مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

الاشتراط تابعة لذي المقدّمة ، كأصل الوجوب ، بناء على وجوبها من باب الملازمة ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

ففي هذه الصّورة لا تجري البراءة عن الوجوب الغيري للوضوء ، كالصّورة الثّالثة ؛ إذ المفروض ، أنّ أصل الوجوب الجامع بين النّفسي والغيرى محرز ، فإذا تعارض البراءة عن الوجوب الغيرى في الوضوء مع البراءة عن الوجوب النّفسي ، ونتيجته هو الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الوقت. وإن شئت فقل : إنّ جريان البراءة عن تقييد الصّلاة بالوضوء وكونه واجبا غيريا ، معارض مع جريانها عن وجوبه النّفسي قبل الوقت للعلم الإجمالي ، بأنّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وجريان البراءة في أطرافه يستلزم المخالفة القطعيّة ، فلا مناص إذا من الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الوقت.

ولكن أفاد المحقّق النّائيني قدس‌سره في المقام ، بأنّ الشّكّ تارة يرجع إلى الشّكّ في تقييد الصّلاة بالوضوء ، فيكون الوضوء واجبا غيريّا ، واخرى إلى الشّكّ في وجوب الوضوء قبل الوقت ، وثالثة إلى الشّكّ في وجوبه بعد الوقت لمن توضّأ قبل الوقت ، وقال : بأنّ أصالة البراءة تجري في الجميع بلا معارض. (٢)

وقد اعترض عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بما أشرنا إليه آنفا ، من أنّ الشّكّ في المقام ناش من الشّكّ في كون الوضوء واجبا نفسيّا أو غيريّا ومع العلم الإجمالي بوجوبه الجامع بين النّفسي والغيري ، لا تجري البراءة في مثله ؛ لتعارض الأصل في كلّ مع الآخر.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٧.

(٢) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧١.

٤٢١

توضيح ذلك : أنّ الوضوء في المثال لو كان واجبا غيريّا ، فلا إشكال في أنّه مقيّد بالوقت لوجود التّبعيّة بين المقدّمة وذيها في الاشتراط والإطلاق ، وأمّا لو كان واجبا نفسيّا ، فلا يخلو من احتمالين :

أحدهما : أنّ يكون وجوبه مقيّد بما قبل الوقت. ثانيهما : أن يكون وجوبه مطلقا بالنّسبة إلى الوقت ، فعلى الاحتمال الأوّل ، في فرض الشّكّ بين النّفسيّة والغيريّة في الوضوء ، لا تجري البراءة عن وجوبه الغيري ؛ وذلك لمعارضة جريان البراءة المذكورة مع جريانها عن وجوبه النّفسي قبل الوقت ، لوجود العلم الإجمالى بوجوبه الجامع بين النّفسي والغيرى ، وعليه ، فلا مناص حينئذ من الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الوقت.

وأمّا على الاحتمال الثّاني ، فلا تجري البراءة عن وجوبه قبل الوقت ؛ إذ ليس هذا الوجوب ضيقا على المكلّف كي يرفع بالبراءة ، بل يكون في وسعة ، كما هو واضح.

وكذا لا تجري البراءة عن وجوبه بعد الوقت ، للعلم الإجمالى بوجوبه المردّد بين النّفسي والغيري ، وهو يقتضى الاحتياط.

نعم ، بناء على الفرض الثّالث في كلام المحقّق النّائيني قدس‌سره من أنّ المكلّف لو توضّأ قبل الوقت ، لكن شكّ بعده في أنّه هل يجب عليه الوضوء ثانيا أم لا؟ ـ إذ يحتمل كونه واجبا غيريّا مقيّدا بإيقاعه بعد الوقت ويحتمل ـ أيضا ـ أنّه واجب نفسيّ مقيّد بإيقاعه قبل الوقت أو مطلق ـ تجري البراءة عن إعادة الوضوء ؛ ضرورة ، أنّ الشّكّ المذكور راجع إلى الشّكّ في أصل التّكليف بإعادة الوضوء ، وهو مجرى البراءة. (١)

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٩٣ و ٣٩٤.

٤٢٢

الأمر الثّالث : في آثار الوجوب النّفسي والغيري.

اعلم ، أنّ ما يترتّب على كلّ واحد من الواجب النّفسي والغيري أثران :

أحدهما : استحقاق العقوبة عند ترك الواجب النّفسي وعدم استحقاقها عند ترك الواجب الغيري حتّى فيما إذا استلزم تركه ترك ما يتوقّف عليه من الواجب النّفسي ؛ ضرورة ، أنّ العقوبة حينئذ إنّما هو على ترك الواجب النّفسي لا غير.

ثانيهما : ترتّب الثّواب على فعل الواجب النّفسي.

ولا يخفى : أنّ هذين الأثرين ممّا لا كلام فيهما بين الأصحاب ، إنّما الكلام في موردين :

الأوّل : أنّ الثّواب المترتّب على امتثال الواجب النّفسي ، هل هو من باب التّفضّل أو هو من باب الاستحقاق؟ قولان :

ذهب معظم الفقهاء والمتكلّمين إلى الثّاني (١) ؛

ولكن ذهب الشّيخ المفيد قدس‌سره وأتباعه إلى الأوّل (٢) وهذا هو الحقّ ؛ وذلك ، لأنّ العقل يستقلّ في الحكم بأنّه يجب على المكلّف أن يكون مطيعا لأوامر ربّه قضاء لحقّ العبوديّة ورعاية لشأن المولويّة بلا انتظار لأخذ الاجرة على ذلك ، بل لم يكن للعبد متاع غير ما أعطاه الله تعالى كي يستحقّ الاجرة عند عرض المتاع على الله تبارك وتعالى ، نظير باب الإجارة ، حيث إنّ الأجير إذا آجر نفسه لعمل كذا ، يستحقّ الاجرة عمن استأجره ، سواء كانت اجرة المسمّى أو المثل.

