مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

بها مصلحة النّظام العامّ ، ومع هذا كلّه ، لم يجعل طريقا خاصّا لتشخيص تلك العقود الواقعيّة ، فنستكشف من جميع ذلك ، أنّه قد وكّل أمر تشخيصها إلى نظر العرف العامّ ، فما يراه عقدا صحيحا يكون هو العقد الصّحيح في الواقع ، إلّا ما ردع الشّارع عنه ونبّه على خطاء العرف فيه ، وعند عدم الرّدع نستكشف ثوابه ووصوله إلى الواقع ، فنأخذ به». (١)

هذا التّقريب وإن كان في غاية الجودة والمتانة ، إلّا أنّه لا يخفى عليك ، أنّه لا يصل الدّور إلى الإطلاق المقامي مع وجود الإطلاق اللّفظي. هذا كلّه في المورد الأوّل.

أمّا المورد الثّاني : فالحقّ فيه ، ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره محصّله : أنّه لو كانت المعاملات أسام للأسباب من العقود والإيقاعات ، فللنّزاع فيها مجال ؛ بأن يقال : هل هي أسام للصّحيحة منها أو للأعمّ؟ إذ العقود حيث تكون مركّبة من أجزاء ، كالايجاب والقبول ، ومشتملة على قيود وشروط ، كصدورها من المميّز أو البالغ الرّشيد والسّلطان على التّصرف والعالم بعوضين ونحوها ، تتّصف بالصّحّة ، كما أنّها تتّصف بالفساد عند فقد بعض تلك الأجزاء والشّروط.

وأمّا لو كانت أسام للمسبّبات ، كتمليك العين بعوض ، أو مبادلة مال بمال في البيع ، وكتمليك المنفعة بعوض في الإجارة ، فلا مجال لجريان النّزاع فيها ؛ حيث إنّ أمرها دائر بين الوجود والعدم ، ففي ظرف وجود الأسباب التّامّة توجد المسبّبات ، وفي ظرف عدمها لا توجد. (٢)

__________________

(١) كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٤١.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٤٩.

١٨١

والظّاهر أنّ أسماء المعاملات ، أسام للمسبّبات لا للأسباب ، فالبيع ـ مثلا ـ اسم للمبادلة ، أو لتمليك العين بعوض ، وأمّا العقد القولي أو الفعلي ، فهو ليس ببيع ، بل سبب له ، وكذا الإجارة وغيرها ، وهذا هو المتبادر عرفا والمنسبق إلى الأذهان عند الإطلاق وأنّه ممّا يساعده ارتكاز المتشرّعة ، فإذا قيل : باع فلان داره أو آجرها ، أو وقفها ، أو وهبها ، أو غير ذلك ، فالمتفاهم من هذه العناوين عرفا هو المسبّب ، لا العقد والسّبب.

وعلى هذا ، تعريف البيع بالإيجاب والقبول المخصوصين ، تعريف لعقد البيع وسببه ، لا لنفسه ، وإلّا فالبيع هو التّمليك أو التّبديل لا غير.

ونتيجة ما استظهرناه هو عدم جريان النّزاع في المعاملات ، كما هو واضح.

لا يقال : إنّ خروج المعاملات حينئذ عن مورد النّزاع ، ينافي مع ما قالوا في محلّه : من جريان أصالة الصّحّة عند الشّكّ في صحّة المعاملة ، وفسادها من ناحية الشّكّ في بعض ما اعتبر فيها ، حيث إنّ مقتضى جريانها فيها هو كون المعاملات قابلة للصّحّة والفساد ، كما لا يخفى.

لأنّه يقال : إنّ أصالة الصّحّة تجري في خصوص أسباب المعاملات ، لا في نفسها ، ففي عقد البيع ـ مثلا ـ الّذي هو فعل العاقد الصّادر منه باختياره تجري أصالة الصّحّة ، باعتبار أنّ المسبّب المترتّب عليه يكون من لوازم صحّة العقد وآثار تماميّته في عالم الاعتبار ، وقد عرفت : أنّ العقد والسّبب قابل للاتّصاف بالصّحّة والفساد.

