مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

ليس إلّا واحدا وهو إعلام في خفاء ، غاية الأمر : هذا الإعلام الخاصّ يتحقّق بأنحاء وطرق عديدة ، كالإشارة والإلقاء في القلب والكلام الخفيّ.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني قدس‌سره فيما أفاده في مبحث حجيّة قول اللّغويّ ، حيث قال : «لا يكاد يحصل من قول اللّغويّ وثوق بالأوضاع ، بل لا يكون اللّغويّ من أهل خبرة ذلك ، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال ؛ بداهة ، أنّ همّه ضبط موارده لا تعيين أنّ أيّا منها كان اللّفظ فيه حقيقة أو مجازا ، وإلّا لوضعوا لذلك علامة ، وليس ذكره أوّلا علامة كون اللّفظ حقيقة فيه ؛ للانتقاض بالمشترك». (١)

نعم ، لا بأس بجعل تنصيص أهل اللّسان ، من علائم الوضع والحقيقة.

وكيف كان ، لا ثمرة عمليّة للبحث عن الحقيقة والمجاز ؛ إذ الحجّة ليس إلّا الظّهور وإحراز المراد الجدّي ، سواء كان حقيقيّا أو مجازيّا ، فالخطابات القرآنية أو الرّوائيّة إن كان لها ظهور فيتّبع ، وإلّا فمع الإجمال يؤخذ بالقدر المتيقّن لو كان ، وإلّا فيرجع إلى الاصول العمليّة.

(الأمر السّابع عشر : تعارض الأحوال)

اعلم ، أنّ اللّفظ لها أحوال مختلفة ، كالتّجوّز والاشتراك والنّقل والتّخصيص والإطلاق والإضمار.

وقد ذكروا في مقام تعارض تلك الأحوال ، وجوها لترجيح بعضها على بعض ، ولكن الحقّ ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّها ذوقيّة استحسانيّة لا اعتداد بها

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٦٧.

١٤١

إلّا إذا كانت موجبة للظّهور الّذي هو المتّبع في موقف الاستظهار ومقام استنباط الأحكام من الآيات والأخبار.

فما يقال : من ترجيح المجاز على الاشتراك ـ عند دوران الأمر بينهما ـ معلّلا بغلبته عليه ، وبأنّ باب المجاز واسع ، فهو أكثر ، وأنّ الظّن يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب إلى غير ذلك ، ليس إلّا ظنّا واستحسانا ، لا يعبأ به ولا شأن له ؛ لفقد الدّليل على اعتباره.

وأمّا خبر محمّد بن هارون الجلّاب عنه عليه‌السلام : «إذا كان الجور أغلب من الحقّ ، لم يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه» (١) فليس بصدد بيان أنّ الظّن يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب وترجيح أمر على أمر آخر عند الدّوران والتّعارض ، بل هو كان بصدد بيان أمر أخلاقيّ مقتضاه ترتيب آثار الحقّ والعدل ، لا ترتيب آثار الجور والظّلم.

وبالجملة : لا يعتمد على ما ذكر من التّرجيحات في أمثال المقام ، بل المتّبع عند العقلاء ، ليس إلّا الظّهور وأنّه هو الحجّة حتّى عند احتمال وجود القرينة أو احتمال قرينيّة الموجود ، كما أنّ الأمر كذلك لو قيل : بأنّ المتّبع ، أصالة الحقيقة.

نعم ، لو قيل : بكون المتّبع أصالة عدم القرينة ، فلا تجري إلّا عند احتمال وجودها لا عند احتمال قرينيّة الموجود ، أيضا.

وعليه : فلا أصل في البين ، يرجع إليه في تقديم أحد الأحوال ، إلّا أصالة الظّهور الّتي كانت هي مرجع سائر الاصول ، من أصالة العموم أو الإطلاق أو نحوهما.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب الوديعة ، الباب ٩ من أبواب احكام الوديعة ، الحديث ٢ ، ص ٢٣٣ و ٢٣٤.

١٤٢

«تنبيه»

إذا دار الأمر بين نقل لفظ عن معنى وعدمه ، ففيه صورتان :

الاولى : ما إذا شكّ في نقل اللّفظ من معناه الحقيقيّ.

الثّانية : ما إذا علم بالنّقل ووقوع الاستعمال ، ولكن شكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه.

أمّا الاولى ، فلا ريب في عدم اعتناء العقلاء باحتمال النّقل والشّكّ فيه ، بلا فرق في ذلك ، بين أن يكون المعنى الأوّل معلوما ، فشكّ في نقله عنه إلى غيره ـ كلفظ : «الصّلاة» فإنّه وضع لمعنى الدّعاء ، وهذا معلوم ، ولكن شكّ في نقله منه إلى معنى آخر ، كالأركان المخصوصة ـ وبين أن يكون اللّفظ ظاهرا في معنى في هذا الزّمان ، فشكّ في أنّه كذلك في عصر النّزول أو الصّدور ـ أيضا ـ كلفظ : «الصّعيد» فإنّه ظاهر في مطلق وجه الأرض في عصرنا ، لكن شكّ في أنّه هل كان كذلك في عصر نزول آية التّيمّم (١) أو كان ظاهرا في التّراب الخالص؟ فيحتمل نقله من ذلك الظّهور إلى هذا الظّهور.