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧٤ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٩٥.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧٤ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٩٥.

٤٢٣

ولقد أجاد المحقّق البروجردي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «أنّ المولى بمولويّته مالك للعبد بجميع شئونه وأفعاله ، فله أمر العبد بفعل من غير أن يعطيه أجرا ... هذا مضافا إلى أنّه كلّما أمر به وبعث نحوه ، فهو ممّا لا يعود نفعه إليه ، بل لوحظ فيه مصلحة العبد وإنجاءه من المهالك الرّوحيّة وسوقه إلى المراتب الكماليّة ، فمثله كمثل طبيب ، أمر المريض بشرب دواء ينفعه ، فهل للمريض بعد امتثاله أوامر الطّبيب ونجاته من المرض أن يطلب من الطّبيب المشفق ، أجر الامتثال؟ لا والله ، بل لو طالبه ذلك لعدّه العقلاء من السّفهاء». (١)

هذا كلّه لو اريد من الاستحقاق في القول الثّاني هو ثبوت حقّ للمكلّف على الله بطاعته إيّاه ، وأمّا لو اريد به اللّياقة والاستعداد للثّواب ـ بمعنى : أنّ العبد إذا أطاع مولاه فله اللّياقة والأهليّة للنّيل إلى ما وعده الرّب للعباد المطيعين من الدّخول في دار النّعيم وجوار ربّه الكريم ـ فهو نفس القول بالتّفضّل ، وحينئذ يكون النّزاع لفظيّا ، كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ، أنّ ما ورد في الآيات (٢) والرّوايات (٣) من التّعبير بالأجر والجزاء بالنّسبة إلى عمل المكلّفين ، ليس المراد به هو العوض بإزاء عملهم ، بل معناه هو إعطاء الثّواب لهم تفضّلا ، وتسمية ذلك بالأجر ، إنّما هو مقتضى سيادة المولى وكرامته ، وإلّا فما للعبد واستحقاق الأجر.

__________________

(١) نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٢.

(٢) سورة آل عمران (٣) : الآية ١٧١ ؛ وسورة الكهف (١٨) : الآية ٣٠.

(٣) راجع ، وسائل الشّيعة : كتاب الطّهارة ، ج ١ ، الباب ١٧ من أبواب مقدّمات العبادة ، الحديث ٨ ، ص ٥٨ ؛ ووسائل الشّيعة : كتاب الطّهارة ، ج ١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادة ، الحديث ١ ، ص ٥٩.

٤٢٤

المورد الثّاني : أنّ امتثال الواجب الغيري ، هل يترتّب عليه الثّواب مضافا إلى الثّواب المترتّب على الواجب النّفسي ، أم لا؟

ولا يخفى : أنّ النّزاع إنّما هو في استحقاق الثّواب بمعناه الثّاني وهو صيرورة العبد بالإطاعة أهلا ولائقا لدرك الثّواب ، دون الاستحقاق بالمعنى الأوّل وهو ثبوت الحقّ للمكلّف على الله تعالى وهو واضح ، فإذا نقول :

إنّ المسألة ذات أقوال ثلاثة :

الأوّل : هو القول بعدم ترتّب الثّواب على الواجب الغيري بحيث لو أتى المكلّف بالمقدّمة وذيها لاستحقّ ثوابا واحدا مترتّبا على ذي المقدّمة ، وهذا ممّا اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وتبعه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره. (٢)

الثّاني : هو القول بترتّب الثّواب عليه إن كان الدّاعي لإتيانه هو التّوصّل إلى الإتيان بالواجب النّفسى ، فحينئذ لو أتى المكلّف بالمقدّمة وذيها ، لكان مستحقّا للثّوابين ، وقد ذهب إليه المحقّق النّائيني قدس‌سره (٣) والعراقي قدس‌سره (٤) وتبعهما بعض الأعاظم قدس‌سره (٥).

الثّالث : هو القول بالتّفصيل بين أن يكون الواجب الغيري أصليّا ، بمعنى : أنّه مدلول لخطاب مستقلّ ، كالطّهارة من الحدث ، فيترتّب الثّواب عليه ، وبين أن يكون

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٥ الى ١٧٧.

(٢) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٣٣٤ و ٣٣٦.

(٣) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧٢.

(٤) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧٥.

(٥) محاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٣٩٧.

٤٢٥

تبعيّا ، بمعنى : أنّه غير مدلول لخطاب مستقلّ ، فلا يترتّب الثّواب عليه ، وهذا هو مختار المحقّق القمي قدس‌سره (١).

