تفسير النسائي - ج ١

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي

تفسير النسائي - ج ١

المؤلف:

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي


المحقق: صبري بن عبدالخالق الشافعي وسيّد بن عبّاس الجليمي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

ما كان المفسر له من الصحابة رضي الله عنهم من عرف بالنظر في الإسرائيليات ، كمسلمة أهل الكتاب ، مثل عبد الله بن سلام وغيره. وكعبد الله بن عمرو بن العاصي ، فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب ، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان بعض أصحابه ربما قال له : حدثنا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تحدثنا عن الصحيفة ، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر به من الأمور التي قدمنا ذكرها الرفع ، لقوة الاحتمال والله أعلم.

* المبحث الثالث.

* التفسير في عهد التابعين

ويقصد بالتابعين : الجماعات التي شاهدت الصحابة وعاشت في زمانهم ، ولكنهم لم يشاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اشتدت الحاجة في زمنهم إلى معرفة معاني كلمات الله ، لا سيما بعد انتشار الإسلام في الأقاليم الواسعة في المشرق والمغرب ، ودخول الأمم الكثيرة فيه. وخروج الصحابة بسبب الفتوح إلى تلك الأقاليم لهداية الناس وتعليمهم ، فالتفّ التابعون حولهم وتتلمذوا عليهم ، فقام الصحابة بواجبهم خير قيام ، فكانت هناك حركة علمية واسعة لتفسير القرآن وتعليمه للناس انتشرت في الأمصار المترامية الأطراف ، بل كان لكل صحابيّ تبوأ هذه المهمة دور كبير ومساهمة في هذه الحركة ، فكانت هناك للتفسير مراكز منتشرة تشدّ إليها الرّحال ؛ برز من بينها ثلاثة مراكز أو مدارس :

أولها مكة : اشتهر من تلاميذ ابن عباس فيها : سعيد بن جبير ،

٢١

ومجاهد ، وعكرمة مولى ابن عباس ـ وطاوس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح.

الثاني : المدينة المنورة : وممن اشتهر فيها : أبو العالية ؛ ومحمد بن كعب القرظي ، وزيد بن أسلم.

الثالث : العراق : اشتهر فيها : علقمة بن قيس النخعي ، ومسروق بن الأجدع ، والأسود بن يزيد بن قيس النخعي ، ومرة الهمداني الكوفي ، والشعبي ، وقتادة.

* حكم تفسير التابعي :

إذا لم يرد نص من الكتاب والسنة أو من قول صحابي في تفسير آية ما من القرآن الكريم ، وقام أحد من التابعين بتفسيرها اجتهادا من عنده ، فهل يقبل تفسيره؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال ، الراجح في نظرنا مذهب ابن تيمية في هذه المسألة : وهو أن التابعي إذا تفرد بقول ليس له شاهد أو ما يؤيده رفض. أما إذا اجتمع التابعون على شيء فلا شك في اعتباره حجة ، وأما إذا اختلفوا فلا يكون قول بعضهم ـ حجة على بعض ، ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن والسنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك (١).

__________________

(١) مقدمة في أصول التفسير (ص ١٠٥).

٢٢

* مصادر التفسير في عهد التابعين.

هي الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وما يفتحه الله للتابعين من فهم وقوة في الاستنباط.

* تنبيه :

نقتصر هنا على هذه المصادر الأربعة ولا نقول إن الذين دخلوا في الإسلام من أهل الكتاب كانوا مصدرا خامسا ، مع اعترافنا بأن النصوص الإسرائيلية قد تفشت خلال هذه الفترة وكثرت ، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلها مصدرا رئيسيا خامسا إلى جانب الكتاب والسنة وقد سبق بيان أقسام النصوص الإسرائيلية.

* مزاياه :

أنه ظل محتفظا بطابع التلقي والرواية ، وكان يغلب على روايات التفسير تسلسل أسانيدها إلى علماء البلد الواحد. وقد انفصل في هذه الفترة الحديث عن التفسير.

* من المآخذ عليه :

تسرّب كثير من الروايات الإسرائيلية إلى التفسير عن طريق اليهود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام ، ولكن هذه الروايات ، كثرت أو قلّت ، لم تؤثر في الفكر الإسلامي ، ولم تغير عقليته ولم تكن إحدى مصادره البتّة.