وكيف كان ، في الفرضين لا يعتني العقلاء باحتمال النّقل والشّكّ فيه ما لم يجدوا فيه دليلا وجيها عليه.

ووجه عدم الاعتناء ، هو عملهم بالظّهور وبناءهم على العمل به وعدم رفع اليد عنه بمجرّد احتمال النّقل.

__________________

(١) سورة النّساء (٤) : الآية (٤٣).

١٤٣

وقد يقال : إنّ وجهه في الفرض الأوّل ، هو استصحاب عدم النّقل ، وفي الفرض الثّاني ، استصحاب بقاء ظهور اللّفظ قهقريّا ؛ حيث إنّ ظهوره متيقّن فعلا ومشكوك سابقا ، فيجرّ اليقين اللّاحق إلى زمن الشّكّ السّابق ، ولا غرو في ذلك ؛ إذ كما أنّ الاستصحاب حجّة شرعا في الأحكام والموضوعات المترتّب عليها الآثار الشّرعيّة ، كذلك يكون حجّة عرفا وعقلاء في امورهم العرفيّة ، فمع الشّكّ في النّقل ، يستصحبون عدمه ، ومع الشّكّ في الظّهور يستصحبونه قهقريّا ، فالاستصحاب العقلائي ، كالاستصحاب الشّرعي يكون حجّة ما لم يعلم خلافه.

وفيه : أنّ الاستصحاب العقلائي لا أساس له ولا يكون مجرّد اليقين بحدوث شيء ، أمارة عندهم على بقائه عند الشّكّ وقاعدة : «ما ثبت يدوم» (١) لم تثبت كلّيّتها عندهم.

نعم ، أنّهم لا يعتنون باحتمال الخلاف إذا كان ضعيفا ، لا لأجل الاستصحاب ، بل لاطمئنانهم بالبقاء ، والاستصحاب في الشّريعة أصل تعبّديّ لا أمارة ، ومقتضاه ليس إلّا ترتيب اليقين عند الشّكّ في بقاء ما هو متيقّن الحدوث سابقا ، هذا كلّه في الصّورة الاولى وهي الشّكّ في النّقل.

أمّا الصّورة الثّانية (الشّكّ في تقدّم النّقل على الاستعمال وتأخّره عنه بعد العلم بوقوعهما) فالظّاهر عدم بناء من العقلاء على العمل بأصالة عدم النّقل ، بل المتيقّن من بناءهم هو العمل بها في مورد الشّكّ في أصل النّقل ، كما عرفت في الصّورة الاولى.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٤٤٣ ؛ وجواهر الاصول : ج ١ ، ص ٢٤١.

١٤٤

وكيف كان ، لا طائل تحت هذا البحث ؛ لما أشرنا إليه مرارا ، من أنّ حجيّة الحجج تدور مدار الظّهورات وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، فالظّهور هو المتّبع يحتجّ به العقلاء ، كما يحتجّ به المولى ، ولا يعتنون بمجرّد احتمال الخلاف أصلا ، وسنشير إلى هذا البحث في ذيل مبحث الحقيقة الشّرعيّة. (١)

(الأمر الثّامن عشر : الحقيقة الشّرعيّة)

اعلم ، أنّ المراد من الحقيقة الشّرعيّة هو : أنّ ألفاظ العبادات ـ كالصّلاة والصّوم والزّكاة ونحوها ـ والمعاملات ـ كالبيع والإجارة والنّكاح ونحوها ـ إنّما هي توضع لمعانيها الموجودة في الشّريعة المقدّسة من ناحية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد اختلفت كلمات الأعلام في ثبوتها وعدمه ، والحقّ أنّها غير ثابتة ، وأنّه ليس للإسلام تأسيس ولا وضع أصلا ، بل الألفاظ عباديّة كانت أو معامليّة موضوعة لتلك المعاني قبل الإسلام والشّريعة المقدّسة ، وتشهد لما قلنا : الآيات الدّالّة على معهوديّة استعمال ألفاظ العبادات في المعاني الشّرعيّة عند الامم السّابقة ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). (٢)

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً). (٣)

__________________

(١) وهنا كلام من العلمين المحقّقين العراقي والحائري قدس‌سرهما ونقد على كلامهما من سيّدنا الأستاذ الإمام الرّاحل قدس‌سره فإن شئت ، راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٠٣ و ١٠٤ ؛ ودرر الفوائد : ج ١ ، ص ١٨ ؛ ومناهج الاصول : ج ١ ، ص ١٣٢ الى ١٣٥.

(٢) سورة البقرة (٢) : الآية ١٨٣.

(٣) سورة الحجّ (٢٢) : الآية ٢٧.

١٤٥

وحكاية عن إسماعيل عليه‌السلام : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). (١)

وحكاية عن عيسى عليه‌السلام : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا). (٢)

وحكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ). (٣)

وحكاية عن قوم شعيب عليه‌السلام : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا). (٤)

إلى غير ذلك من الآيات الّتي فيها حكاية عن الأنبياء عليهم‌السلام السّالفة.

