مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

المدخل :

* الأوّل : تكامل العلوم

* الثّاني : مبدأ علم الاصول والاجتهاد

* الثّالث : سير علم الاصول عند الشّيعة

٢١
٢٢

المدخل :

قبل الخوض في مباحث علم الاصول ، ينبغي التّنبيه على امور ثلاثة :

(الأوّل : تكامل العلوم)

لا ينبغي الارتياب في أنّ العلوم المدوّنة بجميعها ، حقيقيّة كانت ، أو اعتباريّة ، علميّة كانت ، أو عمليّة ، لم تكن من بدو تكوّنها إلّا قضايا قليلة بسيطة محدودة ، ثمّ صارت متكاملة طيّ القرون وطول الأعصار المتمادية ، فخرج شيئا فشيئا من النّقص إلى الكمال ، ومن القلّة إلى الكثرة ، كما اتّفق ذلك بالنّسبة إلى علم المنطق في عصر أرسطو ؛ حيث إنّ الشّيخ الرّئيس نقل عن المعلّم الأوّل : أنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلّا ضوابط غير مفصّلة ، وأمّا تفصيلها وإفراد كلّ قياس بشروطه ، فهو أمر قد كددنا فيه أنفسنا ... (١).

ويلحق به في ذلك ، سائر العلوم من الأدبيّة والطّب ، والاصول ، والفقه ، والرّياضيّة من الحساب والهندسة ، والنّجوم والهيئة.

__________________

(١) راجع ، الشّفاء ، المنطق ، ٤ ، ص ١١٣.

٢٣

(الثّاني : مبدأ علم الاصول والاجتهاد)

أمّا علم الاصول ، فإنّه لا يخفى على من تتّبع في الكتب المدوّنة في هذا العلم ، أنّه نشأ في القرن الثّاني من الهجرة (١) ، وأنّه كان موجودا عند فقهاء الأصحاب منذ زمن الصّادقين عليهما‌السلام ، فأوّل من صنّف علم الاصول ـ بعد ما كان المؤسّس هما الإمامين الهمامين الصّادقين عليهما‌السلام ـ هشام بن الحكم وله كتاب «الألفاظ ومباحثها» ثمّ يونس بن عبد الرّحمن مولى آل يقطين وله كتاب «اختلاف الحديث ومسائله». (٢)

وأمّا الاجتهاد ، فهو كان في العصر الأوّل وعصر الأئمّة عليهم‌السلام أمرا معروفا.

والشّاهد عليه : الرّوايات الواردة في هذا الباب :

منها : ما عن محمّد بن إدريس ، نقلا (٣) من كتاب هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا». (٤)

ومنها : ما نقل من كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الرّضا عليه‌السلام قال :

«علينا إلقاء الاصول وعليكم التّفريع». (٥)

__________________

(١) وعن بعض المحقّقين : أنّ بعض مباحث الاصول كانت في القرن الأوّل موردا للبحث والنّظر ، ولكنّه لم يخرج الاصول إلى عرصة التّدوين والتّأليف ، إلّا بعد مضيّ النّصف الأوّل من القرن الثّاني ؛ راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٧.

(٢) راجع ، تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام : ص ٣١٠.

(٣) كتاب السّرائر : ج ٣ ، ص ٥٧٥.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥١ ، ص ٤٠ و ٤١.

(٥) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٢ ، ص ٤١.

٢٤

ومنها : ما عن أحمد بن علي النّجاشي في كتاب الرّجال (١) قال : وقال له [أبان بن تغلب] أبو جعفر عليه‌السلام : «اجلس في مسجد المدينة وأفت النّاس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك». (٢) إلى غير ذلك من الرّوايات.

(الثّالث : سير علم الاصول عند الشّيعة)

نقل المحقّقون في هذا الفن : أنّ أوّل من اعتمد على علم الاصول في مقام استنباط الأحكام الشّرعيّة ، هو الشّيخ الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل قدس‌سره الّذي كان من مشايخ جعفر بن قولويه ، والشّيخ المفيد قدس‌سرهما وهو ، أيضا ، أوّل من هذّب الفقه واستعمل النّظر ونقّح البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ، وله كتاب «المتمسّك بحبل آل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في الفقه.

