مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

الأدوات ، كقولنا : «زيد قائم» أو «زيد عالم» ونحوهما.

الثّاني : في معنى هيئة القضايا الحمليّة المؤوّلة ، وهي الّتي تشتمل على الأدوات كقولنا : «زيد في الدّار» أو «زيد على السّطح» ونحوهما.

أمّا الأوّل : فالحقّ فيه أنّ الهيئة إنّما وضعت للحكاية عن العينيّة والهوهويّة.

توضيح ذلك : قد تقرّر في محلّه أنّ الحمل على قسمين :

أحدهما : الحمل الأوّليّ الذّاتيّ ، وهو فيما إذا اتّحد الموضوع والمحمول في الماهيّة والمفهوم ، على تفصيل وتنقيح قرّر في محلّه.

ثانيهما : الحمل الشّائع الصّناعي ، وهو فيما إذا تغاير الموضوع والمحمول في المفهوم واتّحدا في الوجود ؛ وهذا ، إمّا يكون حملا شائعا بالذّات إذا كان الموضوع مصداقا حقيقيّا للمحمول ، نظير : «البياض أبيض» و «الحرارة حارّة» و «البرودة باردة» ونحوهما.

وإمّا يكون حملا شائعا بالعرض إذا كان الموضوع مصداقا عرضيّا للمحمول نظير : «الجسم أبيض» أو «الجسم أخضر» أو غيرهما.

وليعلم : أنّ مقتضى التّحقيق في المقام ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) : من أنّه ليس في الحمليّات الأوّليّة الذّاتيّة نسبة وربط في الخارج ، بل المحمول فيها ، إمّا هو عين الموضوع ، أو الحدّ له ، الّذي لا فرق بينه وبين الموضوع ، إلّا بالإجمال والتّفصيل ، وكذا الحال في الحمليّات الشّائعة الصّناعيّة بالذّات ؛ إذ مثل : «البياض أبيض» يرجع إلى : «البياض بياض» ، بلا ربط ونسبة في البين ، ونظيره : «الوجود موجود» أو «الله

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٨٧.

١٠١

تعالى موجود» أو «زيد ممكن» أو «شريك الباري ممتنع (١)». وكذلك حال القضايا الهليّات البسيطة قبال الهليّات المركّبة ، فلا نسبة بين موضوعاتها وهي الماهيّات ووجوداتها ، وإلّا لزم زيادة الوجود على الماهيّة في الخارج.

وبعبارة اخرى : ليس الوجود حاصلا للماهيّة ، بل عارض لها تصوّرا واتّحدا هويّة ؛ ولذا يقال : إنّ هذه القضايا كلّها مقلوبة ، فقولنا : «زيد موجود» يرجع إلى أنّ : «الوجود زيد» وهكذا.

هذا بالنّسبة إلى القضايا الخارجيّة.

وأمّا القضايا الملفوظة أو المعقولة المتألّفة من المذكورات فهي ـ أيضا ـ كالخارجيّة ، فاقدة للرّبط والنّسبة ؛ حيث إنّها حاكية عمّا في الخارج بلا زيادة ونقيصة ، فلو فرض ثبوت النّسبة فيها لصارت كاذبة وحاكية عمّا ليس في الخارج ، لانتفاء النّسبة فيه حسب الفرض.

ثمّ إنّه بقي الكلام في الحمليّات الشّائعة الصّناعيّة بالعرض مثل : «زيد أبيض» أو «زيد عالم» أو «زيد عادل» أو نحوها.

فالحقّ فيها ـ أيضا ـ أنّها خالية عن الرّبط والنّسبة ، وإنّما تدلّ هيئتها على العينيّة والهوهويّة ، سواء قلنا : بكون الذّات مأخوذة في المشتقّ وأنّه مركّب مفهوما أم قلنا : بعدم أخذها فيه ، وأنّه بسيط بحسبه ، والفرق بينه ، وبين المبدا المشهوري

__________________

(١) اعلم أنّ قضيّة : «زيد ممكن» ترجع إلى السّالبة ، فمفادها هو أنّ «زيدا» ليس بضروريّ الوجود والعدم ، وكذا : «شريك الباري ممتنع» فإنّ مفادها هو أنّ شريك الباري معدوم بالضّرورة ، وليس بممكن ، والسّرّ فيه ، هو أنّ الإمكان والامتناع أمران سلبيّان ، فتكون القضيّتان سالبتين واقعا.