وتشهد ـ أيضا ـ للمختار ، الآيات الدّالّة على معهوديّة استعمال ألفاظ العبادات في تلك المعاني عصر نزولها ، وهي الآيات المكّيّة ، فضلا عن المدنيّة ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى). (٥)

وقوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). (٦)

وقوله تعالى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). (٧)

وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى). (٨)

__________________

(١) سورة مريم (١٩) : الآية ٥٤ و ٥٥.

(٢) سورة مريم (١٩) : الآية ٣١.

(٣) سورة لقمان (٣١) : الآية ١٧.

(٤) سورة هود (١١) : الآية ٨٧.

(٥) سورة القيامة (٧٥) : الآية ٣١.

(٦) سورة المدّثر (٧٤) : الآية ٤٢.

(٧) سورة الأعلى (٨٧) : الآية ١٥.

(٨) سورة العلق (٩٦) : الآية ٩ و ١٠.

١٤٦

إلى غير ذلك من الآيات.

وتشهد لما ذكرنا ـ أيضا ـ روايات واردة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشتملة على استعمال الفاظ العبادات في المعاني الشّرعيّة.

نظير ما ورد عن محمّد بن علي بن الحسين قال : «قال عليه‌السلام إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اسري به أمره ربّه بخمسين صلاة فمرّ على النّبيّين ، نبيّ نبيّ ... حتّى انتهى إلى موسى بن عمران ، فقال : بأيّ شيء أمرك ربّك ، فقال : بخمسين صلاة ، فقال : اسأل ربّك التّخفيف فإنّ امّتك لا تطيق ذلك ...». (١)

ونحوه غيره من الرّوايات. (٢)

كما يستشهد على المقام بما ورد عن النّجاشي ، سأل جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقال : «ما هذا الدّين الّذي قد فارقتم فيه قومكم ... فقال له : أيّها الملك ، كنّا قوما أهل جاهليّة نعبد الأصنام ... حتّى بعث الله إلينا رسولا منّا ... فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ... وأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام ...». (٣)

فمحصّل الكلام في المقام : هو أنّ ألفاظ العبادات من الصّلاة والصّوم ونحوهما لم توضع لمعانيها الشّرعيّة من ناحية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّما هي موضوعة لتلك المعاني قبل ظهور الإسلام والشّريعة النّبويّة ، وكذلك ألفاظ المعاملات من البيع

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٥ ، ص ٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، ص ٥ إلى ١٠.

(٣) السّيرة النّبويّة : ج ١ ، ص ٣٥٩ و ٣٦٠ ؛ وفي بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٤١٥ : «وأمرنا بالصّلاة والزّكاة ... فقال النّجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم عليها‌السلام».

١٤٧

والإجارة والوقف والصّلح والرّهن والنّكاح حتّى المتعة ـ فإنّها نكاح منقطع موقّت ، وليست بماهيّة اخرى برأسها ـ والطّلاق بأقسامه ، بل الأمر في هذه الألفاظ أوضح ؛ حيث إنّها امور عرفيّة عقلائيّة ، قد أمضاها الشّارع.

وأمّا اختلاف الشّرائع في مثل الصّلاة ـ شطرا أو شرطا ـ فهو من قبيل الاختلاف في المصاديق ، لا في أصل المفاهيم والماهيّات ، وهذا نظير الاختلاف فيها حسب الشّرائط باختلاف حالات المكلّفين في شريعتنا المقدّسة إلى أن تنتهي إلى صلاة الغرقى.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا ، عدم تماميّة ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من قوله : «فالألفاظ المستعملة في الشّرائع السّابقة لم يكن المراد منها هذه المعاني الشّرعيّة». (١)

وكذا عدم تماميّة ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من قوله : «أنّ ثبوت هذه المعاني في الشّرائع السّابقة ، لا يضرّ بثبوت الحقيقة الشّرعيّة في شرعنا ؛ ضرورة ، أنّ مجرد الثّبوت هناك لا يلازم التّسمية بهذه الألفاظ الخاصّة ، وليس في المقام إلّا التّعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز ، ومن الواضح ، أنّه لا يدلّ على وجود تلك الألفاظ في الشّرائع السّابقة ، بل هو لأجل اقتضاء مقام الإفادة ، كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات والقصص القرآنيّة الّتي كانت بالسّريانيّة كما في لغة عيسى عليه‌السلام ، أو العبرانيّة ، كما في لغة موسى عليه‌السلام ، بل من المعلوم ، أنّ تلك المعاني كانت يعبّر عنها بألفاظ سريانيّة أو عبرانيّة وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصّة في شريعتنا». (٢)

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٤.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ١٣٨.

١٤٨

توضيح عدم تماميّة مقالته قدس‌سره هو أنّ المعاني الشّرعيّة ، كما أنّها ثابتة بألفاظ سريانيّة في شريعة عيسى عليه‌السلام ، أو عبرانيّة في شريعة موسى عليه‌السلام كذلك ثابتة في شريعة إبراهيم عليه‌السلام أيضا ، ورائجة في جزيرة العرب وكانت تعبّر عن تلك المعاني بهذه الألفاظ العربيّة.