٢٣

* المبحث الرابع.

* التفسير في عهد أتباع التابعين :

وهي المرحلة الرابعة من مراحل التفسير ، أطلق عليها المتأخرون (مرحلة التدوين) وهو خطأ فاحش استغله المستشرقون (١). المهم أن أشهر من عرف من المفسرين في هذا العهد : سفيان بن عيينة ، وابن وهب ، وعبد الرازق الصنعاني ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، ووكيع بن الجراح ، وشعبة بن الحجاج ، ويزيد بن هارون و.... وغيرهم. وقد ثبت أن أغلب المذكورين كتبوا تفاسير نسبت إليهم.

* مزاياه ، ومآخذ عليه :

اتسعت علوم التفسير وجهاته ، وأصبح منفصلا عن الحديث بشكل أكثر وضوحا. وأدخل بعض مفسري هذا العهد المزيد من الإسرائيليات في تفسيرهم. وجمع في التفسير الواحد بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي. ولكن غالب التفسير معتمد على الراوية .... وكانت تظهر شخصية المفسر نفسه بما يرجحه أو يعتمده. وظهر في التفاسير المؤلفة في هذه الفترة الانتصار للمذاهب الكلامية. وتفاسير هذه الفترة مدونة ؛ إذ بين أيدينا اليوم عدد منها كتفسير عبد الرازق الصنعاني وغيره. لكن كان لمدرسة العراق التي تميزت بالاتجاه إلى التفسير بالرأي خاصة بعض المآخذ ، إذ كان من تلامذتها

__________________

(١) انظر بيان ذلك ورده بأسلوب علمي هادي في «ابن عيينة مفسرا» (ص ١٠١ ـ ١٠٤).

٢٤

قتادة الذي نسب إليه الخوض في القضاء والقدر فاتهم بأنه قدريّ ، وما نسب إلى الحسن البصري من إثبات القدر وتكفير من يكذّب به. الذي خاض فيه ـ كما قيل ـ والله أعلم.

***

٢٥
٢٦

الباب الثاني

ترجمة الإمام النسائي

الفصل الأول : مولده واسمه ونسبه وكنيته ولقبه.

الفصل الثاني : نشأته العلمية ورحلاته.

الفصل الثالث : ملامحه الشخصية «مزاياه وصفاته وسلوكه».

الفصل الرابع : شيوخه وتلاميذه.

المبحث الأول : شيوخه.

المبحث الثاني : تلاميذه.

المبحث الثالث : رواة سننه الصغرى والكبرى.

المبحث الرابع : روايته عن شيخه الحارث بن مسكين.

المبحث الخامس : قوله في أول الإسناد «أخبرنا» فقط.

الفصل الخامس : الثناء عليه وعلى تصانيفه.

المبحث الأول : ثناء العلماء عليه.

المبحث الثاني : ثناء العلماء على تصانيفه.

الفصل السادس : عقيدته وما نسب إليه.

المبحث الأول : عقيدته.

المبحث الثاني : ما نسب إليه من التشيع.

المبحث الثالث : الدفاع عنه.

الفصل السابع : مؤلفاته.

الفصل الثامن : وفاته ودفنه.

الفصل التاسع : أهم المصادر والموارد التي ترجمت للإمام النسائي.

٢٧

الفصل الأول

* اسمه ونسبه وكنيته ولقبه ومولده :

هو الإمام المحدّث ، البارع الثبت ، شيخ الإسلام ، ناقد الحديث ، القاضي الحافظ.

أبو عبد الرحمن : أحمد بن شعيب بن سنان بن بحر بن دينار الخراساني النسائي (١).

__________________

(١) وقع في نسب المصنف أوهام ، منها :

أ ـ أن ابن خلكان في الوفيات (١ / ٧١) وابن كثير في البداية (١١ / ١٢٣) وأبو الفداء في المختصر في أخبار البشر (٣ / ٨٦) قالوا : إنه أحمد بن علي بن شعيب. وما أثبتناه هو الصواب لأن أبا بشر الدولابي في الكني (١ / ٤٠ ، ٤٨) والطحاوي في مشكل الآثار (٢ / ٣٣) والطبراني في المعجم الصغير (١ / ٢٣) والأوسط (رقم ١٦٧٩) والكبير (رقم ١١٧٣) وهم تلاميذه قد سموه أحمد بن شعيب بن عليّ.