١٠٢

ـ على هذا القول ـ باللّابشرطيّة ، وبشرط اللّائيّة ، فالمشتقّ لكونه اللّابشرط يتّحد مع الموضوع وتتحقّق بينهما الهوهويّة والعينيّة ؛ أمّا المبدا ، فلكونه بشرط لا ، لا يتّحد مع الموضوع ولا تتحقّق بينهما الهوهويّة والعينيّة.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل.

أمّا المورد الثّاني (معنى هيئة القضايا المؤوّلة).

فعن الإمام الرّاحل قدس‌سره : أنّ القضايا الحمليّة المؤوّلة مثل : «زيد في الدّار» أو «زيد على السّطح» أو نحوهما مشتملة على الرّبط والنّسبة ، فتدلّ كلمة : «في» أو «على» ، على نحو إضافة بين «زيد» و «دار» أو «سطح» وهيئة الجملة تدلّ على تحقّق تلك النّسبة بين الطّرفين. (١)

هذا ، ولكنّ الظّاهر أنّ هذه القضايا ـ أيضا ـ حمليّات حقيقيّة باعتبار ما يقدّر فيها من لفظ : «كائن» ونحوه ، فلا أثر من النّسبة هنا ، بل ليس في البين إلّا الاتّحاد والهوهويّة (٢) ، وإلّا فقولنا : «زيد قائم» ونحوه ـ الّذي عرفت : أنّه من الحمليّات غير المؤوّلة ـ مؤوّل إلى «زيد له القيام» فيلزم أن يكون هنا ـ أيضا ـ ربط ونسبة ، وهذا كما ترى.

نعم ، سمّيت تلك القضايا بالحمليّة المؤوّلة ، لتأوّلها إلى مثل : «زيد كائن في الدّار» أو حاصل فيها أو نحوهما ، فهي ليست بهذا الاعتبار حمليّة حقيقيّة ، بل مؤوّلة إليها.

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٨٩ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٤.

(٢) ذهب السّيّد المحقّق المجاهد ابن الإمام قدس‌سره إلى ما اخترناه خلافا لوالده قدس‌سره. راجع ، تحريرات في الاصول : ج ١ ، ص ١١٤.

١٠٣

هذا كلّه في القضايا الموجبات.

وأمّا القضايا السّوالب ، فعن الإمام الرّاحل قدس‌سره ـ أيضا ـ أنّها إذا كانت من قبيل الحمليّة غير المؤوّلة تدلّ على سلب الحمل ونفي الهوهويّة ، لا على حمل السّلب أو على حمل هو السّلب ، وإذا كانت من قبيل الحمليّة المؤوّلة ، نظير قولنا : «زيد ليس في الدّار» ونحوه ، تدلّ على عدم تحقّق النّسبة ونفي حصولها. (١)

ولكن الظّاهر ـ كما عرفت آنفا في القضايا الموجبات ـ عدم الفرق بين القضيّتين (المؤوّلة وغير المؤوّلة) ، بل في كلتيهما تدلّ الهيئة على سلب الحمل ونفي الهوهويّة.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّ الحمليّات الحقيقيّة (غير المؤوّلة) لا تشتمل على النّسبة ولا تدلّ عليها ، بل تدلّ على الهوهويّة في الموجبات ، وعلى نفيها في السّوالب.

وأمّا الحمليّات غير الحقيقيّة (المؤوّلة) فالظّاهر أنّها ـ أيضا ـ كالحمليّات الحقيقيّة ، فتدلّ على الهوهويّة في الموجبات وعلى نفيها في السّوالب خلافا للإمام الرّاحل قدس‌سره.

ومن هنا ، انقدح عدم تماميّة جملة من الامور المتسالم عليها :

منها : ما تسالموا عليه من الفرق بين الإخبار والإنشاء ، بأنّ الإخبار مشتمل على النّسبة في الخارج والذّهن ، فقد تتطابق هاتان النّسبتان ، فيكون صادقا ، وقد لا تتطابقان ، فيكون كاذبا ، بخلاف الإنشاء.

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٩٠ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٤.

١٠٤

ولكنّ الحقّ عدم النّسبة في الإخبار ، وأنّ التّطابق وعدمه يدوران مدار الهوهويّة وعدمها ، فالهوهويّة اللّفظيّة أو العقليّة ، إمّا تطابق النّفس الأمريّة ، أو لا تطابقها ، هذا هو مدار الصّدق والكذب.