ألا ترى ، أنّ ما اشير إليه من الآيات القرآنيّة كانت تقرأ للعرب الجاهلي ويراد منها هذه المعاني الشّرعيّة وهم يفهمونها منها بلا وجود أيّة قرينة حاليّة أو مقاليّة متّصلة أو منفصلة ، جليّة أو خفيّة ، بل كانت لهم ـ أيضا ـ صلاة إلّا أنّها تكون بصورة المكاء والتّصدية ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً). (١)

فهذه هي الصّلاة الّتي شرّعت في ليلة المعراج في العام العاشر من البعثة (٢) ، وقد ورد لفظها في السّور المكّيّة أكثر من ثلاثين مرّة قبل تشريعها في تلك اللّيلة. (٣)

ولقد أجاد صاحب الفصول قدس‌سره فيما أفاده في المقام حيث قال : «فالّذي يقوى عندي أنّ جملة من تلك الألفاظ قد كانت حقائق في معانيها الشّرعيّة في الشّرائع السّابقة ، كالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ». (٤)

ونظير ذلك ، ما أفاده أبو المجد الأصفهاني قدس‌سره. (٥)

__________________

(١) الأنفال (٨) : الآية ٣٤.

(٢) راجع ، السّيرة النّبويّة : ج ٢ ، ص ٤٩ و ٥٠.

(٣) راجع ، المعجم المفهرس : ص ٤١٣ و ٤١٤.

(٤) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ٣٣.

(٥) راجع وقاية الأذهان : ص ١٥٢ الى ١٥٧.

١٤٩

وكيف كان ، لا جدوى ولا ثمرة عمليّة لهذا البحث ، لما قرّر غير مرّة ، من أنّ مدار الحجيّة هو الظّهور في المراد الجدّي حقيقيّا كان أو مجازيّا أو كنائيّا ولغويّا كان أو عرفيّا أو اصطلاحيّا أو شرعيّا أو متشرعيّا.

وواضح ، أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات الواردة في الكتاب والسّنّة ، لها ظهورات في المرادات الجدّيّة بلا إناطة ثبوت الحقيقة الشّرعيّة وعدمه ، وعلى تقدير الإجمال أحيانا (١) يؤخذ بالقدر المتيقّن ، وإلّا فالمرجع هي الأدلّة الأخر أو الاصول العمليّة.

تكملة : فيها إشارة إلى مسألة أصالة النّقل

قد عرفت آنفا : أنّ مسألة الحقيقة الشّرعيّة عادمة الجدوى وفاقدة الثّمرة في العمل ، ولكن لا بأس بالإشارة إلى أنّه لو فرض ـ بعد العلم بالنّقل واستعمال اللّفظ في المعنى المنقول إليه ، والشّكّ في تقدم كلّ منهما على الآخر ، أو تأخّره عنه ـ دوران الأمر بين حمل اللّفظ الوارد في الكتاب أو السّنّة على المعنى الشّرعي أو غيره من اللّغوى أو العرفي ، فهل يمكن التّمسّك بأصالة عدم النّقل إلى زمن الاستعمال ، أو أصالة عدم الاستعمال إلى زمن النّقل ، أم لا؟ هنا صور :

الاولى : ما إذا علم تاريخ كلّ واحد من النّقل والاستعمال ، فإذا لا حاجة إلى أصالة عدم النّقل إلى زمن الاستعمال ، الّتي تقتضي حمل اللّفظ على المعنى اللّغوي ، وكذا أصالة عدم الاستعمال إلى زمن النّقل المقتضية لحمل اللّفظ على المعنى الشّرعيّ وهو واضح.

__________________

(١) قد ادّعى صاحب الوسائل قدس‌سره اشتراك لفظ : «الكراهة» في لسانهم «عليهم‌السلام» بين الكراهة الاصطلاحيّة والحرمة ، (وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، ص ١٦٨).

١٥٠

الثّانية : ما إذا جهل تاريخهما ، ولا ريب أنّه لو قلنا : بجريان كلّ واحد من الأصلين فيها لا يترتّب الأثر عليهما ؛ وذلك ، للزوم التّعارض بينهما وتساقطهما عن الاعتبار ، كما هو ظاهر ، وللزوم المثبتيّة. بتقريب : أنّ أصالة عدم تحقّق النّقل إلى زمن الاستعمال ، لازمها العقلي هو تأخّر النّقل عن الاستعمال والحمل على المعنى اللّغوي ، كما أنّ أصالة عدم تحقّق الاستعمال إلى زمن النّقل ، لازمها العقلى هو تأخّر الاستعمال عن النّقل والحمل على المعنى الشّرعيّ ، وقد قرّر في محلّه عدم حجّيّة أصل المثبت.

الثّالثة : ما إذا جهل تاريخ النّقل وعلم تاريخ الاستعمال ، والحقّ فيها عدم جريان أصالة عدم النّقل إلى زمن الاستعمال ؛ إذ لو كان المراد من هذا الأصل ، أصلا لفظيّا عقلائيّا ، فالمتيقّن من مورد جريانه هو ما إذا شكّ في أصل النّقل ، لا مع العلم به والشّكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه ، كما هو المفروض في المقام.

ولو كان المراد منه أصلا عمليّا تعبّديّا وهو الاستصحاب ، فيلزم كونه مثبتا فاقدا للحجيّة والاعتبار ، كما عرفت سابقا.