ثمّ تبعه في ذلك ابن الجنيد الإسكافى قدس‌سره الّذي كان من مشايخ الشّيخ المفيد قدس‌سره وله كتاب «تهذيب الشّيعة لأحكام الشّريعة».

ثمّ تبعهما تلميذهما الأكبر الشّيخ المفيد قدس‌سره وله كتاب فى الأصول مشتمل مع اختصاره على امّهات المباحث والفصول. (٣)

__________________

(١) رجال النّجاشي : ص ٧.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، كتاب القضاء ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، ص ٣١٥.

(٣) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٨ و ٩. نعم ، نقل : إنّ المفيد قدس‌سره لم يتلقّ كلّ ما قاله ابن الجنيد قدس‌سره بالقبول ، بل وكتب على ردّه ونقضه.

٢٥

ثمّ وصل الدّور إلى تلميذيه وهما السّيّد المرتضى قدس‌سره وله كتاب «الذّريعة إلى اصول الشّريعة» والشّيخ الطّائفة الطّوسي قدس‌سره وله كتاب «عدّة الاصول».

ثمّ حصلت الفترة في الاجتهاد مدّة تقرب من قرن ، وذلك ؛ لاعتماد تلامذة الشّيخ الطّوسي قدس‌سره على ما اجتهد وأفتى به وتلقّوه بالقبول ولم يجترءوا على النّقد عليه ، حتّى فتح باب النّظر والاجتهاد وسبيل النّقد والانتقاد ، سبطه وحفيده الأمجد ابن ادريس الحلّي قدس‌سره فألّف في الفقه كتابا سمّاه ب «السّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي».

وتبعه في ذلك تلامذته ثمّ تلاميذ تلامذته ، كالمحقّق الحلّي قدس‌سره ، وله كتاب «نهج الوصول إلى معرفة الاصول» وكتاب «المعارج» وابن اخته العلّامة قدس‌سره ، وله مصنّفات كثيرة في هذا العلم ، منها : «مبادي الوصول إلى علم الاصول» ومنها : «النكت البديعة في تحرير الذّريعة».

ثمّ وصل الدّور إلى زمن الشّهيد الثّاني قدس‌سره وله كتاب «تمهيد القواعد» وإلى ابنه أبي منصور جمال الدّين قدس‌سره وله كتاب «معالم الدّين في الاصول».

ثمّ حصلت الفترة في الاجتهاد ثانيا قدر قرنين (١١ و ١٢) واقتصر على البحث حول «المعالم».

ثمّ وصل دور البسط والتّفصيل حول القرن الثّالث عشر في عصر عدّة من الأعلام ، كالوحيد البهبهاني ، والميرزا الجيلاني القميّ ، والشّيخ الأنصاري قدس‌سرهم.

ثمّ وصل دور التّلخيص والتّهذيب في ابتداء القرن الرّابع عشر من جانب المحقّق الخراساني قدس‌سره ومن بعده قدس‌سرهم. (١)

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٧ ـ ١٥.

٢٦

المقدّمة :

* الأمر الأوّل : مسائل العلوم

* الأمر الثّاني : موضوع العلوم

* الأمر الثّالث : نسبة موضوع العلوم إلى موضوعات مسائلها

* الأمر الرّابع : اعتباريّة وحدة العلوم

* الأمر الخامس : مدار الوحدة والتّمايز في العلوم

* الأمر السّادس : موضوع علم الاصول

* الأمر السّابع : تعريف علم الاصول

* الأمر الثّامن : المبادي وأقسامها

٢٧
٢٨

المقدّمة :

هنا امور لا بدّ من ذكرها مقدّمة ، قبل الورود في البحث عن المسائل الاصوليّة :

(الأمر الأوّل : مسائل العلوم)

لا يخفى : أنّ العلوم ليست إلّا عدّة من قضايا متشكّلة من الموضوعات والمحمولات والنّسب ، وتسمّى تلك القضايا ب «المسائل» وهي إمّا حقيقيّة ، كما في العلوم العقليّة الفلسفيّة ، أو اعتباريّة ، كما في علمي الفقه والاصول ، أو قضايا جزئيّة ، كما في علمي التّاريخ والجغرافيا وكثير من مسائل الهيئة والعرفان.