ومنها : ما تسالموا عليه ، من : أنّ العلم إن كان إذعانا للنّسبة فتصديق ، وإلّا فتصوّر.

ولكنّ الحقّ أنّ التّصديق هو الإذعان بالهوهويّة في الموجبات ، وبعدمها في السّوالب ، بخلاف التّصوّر.

ومنها : ما تسالموا عليه ، من : أنّ القضيّة متقوّمة بثلاثة أجزاء :

أحدها : الموضوع.

ثانيها : المحمول.

ثالثها : النّسبة

ولكنّ الحقّ أنّ القضيّة مطلقا ، حقيقيّة كانت أو غير حقيقيّة ، تتقوّم بجزءين وهما : الموضوع والمحمول ، بلا نسبة في البين ، وقد عرفت : أنّ الهيئة لا تدلّ إلّا على الهوهويّة في الموجبات ، ونفيها في السّوالب.

ومنها : ما تسالموا عليه من : تفسير الصّدق والكذب بتطابق النّسبتين وعدمه.

ولكنّ الحقّ ، ما عرفت آنفا ، من : أنّ مدار الصّدق والكذب هو التّطابق في الهوهويّة وعدمه.

هذا كلّه في المركّبات والجمل الخبريّة التّامّة الّتي يصحّ السّكوت عليها.

وأمّا المركّبات النّاقصة والجمل غير التّامّة ـ نظير قولنا : «غلام زيد» أو : «زيد

١٠٥

العالم» ـ فالحقّ فيها ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ حكمها حكم المفردات ، فلا تحكي عن وقوع شيء ، أو لا وقوعه ، وكذا لا تحكي عن الهوهويّة ، أو نفيها ، حكاية تصديقيّة ؛ ولذا لا تتّصف بالصّدق والكذب ، وإنّما تدلّ على مجرّد الرّبط والإضافة في مثل : «غلام زيد» من دون دلالة على وقوعه وتحقّقه ، أو تدلّ على الهوهويّة التّصوّرية في مثل : «زيد العالم» من دون دلالة على ثبوتها في الخارج.

وبالجملة : إنّ الحكاية في المركّبات النّاقصة تصوّريّة محضة ، إمّا بوجه الانتساب والإضافة ، كما في الجمل المشتملة على المضاف والمضاف إليه ، الّتي لا حمل فيها ، ولا تنعقد القضيّة منها ، إلّا بتخلّل الأداة ، مثل : «غلام زيد» فيقال : «زيد له الغلام» وإمّا بوجه الهوهويّة التّصوّريّة القابلة للحمل بلا تخلّل الأداة ، مثل : «زيد العالم» فيقال : «زيد عالم». (١)

ثمّ ، إنّه ذهب سيّدنا الاستاذ العلّامة الطّباطبائي قدس‌سره إلى القول بوجود الرّابط في الحمليّات ، وقال في تقريبه ما محصّله : إنّ هناك قضايا خارجيّة تنطبق بموضوعاتها ومحمولاتها على الخارج ، مثل : «زيد قائم» و «الإنسان ضاحك» وأيضا ، مركّبات تقييديّة مأخوذة من هذه القضايا ، كقيام زيد ، وضحك الإنسان ، تجد فيها بين أطرافها نسبة وربطا ما لا تجده في الموضوع وحده ، ولا في المحمول كذلك ، ولا بين الموضوع وغير المحمول ولا بالعكس ، فهناك أمر موجود وراء الموضوع والمحمول قائم بهما غير منفصل عنهما ؛ ولذا لا وعاء لتحقّق هذا الوجود الرّابط ، إلّا وعاء طرفيه خارجا أو ذهنا ، فالنّسبة الخارجيّة تتحقّق بين الطّرفين الخارجيّين ، والذّهنيّة

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٩١ ؛ تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٥.