هذا ، ولكن ذهب العلّامة الحائري اليزدي قدس‌سره إلى جريانها وقال في تقريبه ، ما هذا لفظه : «بناء على أنّ خصوص هذا الأصل من الاصول العقلائية ، فيثبت به تأخّر النّقل عن الاستعمال ، ولا معارض له ؛ أمّا على عدم القول بالأصل المثبت في الطّرف الآخر ، فواضح ؛ وأمّا على القول به ، فلأنّ تاريخه معلوم بالفرض ، واحتمال أن يكون بناء العقلاء على عدم النّقل في خصوص ما جهل رأسا لا في ما علم إجمالا وشكّ في تاريخه بعيد ؛ لظهور أنّ بناءهم على هذا ، من جهة أنّ وضع السّابق عندهم حجّة ، فلا يرفعون اليد عنها ، إلّا بعد العلم بالوضع الثّاني». (١)

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٤٧.

١٥١

ونعم ، ما أجاب عنه الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «إنّ الوضع بما هو ، ليس بحجّة ، بل الظّهور حجّة ، ومع العلم بالوضع الثّاني والشّكّ في التّقدّم والتّأخّر ، لا ينعقد للكلام ظهور ، والأصل المذكور لا يوجب انعقاده». (١)

الرّابعة : ما إذا جهل تاريخ الاستعمال وعلم تاريخ النّقل ، عكس الثّالثة ، والحقّ فيها ما قال به المحقّق العراقي قدس‌سره من عدم جريان أصالة عدم الاستعمال حين النّقل كي يحكم به حمل اللّفظ على المعنى الشّرعي ؛ وذلك ، لعدم كونها أصلا عقلائيّا جاريا عند الشّكّ ـ كأصالة الحقيقة ، أو العموم ، أو الإطلاق ونحوها ـ وأنّه ليس للعقلاء بناء عمليّ على عدم الاستعمال.

هذا ، لو كان المراد من هذا الأصل هو الأصل اللّفظي ، وأمّا لو كان المراد منه هو الاستصحاب والأصل العملي ، فلا يجري ـ أيضا ـ لعدم ترتيب الأثر الشّرعي عليه ، إلّا إذا ثبت به تأخّر الاستعمال عن النّقل ، والمفروض عدم ثبوته بالأصل ، إلّا على القول بالأصل المثبت. (٢)

(الأمر التّاسع عشر : الصّحيح والأعمّ)

هنا جهات من البحث :

الاولى : أنّ ظاهر كلمات الأصحاب وعناوين بحوثهم (٣) في هذه المسألة

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٣٢.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٠٣.

(٣) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ١٤٢ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٤ ؛ درر الفوائد : ج ١ ، ص ٤٧ ؛ نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٧٢.

١٥٢

ومنهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) اختصاص البحث والنّزاع بألفاظ العبادات والمعاملات ، ولكن الحقّ ما عن السّيّد المحقّق المجاهد ابن الإمام الرّاحل قدس‌سره ، من قوله : «أنّ البحث في حدود معاني اللّغات لا يختصّ بألفاظ دون ألفاظ ، فيشترك فيه جميع أسامي الحيوانات والنّباتات والأشجار والأثمار وهكذا ...

فتحصّل : أنّ مصبّ النّزاع هنا هذا الّذي أبدعناه وتصير النّتيجة ، أنّ الصّحيحي يقول : بأنّ الموضوع له «الشّجرة» هي الكاملة المثمرة ومثلها «الصّلاة» الّتي ثمرتها «قربان كلّ تقي» (٢) و «معراج المؤمن» (٣) وناهية عن الفحشاء (٤) وسقوط الأمر وأمثال ذلك ، والأعمّى ينكر ذلك ويدّعي أنّ «الشّجرة» صادقة على القصيرة غير المثمرة المشحونة بالنّواقص والآلام ، ومثلها الصّلاة ، وغير ذلك من الألفاظ الموضوعة للأجناس والمخترعات اليوميّة ، بل للأشخاص ، كما لا يخفى». (٥)

الجهة الثّانية : أنّ مقتضى ظاهر عناوين المسألة من قولهم : أنّ الألفاظ أسام للصّحيحة أو الأعمّ منها ، أو أنّ الألفاظ موضوعة للصّحيح أو الأعمّ منه ، هو أنّ هذا البحث متفرّع على القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة ، وإلّا فلا مجال له ؛ لعدم صدق عنواني التّسمية والوضع ؛ بناء على إنكار الحقيقة الشّرعيّة.

ولكنّ الحقّ جريان البحث على جميع الأقوال ، حتّى على قول القاضي أبي بكر

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤ ، وإليك نصّ كلامه : «إنّه وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصّحيحة أو الأعمّ منها».

(٢) الفروع من الكافي : ج ٣ ، ص ٢٦٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٧٩ ، ص ٣٠٣.

(٤) سورة العنكبوت (٢٩) : الآية ٤٥.

(٥) تحريرات في الاصول ، ج ١ ، ص ١٩٥ ، ١٩٦ و ١٩٧.

١٥٣

الباقلاني : من أنّ الشّارع إنّما استعمل الألفاظ في معانيها اللّغوية والخصوصيّات الشّرعيّة ، شطرية كانت أو شرطيّة ، استفيدت من الدّوالّ الأخر. (١)

أمّا على القول بعدم النّقل والوضع ، كما هو المختار ، وكذا القول بالنّقل وثبوت حقيقة الشّرعيّة ، فجريان النّزاع واضح جدّا ، لا كلام ولا خلاف فيه.