(الأمر الثّاني : موضوع العلوم)

هنا بحثان :

الأوّل : بحث عن وجود الموضوع وهو المعبّر عنه ب «الهليّة البسيطة».

الثّاني : بحث عن ماهيته وهو المعبّر عنه ب «المائيّة الحقيقيّة».

أمّا الأوّل ، فقد التزم القوم بلزوم وجود الموضوع لكلّ علم ، واستدلّوا عليه بقاعدة «الواحد». بتقريب : أنّ كلّ علم يترتّب عليه غرض واحد ، وكلّ غرض واحد وأثر فارد ، لا بدّ أن يحصل من مؤثّر واحد ؛ إذ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، وحيث إنّ العلم ليس إلّا قضايا ذوات موضوعات ومحمولات ونسب وهي امور

٢٩

متعدّدة ، فلا بدّ من جامع ذاتيّ وحدانيّ بينها ، كي يكون هو المؤثّر في ذلك الغرض الواحد ، وهذا هو المسمّى ب «موضوع العلم».

نعم ، يؤخذ هذا الجامع من بين الموضوعات خاصّة ، دون المحمولات والنّسب ؛ لأنّ المحمولات تعدّ من عوارض الموضوعات وحالاتها ، فتكون متأخّرة عنها ، كتأخّر المعلول عن العلّة ، وكذا النّسب ، فإنّها متأخّرة عنهما.

هذا ، ولكن يرد على هذا الاستدلال ، أوّلا : بما قرّر في محلّه من : أنّ تلك «القاعدة» إنّما تجري في البسيط الحقيقي الّذي لا تركيب فيه أصلا ، لا من المادّة والصّورة ، ولا من الجنس والفصل ، ولا من الماهيّة والوجود ، ولا مجال لها في العلوم الّتي ليست إلّا قضايا متعدّدة بحيث يترتّب على كلّ قضيّة ، أثر غير ما يترتّب على الاخرى.

وثانيا : بأنّ الغرض الواحد ، ينقسم بالواحد الشّخصي ؛ والواحد النّوعي الّذي له أفراد ومصاديق ؛ والواحد العنواني الّذي ليس له أفراد ومصاديق ، بل ينطبق على أشخاص أو أنواع ، أو أجناس ، مثل «أكرم من في الصّحن» و «كلّ من في العسكر قتل» ، و «كلّ ما في البلد هدم أو هلك».

وأنت ترى ، أنّه ليس واحد منها مستدعيا لأخذ الجامع الذّاتي بين الموضوعات.

أمّا الواحد الشّخصي ، فلأنّ الغرض حينئذ يترتّب على مجموع مسائل العلم لا على كلّ واحدة منها مستقلّة ، فالمؤثّر فيه هو المجموع والكلّ بحيث يكون كلّ مسألة جزء المؤثّر والعلّة له ، لا الجميع ولا الكلّي الجامع بين الموضوعات.

أمّا الواحد النّوعي ، فلأنّه خارج عن مورد القاعدة خروجا موضوعيّا ؛

٣٠

ضرورة ، أنّها لو تمّت ، كانت ناظرة إلى خصوص الواحد الشّخصي البسيط من كلّ جهة ، ومن المعلوم : أنّا إذا فرضنا أنّ الغرض في علم الاصول واحد بوحدة نوعيّة ، بمعنى : أنّه كلّي ذو أفراد يترتّب كلّ فرد منه على كلّ واحدة من المسائل مستقلّا ، فالجامع إذا لا يكون إلّا واحدا نوعيّا يؤثّر فيه ، لا واحدا شخصيّا ، كما هو مورد القاعدة.