ب ـ أن الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (٢ / ١٩٧) قد سماه أحمد بن عثمان بن شعيب ، فأخّر شعيبا وأبدل عليا بعثمان ، وليس هو خطأ ناسخ بل هو وهم من مصنّفه ؛ فقد أورده في فصل أحمد بن عثمان.

ج ـ أن السيوطي سمى جده الأعلى ـ والد سنان ـ سماه يحيى في حسن المحاضرة (١ / ٣٤٩) ووافقهم في طبقاته (ص ٣٠٣).

٢٨

ـ والنسائي : نسبة إلى نسا بلدة بخراسان ، وهي بفتح النون والسين المهملة بعدها الهمزة المفتوحة.

قال أبو سعد السمعاني في الأنساب (١) : وسمعت أن هذه البلدة إنما سميت بهذا الاسم في ابتداء الإسلام ، لأن المسلمين لما أرادوا فتحها كان رجالها غيّبا عنها ، فحاربت النساء الغزاة ، فلما عرفت العرب ذلك كفوا عن الحرب ، لأن النساء لا يحاربن ، وقالوا : وضعنا هذه القرية في النساء .. يعنون التأخير حتى يعود وقت عود رجالهن. وقيل : إنما سميت نساء ، لأن النساء كنّ يحاربن دون الرجال.

وقال : قيل قديما : من دخل نسا نسى الوطن. وقد صنف الأديب أبو المظفر : محمد بن أحمد الأبيوردي جزءا في تاريخ نساء وأبيورد.

قال البلاذري في فتوح البلدان (٢) : لما استخلف عثمان بن عفان ولّى عبد الله بن عامر بن كريز البصرة في سنة ثمان وعشرين ـ ويقال : في سنة تسع وعشرين ـ وهو ابن خمس وعشرين سنة ، فافتتح من أرض فارس ما افتتح ، ثم غزا خراسان في سنة ثلاثين .... ووجه عبد الله بن خازم السلمي إلى حمرانذر من نسا ، وهو رستاق ، ففتحه ، وأتاه صاحب نسا فصالحه على ثلاث مائة ألف درهم ، ويقال : على احتمال الأرض من الخراج ، على أن لا يقتل أحدا ولا يسبيه.

__________________

(١) ج ١٣ / ص ٨٤.

(٢) (ص ٤٩٩ ـ ٥٠١).

٢٩

ـ ونسا اسم لمواضع أخرى منها : بفارس ، وبمدينة كرمان ، وبهمدان ، وينسب النسائي أيضا إلى جماعة من بني نسى ، وهو بطن من الصدف. ونسب إليها الحافظ أبو خيثمة زهير بن شداد النسائي.

وقال الذهبي في المشتبه وعنه الحافظ في التبصير (١) : مدينة بآخر خراسان بسفح الجبل مما يلي خوارزم ، ويقال : إن بها اثنى عشر ألف عين ماء تخرج من أصل الجبل.

* مولده :

كادت المصادر تتفق على سنة ولادته وهي : سنة خمس عشرة ومائتين (٢).

ـ وأما ما ذكر ابن حجر من أنه ولد بكور نيسابور أو أرض فارس فغير صحيح (٣) كما أشار السخاوي إلى تضعيف النسبة لنسا الفارسية (٤).

__________________

(١) (٤ / ١٤٣٧).

(٢) وقد أغرب ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول (١ / ١٩٥) والسيوطي في حسن المحاضرة (١ / ٣٤٩) فقالا : إن مولده سنة خمس وعشرين ومائتين. وهذا وهم ؛ لأنه بدأ رحلته في طلب الحديث سنة ثلاثين ومائتين ـ كما سيأتي ـ فيكون له على قولهما من السن خمس سنوات حين رحل في طلب الحديث إلى قتيبة بن سعيد!!

(٣) مقدمة السنن الصغرى (صفحة ب).

(٤) فتح المغيث (٣ / ٣٠٩).