وأمّا على القول بالتّجوّز ، وأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعمل الألفاظ في المعاني الشّرعيّة مجازا ، ثمّ صارت حقائق متشرّعيّة ، فيقال في تصوير النّزاع : إنّ الشّارع هل استعمل هذه الألفاظ مجازا في خصوص المعاني الصّحيحة أوّلا ـ فلاحظ العلاقة بينها وبين المعاني اللّغوية ـ وثانيا استعمل الألفاظ بتبعها في الفاسدة من باب سبك المجاز من المجاز ـ حتّى ينزّل كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصّحيح مع وجود القرينة الصّارفة عن المعاني الحقيقيّة وعدم قرينة خاصّة معيّنة للأعمّ ، أو لخصوص الفاسدة (٢) ـ أو استعملها في الأعمّ مجازا أوّلا ـ فلاحظ العلاقة بينه والمعاني اللّغوية ـ وثانيا استعملها في الصّحيحة بتبعه من باب سبك المجاز من المجاز ـ حتّى ينزّل كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأعمّ ، مع وجود القرينة الصّارفة عن المعاني الحقيقيّة وعدم قرينة معيّنة للصّحيحة ـ فالأصل في الاستعمالات المجازيّة من الشّارع هو الاستعمال في الصّحيح على الشّقّ الأوّل ، إلّا إذا قامت القرينة على الخلاف ، وبالعكس على الشّقّ الثّاني.

وأمّا على قول الباقلاني ، فيقال : في تصوير النّزاع ، أنّ الشّارع ـ حين ما أراد المعاني الشّرعيّة بنصب القرينة ـ هل نصب قرائن عامّة دالّة على إرادة خصوص الصّحيح ـ حتّى ينزّل كلامه عليه ، إلّا إذا قامت قرينة خاصّة معيّنة للأعم ـ أو نصبها

__________________

(١) راجع ، شرح العضدي على مختصر الاصول : ج ١ ، ص ٥١ و ٥٢.

(٢) هذا مجرّد فرض غالبا.

١٥٤

على إرادة الأعمّ كي ينزّل كلامه عليه ، إلّا إذا قامت قرينة خاصّة معيّنة للصّحيح.

وبعبارة اخرى ، يقال في تصوير النّزاع على هذا القول : هل القرينة المنصوبة من ناحية الشّارع ، لإفادة الخصوصيّات ، كانت دالّة على إرادة الصّحيح ، أو على إرادة الأعمّ؟ فعلى الأوّل ، لا مجال للتّمسّك بالإطلاق عند الشّكّ ، وعلى الثّاني ، يجوز.

هذا ، ولكن هنا تقرير آخر في تصوير النّزاع ، وهو ما ذهب إليه المحقّق العراقي قدس‌سره وقال : بإنكار جريان النّزاع على هذا القول نظرا إلى أنّه لا تترتّب ثمرة هذه المسألة على هذا التّقرير. (١)

وفيه : أنّ التّقرير الصّحيح هو الّذي قلنا آنفا ، فتترتّب الثّمرة عليه.

ثمّ إنّه يمكن أن يجعل مورد النّزاع في المسألة ، عنوانا جامعا لجميع الأقوال ، وهو أن يقال : هل الأصل في استعمالات الشّارع هو الصّحيح ، أو الأعمّ؟ ولا يخفى ، أنّ هذا العنوان ينطبق على جميع الأقوال :

أمّا على القول : بثبوت الحقيقية الشّرعيّة وعدم ثبوتها ، فواضح.

وأمّا على القول : بالمجازيّة المشهورة ، أو الحقيقة الادّعائيّة ، فيقال : هل الأصل في تطبيق المستعمل فيه على الفرد المجازي أو المصداق الادّعائي ، أو استعمال اللّفظ فيه هو الصّحيح أو الأعم؟

وأمّا على القول الباقلاني ، فيقال : هل الأصل في استعمال الشّارع للصّلاة ـ مثلا ـ مع القرينة الدّالّة على الخصوصيّات الشّرعيّة هو الصّحيح أو الأعمّ؟

الجهة الثّالثة : أنّ ظاهر قولهم : «هل الألفاظ العبادات والمعاملات موضوعة للصّحيح ، أم لا؟» يوهم أنّ معنى الصّحيحة داخل في معاني ألفاظهما وأنّها وضعت

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٠٩ و ١١٠.

١٥٥

بازاء هذا المعنى ، مع أنّ وضعها للصّحيح بالحمل الأوّلي واضح البطلان ، فلا ينبغي أن يتفوّه بأنّ الصّلاة ـ مثلا ـ معناها هو الصّحيح ، كما أنّ وضعها لما هو الصّحيح بالحمل الشّائع ـ أيضا ـ مما لا ينبغي أن يتوهّم ، كيف! وأنّ مقتضى هذا الوضع ، أنّ لفظ : «الصّلاة» موضوع لخصوص الأفراد والمصاديق الخارجيّة المتّصفة بالصّحّة وهي المتحقّقة بجميع الشّرائط والأجزاء ، مع فقد الموانع ، وهذا ، كما ترى ؛ لوضوح كونه موضوعا لإزاء الجنس والطّبيعة.