أمّا الواحد العنواني ، فلأنّه ـ أيضا ـ خارج عن مورد القاعدة موضوعا ؛ ضرورة ، أنّ المراد من «الواحد» فيها هو الواحد الحقيقي ، دون العنوانيّ الانتزاعي ، فلو فرضنا أنّ الغرض في الاصول واحد عنوانيّ ، كما هو كذلك في كثير من العلوم ، فالجامع لا يكون ـ حينئذ ـ إلّا واحدا عنوانيّا ، لا واحدا شخصيّا ، كما هو مورد القاعدة.

وثالثا : بأنّ العلم حين تكوّنه وتدوّنه لم يكن إلّا قضايا قليلة محدودة بسيطة مجملة ، ثمّ اتّسعت دائرته طول القرون ، فلم يكن له بدو ظهوره وتحقّقه ، موضوع معيّن ، عيّنه المدوّن المؤسّس ، واستشهد على ذلك الإمام الرّاحل قدس‌سره بعلمي الجغرافيا والفقه. (١)

ورابعا : بأنّ العلم ـ على ما عرفت آنفا ـ ليس إلّا قضايا ذوات موضوعات ومحمولات ونسب ، ولا وجود آخر له وراء تلك القضايا والمسائل حتّى يكون له

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣ ، وإليك نصّ عبارته : «وما تقدّم من علم الجغرافيا أصدق شاهد ؛ إذ العلم بأوضاع الأرض من جبالها ومياهها وبحارها وبلدانها لم يتيسّر ، إلّا بمجاهدة الرّجال ، قد قام كلّ ، على تأليف كتاب في أوضاع مملكته الخاصّة به ، حتّى تمّ العلم ، ولم يكن الهدف في هذا البحث لدى هؤلاء الرّجال ، العلم بأوضاع الأرض ، حتّى يكون البحث عن أحوال مملكته بحثا عن عوارضها ، ونظيره علم الفقه».

٣١

موضوع على حدة سوى موضوعات المسائل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ تلك المسائل والقضايا المتألّف منها العلم ، إنّما تبحث حول شيء واحد ـ ولو كان عنوانا انتزاعيّا ـ أوسع من موضوعات المسائل ؛ ولذا يسأل : أنّ العلم الكذائي عن أيّ شيء يبحث؟ وحول أيّ شيء تدور مسائله ومباحثه؟ فتأمّل.

وخامسا : بأنّ موضوع كلّ علم لا بدّ أن ينطبق على مسائله ، مع أنّه ليس كذلك في علمي الفقه والفلسفة ، أمّا علم الفقه ، فإنّ موضوعه هو فعل المكلّف ، وأنت ترى ، أنّه لا ينطبق على أكثر مسائل باب الضّمان والإرث والنّجاسات والمطهّرات ، والأحكام الوضعيّة الاخرى ، كالملكيّة والزّوجيّة والحرّية والرّقيّة.

وأمّا علم الفلسفة ، فإنّ الوجود أو الموجود الّذي جعلوه موضوعا له ، لا ينطبق على مباحث الماهيّة ، مع أنّها من أهمّ المسائل الفلسفيّة ، ولا على مباحث الأعدام والسّلوب ، حيث إنّ القضايا السّلبيّة المحصّلة فاقدة للموضوع ؛ لكونها مشتملة على سلب الرّبط ، لا ربط السّلب.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الموضوع في نفس القضيّة موجود وإن كان معدوما في الخارج.

أمّا البحث الثّاني (ماهيّة موضوع العلوم) فهو وإن كان أجنبيّا عن علم الاصول ؛ إذ المتكفّل له هو علم البرهان ومبحث القياس البرهانيّ المنتج لليقين ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إليه هنا.

فنقول : قد عرّف الموضوع : ب «أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه

٣٢

الذّاتيّة» وهذا التّعريف ممّا اشتهر بين الأصحاب (١) ، إلّا أنّه وقع الخلاف بينهم في تفسير العرض الذّاتي القريب.