وأمّا نفس البيع ، فلا تجري فيه تلك القاعدة ؛ لعدم كونه من أفعال العاقد ، بل هو من آثاره ، والقاعدة إنّما تجري في فعل المكلّف.

١٨٢

(الأمر العشرون : الاشتراك)

اعلم أنّ الاشتراك على قسمين :

أحدهما : لفظي.

ثانيهما : معنوي.

والمبحوث عنه هنا هو الأوّل ، والمقصود منه : أنّ اللّفظ الواحد كان موضوعا لمعنيين ، أو أكثر مع تعدّد الوضع على نحو الاستقلال.

والبحث عنه إنّما هو من جهة إمكانه وعدمه ، ففيه أقوال ثلاثة :

الأوّل : إمكان الاشتراك اللّفظي.

الثّاني : امتناعه.

الثّالث : وجوبه.

أمّا الأوّل : فقد ذهب إليه الأكثر (١) ، واستدلّوا عليه بأنّ أدلّ الدّليل على إمكان شيء ، وقوعه ووجوده ، وهذا هو الحقّ.

ولاريب : أنّه وقع الاشتراك في كلمات الفصحاء والبلغاء ، ولا مجال لإنكاره ، نظير لفظ : «القرء» الّذي هو مشترك بين الحيض والطّهر ، ولفظ : «الجون» المشترك بين الأبيض والأسود ، ولفظة : «العين» المشتركة بين الذّهب والفضّة والباكية والجارية والميزان والرّكبة وغيرها.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٢ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٧٧ ؛ وكتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٤٤ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥١.

١٨٣

أمّا القول الثّاني : فقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ المقصود من الوضع هو التّفهّم ، ولا يخفى ، أنّ الاشتراك مخلّ به ؛ لخفاء القرائن ، فيكون مخلّا بالحكمة.

ولكن يمكن الجواب عنه ، أوّلا : بمنع الإخلال بالتّفهّم ؛ لإمكان الاتّكال على القرائن الواضحة الجليّة الخالية عن الخفاء.

وثانيا : بمنع كون الخفاء والإجمال مخلّا بالحكمة ؛ إذ ربما يتعلّق غرض المتكلّم بالإجمال.

ثانيهما : ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره فقال : «وأمّا ما نراه من أنّ حقيقة الوضع : التّعهّد والالتزام النّفسانيّ ، فلا يمكن الاشتراك بالمعنى المشهور وهو تعدّد الوضع على نحو الاستقلال في اللّفظ الواحد.

والوجه في ذلك ، هو أنّ معنى التّعهّد ، كما عرفت : عبارة عن تعهّد الواضع في نفسه ، بأنّه متى ما تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلّا تفهيم معنى خاصّ ، ومن المعلوم ، أنّه لا يجتمع مع تعهّده ثانيا بأنّه متى ما تكلّم بذلك اللّفظ الخاصّ لا يقصد إلّا تفهيم معنى آخر يباين الأوّل ؛ ضرورة ، أنّ معنى ذلك ليس إلّا النّقض بما تعهّده أوّلا». (١)

وفيه : أوّلا : أنّ الوضع ليس بمعنى التّعهّد ، بل معناه : تخصيص اللّفظ بالمعنى وتعيينه بإزائه ، على ما مرّ في مبحث الوضع.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فالمناقضة بين المعنى الثّاني والأوّل وعدم كونهما

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٢١٣.

١٨٤

مجتمعا في التّعهّد ، ممنوعة ؛ ضرورة ، أنّ المناقضة إنّما تلزم لو كان التّعهّد الأوّل «بشرط لا» ، بخلاف ما إذا كان «لا بشرط» كما هو الحقّ ؛ إذ لا دليل على كون معنى التّعهّد هو الانحصار والبشرط اللّائيّة ، كيف! وأنّه لا مانع عقلا عن تعهّدات عديدة بالنّسبة إلى لفظ واحد من الواضع الواحد ، كما في الأعلام الشّخصيّة المشتركة ، فإذا لا يلزم نقض التّعهّد الثّاني للأوّل ، وهكذا حال الثّاني والثّالث.