والحقّ هو القول الثّاني ؛ وذلك ، لأنّ المكلّف إذا أتى بالواجب الغيري قاصدا به لامتثال الواجب النّفسي والتّوصّل إليه ، فلا ريب في أنّ الواجب الغيري إذا يكون من مصاديق الإطاعة وإظهار العبوديّة فيترتّب عليه الثّواب بنفسه ، ونتيجته ، أنّه لو أتى بالمقدّمة بقصد التّوصّل ولم يكن متمكّنا من إتيان ذيها لكان مستحقّا للثّواب عليها ، كما أنّه لو كان متمكّنا من إتيان ذيها وأتى به لكان مستحقّا للثّوابين.

ومن هنا ظهر الجواب عمّا اورد على الطّهارات الثّلاث (الوضوء والغسل والتّيمّم) من أنّها واجبات غيريّة يتوقّف عليها واجب نفسي ، كالصّلاة وهي مع ذلك ممّا يترتّب الثّواب على فعلها بلا إشكال ، وهذا من الغرائب ؛ إذ الثّواب يدور مدار القرب ، كما أنّ العقاب يدور مدار البعد ، ومن المعلوم ، أنّ الواجب الغيري لا يوجب فعله قربا ، ولا تركه بعدا.

وجه الظّهور في الجواب ، هو ما عرفت آنفا ، من أنّ الواجب الغيري إذا اتي به قاصدا لامتثال الواجب النّفسي يكون مصداقا لاظهار العبوديّة ، فيوجب فعلها حينئذ القرب إلى الله تعالى ، كما يوجب تركها ، البعد عنه ، وعليه ، فلا مانع من ترتّب الثّواب والعقاب على مثل هذا الواجب الغيري.

هذا ، ولكن اجيب عن هذا الإيراد بوجه آخر وهو أنّ الثّواب من المجعولات الشّرعيّة وهي تابعة لسعة الجعل وضيقه ، فيدّعى أنّه كما يجعل الله الثّواب على

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧٢.

٤٢٦

الواجبات ، كذلك يجعله على مقدّماتها من الطّهارات الثّلاث ، وهذا ممّا ارتضاه المحقّق النّهاوندي قدس‌سره. (١)

وفيه ، أنّ الإشكال مبتن على القول بالاستحقاق ، لا الجعل والتّفضّل ، وواضح ، أنّ الاستحقاق فرع الإتيان بقصد القربة ، كما لا يخفى.

نعم ، هنا إشكال آخر على الطّهارات الثّلاث لا بدّ في دفعه من تأمّل ، حاصله :

أنّه لا ريب في أنّ الأوامر المتعلّقة بالطّهارات الثّلاث هي أوامر غيريّة توصّليّة لا يحتاج امتثالها إلى قصد التّقرب ، مع أنّه لا خلاف بين علماء الإسلام سوى أبي حنيفة (٢) في كونها من العباديّات الّتي يعتبر في امتثالها أن يكون بقصد قربيّ ، وإلّا يبطل العمل كسائر الواجبات التّعبّديّة ، وعليه ، فكيف يمكن الجمع في مثل المقام!

لا يقال : إنّ الإشكال إنّما يتمّ في فرض توصّليّة الأوامر المتعلّقة بالطّهارات ، ولكن لقائل أن يلتزم بأنّ تلك الأوامر ليست كذلك ، بل هي ممّا يتوقّف عباديّة الطّهارات عليها ، كما في سائر الامور العباديّة.

لأنّه يقال : أنّ الطّهارات الثّلاث بعنوان أنّها عبادات تكون من المقدّمات ، بمعنى : أنّ الصّلاة إنّما تتوقّف عليها إذا قصد بها القربة لا مطلقا ، فإذا لا مناص من فرض عباديّة الطّهارات قبل تعلّق الأوامر الغيريّة بها.

ودعوى أنّ منشأ عباديّتها هي تلك الأوامر ممنوعة ؛ للزوم الدّور حينئذ ، وهذا واضح البطلان.

__________________

(١) راجع ، تنقيح الاصول : ج ٢ ، ص ٥١.

(٢) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٤.

٤٢٧

هذا ، ولكن اجيب عن هذا الإشكال بوجوه :

منها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ الطّهارات الثّلاث مستحبّات نفسيّة قابلة للتّقرّب بها إلى الله تعالى ولو في فرض تعلّق الأوامر الغيريّة بها ، فقصد القربة فيها إنّما هو لأجل كونها في نفسها امورا عباديّة ، لا لكونها مطلوبات غيريّة. (١)

وقد أورد عليه المحقّق النّائيني قدس‌سره (٢) من جهات :

الاولى : أنّ الالتزام بالاستحباب النّفسي في الطّهارات لو تمّ ، فإنّما يتمّ في خصوص الوضوء والغسل دون التّيمّم ؛ حيث إنّه لم يقم على استحبابه النّفسي دليل من الشّرع الأنور.

وفيه ، أنّه يكتفى في إثبات استحبابه نفسيّا بالإطلاقات الدّالة على استحباب الطّهر في نفسه (٣) ، فإنّ التّيمّم بمقتضى قوله عليه‌السلام : «التّيمّم أحد الطّهورين» (٤) يكون طهورا بلا إشكال.

الثّانية : أنّه لا يتمّ الالتزام بالاستحباب النّفسي في الطّهارات الثّلاث ؛ ضرورة ، أنّ مقتضاه هو اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النّفسي في موضوع واحد ، وهذا ممتنع لمكان المضادّة بينهما ، فيجب حينئذ اندكاك الاستحباب في الوجوب الغيري ، كاندكاك السّواد الضّعيف في الشّديد ، ومعه لا مصحّح للعباديّة.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٧.