ففسّره القدماء (٢) بما قرّر في محلّه ، من أنّه ما يعرض الشّيء لذاته وبلا واسطة ، أو مع واسطة داخليّة مساوية ، أو خارجيّة كذلك ، وأمّا العارض للشّيء بواسطة خارجيّة أعمّ أو أخصّ أو مباينة ، فسمّوه ب «غير الذّاتي والغريب».

وأمّا العارض للشّيء بواسطة داخليّة أعمّ ، فهو مختلف فيه بينهم.

وهنا قسمان آخران من «العرض» مسكوت عنهما في المنطق ، أحدهما : عروض الجنس للفصل ؛ ثانيهما : عروض الفصل للجنس ، حيث إنّ الجنس عرض عامّ للفصل وذاتيّ للنّوع ، والفصل عرض خاصّ للجنس وذاتيّ للنّوع.

وفسّره المحقّق الخراسانى قدس‌سره (٣) بما لا يكون له واسطة في العروض (قبال الواسطة في الثّبوت والإثبات (٤)) فالحرارة العارضة للماء بواسطة النّار عرض ذاتيّ له عنده قدس‌سره ، وعرض غريب عند القدماء ؛ لكون الواسطة خارجية مباينة.

هذا ، ولكن يرد على هذا التّعريف ، أوّلا : بأنّه متفرّع على ثبوت الموضوع للعلم ، مع أنّه قد عرفت آنفا : أنّ العلم ليس إلّا قضايا متعدّدة ، ولا وجود له ورائها ،

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٣٩ ؛ وجواهر الاصول : ج ١ ، ص ٣٥.

(٢) راجع ، مناهج الوصول إلى علم الاصول : ج ١ ، ص ٣٩.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢.

(٤) والمراد بالواسطة في العروض هي الّتي يقوم بها العرض حقيقة ، وينسب إلى ذيها مجازا ، كالسّفينة ، الواسطة لعروض الحركة على جالسها. والمراد بالواسطة في الثّبوت هي الّتي تكون علّة لثبوت العرض حقيقة لمعروضه ، كالنّار ، الواسطة لثبوت الحرارة للماء. والمراد بالواسطة في الإثبات هي الّتي يكون العلم بها علّة للعلم بالثّبوت ، كالحدّ الوسط في القياس.

٣٣

ولا موضوع له سوى موضوعات المسائل ، كما لا محمول له سوى محمولاتها ؛ وعليه ، فلا موضوع له حتّى يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة.

وثانيا : بأنّه منتقض ببعض العلوم ، كالجغرافيا والتّاريخ والهيئة والعرفان والفقه.

أمّا الثّلاثة الاولى (الجغرافيا والتّاريخ والهيئة) ، فلأنّ القضايا فيها حيث تكون قضايا جزئيّة كما عرفت ، فالنّسبة بين ما قيل : إنّه موضوع العلم فيها وبين موضوع المسائل ، نسبة الكلّ إلى أجزائه كما سيأتي بيانه ـ فحينئذ ـ ليس عوارض موضوعات مسائلها من العوارض الذّاتية لموضوع العلم ؛ ضرورة ، أنّ عارض الجزء عارض لنفس الجزء ، لا لنفس الكلّ المركّب منه ومن غيره.

وأمّا العرفان ، فلأنّ الموضوع فيه على ما عرفت آنفا ، هو عين موضوع المسألة.

وأمّا الفقه ، فلأنّ البحث فيه ليس بحثا عن الأعراض ، فضلا عن الذّاتيّة منها ؛ لوضوح أنّ الأحكام الشّرعيّة من الوجوب والحرمة وغيرهما ، امور جعليّة اعتباريّة ليست بعوارض فلسفيّة.