وثالثا : لو سلّم لزوم النّقض ، فهو إنّما يتمّ لو كان الاشتراك من ناحية واضع واحد ، وأمّا إذا كان من الواضعين ، فلا يلزم فيه محذور النّقض ؛ إذ عرفت : أنّه لا مانع عقلا عن تعهّدات متشتّتة بالنّسبة إلى لفظ واحد من الواضع الواحد ، فضلا عن الواضعين.

وأمّا القول الثّالث : فقد استدلّ عليه ، بأنّ المعاني غير متناهية والألفاظ المركّبة متناهية ، فلا بدّ من الاشتراك فيها حتّى لا يبقى معنى بلا لفظ دالّ عليه. (١)

ولكن أجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره عنه بوجوه أربعة :

الأوّل : لو سلّم عدم تناهي المعاني كان مقتضاه امتناع الاشتراك في الألفاظ ، لا وجوبه ؛ إذ الاشتراك حينئذ يستلزم أوضاعا كثيرة غير متناهية.

ومن المعلوم : أنّ صدورها من الواضع الممكن الّذي هو المتناهي ، سواء كان متعدّدا أو واحدا ، محال.

وعليه : لا إمكان للوضع ، فضلا عن الوجوب.

الثّاني : لو سلّم إمكان الوضع في الفرض بأن كان الواضع هو الواجب الّذي

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٣.

١٨٥

هو غير متناه ، إلّا أنّ الوضع ليس مطلوبا نفسيّا ، وإنّما هو لأجل إظهار الغرض والحاجة ، فيصير الوضع بإزاء المعاني غير المتناهية لغوا ؛ لكونه زائدا على مقدار حاجة البشر ، والمفروض أنّه هو المحتاج المستعمل ، لا الله تعالى.

الثّالث : أنّ غير المتناهي هو المعنى الجزئي ، وأمّا الكليّات من الجواهر والأعراض والمادّيّات والمجرّدات ، وغيرها ، فهي كالألفاظ متناهية ، فيوضع اللّفظ بإزاء الكليّات.

الرّابع : أنّ المحذور المذكور إنّما يلزم ، لو كان اللّفظ موضوعا بإزاء جميع المعاني ، وكان استعماله فيها على وجه الحقيقة ، وإلّا فباب المجاز واسع ، فلا منع من كون اللّفظ مستعملا في معنى واحد على وجه الحقيقة ، وفي غيره من المعاني الأخر على وجه المجاز. (١)

هذا ، ولكن هذه الأجوبة وإن لا تخلو عن المتانة ، إلّا أنّ المستفاد من كلامه قدس‌سره هو أنّه سلّم تناهي الألفاظ ، وهذا غير صحيح ؛ وذلك ، لأنّ موادّ الألفاظ وإن كانت متناهية بالغة إلى الثّمانية والعشرين حرفا ، إلّا أنّ الألفاظ والهيئات الحاصلة منها غير متناهية ، وعليه ، فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ المعاني كما أنّها غير متناهية ، فكذلك الألفاظ ، فلا حاجة إلى القول بلزوم الاشتراك.

وكيف كان ، لا ريب : أنّ الاشتراك واقع في لغات العرب ، والكتاب والسّنة ، نظير كلمة : «النّون» المشتركة بين الدّوات والحوت و : «النّجم» المشتركة بين النّبات والكوكب ، و : «الجون» و : «القرء» و : «العين» و : «ما» الموصولة والنافية وهمزة النداء والاستفهام وغير ذلك.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٣ و ٥٤.