١٠٦

بين الذّهنيّين ، فوجود النّسبة مسانخ لوجود طرفيها ، فالعدم لا يمكن أن يصير رابطا ؛ إذ لا شيئيّة له ولا تميّز فيه ، فالقضايا الموجبة الّتي كلا طرفيها أو أحدهما العدم ، مثل : «شريك الباري معدوم» أو : «زيد معدوم» أو نحوهما ، لا عدم رابطا فيها ، وإلّا لزم قيام عدم بعدمين أو بوجود وعدم ، وقد اشير إلى أنّ العدم لا شيئيّة له ولا تميّز فيه إلّا بتعمّل شديد ، وكذا القضايا السّالبة ، فلا عدم رابطا فيها ، بل فيها سلب الرّبط ونفي الحمل. (١)

ولكن قد عرفت : أنّ مفاد الهيئات في الموجبات الحمليّة المشتملة على الحمل الشّائع الصّناعي بالعرض ، هو الاتّحاد والهوهويّة ، ومجرّد انطباق القضايا الخارجيّة بموضوعاتها ومحمولاتها على الخارج ، لا يستلزم وجود رابط بينهما.

والقول : بأنّ «البرهان على وجود النّسبة على النّحو العامّ للحقيقيّ والاعتباريّ ، فهو تعلّق العلم تارة بطرفي النّسبة والجهل بها ، وغير المعلوم ، غير المعلوم ، وصادقيّة : «زيد قائم» تارة ، وعدم صادقيّته اخرى ، مع العلم بوجود «زيد» ووجود «القيام» ، فيعلم ثبوت أمر في الصّورة الاولى ، منتف في الصّورة الثّانية». (٢)

ممنوع ؛ إذ العلم والجهل إنّما يتعلّقان بالهوهويّة ، كما أنّ الصّدق والكذب ـ أيضا ـ إنّما يكون باعتبار تطابق الهوهويّة مع نفس الأمر وعدمه.

والحاصل : أنّه ليس في القضايا الحمليّة الموجبة بأنحائها ـ من الهليّات البسيطة والمركّبة ، ومن باب حمل الشّيء على نفسه أو على غيره ، ومن الحمل الذّاتي ، أو العرضي ، ومن الحقيقيّة ، أو المؤوّلة ، أو غيرها ـ أمر آخر غير الموضوع

__________________

(١) راجع ، الأسفار الأربعة : ج ١ ، ص ٣٦٥ و ٣٦٦ ؛ ونهاية الحكمة : ص ٢٧ و ٢٨.

(٢) مباحث الاصول : ج ١ ، ص ٤٩.

١٠٧

والمحمول ، يسمّى ب «الوجود الرّابط» ، فلا تحكي القضايا إلّا عن الاتّحاد والوحدة ، من الواقعيّة العينيّة ، أو الذّهنيّة أو الاعتباريّة الادّعائيّة ، مثل : «زيد أسد» أو : «زيد شمس أو قمر».

وبعبارة اخرى : لا حاجة إلى الرّابط في تلك القضايا أصلا ؛ إذ الأعراض وجودات للجواهر ، متدلّيات مرتبطات بها تكوينا ، فلا فصل بينهما ، حتّى تحتاجا إلى الوصل ، ولا اثنينيّة ولا انفصال ، حتّى تحتاجا إلى الاتّحاد والاتّصال.

(المقام الثّامن : المعاني الإنشائيّة والإخباريّة)

هنا بحثان :

الأوّل : في معاني الجمل الإنشائيّة.

الثّاني : في معاني الجمل الإخباريّة.

أمّا الأوّل : فالمقصود من الجمل الإنشائيّة هنا ، هي الّتي تستعمل في أبواب العقود والإيقاعات ، من الإجارة والبيع والنّكاح والعتق والطّلاق ونحوها.

وأمّا الجمل الإنشائيّة المستعملة في أبواب الأوامر والنّواهي ، فيبحث عنها في تلك الأبواب ، إن شاء الله تعالى.

فنقول : الحقّ هو أنّ هيئات الجمل الإنشائيّة ـ على ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) ـ إنّما تكون آلات لإيجاد أمر من الامور الاعتباريّة قبال الإيجاد التّكويني الّتي

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٩٤.

١٠٨

تحتاج إليها البشر ، ويدور عليها رحى حياته ، فكلمة : «بعت» الإنشائيّة توجد بهيئتها ، حقيقة البيع الاعتباريّة الّتي تترتّب عليها الآثار ، وكذا كلمة : «زوّجت» الإنشائيّة ، فتوجد بها حقيقة الزّوجيّة كذلك ، كما أنّ كلمة : «تاء» فيهما تدلّ على انتساب الإيجاد والصّدور إلى المتكلّم.