(٢) راجع ، اجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧٥.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، أبواب الوضوء ، ص ٢٦١ إلى ٢٧١.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢١ من أبواب التّيمّم ، الحديث ١ ، ص ٩٩١ و ٩٩٢.

٤٢٨

وفيه : أوّلا : أنّ التّضاد في الأحكام الخمسة الّتي هي من الامور الاعتباريّة الجعليّة ، ممنوع ؛ ضرورة ، أنّه يختصّ بالتّكوينيّات ، كما يشهد عليه ، ما عرّف له في علم الفلسفة ، من أنّه أمران وجوديّان الّذان لا يجتمعان.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، ولكن يمنع عن تحقّق التّضاد في المقام ، ضرورة ، أنّ الأمر النّفسي النّدبي في الوضوء ـ مثلا ـ تعلّق بنفس الغسلتين والمسحتين ، ولكنّ الأمر الغيريّ الوجوبي تعلّق بالوضوء بعد كونه متعلّقا للأمر النّفسي ، لا بذات الوضوء.

وإن شئت ، فقل : إنّ الأمر الغيري إنّما تعلّق بما هي مقدّمة بالحمل الشّائع ، والمقدّمة هنا هو الوضوء العباديّ ؛ ولذا لا بدّ في امتثاله من إتيان الوضوء بأمره النّدبي حتّى يصير عبادة ، فيصلح للمقدميّة ، ولو لا ذلك ، لم يأت بها بما هي المقدّمة ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «حيث إنّه لا يدعو إلّا ما هو المقدّمة». (١)

وبالجملة : يكون المقام من قبيل ورود الأمر والنّهي على العنوانين مع فرض مصداق واحد لهما في الخارج ، نظير اجتماع «صلّ» و «لا تغصب» في محلّ واحد ، كالصّلاة في الدّار المغصوبة ، فكما يقال : هناك إنّ كلّ واحد من الخطا بين يتعلّق بعنوان لا يتعلّق به خطاب آخر بلا سراية إلى الخارج ؛ لكونه ظرفا لسقوط التّكليف لا ثبوته ، كذلك يقال هنا : إنّ الأمر النّفسي النّدبي يتعلّق بعنوان لا يتعلّق به الأمر الغيري الوجوبي ، فأين التّضاد.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قدس‌سره قد أجاب عن هذا الإيراد ، بما حاصله : أنّ حال هذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٨.

٤٢٩

المورد هو حال غيره من موارد الاستحباب الّتي عرض عليها الوجوب من ناحية نذر وغيره ، كصلاة اللّيل الواجبة بنذر ونحوه ، فكما يتحصّل من ذلك أمر واحد وجوبي مؤكّد وهو يكون عباديّا ؛ لأنّ كلّا منهما يكسب من الآخر صفة ، بعد عدم إمكان بقاء كلّ منهما بحدّه الخاصّ ، فكذلك المقام. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه مغالطة ومخالطة ؛ ضرورة ، أنّ الواجب ليس نفس متعلّق الأمر النّدبي ، بل هو عنوان الوفاء بالنّذر ، إلّا أنّ الوفاء به يتوقّف على فعل الصّلاة الّتي يتعلّق بها الأمر النّدبي.

وإن شئت ، فقل : إنّه وقع الخلط في كلامه قدس‌سره بين متعلّق الأمر الوجوبي وهو الوفاء بالنّذر ، وبين ما هو مصداقه بالعرض وهو صلاة اللّيل ـ مثلا ـ فأين الاندكاك والوحدة.

وثانيا : أنّ الاندكاك لو كان ، لكان باندكاك الضّعيف في القوىّ وهو الأمر النّدبي في الوجوبيّ ، كاندكاك السّواد الضّعيف في القوىّ ، ولا عكس ، كما في المقام ، فكيف يمكن أن يقال : إنّ الأمر الوجوبيّ الغيريّ القويّ ، يكتسب العباديّة من النّدبيّ الضّعيف.

الجهة الثّالثة : أنّه لا إشكال في صحّة الطّهارات الثّلاث إذا أتى بها بقصد الأمر النّفسيّ المتعلّق بذيها مع تحقّق الغفلة غالبا بالنّسبة إلى الأمر النّفسيّ المتعلّق بها ، ومن المعلوم ، أنّه لو كان منشأ عباديّتها ذلك الأمر النّفسيّ ، يلزم أن لا تقع صحيحا ، إذ المفروض ، أنّه مغفول ، فما هو كذلك ، كيف يكون مصحّحا للعباديّة! (٢)

__________________

(١) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ٢ ، ص ٣٩٨.

(٢) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧٥.

٤٣٠

ولا يخفى : أنّ هذا الإيراد خال عن الإشكال ، ولا مانع من الالتزام به ، كما سيظهر لك وجه ذلك.

ومنها : (من الوجوه في الجواب عن الإشكال) ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره حيث قال ، ما حاصله : من أنّ منشأ عباديّة الطّهارات الثّلاث ليس هو الأمر الغيريّ الوجوبي ، والأمر النّفسي النّدبي ، بل منشأه هو الأمر النّفسي المتعلّق بذى المقدّمة ، ببيان أنّ الأمر النّفسي المتعلّق بالصّلاة ـ مثلا ـ ينحلّ إلى أمرين :

أحدهما : ما يتعلّق بالأجزاء ، فلكلّ جزء أمر نفسيّ ضمنيّ عباديّ لا يسقط إلّا بقصد التّقرب.