١٨٦

وتوهّم استحالة استعمال المشترك في القرآن ، لأجل لزوم التّطويل بلا طائل ، مع الاتّكال على القرائن ، ولزوم الإجمال في المقال مع عدم الاتّكال عليها ، مندفع ، بأنّ الاتّكال على القرائن الحاليّة ليس بتطويل ، وعلى المقاليّة لأغراض أخر ليس بلا طائل ، والإجمال قد يكون مطلوبا ، ألا ترى ، أنّه وردت فيه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وآيات متشابهات وهى تكون مجملة. (١)

(الأمر الواحد والعشرون : استعمال اللّفظ في أكثر

من معنى واحد)

يقع الكلام هنا في جهتين :

الاولى : في أنّه ، هل يمكن استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، أو ، لا؟

الثّانية : هل وقع هذا الاستعمال في المحاورات ، أم ، لا؟

أمّا الاولى : فقد اختلفت كلمات الأعلام فيها ، فعن جمع امتناعه عقلا (٢) ، وعن بعض امتناعه لغة ووضعا (٣) ، وعن عدّة اخرى إمكانه عقلا ولغة. (٤)

وقبل التّحقيق في ذلك ، لا بدّ من بيان محلّ النّزاع في المقام ، فنقول : يستفاد من

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٣.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٤ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥١ ؛ ومقالات الاصول : ج ١ ، ص ٤٨ ؛ وكتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٤٨.

(٣) قوانين الاصول : ص ٦٧.

(٤) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٤ ؛ ودرر الفوائد : ج ١ ، ص ٥٥ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٨٠.

١٨٧

كلام صاحب المعالم قدس‌سره (١) وكذا المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) أنّ النّزاع إنّما هو فيما إذا استعمل لفظ واحد ـ سواء كان مفردا أو مثنّى أو جمعا ـ في معنيين مستقلّين ، بلا فرق بين المعنى الحقيقي أو المجازي ، أو الكنائي ، على وجه يحسب الاستعمال الواحد بمنزلة الاستعمالين ، ويراد كلّ واحد من المعنيين مستقلّا ، فيخرج حينئذ عن مورد النّزاع ما إذا استعمل اللّفظ الواحد في مجموع المعنيين بنحو العموم المجموعي ، أو استعمل في معنى واحد منطبق على كلّ واحد من المعنيين على سبيل العموم البدلي ، أو استعمل في معنى واحد عامّ على وجه العموم الاستيعابي ، وهذا هو الواضح.

والإنصاف : أنّ هذا البيان ، في تحرير محلّ النّزاع ، تامّ.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ جواز الاستعمال عقلا ، وكذا لغة ووضعا ، بمعنى : عدم كون الاستعمال المفروض غلطا حسب الوضع اللّغوي وموازين المحاورة العربيّة.

ويظهر وجه ذلك ممّا نذكره في ردّ ما استدلّ على القول بالامتناع عقلا ولغة.

أمّا القول بالامتناع العقليّ ، فقد استدلّ عليه بوجوه :

منها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من : «أنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللّفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه ، كأنّه الملقى ؛ ولذا يسري إليه قبحه وحسنه ، كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللّفظ كذلك ، إلّا

__________________

(١) راجع ، معالم الدّين : ص ٣١.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٤ ، حيث قال : «إنّه قد اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال ، بأن يراد منه كلّ واحد ، كما إذا لم يستعمل إلّا فيه».

١٨٨

لمعنى واحد ... وبالجملة ، لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين ، إلّا أن يكون اللّاحظ أحول العينين». (١)

وفيه : أنّ مقولة الفناء والإفناء غير مقولة الاستعمال ؛ إذ الاستعمال هو جعل اللّفظ آلة لإفادة المعنى ، فلا مانع من أن يحضر المتكلّم معاني متعدّدة ويرتّبها وينظّمها ثمّ يعبّر عنها بألفاظ ، أو بلفظ واحد ، وكذا لا مانع من أن يسمع لفظا واحدا ويحضر هو في نفسه ، ثمّ ينتقل منه إلى أكثر من معنى ، بعد الفراغ عن علمه بوضعه للمعاني الكثيرة ، أو للمعنيين.