٣٠

الفصل الثاني

نشأته العلمية ورحلاته

* طلبه للعلم : طلب العلم في صغره فارتحل إلى قتيبة بن سعيد وعمره (١٥) عاما ، فأقام عنده ببغلان مدة سنة وشهرين وقد أكثر عنه حتى بلغت روايته عنه في سننه الصغرى (٦٨٢) رواية تقريبا.

* رحلاته العلمية : ارتحل إلى قتيبة ـ كما سبق ـ وجال في طلب العلم وسافر ، وكان في زمانه قد نفقت الرحلة وزادت على أيامه ، فارتحل إلى خراسان والحجاز ومصر والعراق والبصرة والكوفة وبغداد والجزيرة والشام وقزوين (١) والثغور. وأقام بمصر وعمّر (٢) واستوطنها ، وبقى بها إلى سنة نيف وثلاثمائة فأدركه ابن عدي وابن السني وكان يسكن زقاق القناديل وهي محلة مشهورة بمصر فيها سوق

__________________

(١) قال الخليلي في الإرشاد (١ / ٤٣٦) ورد قزوين سنة نيف وسبعين. وقال الرافعي في التدوين (٢ / ١٩٧) سنة خمس وسبعين ومائتين.

(٢) الإرشاد لأبي يعلى الخليلي (١ / ٤٣٦).

٣١

الكتب والدفاتر والظرائف كالأبنوس والزجاج ..... وكانت مساكن الأشراف على أبوابها القناديل بهذا الزقاق (١).

وقد روى في رحلاته هذه عن المحدثين الكبار ، وشارك البخاري ومسلما وأبا داود والترمذي في عدد كبير من الشيوخ والأساتذة ، ومما يذكر له أن رحلته لم تقتصر على أخذ الحديث بل أخذ كذلك القراءات والحروف من أهلها المختصين بها.

وكانت حصيلته العلمية بعد رحلاته هذه كبيرة جدا ، وصار بفضلها علما جهبذا ، تشدّ الرحلة إليه من كل مكان ، ونظرا لأنه عمّر بعد البخاري ومسلم فقد أصبح فارس ميدان علم الحديث والعلل والرجال والمبرّز فيه بعدهما.

* * *

__________________

(١) معجم البلدان لياقوت الحموي (٣ / ١٤٥).

٣٢

الفصل الثالث

ملامحه الشخصية

* مزاياه وصفاته وسلوكه :

قال الذهبي (١) : «كان شيخا مهيبا ، مليح الوجه ، ظاهر الدم ، حسن الشيبة ..... وكان نضر الوجه مع كبر السن».

وقال ابن كثير (٢) : «وكان في غاية الحسن ، وجهه كأنه قنديل ، وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال».

وقال أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون الهاشمي (٣) : «كان أبو عبد الرحمن يؤثر لباس البرود النوبية الخضر ويقول : هذا عوض من النظر إلى الخضرة من النبات فيما يراد لقوة البصر.»

__________________

(١) السير (١٤ / ١٢٧ ، ١٢٨).

(٢) البداية (١١ / ١٢٤).

(٣) كما نقله عنه المزي في التهذيب (١ / ٣٣٧) محقق.

٣٣

وكان يكثر الجماع مع صوم يوم وإفطار يوم ، وكان له أربع زوجات يقسم لهن ، ولا يخلو مع ذلك من جارية واثنتين يشتري الواحدة بالمائة ونحوها ويقسم لها كما يقسم للحرائر.

وكان قوته في كل يوم رطل خبز جيد يؤخذ له من سويقة العرافين لا يأكل غيره [سواء] كان صائما أو مفطرا. وكان يكثر أكل الديوك الكبار ، تشتر له ، وتسمن [وتخصى] ثم تذبح فيأكلها ، «ويذكر أن ذلك ينفعه في باب الجماع».

قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ (١) : «سمعت أبا الحسين محمد بن المظفر الحافظ يقول : سمعت مشايخنا بمصر يعترفون لأبي عبد الرحمن النسائي بالتقدم والإمامة ، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والاجتهاد ، وأنه خرج إلى الفداء مع والي مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين والمشركين واحترازه عن مجالسة السلطان الذي خرج معه والانبساط بالمأكول والمشروب في رحله ، وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد رضي الله عنه بدمشق من جهة الخوارج.»