ولو سلّم كونها من الأعراض ، بدعوى : تعميمها وإطلاقها على مثل هذه الامور ـ أيضا ـ لم تكن أعراضا ذاتيّة لموضوعات المسائل ؛ ألا ترى ، أنّ الصّلاة لا يعرض لها الوجوب ؛ إذ هي بالنّظر إلى وجودها الخارجي ، ظرف لسقوط الأمر وانتفاء الوجوب ، لا ظرف ثبوته وعروضه ، وبالنّظر إلى وجودها الذّهني العلمي ، لا أمر لها ؛ لعدم القدرة على الامتثال بهذا الوجود ، كي تتّصف بالوجوب ، وبالنّظر إلى ماهيّتها من حيث هي ليست بمطلوبة ولا لا مطلوبة ، ولا واجبة ولا لا واجبة ، كي يقال : بعروض الوجوب لها.

٣٤

نعم ، معنى وجوبها ، هو أنّ الآمر ينظر إلى ماهيّتها ، فيرى فيها المصلحة التّامّة الملزمة ، ثمّ يأمر المكلّف بإيجادها ، فلا شيء هنا يعرض الصّلاة بذاتها.

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الالتزام بوجود الموضوع لكلّ علم ، حقيقيّا كان أو اعتباريّا ، نظريّا كان أو عمليّا ، وكذا الالتزام بلزوم كون البحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة ، ثمّ الالتزام بالاستطراد في كثير من المباحث وفي كثير من العلوم ، خال عن الوجه ويكون بلا ملزم.

(الأمر الثّالث : نسبة موضوع العلوم إلى موضوعات مسائلها)

المشهور المتسالم عليه ، هو أنّ نسبة موضوع العلوم إلى موضوعات المسائل ، كنسبة الطّبيعي إلى أفراده ، والكلّي إلى جزئيّاته. (١)

وفيه : منع واضح ؛ إذ في بعض العلوم ، تكون النّسبة بين موضوعه وموضوع مسائله من قبيل نسبة الكلّ إلى أجزائه ، كعلمي الجغرافيا والتّاريخ وأكثر مسائل الهيئة ؛ حيث إنّه قد عرفت : أنّ مسائل هذه العلوم قضايا جزئيّة ، فالموضوع لها ، لا يكون كلّيا ، بل هو الكلّ ، وموضوعات المسائل لا تكون جزئيّات له ، بل هي الأجزاء ، كما أنّ في بعض العلوم ، يكون موضوع العلم عين موضوع المسائل ، لا منطبقا عليه انطباق الكلّي على الفرد ، كعلم العرفان ، فإنّ موضوعه هو «الله تعالى» وموضوع مسائله ـ أيضا ـ هو الله تعالى ، فليس في البين كلّي وجزئيّ ، ولا كلّ ولا جزء ، بل اتّحاد وعينيّة.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢.

٣٥

نعم ، يصحّ نسبة الطّبيعي إلى أفراده في مثل العلوم العقليّة وما بحكمها من العلوم الاعتباريّة ، كالفقه واصوله ، وذلك ؛ لأنّ القضايا في تلك العلوم ، إمّا حقيقيّة ، أو كالحقيقيّة ، فإذا تلاحظ النّسبة بين موضوعاتها وموضوعات مسائلها على نحو ما ذكره المشهور ، كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّه إذا لوحظ موضوع العلم مع موضوعات مسائله ، فلا يخلو من أحد الوجوه الثّلاثة :

الأوّل : اتّحاده معها ، كما في علم العرفان.

الثّاني : اختلافهما مع كون النّسبة بينهما من قبيل نسبة الكلّي إلى جزئيّاته ، كما في العلوم العقليّة ، أو الاعتباريّة من الفقه واصوله.

الثّالث : اختلافهما ـ أيضا ـ مع كون النّسبة بينهما من قبيل نسبة الكلّ إلى أجزاءه ، كما في علم الجغرافيا والتّاريخ وأكثر مسائل الهيئة.

ومن هنا ظهر : أنّ ما ذهب إليه المشهور ، من أنّ نسبة موضوع العلوم إلى موضوعات المسائل ، نسبة الكلّي إلى أفراده ، ليس بتامّ.