أمّا الثّاني : فالحقّ فيه على ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) ـ أيضا ـ هو أنّ الجمل الإخباريّة نظير كلمة : «بعت» الإخباريّة إنّما تحكي عن هذا الإيجاد والإنشاء ، كحكاية مثل : «نصرت زيدا» و «أكلت اللحم» أو «شربت الماء» عن إيجاد أمر تكوينيّ ، فكلّ من الإيجادات الاعتباريّة والحقيقيّة معنى حرفيّ غير مستقلّ ، وهذا هو شأن جميع الهيئات في جميع أبواب العقود والإيقاعات.

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٩٥.

١٠٩
١١٠

* الأمر العاشر : وضع المجازات

* الأمر الحادي عشر : استعمال اللّفظ في اللّفظ

* الأمر الثّاني عشر : وضع الألفاظ

* الأمر الثّالث عشر : وضع المركّبات

* الأمر الرّابع عشر : تقسيم اللّفظ إلى المفرد والمركّب

* الأمر الخامس عشر : وضع الالفاظ المفردة والمركّبة

* الأمر السّادس عشر : علائم الحقيقة والمجاز

* الأمر السّابع عشر : تعارض الأحوال

* الأمر الثّامن عشر : الحقيقة الشّرعيّة

* الأمر التّاسع عشر : الصّحيح والأعمّ

* الأمر العشرون : الاشتراك

* الأمر الواحد والعشرون : استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد

* الأمر الثّاني والعشرون : المشتقّ

١١١
١١٢

(الأمر العاشر : الحقيقة والمجاز)

قبل الورود في البحث ، ينبغي ذكر نكتة وهي أنّه قد حكي عن علماء الأدب : أنّ اللّفظ المستعمل في الموضوع له حقيقة ، والمستعمل في غيره مع علاقة معتبرة وقرينة معاندة للمعنى الحقيقي بحيث لا يمكن إرادته معها ، مجاز ، وإلّا فغلط. (١)

وعليه : فاللّفظ المستعمل على ثلاثة أقسام :

أحدها : الحقيقة.

ثانيها : المجاز.

ثالثها : الغلط.

وحكي عنهم ـ أيضا ـ : أنّ المجاز على ثلاثة أقسام :

الأوّل : المجاز في الكلمة.

الثّاني : المجاز في الحذف.

الثّالث : المجاز في الإسناد.

والأوّل : أيضا ، على قسمين :

أحدهما : المجاز المرسل.

ثانيهما : الاستعارة. (٢)

__________________

(١) راجع ، مختصر المعاني : ص ١٥٢ إلى ١٥٥ ؛ وكتاب المطوّل : ص ٣٤٨ إلى ٣٥٣.

(٢) راجع ، مختصر المعاني : ص ١٥٥.

١١٣

وقد زاد المحقّقون من علماء البيان قسما آخر من الاستعمال وهو الكناية ، وعرّفوها بإرادة لازم المعنى أو ملزومه مع جواز إرادة نفس المعنى ، فالكناية ليست بحقيقة ؛ لكون الاستعمال فيها استعمالا في غير الموضوع له ، وليست بمجاز ؛ إذ لا قرينة فيها معاندة للمعنى الحقيقيّ ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا ، فنقول : اختلف علماء الأدب في وضع المجازات على أقوال ، عمدتها وهو الحقّ ما عن أبي المجد الشّيخ محمّد رضا الأصفهاني قدس‌سره : من أنّ الألفاظ في المجازات كلّها من المجاز في الكلمة ـ مطلقا مرسلا كان أو استعارة ، مفردا كان أو مركّبا ـ ومن المجاز في الحذف والإسناد ، بل في الكنايات ، إنّما تستعمل في معانيها الأصليّة الحقيقيّة من دون أن يحدث المستعمل معنى جديدا ، فيريد المستعمل في المجازات ، المعاني الحقيقيّة إرادة استعماليّة بلا زيادة ونقيصة ، إلّا أنّ هذه الإرادة غير مطابقة لإرادته الجدّيّة ؛ حيث إنّه يريد معنى آخر مجازيّا بإرادة جدّيّة بمعونة القرينة الّتي لا تعاند المعنى الحقيقيّ ـ بل تعاند الإرادة الجدّيّة ـ ولا تكون صارفة عنه ، ولا تدلّ على استعمال اللّفظ في غيره ، وكذلك الأمر في الكنايات ، فلا وجه لتثليث القسمة وجعل الكناية قسيما للمجاز والحقيقة ، ولا وجه ـ أيضا ـ لتعريف الكناية : بأنّها هو استعمال اللّفظ في غير الموضوع له مع جواز إرادته منه.

