى الفرض الأول فقط ، وحينئذ يثبت ما يذهب اليه الالهيون من «أزلية الخالق» وغناه عمن سواه.

بطلان التسلسل بتقرير آخر :

ويمكن بيان «بطلان التسلسل» بنحو آخر وهو أن وجود المعلول الاخير اذا كان مشروطاً بوجود ما يسبقه من العلة وكانت تلك العلة المتقدمة مشروطة في وجودها بوجود ما قبلها ، واستمر هذا الاشتراط الى غير النهاية ، تكون النتيجة تصور موجودات غير متناهية ، مشروط وجود كل واحد منها بوجود ما قبله ، بحيث اذا سألت كل واحد عن شرط تحققه لاجابك بأنه لا يتحقق الا أن يتحقق ما تقدمه ، ولو سألت ما تقدمه لاجابك بهذا أيضاً ، وهكذا ...

فعند ذاك تصبح النتيجة هو تصور «سلسلة مشروطة» أو قضايا مشروطة غير متناهية لم يتحقق شيء منها بعد ، لعدم تحقق شرط كل واحد ، فكيف تتحقق

٢٩٩

السلسلة مع عدم تحقق شرطها؟.

وبعبارة أخرى : لو كان هناك موجود مطلق ، وقضية غير مشروطة ، لم يشترط وجودها بشيء ـ كما هو الحال اذا أنهينا السلسلة الى خالق أزلي ـ فعند ذاك يتحقق شرط كل حلقة ، وقضية ، فتصبح السلسلة موجودة لتحقق شرط الجميع ، وأما اذا كان الجميع أمراً مشروطاً ، وقضية معلقة ، فيما انها لا تتوقف السلسلة عند حد لا يكون الشرط متحققاً ، وفي هذه الحالة كيف يتحقق المشروط بلا تحقق شرطه ، ان النتيجة في هذه الحالة هي أن يمتنع تحقق قضايا مشروطة لا يوجد بينها ـ أو لا تنتهي الى ـ قضية مطلقة ، ولنأت بمثال لتوضيح ذلك :

لو أن أحداً اشترط التوقيع على ورقة بتوقيع شخص آخر ، والثاني بتوقيع ثالث ، ثم رابع ، وهكذا الى غير النهاية ، فان من البديهي انه لا تمضي تلك الورقة أبداً ، ولا يتم التوقيع عليها مطلقاً.

وهكذا لو أن أحداً اشترط حمل صخرة بحمل شخص آخر لها ومساعدته له ، واشترط الثاني حملها بحمل ثالث ، والثالث بحمل رابع وهكذا الى غير النهاية ، فان هذه الصخرة لن يتم حملها الى الابد لتسلسل الشرائط ، وتوقف كل حمل على حمل يسبقه.

وهذا هو أوضح ما يمكن أن يقال في «ابطال التسلسل» وان كانت ثمة تقریرات وأدلة أخرى لهذا البرهان أشار اليها لفيف من فلاسفة الاسلام في مؤلفاتهم نذكر منهم :

١ ـ المحقق الحكيم الاقدم الخاجه نصیر الدين الطوسي (المولود عام ٥٧ هـ والمتوفى عام ٦٧٢ هـ) اذ قال في تجريده :

«ولا يتراقی معروضاهما (أي معروضا العالية والمعلولية) في سلسلة واحدة غير النهاية ، لان كل واحد منهما ممتنع الحصول بدون علة واجبة ، لكن الواجب بالغير (سلسلة المعالیل) ممتنع (الحصول) أيضاً لكونه محتاجاً الى

٣٠٠