ولنعم ما قال ، الإمام الرّاحل قدس‌سره في المقام ، وإليك نصّ كلامه : «ألا ترى ، أنّ قوى النّفس ، كالباصرة والسّامعة آلات لإدراكاتها وتدرك بها المبصرات وقد تبصر الشّيئين وتسمع الصّوتين في عرض واحد ، ولا يلزم منه أن يكون للآلة حضوران لدى النّفس؟!». (٢)

ومنها : ما عن المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من : «أنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللّفظ ، حيث إنّ وجود اللّفظ في الخارج ، وجود لطبيعيّ اللّفظ بالذّات ، ووجود لطبيعيّ المعنى بالجعل والمواضعة والتّنزيل ، لا بالذّات ... وحيث إنّ الموجود الخارجي بالذّات واحد ، فلا مجال لأن يقال : بأن وجود اللّفظ وجود لهذا المعنى خارجا ووجود آخر لمعنى آخر ، حيث لا وجود آخر كى ينسب إلى الآخر بالتّنزيل». (٣)

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٤ و ٥٥.

(٢) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٨٣.

(٣) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٨٨.

١٨٩

وفيه : أنّ المراد من كون اللّفظ وجودا للمعنى ، هو أنّه موضوع له ومجعول بإزائه ، فلا مانع من وضعه بإزاء معنيين ، ولا يلزم حينئذ صيرورته موجودين ، كما لا يخفى.

ومنها : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من : «أنّ الاستعمال ... ليس إلّا ايجاد المعنى في الخارج وإلقاءه في العين ، والملحوظ أوّلا وبالذّات هو المعنى ، واللّفظ ملحوظ بتبعه ، فلازم الاستعمال في المعنيين تعلّق اللّحاظ الاستعمالي في آن واحد بمعنيين ، ولازمه الجمع بين اللّحاظين في آن واحد وهو ممتنع عقلا». (١)

وفيه : أنّ الحكم بثبوت شيء أو عدمه ـ على وجه الهليّة البسيطة ، ومفاد «كان» أو «ليس» التّامتين ـ أو ثبوت شيء لشيء ، أو سلب شيء عن شيء ـ على وجه الهليّة المركّبة ومفاد «كان» أو «ليس» النّاقصتين ـ أجلى شاهد على أنّ النّفس العاقلة تقدر على الجمع بين اللّحاظين ؛ حيث إنّ الحكم المذكور يستدعي لحاظ كلّ من المحكوم عليه وبه والنّسبة بينهما في آن واحد.

ومنها : ما عن المحقّق المشكيني قدس‌سره محصّله : أنّ حقيقة الاستعمال جعل اللّفظ قالبا للمعنى وفانيا فيه بحيث إذا ألقي ، فكأنّه ألقى نفس المعنى ، فلا مجال حينئذ لجعله قالبا لمعنى آخر ، وإلّا لزم أن يكون شيء واحد شيئين. (٢)

وفيه : أن الاستعمال ـ على ما عرفت آنفا ـ ليس إلّا جعل اللّفظ آلة لإفادة المعنى وما به ينظر إليه ، ولا دليل على امتناع جعله كذلك بالنّسبة إلى أكثر من معنى

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥١.

(٢) راجع ، حاشية كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٤.

١٩٠

واحد ، وهذا هو المراد ظاهرا من التّعبير عن اللّفظ بالقالبيّة ، أو المرآتيّة ، أو الفناء ، أو الوجه ، أو العنوان ، أو غير ذلك.

هذا بالنّسبة إلى الاستدلال على القول بالامتناع عقلا.