وبالجملة : ففي الحقائق إرادتان تتطابقان وهما الاستعماليّة والجدّيّة ؛ وكذلك في المجازات والكنايات ، لكن لا تتطابقان.

وبعبارة اخرى : إنّ الموضوع له في الاستعمالات المجازيّة والكنائيّة بأنحائها لا يتصرّف فيه أصلا ، بل يبقى بحاله بلا زيادة ونقيصة ، وبلا تضييق وتوسعة ، واللّفظ إنّما يستعمل فيه ، لا في غيره ، والتّصرّف إنّما يقع في موقف التّطبيق ، فيطبّق ما هو

١١٤

الموضوع له المستعمل فيه ، على غيره ؛ إمّا بادّعاء أنّ ذلك الغير مصداق له وفرد من أفراده ، كما في الكلّيّات وأسماء الأجناس ، نظير قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(١) حيث إنّ لفظ : «ملك» استعمل في معناه الحقيقي وهو الماهيّة المعهودة من الرّوحانيّين ، لكن ادّعي انطباقه على المصداق الادّعائي وهو : «يوسف عليه‌السلام» ونظير قول الشّاعر : «عادة الأقمار تسري في الدّجى ـ فرأينا اللّيل تسري في القمر» وقوله : «قامت تظلّلني ومن عجب ـ شمس تظلّلني من الشّمس».

وإمّا بادّعاء أنّ ذلك الغير عينه ، كما في أعلام الأشخاص ، نظير قولنا : «رأيت اليوم حاتما» حيث إنّ لفظ : «حاتم» استعمل في معناه الحقيقي وهو الشّخص المعروف ، ولكن ادّعي أنّ : «زيدا هو الحاتم». (٢)

واختار ذلك الإمام الرّاحل قدس‌سره أيضا. (٣)

(الأمر الحادي عشر : استعمال اللّفظ في اللّفظ)

قد عرفت في مبحث المعنى الحرفيّ : أنّ الاستعمال ليس إلّا طلب عمل اللّفظ في المعنى ، إمّا على وجه الحكاية والإخطار ، أو على وجه الإنشاء والإيجاد ، فالمستعمل هو اللّفظ ، والمستعمل فيه هو المعنى.

وأمّا الكلام هنا ففي إطلاق اللّفظ وارادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه ،

__________________

(١) سورة يوسف (١٢) : الآية (٣١).

(٢) راجع ، وقاية الأذهان ، ص ١١١ الى ١١٨.

(٣) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣١ و ٣٢.

١١٥

فالمستعمل هو اللّفظ ، والمستعمل فيه ـ أيضا ـ كذلك ، ولا بدع فيه ؛ إذ المعنى ليس إلّا ما هو المقصود من اللّفظ ، ولو كان من سنخ اللّفظ.

والحقّ في المقام ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره : من صحّة إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه ، كما إذا قيل : «ضرب» مثلا فعل ماض ، أو إرادة صنفه ، كما إذا قيل : «زيد» في «ضرب زيد» فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو إرادة مثله ، ك «ضرب» في المثال إذا قصد شخص القول (١) ، فهذه الأقسام ، لا إشكال في صحّتها ، ولو كان ، فليس بمهمّ.

وإنّما الإشكال في صحّة إطلاق اللّفظ وارادة شخصه ، كما إذا قيل : «زيد لفظ» واريد منه شخص نفسه.

محصّل الإشكال على ما أفاده صاحب الفصول قدس‌سره (٢) يرجع إلى أمرين :

أحدهما : محذور اتّحاد الدّالّ والمدلول.

ثانيهما : تركّب القضيّة من جزءين.

والأوّل : إنّما يلزم لو اعتبر دلالة اللّفظ على نفسه. والثّاني : إنّما يلزم لو لم يعتبر دلالته على نفسه ؛ حيث إنّ القضيّة الملفوظة على هذا الفرض ، إنّما تحكي عن المحمول والنّسبة بلا حكاية عن الموضوع ، فتصير ثنائيّة لا ثلاثيّة ، وأنت تعلم استحالة ثبوت النّسبة بلا وجود المنتسبين. (٣)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٩ و ٢٠.