وعليه ، فالمراد من العنوان هو أنّ الألفاظ موضوعة للأجناس والماهيّات الّتي لو تحقّقت في الخارج لاتّصفت بالصّحّة ، فبناء على القول الصّحيحي تكون الماهيّات صحيحة بصحّة تعليقيّة ، بحيث لو وجدت تصير صحيحة بصحّة فعليّة ، وهذا ممّا أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره. (١)

الجهة الرّابعة : فسّر المحقّق الخراساني قدس‌سره «الصّحّة» بالتّماميّة ، فقال : «إنّ الصّحّة عند الكلّ بمعنى واحد وهو التّماميّة ، وتفسيرها بإسقاط القضاء ، كما عن الفقهاء ، أو بموافقة الشّريعة ، كما عن المتكلّمين ، أو غير ذلك ، إنّما هو بالمهمّ من لوازمها ... وهذا لا يوجب تعدّد المعنى». (٢)

واختار ذلك ـ أيضا ـ المحقّق النّائيني قدس‌سره (٣) والمحقّق العراقي قدس‌سره (٤) والسّيّد البروجردي قدس‌سره (٥).

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤٨.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥ و ٣٦.

(٣) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٤.

(٤) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٧٣.

(٥) نهاية الاصول : ص ٣٨.

١٥٦

ولكن يرد عليه : بأنّ التّمام إنّما هو في مقابل النّقص ؛ إذ التّام معناه هو الجامع لجميع الأجزاء ، والنّاقص معناه هو غير الجامع له ، فالتّمام أمر وجوديّ ، والنّقص أمر عدميّ ، وبينهما تقابل العدم والملكة ، وإنّما يطلقان في موارد الكميّات ، وعلى هذا ، كيف يمكن تفسير الصّحّة بالتّمام ، مع أنّ الصّحّة في المقام تقابل الفساد ، وهما أمران وجوديّان وبينهما تقابل التّضاد يعرضان الشّيء بلحاظ وجوده الخارجي ، لا بلحاظ المعاني والماهيّات ـ فلا يقال : المعاني الصّحيحة ، أو الفاسدة ، أو الماهيّات الصّحيحة أو الفاسدة ـ وإنّما يطلقان في موارد الكيفيّات ، فما له كيفيّة ملائمة أو يترتّب عليه أثره المطلوب المتوقّع منه يسمّى «صحيحا» ، وما له كيفيّة منافرة أو يترتّب عليه أثر غير مطلوب ممّا لا يتوقّع منه يسمّى «فاسدا».

نعم ، قد تطلق الصّحّة في مقابل المرض عند اللّغويّين ، فتكون من الكيفيّات ، وقد تطلق في مقابل العيب عندهم ، وهي بمعنى : التّماميّة ، فتكون من الكميّات ـ بناء على كون العيب هو النّقص ـ وهذا أمر آخر غير ما أراده الاصوليّون من الصّحّة.

ثمّ إنّه يظهر ـ بناء على تفسير «الصّحّة» بالتّماميّة ، و «الفساد» بالنّقص ـ أنّ إطلاق «الصّحّة» و «الفساد» على البسيط الّذي ليس له جزء ، إنّما هو باعتبار ما له من المراتب ، وإلّا يلزم أن لا يصحّ توصيف الحقائق البسيطة بالتّمام والنّقص ، لفقدان التركيب فيها ، كما أنّ إطلاقها على الماهيّات الاعتباريّة غير المتأصّلة ـ أيضا ـ باعتبار وجودها وما لها من الوحدة الاعتباريّة والهيئة الاتّصاليّة ، فكأنّها ذات مزاج ـ كالانسان ـ قد يكون معتدلا يترتّب عليه أثره المطلوب ، وقد يكون منحرفا.

وكذلك يظهر ـ بناء على المختار ، من كون الصّحّة مقابلا للفساد هو أنّ الصّحّة والفساد أمران واقعيّان لا يختلفان بحسب الاعتبار ، ولا يكونان إضافيّين.

١٥٧

وعليه ، فما عن المحقّق الخراساني (١) والنّائيني (٢) والعراقي قدس‌سرهم (٣) من كونهما أمرين اعتبارين إضافيّين ، غير تامّ.

ويظهر ـ أيضا ـ أنّ إطلاقهما على الصّلاة وغيرها من الامور الاعتباريّة ، وكذلك إطلاقهما على مثل البيع والإجارة ونحوها ، يكون بضرب من التّجوّز والعناية.

فتحصّل : أوّلا : أنّ معنى الصّحّة والفساد غير معنى التّمام والنّقص ، وأنّ التّقابل بين الأوّلين هو التّضاد ، وبين الآخرين هو العدم والملكة ، كما أنّ الأوّلين إنّما يكونان باعتبار الكيفيّة ، والآخرين باعتبار الكميّة.

نعم ، ربما يتصادقان ، فيكون شيء واحد صحيحا وتامّا أو فاسدا وناقصا.

وثانيا : أنّهما أمران واقعيّان ، لا اعتباريّان ولا إضافيّان.