(الأمر الرّابع : اعتباريّة وحدة العلوم)

اعلم : أنّ العلوم المدوّنة ، لها وحدة قطعا ، إلّا أنّ هذه الوحدة ليست حقيقيّة ، بل اعتباريّة محضة ؛ إذ الوحدة الحقيقيّة مساوقة للوجود الحقيقي ، وهو إمّا بسيط ، أو مركّب ؛ والمركّب ، إمّا يحصل من مادّة وصورة ، وجنس وفصل ، أو يحصل من ماهيّة ووجود.

٣٦

ومن المعلوم : أنّ هذا غير منطبق على العلوم المدوّنة ؛ إذ عرفت : أنّها ليست إلّا قضايا ومسائل كثيرة ، فهي كلّ ، ومركّب لا وجود له وراء تلك القضايا والمسائل ؛ غاية الأمر ، يعتبر لها الوحدة ، فتسمّى باسم واحد ، من كتاب أو رسالة ، أو غير ذلك.

وبعبارة اخرى : ليس العلم التّدويني موجودا واحدا حقيقيّا مركّبا من الأجزاء الخارجيّة الفلسفيّة ، كالمادّة والصّورة ، أو التّحليليّة المنطقيّة ، كالجنس والفصل ، أو من الأجزاء التّحليليّة التّعمليّة الفلسفيّة ، كالماهيّة والوجود ، بل إنّما هو موجود واحد اعتباريّ مركّب من الأجزاء الاعتباريّة ، كالقضايا والمسائل المتعدّدة.

(الأمر الخامس : مدار الوحدة والتّمايز في العلوم)

هنا أقوال ثلاثة :

الأوّل : أنّ مدار الوحدة والتّمايز في العلوم هو «الموضوع» وهذا ما ذهب إليه المشهور (١).

الثّاني : أنّ مدارهما هو «الغرض» وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (٢)

الثّالث : أنّ مدارهما هو نفس القضايا والمسائل ، وهذا هو الحقّ.

بتقريب : أنّ وحدة العلوم إنّما هي بتسانخ القضايا المتشتّة وتناسب بعضها مع

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٢٧.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥ وإليك نصّ كلامه : «وقد انقدح بما ذكرنا : أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض ... لا الموضوعات ولا المحمولات».

٣٧

بعض ، وهذا التّسانخ والتّناسب موجود في حاقّ ذات تلك القضايا وجوهرها ، فمسائل الفقه تكون متسانخة ، بعضها مع بعض ، وكذا الاصول والأدب والمنطق والفلسفة وغيرها من سائر العلوم ، وكذلك تمايز العلوم ، فإنّه ـ أيضا ـ باختلاف القضايا ، بعضها مع بعض ، وهذا الاختلاف والتّمايز ـ أيضا ـ موجود في نفس القضايا وحاقّ ذاتها ، بحيث تكون قضايا كلّ علم ، متميّزة بذاتها عن قضايا علم آخر.

ونتيجة ما ذكرنا : هو أنّه لا حاجة في إثبات الوحدة أو التّمايز إلى التّعليل بأمر خارج عن ذات مسائل العلوم ، بل تكفي ذاتها في حصول الوحدة والتّمايز في العلوم. هذا بالنّسبة إلى الحقّ المختار.

وأمّا كون المدار في الوحدة والتّمايز هو الموضوع ، كما ذهب إليه المشهور فضعفه واضح ؛ إذ العلوم لم يعتبر فيها الموضوع أصلا ، فضلا عن أن يجعل مدارا في وحدتها وتمايزها.

وأمّا مسلك المحقّق الخراساني قدس‌سره فهو ـ أيضا ـ ظاهر الضّعف ، وذلك ؛ لأنّ الغرض متأخّر رتبة عن المسائل ؛ إذ هو بمنزلة ثمرة العلم ، والمسائل بمنزلة شجرته ، فلا بدّ أن تكون العلوم متمايزة أو متسانخة في الرّتبة السّابقة على الأغراض ، حتّى يتحقّق تمايز الأغراض أو تسانخها ؛ ألا ترى ، أنّ الأثمار المتمايزة ، كالرّمان والتّفّاح وغيرهما ، إنّما تكون من الأشجار المتمايزة ، كما أنّ الأثمار المتسانخة تكون من الأشجار كذلك ؛ وعليه ، فالمدار في الوحدة والتّمايز هو خصوص نفس المسائل والقضايا ، فكلّ مسألة لعلم ، تغاير أو تسانخ مسألة علم آخر بذاتها.