ثانيهما : ما يتعلّق بالقيود والشّرائط ، فلكلّ قيد وشرط ـ أيضا ـ كالشّطر أمر نفسيّ ضمنيّ لا يسقط إلّا بقصد القربة ، وعليه ، فالموجب لعباديّة الشّطر والشّرط يكون واحدا وهو الأمر النّفسي بلا لزوم محذور أصلا. (١)

ولكنّه مندفع ، بأنّه لا يقاس الشّرط بالشّطر ؛ ضرورة ، أنّ الأمر النّفسي يتعلّق بالأجزاء في المركّب ، فيكون كلّ جزء متعلّقا لأمر نفسيّ ضمنيّ ، وهذا بخلاف الشّرائط في المشروط ؛ وذلك ، لانّ الشّرط شيء ، والمشروط شيء آخر ، فلا يوجب كون المشروط متعلّقا لأمر نفسيّ ، أن يكون الشّرط كذلك ، فظهر الفرق بين الشّرط والشّطر بأنّ الشّطر متعلّق لأمر نفسيّ في ضمن تعلّقه بالمركّب ، كفاتحة الكتاب بالنّسبة إلى الصّلاة ، وأمّا الشّرط ، فهو متعلّق لأمر غيريّ وإن كان المشروط متعلّقا لأمر نفسيّ ، كالوضوء بالنّسبة إلى الصّلاة.

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ١٧٥.

٤٣١

ومنها : (من الوجوه في الجواب عن الإشكال) ما عن المحقّق العراقي قدس‌سره محصّله : أنّ عباديّة الطّهارات إنّما هو بإتيانها بداعي الأمر الغيريّ بلا لزوم محذور الدّور ؛ وذلك ، لانبساط الأمر الغيري بالمركّب أو المقيّد على أجزاء متعلّقه الخارجيّة والعقليّة ، كانبساط الأمر النّفسي على أجزاء الواجب ، فينحلّ الأمر الغيري إلى أوامر غيريّة ضمنيّة ، وعليه ، فنفس الطّهارات تكون مأمورا بها بأمر ضمنيّ ، فاذا أتى بها بداعيه يتحقّق ما هو المقدّمة وهو نفس الأفعال الخارجيّة المتقرّب بها وبه يسقط الأمر الآخر الغيري الضّمني المتعلّق بالقيد بعد فرض كونه توصّليّا ، حيث إنّ متعلّقه حاصل قهرا بامتثال الأمر المتعلّق بالأفعال ونفس الطّهارات. (١)

وقد أجاب عنه الإمام الرّاحل قدس‌سره بأنّ «دعوته [الأمر الغيري] ليست إلّا إلى إتيان المقدّمة للتّوصّل إلى ذيها ، وليست له نفسيّة وصلاحيّة للتّقرّب ، ولم تكن المقدّمة محبوبة للمولى ، بل لو أمكنه أن يأمر بإتيان ذيها مع عدم الإتيان بمقدّمته لأمر به كذلك ، فالأمر بها من جهة اللّابديّة ومثل ذلك لا يصلح للمقرّبيّة». (٢)

وفيه : أنّ الأمر الغيريّ أمر إلهيّ ولو كان توصّليّا ، فإذا أتى بالمقدّمة بدعوة أمرها وبقصد امتثال ذلك الأمر ، يصير العمل المقدّمي عباديّا ، فحينئذ يدعو الأمر المقدّمي إلى إتيان المقدّمة لا لنفسها ، بل لأجل ذيها فيؤتى بها بداعي أمرها لأجل غيرها ، وهذا غير الدّعوة إلى ذي المقدّمة ، فالفرق بين الدّعوة إلى ذي المقدّمة والدّعوة إلى المقدّمة لأجل ذيها ، يقتضي ثبوت المدّعى من صلاحيّة الأمر الغيري ـ أيضا ـ للدّاعويّة.

__________________

(١) راجع ، بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٨١.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٠٠.

٤٣٢

ومنها : (من الوجوه في الجواب عن الاشكال) ما عن الفقيه البروجردي قدس‌سره من أنّ عباديّة المقدّمات ومقربيّتها ، إنّما تكون بقصد الأمر النّفسي المتعلّق بذيها ؛ ضرورة ، أنّ هذا الأمر إنّما يدعو المكلّف إلى المقدّمات ، وأمّا الأمر الغيريّ التّرشّحي وإن قلنا : بثبوته بناء على الملازمة ، فهو لا يكفي في عباديّة متعلّقه حيث إنّه لا إطاعة له بما هو هو ، ولا قرب ؛ لكونه اندكاكيّا ظليّا لا ينظر فيه ، بل ينظر به ، كالمعنى الحرفيّ حتّى أنّه لو دلّ عليه الأمر بسبب خطاب مستقلّ ـ أيضا ـ كان هذا الخطاب بنظر العقلاء بعثا وتحريكا نحو ذي المقدّمة وإن كان بحسب الظاهر متعلّقا بالمقدّمة. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ الأمر النّفسي المتعلّق بذي المقدّمة لا يدعو المكلّف إلى المقدّمات ؛ إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، ومن الواضح ، أنّ متعلّق الأمر النّفسي ، ليس إلّا خصوص ذي المقدّمة ، وثانيا : لو سلّم ذلك ، ولكن عباديّة الطّهارات لا تتوقّف على الأمر النّفسي الفعلى ، كما لا تتوقّف على الأمر الغيريّ ، بل مناط العباديّة في الأفعال أمران :

أحدهما : صلوحها للتّعبّد.