ـ فمن هذه النقول نستخلص أن الإمام النسائي كان : مهيبا وقورا ـ نضر الوجه ـ يلبس الثياب الطيبة المنظر ، مع مراعاة الجانب

__________________

(١) كما نقله عنه المزي في التهذيب (١ / ٣٣٤) محقق.

٣٤

الطبي والنفسي لها ، وهذا يدل على أن له معرفة بالطب .... كان يصوم صيام داود ـ كان يعدل بين زوجاته. وطعامه يوم صومه وفطره سواء ـ وكان يجتهد في العبادة ليلا ونهارا ـ مواظبا على الحج ـ كان شهما ـ مقيما للسنن والنوافل ـ يحترز عن مجالسة السلطان. هذا كله غير ما قيل في ورعه وتحرّيه في دينه ، وحتى في حديثه ـ كما سيأتي في روايته عن الحارث بن مسكين.

وقد تولى القضاء بمصر أيضا (١) وقيل بحمص أيضا (٢) ، بل وجزم ابن كثير بتوليه الحكم بمدينة حمص أيضا (٣).

* * *

__________________

(١) كما ذكر ذلك تلميذه الطبراني في معجمه الصغير (١ / ٢٣) فقال : القاضي بمصر.

(٢) كما ذكر ذلك الذهبي في ترجمته من السير (١٤ / ١٣٢) عن صحيح أبي عوانة.

(٣) البداية والنهاية (١١ / ١٢٤) عن شيخه المزي عن رواية الطبراني في معجمه الأوسط ، لكني ما وجدت هذا في ترجمته بالأوسط [من رقم ١٦٧٩]

٣٥

الفصل الرابع

شيوخه وتلاميذه

* المبحث الأول :

* شيوخه :

قد عرفنا أن الإمام النسائي قد ارتحل في طلب العلم إلى بلاد كثيرة ، وقد روى في رحلاته تلك عن المحدثين الكبار ، وحق لهم أن يسمّوا بالنجوم والأكابر كما قيل في شيوخ تلميذه الطبراني (١).

فقد سمع بخراسان من : قتيبة بن سعيد ، وعلي بن خشرم ، وعلي بن حجر.

وبالبصرة من : عباس بن عبد العظيم العنبري ، ومحمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار ـ بندار ـ وعمرو بن علي.

وبمصر من : يونس بن عبد الأعلى ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، وأصحاب الليث بن سعد ، وغيرهم.

__________________

(١) ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم (١ / ٣٣٥).

٣٦

وببغداد (١) من : محمد بن إسحاق الصغاني ، وعباس بن محمد الدوري ، وأحمد بن منيع ، وغيرهم

ـ وقد سرد الحافظ الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء (٢) عددا من شيوخه بلغ بهم (٧٠) شيخا.

وقد روى في سننه الصغرى عن (٣٣٤) شيخا ، وفي غيرهما عن (١١٤) شيخا غير هؤلاء. فيكون مجموع من روى عنه في الصغرى والكبرى تقريبا (٤٥٠) شيخا (٣).

فهذا الكم الهائل من الشيوخ يجعلنا نقف عاجزين أمام جهد واجتهاد هذا الإمام الحافظ المصنف العظيم الذي بهر بتصنيفه الألبّاء وذوي الأفهام من الحفاظ وغيرهم.

ولا يقولنّ أحد إن هذا الكم من شيوخه يساوي نحو ثلث شيوخ

__________________

(١) ومع ذلك لم يترجمه الخطيب البغدادي في تاريخه. وإننا لنعجب من هذا المصنف ودخوله بغداد. ومن أجل ذلك استدركه الحافظ ابن النجار على الخطيب كما في ذيل تاريخ بغداد (راجع المستفاد من ذيله لابن أبيك الدمياطي ص ١٤٢).

(٢) ج ١٤ ص ١٢٥ ـ ١٢٧.

(٣) راجع المعجم المشتمل لابن عساكر فيمن رمز له (ن) وفهرس المجتبي الذي صنعه الشيخ / عبد الفتاح أبو غدة ، وقد استدركنا عليه وعلى ابن عساكر شيخين : أحمد بن مصرف اليمامي (هنا برقم ٧١٥) وعبيد بن أسباط (هنا برقم ٣١٣).