٣٨

(الأمر السّادس : موضوع علم الاصول)

هنا أقوال ثلاثة :

أحدها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من : «أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة». (١)

وقد انقدح ممّا ذكرنا في الأمر الثّاني والثّالث ، ما فيه من الخلل والوهن ، فراجع.

ثانيها : ما نسب إلى المشهور (٢) واختاره المحقّق الجيلاني القمي قدس‌سره (٣) من : أنّه خصوص الأدلّة الأربعة من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل بما هي أدلّة.

وفيه : أوّلا : أنّه يلزم منه خروج كثير من المسائل الاصوليّة المهمّة عن دائرة علم الاصول واندراجها في مباديه ، كمباحث حجيّة الأدلّة ؛ إذ المفروض ، أنّ الموضوع هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة.

ومن المعلوم : أنّ البحث عن العوارض بحث عن مفاد «الهليّة المركّبة» أو «كان النّاقصة» ، وهو ثبوت شيء لشيء ؛ وأنت ترى ، أنّ البحث عن حجّيّة خبر الواحد ، والإجماع ، والعقل ، بل الكتاب ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، بل يكون

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٣٤.

(٣) راجع ، قوانين الاصول : ص ٩ ، حيث قال : «وأمّا موضوعه ، فهو أدلّة الفقه وهي الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل».

٣٩

بحثا عن نفس الموضوع ، وأنّ الحجيّة أو الحجّة موجودة أم لا؟ وقد قرّر في محلّه : أنّ البحث عن وجود الموضوع وأجزاءه وجزئيّاته ، المعبّر عنه ب «مفاد الهليّة البسيطة» أو «كان التّامّة» ، وهو ثبوت شيء ، إنّما هو من المبادي التّصديقيّة للعلم ، لا من مسائله ، كما أنّ تصوّر الموضوع وأجزائه وجزئيّاته من المبادي التّصوّريّة للعلم.

وثانيا : أنّ الموضوع في جملة من المباحث الاصوليّة ليس خصوص الأدلّة الأربعة ، كالبحث عن حجّيّة الظّهور مطلقا ، ولو كان لغير الأدلّة ، وعن حجّيّة خبر الثّقة مطلقا ، وعن الاوضاع ، والمعاني الحرفيّة ، والمفاهيم ، والحقائق والمجازات والمشتقّ ، وظهور صيغة الأمر ومادّته ، وصيغة النّهي ومادّته ، والمرّة والتّكرار ، والفور والتّراخي ، والعموم والخصوص ، والإطلاق والتّقييد.

فإنّ هذه البحوث ـ مع كونها هي العمدة في علم الاصول ـ بحوث كلّيّة عامّة لا اختصاص لها بالأدلّة الأربعة.

ثالثها : ما عن صاحب الفصول قدس‌سره من : أنّ موضوع علم الاصول هي ذوات الأدلّة بما هي ، لا بما أنّها أدلّة (١) ، فالموضوع هو نفس الكتاب ، لا الكتاب بما هو حجّة وهكذا السّنّة والإجماع والعقل.

وفيه : أنّه وإن كان سالما عن الإشكال الأوّل المتقدّم ، حيث إنّه لا يلزم منه خروج مباحث حجّيّة الأدلّة عن المسائل الاصوليّة ؛ إذ البحث عنها يكون بحثا عن عوارضها ، إلّا أنّ الإشكال الثّاني وارد عليه ، ولا دافع له.

ثمّ إنّه قد اورد على القولين الأخيرين (قول المشهور وقول صاحب الفصول)

__________________

(١) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ٩.

٤٠