(٢) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ١٧.

(٣) هذا يتمّ ، بناء على القول بثبوت النّسبة في القضيّة ، دون ما اخترناه من عدم تحقّق النّسبة في القضيّة ، بل مفادها هي الهوهويّة.

١١٦

وقد أجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره عن الإشكالين :

أمّا عن الأوّل ، فبكفاية التّعدّد الاعتباري فشخص لفظ واحد ، دالّ من حيث كونه صادرا عن لافظه ، ومدلول من حيث كونه بشخصه مرادا ومقصودا للافظه ، فالدّال والمدلول وإن كانا متّحدين ذاتا ، إلّا أنّهما متعدّدان اعتبارا ؛ وهذا المقدار من التّعدد كاف.

وأمّا عن الثّاني ، فبأنّ تركّب القضيّة من جزءين ، إنّما يلزم إذا لم يكن في البين موضوع أصلا ، لا نفسه وشخصه ، ولا لفظه وحاكيه ، والمفروض : أنّ الموضوع هنا موجود وهو شخص اللّفظ ، فالقضيّة ثلاثيّة نسبتها ثابتة بين المنتسبين (شخص الموضوع وما يحكي عن المحمول).

وبعبارة اخرى : لا بدّ في القضيّة من وجود الموضوع ، غاية الأمر ، تارة يكون الموضوع موجودا بشخصه ؛ واخرى بدالّه وحاكيه ، وهذا هو الغالب والمحمول فيما إذا كان الموضوع موجودا بشخصه يحمل على نفس الموضوع ، لا على الحاكي عنه.

وعليه : فالقسم الأخير (إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه) ليس من باب استعمال اللّفظ ، لا في المعنى ، كما هو واضح ، ولا في اللّفظ شخصه ، فلم يطلب من اللّفظ عمل لا حكائيّا إخطاريّا ، ولا إنشائيّا إيجاديّا ، بل يكون من باب إتيان شخص اللّفظ وجعله موضوعا.

وقد مثّل لتقريب هذا القسم استاذنا الكبير الشّيخ هاشم القزويني قدس‌سره في مجلس درسه : بما إذا حمل شخص ، جسد شخص وقال ـ مشيرا إلى الجسد ـ مات ، حيث إنّ الموضوع هنا نفس الجسد وعينه ، لا الحاكي عنه والدّالّ عليه ، فتأمّل.

١١٧

ولنعم ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره في المقام ، حيث قال ما محصّله : إنّ إطلاق اللّفظ وإرادة شخصه ليس من باب الاستعمال والدّلالة الوضعيّة ، بل إنّما هو عبارة عن إيجاد صورة الموضوع وإحداث نقشه في ذهن السّامع لينتقل منها إلى شخص الموضوع ، نظير الانتقال من صورة اللّفظ المنقوشة على القرطاس إلى شخص هذا اللّفظ ، فتكتب وتنقش بإطلاق اللّفظ وإلقاءه صورته ونقشه على لوح نفس السّامع وقرطاس قلبه ، فينتقل منها إلى شخص ذلك اللّفظ ، غاية الأمر ، عمل الكتابة على القرطاس إنّما يكون بقلم من الأقلام ، وعلى لوح النّفس وقرطاس القلب بقلم اللّسان ، فآلة إيجاد النّقش والصّورة هناك هي الأقلام وهنا هو اللّسان ، والقابل هناك هو القرطاس وهنا هو لوح النّفس الّذي هو قرطاس بمعناه العامّ ، كالصّراط والميزان وغيرهما ، فإذا ليس المقام من باب الدّلالة على نفسه ولا الاستعمال في نفسه.

ضرورة ، أنّ الحروف المتصرّمة إذا صدرت عن المتكلّم تحصل منها صورة في ذهن السّامع من قرع الهواء وتموّجه في ناحية الصّماخ حتّى يمرّ عن الحسّ المشترك والخيال ويصل إلى النّفس ، وليس الموجود فيها عين الموجود في عالم الخارج عينا وشخصا ، وإلّا لانقلب الذّهن خارجا مع أنّ الخارج أمر متصرّم سيّال منصرم لا قرار له ولا بقاء ، بخلاف ما في لوح النّفس من النّقش فهو أمر ثابت قارّ.