ثانيهما : إتيانها بقصد التّقرّب.

نعم ، لا طريق لنا إلى إحراز الصّلوح غالبا إلّا الوحي والأمر ، فإذا علم صلوح الأفعال للتّعبّد وأتى بها بقصد التّقرّب ، وقعت عبادة ، سواء قصد الأمر ، أم لا.

ثالثا : أنّ ما ذكره قدس‌سره من دعوة الأمر النّفسي إلى المقدّمات ليس له عين ولا أثر في ارتكاز المتشرّعة ، نعم ، يحكم العقل بلزوم إتيان المقدّمة إذا أحرز توقّف ذيها

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٣.

٤٣٣

عليها ، وهذا غير دعوة الأمر إليها مع فرض عدم تعلّقه بها ، كما هو المبحوث عنه في المقام.

ومنها : (من الوجوه في الجواب عن الإشكال) ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «ولكنّ الّذي ينحلّ به العقدة هو أنّها بما هي عبادة جعلت مقدّمة ولا يتوقّف عباديّتها على الأمر الغيري ، بل لها أمر نفسي ، بل التّحقيق أنّ ملاك العباديّة في الامور التّعبديّة ليس هو الأمر المتعلّق بها ، بل مناطها هو صلوح الشّيء للتّعبد به وإتيانه للتّقرّب به إليه تعالى ، وعلى ذلك ، استقرّ ارتكاز المتشرّعة لأنّهم في إتيان الواجبات التّعبّديّة يقصدون التّقرّب إليه تعالى بهذه الأعمال مع الغفلة عن أوامرها المتعلّقة بها ولو أنكرت إطباق المتشرّعة في العبادات ، إلّا أنّ إنكار ما ذكرنا ملاكا للعباديّة ممّا لا سبيل إليه ، نعم ، لا يمكن الاطّلاع على صلوح العباديّة غالبا إلّا بوحي من الله». (١)

ولا يخفى : أنّ هذا الجواب هو الحقّ المختار ، كما يظهر لمن له أدنى تأمّل في المسألة.

الأمر الرّابع : في المراد بالواجب الغيري.

فنقول : لا إشكال في أنّ المقدّمة بناء على الملازمة تابعة لذيها في أصل الوجوب ، وكذا في الإطلاق والاشتراط ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (٢)

ولا اشكال ـ أيضا ـ في أنّ الواجب هي الحصّة الخاصّة من المقدّمة ، إنّما الإشكال في بيان المراد من الخصوصيّة ، فهل اريد بها أنّ المقدّمة واجبة عند إرادة ذيها ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم قدس‌سره (٣) ، أو أنّها واجبة إذا قصد بها

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٩٧ و ١٩٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٨١.

(٣) راجع ، معالم الدّين : ص ٦٦.

٤٣٤

التّوصّل إلى ذيها ، كما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) ، أو أنّها واجبة إذا ترتّب عليها وجود ذيها وهو المعبّر عنه بالمقدّمة الموصلة ، كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره (٢) أقوال ثلاثة ، أقواها هو الأخير ، والباقي مردود.

أمّا القول الأوّل (اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها) فلما فيه من المحذورين :

أحدهما : لزوم اشتراط وجوب ذى المقدّمة بإرادة إتيان نفسه ـ أيضا ـ لما أشرنا من التبعيّة بينهما في الإطلاق والاشتراط ، فيكون اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها ، كاشفا عن اشتراط وجوب ذيها بإرادة نفسه ، وهذا كما ترى ؛ إذ الوجوب لا يدور في تشريعه مدار الإرادة ، بل يدور مدار مباديه وعلله الخاصّة ، وإرادة العبد إنّما تبدو في مرحلة الامتثال والإطاعة ، لا غير.

ثانيهما : لزوم اشتراط وجوب المقدّمة بإرادة نفسها ـ أيضا ـ وذلك لعدم انفكاك إرادة ذي المقدّمة عن إرادتها ، فإذا كان وجوب المقدّمة مشروطا بإرادة ذيها يلزم أن يكون مشروطا بإرادة نفسها ـ أيضا ـ وهذا ممّا لا يخفى فيه التّأمّل.

هذا ، بناء على حمل ظاهر كلام صاحب المعالم قدس‌سره على القضيّة الشّرطيّة ، وأمّا بناء على حمله على القضيّة الحينيّة ولو بقرينة لفظ : «في حال» المذكور في كلامه (٣) ، فيرد عليه بعدم دخل إرادة ذي المقدّمة في ملاك وجوب المقدّمة وهو التّوقّف والإناطة ، فإذا لا وجه لطريان الوجوب عليها حين إرادة ذيها.

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٧٢.

(٢) راجع ، الفصول الغروية : ص ٦٤.

(٣) حيث قال قدس‌سره : «وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينتهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النّظر». معالم الدّين ، ص ٦٦.

٤٣٥

نعم ، لو كان مراده قدس‌سره اعتبار قصد التّوصّل إلى ذيها في وجوبها ، فهو داخل في القول الثّاني ، ويأتي ما فيه من الضعف.