٣٧

تلميذه الطبراني الذين بلغوا نحو الثلاثمائة وألف ، فإن في شيوخ الطبراني ما يوازي هذا الرقم وأكثرهم مجاهيل ومتروكين وليست لهم ترجمة (١).

فالنسائي وهو شيخ الطبراني ينتقي شيوخه ومن يحدث عنهم ، فانظر إلى الإمام الحافظ أبي الحسن الدارقطني وهو يقول (٢) : «لم يكن مثله ، ولم يكن في الورع مثله : لم يحدث بما حدث ابن لهيعة (عبد الله الحضرمي ت ١٧٤ ه‍) وكان عنده عاليا عن قتيبة وقال أبو طالب ـ أحمد بن نصر ـ الحافظ : من يصبر على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النسائي ، كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة فما حدث بها ، وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة (٣)» قال الحافظ ابن حجر (٤) : «ولم يحدث به لا في السنن ولا في غيرها».

ـ فهذا ـ أخي القارئ الكريم ـ مما ينبهنا على أنه لم يكن الراوي عنده مرضيا ـ ولو كان شيخ شيخه ولو كان عنده عاليا ـ فإنه يترك حديثه ولا يحدث به.

__________________

(١) راجع مقدمة كتاب الدعاء للطبراني (ص ٢٨).

(٢) كما في سؤالات السهمي للدارقطني (رقم النص ١١١).

(٣) تهذيب المزي (١ / ٣٣٥) محقق.

(٤) مقدمة السنن للسيوطي (ص ٤)

٣٨

وسيأتي في الباب الثالث عند دراسة هذا المصنّف في الفصل الثالث : منهج النسائي فيه وما روّيناه من قوله : «عزمت على كتاب السنن ، فاستخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء ، فوقعت الخيرة على تركهم ، فنزلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم». فهذا مما يدلنا على أنه ينتقي وينتقد رواياته ومروياته ، حتى شيوخه ؛ فإنه لا يتساهل فيهم بل يستخير الله عزوجل ويتركهم ومروياتهم ولا يوردها البتة حتى في كتابه الموسع «السنن الكبرى».

هذا في علم الحديث ، وأما علم القراءات والحروف : فقد روى القراءة عن أحمد بن نصر النيسابوري المقرئ ، وأبي شعيب : صالح بن زياد السوسي. كما ذكره ابن الجزري في غاية النهاية (١ / ٦١) والمزي في تهذيبه (١ / ٣٢٩ محقق).

وقد صنف بنفسه معجما لشيوخه وتكلم فيهم (١).

وكذا أبو محمد : عبد الله محمد بن أسد الجهني ـ راوي السنن الكبرى عن حمزة وغيره ـ له تسمية شيوخ أبي عبد الرحمن النسائي (٢).

__________________

(١) ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب في مواضع منه (١ / ٨٨ ، ٨٩) وغيرها ، وسماه أسامي شيوخه.

(٢) فهرسة ابن خبير (ص ٢٢١)

٣٩

وتبعه الحافظ الإمام الجياني (ت ٤٩٨) فصنف شيوخ النسائي (١).

وتلاه أبو بكر بن محمد خلفون (ت ٦٣٦) أحد الحفاظ المتقنين فصنف شيوخ النسائي ، في سفر (٢).

* المبحث الثاني :

* تلاميذه :

لكثرة مرويات الإمام النسائي عن حفاظ عصره ، وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره ، ولطول عمره الذي قارب التسعين عاما ، علا إسناده في الحديث ، وكثرت رواياته ، فرحل إليه طلاب الحديث من شتى الأقطار ، حتى بعد وفاته كان حديثه مرغوبا فيه ، رائجا امتلأت الأجزاء والتخاريج منه.

قال الذهبي : رحل الحفاظ إليه ، ولم يبق له نظير في هذا الشأن (٣).

قال الدارقطني : كان أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث ،

__________________

(١) السنن الأبين لابن رشيد

(٢) كما في برنامج شيوخ أبي الحسن الرّعيني الإشبيلي (ت ٦٣٦) (ص ٥٥). وهذه الكتب مستفادة من مقدمة د. فاروق حمادة (ص ٨٨ ـ ٨٩)

(٣) السير (١٤ / ١٢٧)

٤٠