وحينئذ إذا حمل عليه ما يكون من خواصّ هذا اللّفظ في الخارج ـ كاللّفظيّة حيث إنّها من خواصّ ما يلقى باللّسان ـ وقامت قرينة عليه ، يتوجّه ذهنه من الصّورة المتصوّرة ، إلى اللّفظ الصّادر أوّلا.

ولك أن تقول : هنا انتقال ، كالحركة الانعطافيّة من دون إنشاء وإيجاد ،

١١٨

فينتقل السّامع من اللّفظ المسموع الخارجي إلى صورته ونقشه الموجود في لوح النّفس ، ومن صورة اللّفظ المنقوشة في النّفس ، إلى ذلك اللّفظ المسموع ، فلا استعمال ولا دلالة في البين ؛ إذ في الاستعمال يحصل الانتقال من اللّفظ إلى الصّورة ومنها إلى المعنى ، ومنه إلى الخارج أو غيره ، فلا انتقال في الاستعمال من الصّورة إلى اللّفظ.

وبعبارة اخرى : إنّ الانتقالات في الاستعمالات والدّلالات طوليّة مترتّبة ، وفيما نحن فيه دوريّة متعاكسة ، كالفكر الّذي يكون حركة إلى المبادي ومنها إلى المراد ولا مشاحّة في إطلاق الدّلالة في المقام ـ أيضا ـ لكن لا الدّلالة الوضعيّة الاصطلاحيّة ، بل بمعنى جعل اللّفظ دالّا بواسطة إيجاد كاشفه وحاكيه ، ومدلولا في الآن المتأخّر لانكشافه بذلك الكاشف الحاكي الموجود بواسطة اللّفظ.

وأمّا الدّلالة الوضعيّة ، فمستحيلة للزوم اتّحاد الدّال والمدلول.

ودفع هذا المحذور بما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من التّعدّد الاعتباري اللّحاظي مندفع بأنّ عنوان الصّادريّة وما قاربها ، إنّما ينتزع في رتبة متأخّرة عن الاستعمال ويقع بعد صدور اللّفظ ، فكيف يقع مثل هذا العنوان مصحّحا للاستعمال الواقع قبله!

على أنّ الدّلالة الوضعيّة ، مستلزمة لاجتماع اللّحاظين (الآلي والاستقلالي) وصيرورة ما «به ينظر» عين ما «فيه ينظر». (١)

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره بعد الإشارة إلى أنّ هذا القسم (إطلاق اللّفظ وارادة شخصه) ليس من باب الاستعمال ـ قال : ما هذا لفظه : «بل يمكن أن يقال : إنّه ليس ـ أيضا ـ من هذا الباب ، ما إذا اطلق اللّفظ واريد به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢ و ٣٣.

١١٩

ومصداقه حقيقة لا لفظه ، وذاك معناه كي يكون مستعملا فيه استعمال اللّفظ في المعنى فيكون اللّفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا قد احضر في ذهنه بلا وساطة حاك وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا لا لفظه ، كما لا يخفى». (١)

والمراد من قوله قدس‌سره : «قد أحضر في ذهنه» ـ حسب الظّاهر ـ هو إحضار صورته ونقشه على ما حقّق آنفا ، لا إحضار نفس الخارج ومتنه ؛ لبداهة استحالته ، كما أنّ المراد من قوله : «بلا وساطة حاك» هو أنّه لا حاكي ولا دالّ بدلالة وضعيّة ، فإذا لا يرد عليه ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من قوله : «وأمّا حمل ذلك على إلقاء الموضوع في ذهن السّامع فهو أفسد ؛ إذ الموضوع للحكم ليس إلّا الهويّة الخارجيّة ، ولا تنال النّفس متن الأعيان ولا يمكن إلقاءها في ذهن السّامع». (٢)

(الأمر الثّاني عشر : وضع الألفاظ)

قد اختار الإمام الرّاحل قدس‌سره : أنّ الألفاظ توضع لنفس معانيها من حيث هي هي ، لا من حيث كونها مرادة للافظها ، فلا دخل للإرادة في معاني الألفاظ أصلا لا لمفهومها ولا لمصداقها ولا شطرا ولا شرطا ، وهذا هو الحقّ.

والتّحقيق فيه يقتضي أن يقع الكلام ، تارة في مقام الثّبوت ، واخرى في مقام الإثبات.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٣.

١٢٠