أمّا القول الثّاني (اشتراط قصد التّوصّل في وجوب المقدّمة) ، فلما فيه من الاحتمالات الأربعة ، كلّها مخدوش :

أحدها : اعتبار قصد التّوصّل في وجوبها ، كاعتبار الإرادة فيه ، وهذا هو ظاهر كلام صاحب المعالم قدس‌سره.

ثانيها : اعتباره في خصوص المقدّمات العباديّة على نحو شرط الواجب.

ثالثها : اعتباره في خصوص المقدّمة المحرّمة المنحصرة ، كذلك.

رابعها : اعتباره في مطلق المقدّمة ، كذلك.

أمّا الاحتمال الأوّل : فيرد عليه ما اورد على القول الأوّل.

وأمّا الاحتمال الثّاني : فوجهه ، أنّ المقدّمة العباديّة هي الحصّة الخاصّة الّتي لا تتحقّق إلّا بقصد القربة ، وهذا لا يتأتّى بقصد الأمر الغيري للزوم الدّور ، فلا بدّ في تحقّقها من قصد التّوصّل بها إلى ذيها كي يترتّب عليها ما هو الواجب.

وفيه : أوّلا : أنّه لا مانع من تحقّق عباديّة المقدّمات بقصد الأمر الغيري بلا لزوم محذور الدّور فيه ، كما عرفت سابقا.

وثانيا : أنّه لو سلّم ذلك ، فإنّما تتحقّق عباديّتها بقصد محبوبيّتها النّفسيّة بلا حاجة إلى قصد التّوصّل.

وأمّا الاحتمال الثّالث : فوجهه ، أنّ ملاك الوجوب الغيري هي المقدّميّة والإناطة ، فيتوجّه إلى طبيعىّ ما يتوقّف عليه الواجب ، كتوقّف الحجّ على طبيعيّ المشي أو الزّاد والرّاحلة ، وحينئذ فمع تساوي أفراد هذا الطّبيعي ، حكم العقل بتخيير

٤٣٦

المكلّف بينها ومع عدمه ، كما إذا كان بعض الأفراد محرّما ، حكم بلزوم تطبيق الطّبيعي على خصوص الأفراد غير المشتملة على المنقصة ، هذا في صورة عدم انحصار المقدّمة في المحرّم.

وأمّا إذا انحصرت فيه ، فيحكم العقل بلزوم تطبيق الطّبيعي على الفرد المحرّم الّذي اشتمل على مزيّة وهو قصد التّوصّل بها إلى ذيها كي يجبر بهذه المزيّة ما فيها من المنقصة والمبغوضيّة ، ونتيجة ذلك ، هو أنّ في المقدّمة المحرّمة المنحصرة ، يختصّ الواجب الغيري بما يقصد به التّوصّل إلى الواجب النّفسي ، دون ما لم يكن كذلك.

وفيه : أوّلا : أنّه لا تأثير لقصد التّوصّل في تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة عند الانحصار والحرمة ؛ وذلك ، لأنّ حرمتها في فرض أهميّة الواجب النّفسي المتوقّف عليها ، مغلوبة ، فتجب حينئذ ـ بناء على الملازمة ـ مطلقا ، سواء قصد بها التّوصّل ، أم لم يقصد ، وفي فرض عدمها ، لم تكن مغلوبة فليست المقدّمة بواجبة ، وعليه ، فلا يجدي قصد التّوصّل ، كما لا يخفى.

وبالجملة : فالقصد إمّا لا يعبأ به ، كما في فرض مغلوبيّة حرمة المقدّمة وأهميّة الواجب النّفسي ، وإمّا لا يجدى ، كما في فرض عدمها ، وهذا واضح.

وثانيا : لو سلّم تأثير القصد لكان بحدّ الرجحان لا الإلزام ، فما يقصد به التّوصّل كان راجحا لا واجبا.

وأمّا الاحتمال الرّابع : فوجهه ، تعلّق الوجوب الغيري بعنوان المقدّمة لا بذاتها ؛ وذلك ، لأنّ العقل إذا حكم بوجوب شيء لكونه مقدّمة ، حكم بوجوب عنوان المقدّمة ، نظرا إلى أنّ التّعليل في الحكم العقلي راجع إلى التّقييد. ومن المعلوم ، أنّ عنوان المقدّمة ما لم يقصد ، لم يقع في الخارج على وصف الوجوب ، كما أنّه من المعلوم

٤٣٧

ـ أيضا ـ أنّ قصد عنوانها هو عين القصد لإتيان ذيها والتّوصّل بها إليه ، ومحذور لزوم التّفكيك بينهما في الاشتراط ، مندفع بكون القصد المذكور شرطا للواجب لا للوجوب ، والتّبعيّة المشار إليها سابقا ، إنّما تكون في شرط الوجوب ، لا الواجب.

وفيه : أوّلا : أنّ رجوع التّعليل في الحكم العقلي إلى التّقييد ، ممنوع ؛ إذ حكم العقل ، كغيره له موضوع وهو العنصر القابلي ، وعلّة وهي العنصر الفاعلي ، فلا معنى لرجوع الفاعل إلى القابل بحيث تصير العلّة موضوعا للحكم.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، لكان في الأحكام العقليّة فقط ، ومن المعلوم ، أنّ وجوب المقدّمة بناء على الملازمة ، حكم شرعيّ لا عقليّ.