وثالثا : أنّ إطلاق الصّحّة والفساد في موارد الاعتباريّات ، عباديّة كانت أو معامليّة ، إنّما يكون بضرب من التّجوّز والعناية.

الجهة الخامسة : في أنّ الشّرائط ، هل تكون كالأجزاء داخلة في محل النّزاع ، أم لا؟

قبل الورود في تحقيق ذلك ، لا بدّ من تقديم مقدّمة ، وهي : أنّ كلّ واجب مركّب من أجزاء ، كالصّلاة ، إذا لوحظ بالقياس إلى امور ، فإمّا يكون أجنبيّا عنها رأسا ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦ ، حيث قال : «ومنه ينقدح أنّ الصّحّة والفساد أمران إضافيّان ، فيختلف شيء واحد صحّة وفسادا بحسب الحالات».

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٦٠ ، حيث قال : «... إذ الصّحّة والفساد من الامور الإضافيّة».

(٣) نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٧٤ ، حيث قال : «ومن ذلك نقول ـ أيضا ـ بأنّ الصّحّة والفساد أمران إضافيّان يختلفان بحسب الأنظار والآثار».

١٥٨

بمعنى : أنّ تلك الامور لا تكون داخلة في هذا الواجب ، لا بنحو الشّطريّة ولا الشّرطيّة ، لا في نفس الواجب ، ولا في فرده وشخصه ، وإمّا لا يكون أجنبيّا عنها ، بل لها دخل فيه بنحو من الأنحاء.

أمّا الامور الأجنبيّة ، فهى على قسمين :

أحدهما : أنّها راجحة في نفسها ، كالأدعية في شهر رمضان من اللّيالي والأيّام.

ثانيهما : أنّها غير راجحة ، كنزول المطر حين الصّلاة أو الصّوم.

وأمّا الامور غير الأجنبيّة ، فهى على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما لا يكون دخيلا في الواجب شطرا أو شرطا ، لكنّه من خصوصيّات الفرد الموجبة لتحقّق المزيّة فيه ، كالجماعة ، والمسجد ، والقنوت بالنّسبة إلى الصّلاة.

الثّاني : ما له دخل في الواجب شطرا ، فيكون بنفسه متعلّقا للأمر ويكون من مقوّمات الواجب المركّب.

الثّالث : ما له دخل فيه شرطا ، بحيث يكون التّقيّد داخلا في الواجب والقيد خارجا ؛ ولذا لا بدّ أن يكون التّقيّد اختياريّا للمكلّف ، سواء كان القيد ـ أيضا ـ اختياريّا ، كالطّهارات الثّلاث ، أو غير اختياريّ ، كالقبلة والوقت ونحوهما.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّه لا خلاف ولا كلام ـ بناء على تفسير الصّحّة بالتّمام ـ في أنّ جميع الأجزاء من الرّكنيّة وغيرها داخلة في محلّ النّزاع ، فالصّحيحيّ يقول : بوضع الألفاظ لما هو الجامع لجميع الأجزاء ، والأعميّ يقول : بوضعها للأعمّ منه ومن غيره ، إنّما الكلام والخلاف في الشّرائط.

والحقّ هو كونها ـ أيضا ـ داخلة في محلّ النّزاع مطلقا ، سواء كانت مأخوذة

١٥٩

في المأمور به شرعا ، كالطّهارة الخبثيّة والحدثيّة وستر العورة واستقبال القبلة ونحوها ، أم لم تكن كذلك شرعا ـ وإن كانت ممكنة الأخذ فيه ـ وإنّما يحكم بها العقل ، كشرط عدم تعلّق النّهي بالمأمور به أو عدم ابتلاءه بالمزاحم ، أم كانت شرائط عقليّة غير ممكنة الأخذ في المأمور به عقلا ، كقصد القربة ؛ بناء على مسلك المشهور ، من أنّ أخذه في المأمور به مستلزم للدّور المحال ، على ما سيجيء الكلام فيه.

ويشهد على المدّعى كلام عدّة من الأعلام ، منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال : «إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصّحيح التّام الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط». (١)

وعليه ، فدعوى استحالة دخول الشّرائط مطلقا في حريم النّزاع وأنّه منحصر بالأجزاء فقط ، معلّلا بأنّهما طوليّان ، حيث إنّ رتبة الأجزاء هي رتبة المقتضي للأثر ، ولا محل للشّرائط في هذه المرتبة ، لكونها دخيلة في فعليّة التّأثير ـ كعدم المانع ـ لا في ماهيّة المقتضي ، فهي متأخّرة عن الأجزاء رتبة ، فلا تكون داخلة في المسمّى في عرض الأجزاء. (٢) مندفعة ، بأنّ الطّوليّة التّكوينيّة أو الاعتباريّة بين شيء وشيء ، سواء كانت بحسب الرّتبة أو بحسب الزّمان ، لا توجب محذورا في التّسمية وجعلهما تحت عنوان واحد واسم فارد.

ألا ترى ، أنّ الواجب والممكن يسمّيان باسم واحد وهو «الشّيء» أو «الموجود» أو نحوهما ، والجوهر والعرض يسمّيان ب «الممكن» وأنواع الجوهر أو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٤٠.

(٢) راجع ، نهاية الافكار : ج ١ ، ص ٧٦.

١٦٠