وثالثا : لو فرض ثبوت ذلك في الأحكام الشّرعيّة ـ أيضا ـ ولكن هذا لا يستلزم دخل القصد في وجوب المقدّمة.

والشّاهد لعدم دخل القصد ، هو أنّ الواجبات النّفسيّة بالنّسبة إلى المصالح الكامنة فيها تكون غيريّة ، ولم يتفوّه أحد بلزوم قصد التّوصّل إليها فيها.

هذا كلّه بالنّسبة إلى القولين الأوّلين فقد عرفت ضعفهما.

وأمّا القول الثّالث : (اشتراط وجوب المقدّمة بكونها موصلة) وهو المختار ، فقد استدلّ عليه بجهات : (١)

الجهة الاولى : أنّ الحاكم بالملازمة هو العقل ، ومن الواضح ، أنّه لا يدركها إلّا في خصوص الحصّة الموصلة الّتي تقع في سلسلة علّة وجود ذي المقدّمة ، والعقل دليل لبّى ليس له عموم أو إطلاق ، فيكتفى بالقدر المتيقن ، وهو حكمه بالملازمة ووجوب خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها.

__________________

(١) راجع ، الفصول الغروية : ص ٦٩.

٤٣٨

الجهة الثّانية : أنّه لا يأبى العقل عن تصريح الآمر الحكيم بعدم إرادة غير الموصلة ، بل الضّرورة قاضية بذلك التّصريح ، وبجوازه وحسنه ، كما أنّها قاضية بقبح التّصريح بعدم مطلوبيّة المقدّمة مطلقا ، أو على تقدير الإيصال ، فهذا دليل قاطع على اعتبار الحصّة الموصلة في وجوب المقدّمة لا مطلقا.

الجهة الثّالثة : أنّ الوجدان يشهد بأنّ الغرض في إيجاب المقدّمة ، ليس إلّا الإيصال إلى ذيها ، بحيث لولاه لما داعي لايجابها قطّ ، فيظهر من ذلك ، أنّ الوجوب يتعلّق بالحصّة الموصلة منها دون غيرها.

هذا ، ولكن أورد المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) على تلك الأمور بما لا يخلو من ضعف ؛ ونحن نكتفي بذكر إيراده على الأمر الثّالث والنّقد عليه ، والباقي لا حاجة إلى نقله والنّقد عليه.

فنقول : إنّ ايراده عليه يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّه لا يعقل كون ترتّب الواجب على المقدّمة ، غرضا داعيا إلى إيجابها ، باعثا على طلبها ؛ وذلك ، لعدم ترتّب الواجب غالبا على المقدّمات بتمامها ، فضلا عن إحداها ، نظرا إلى أنّ الواجب إلّا ما قلّ ، كالأفعال التّوليديّة ، فعل اختياري ، فتارة يختار المكلّف إتيانه بعد وجود تمام مقدّماته ، واخرى يختار عدم إتيانه كذلك ، فإذا كيف يمكن اختيار إتيانه غرضا لإيجاب المقدّمة مع عدم ترتّبه!

وفيه : أنّ المراد من الموصل هو ما يترتّب عليه الواجب ولو مع الوسائط ومنها إرادة المكلّف ، وهذا لا ضير فيه.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٨٨ الى ١٩٠.

٤٣٩

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «فالخطوط الاولى في السّير إلى غاية ـ مثلا ـ قد تكون موصلة ولو مع وسائط ، وقد لا تكون موصلة ، والواجب هو القسم الأوّل.

وأمّا ما ربّما يكرّر في كلماته من عدم اختياريّة الإرادة وكونها غير قابلة لتعلّق الأمر بها ، فقد عرفت خلافه آنفا ، كيف! والتّعبّديّات كلّها من هذا الباب ، وقد وقع القصد مورد الوجوب». (١)

ثانيهما : أنّه لو كان الواجب في المقدّمة هي الحصّة الموصلة منها ؛ للزم أن لا يسقط أمرها إلّا إذا ترتّب الواجب عليها مع ضرورة سقوطه إذا أتى بها المكلّف بلا إتيان ذيها ، وليس هذا السّقوط لأجل العصيان أو فقد الموضوع ، أو حصول الغرض ، كما هو واضح ، بل إنّما هو لأجل موافقة الخطاب ، وأنت تعلم ، أنّ هذا يكون كاشفا عن عدم اعتبار الحصّة الموصلة في متعلّق الوجوب الغيري.

وفيه : أنّ هذه مصادرة واضحة ؛ إذ سقوط الأمر بمجرّد إتيان المقدّمة بلا انتظار ترتّب ذيها عليها ، أوّل الكلام ، فإنّ القائل بالوجوب على تقدير التّرتّب لا يقول بالسّقوط ، إلّا إذا حصل التّرتّب ؛ إذ المفروض ، أنّ الأمر المقدّمي عنده لا يتعلّق إلّا بالمقدّمة الموصلة.

ثمّ إنّ المحقّق النّائينى قدس‌سره قد أورد على القول الثّالث : بأنّ مقتضاه هو لزوم الدّور أو التّسلسل.

أمّا الدّور ، ففيه تقريبان :

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٠٧. وفيه : «وقعت القصد» ولعلّه سهو أو غلط في الطبع.

٤٤٠