وأمّا القول بالامتناع لغة ووضعا ، فقد استدلّ عليه : بأنّ الواضع إنّما وضع اللّفظ للمعنى حال كونه منفردا واحدا ، فلا يجوز استعماله فيه حال كونه مجتمعا مع معنى آخر ، لا حقيقة ولا مجازا. (١)

وفيه : أنّ حال الانفراد والوحدة لا يكون جزء المعنى ، فلم يوضع اللّفظ للمعنى بقيد الانفراد وبشرط الوحدة ، ولم يشترط الواضع عدم وجود معنى آخر معه ، حتّى يقال : بعدم جواز الاستعمال في المعنيين.

فتحصّل : من جميع ما ذكرنا ، أنّه لا مانع من استعمال اللّفظ الواحد في المعنيين أو أكثر عقلا ، ولا لغة ووضعا ؛ وذلك ، لما عرفت : من أنّ الوجوه المذكورة لإثبات القول بالامتناع العقلي أو اللّغوي غير تامّ.

ثمّ إنّه لا فرق في جواز الاستعمال ، في اكثر من معنى بين أن يكون الجميع حقيقيّا أو بعضه حقيقيّا وبعضه مجازيّا.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى (إمكان استعمال اللّفظ في أكثر من معنى).

وأمّا الجهة الثّانية (وقوع تلك الاستعمال في المحاورات).

فقد ذهب أبو المجد العلّامة محمد رضا الأصفهاني قدس‌سره إلى أنّه واقع ، حيث قال : «واعلم ، أنّ أقوى أدلّة الإمكان وأسدّها ، الوقوع ، وهذا النّحو من الاستعمال واقع

__________________

(١) راجع ، قوانين الاصول : ص ٦٧ و ٦٨.

١٩١

كثيرا وهو في كثير من المواقع حسن جيّد جدّا ، قال : فانظر إلى قول القائل في مدح النّبي الأكرم والحبيب الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

المرتمى في دجى ، والمبتلى بعمى

والمشتكى ظمأ ، والمبتغى دينا

يأتون سدّته من كلّ ناحية

ويستفيدون من نعمائه عينا

تراه قد استعمل لفظ : «العين» في معان أربعة (الشّمس والعين الباكية ، والعين الجارية ، والذّهب) يوضّحها البيت الأوّل». (١)

وهذا هو الحقّ المختار.

وذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى عدم وقوعه وقال ما هذا لفظه : «وهم ودفع ، لعلّك تتوهّم أنّ الأخبار الدّالّة على أنّ للقرآن بطونا سبعة أو سبعين ، تدلّ على وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، فضلا عن جوازه ، ولكنّك غفلت عن أنّه لا دلالة لها أصلا ، على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللّفظ ، فلعلّها كانت بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى ، لا من اللّفظ ، كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللّفظ وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها». (٢)

وفيه : أنّ إرادة المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى من دون أن تكون معاني لألفاظ القرآن وبلا دلالة لها عليها بالمطابقة ، أو التّضمّن ، أو الالتزام أيّة عظمة للقرآن؟ وكيف يكون للقرآن لأجلها فضيلة على المحاورات الأخر لإمكان إرادتها

__________________

(١) وقاية الأذهان : ص ٨٧.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٧.

١٩٢

حال استعمال الألفاظ الأخر ، بل حال التّكلّم بالمهملات ، أيضا.

وكيف تكون تلك المعاني بطونا للقرآن ومعاني لألفاظه!

نعم ، لعلّ المراد من البطون ـ كما أشار قدس‌سره إليه ـ هو لوازم معناه أو ملزوماته الّتي لا تصل إليها أفهامنا القاصرة وأفكارنا الفاترة ، إلّا ببيان وتفسير من العترة الطّاهرة عليهم‌السلام.

ولقد أجاد السّيّد البروجردي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ المراد بها عبارة عن المعاني المختلفة والمراتب المتفاوتة الّتي تستفاد من الآيات بحسب اختلافات مراتب النّاس ودرجاتهم ، فإنّ أرباب النّفوس الكاملة يستفيدون من الآيات الشّريفة ما لا يخطر ببال المتوسّطين ، فضلا عن العوام وأرباب النّفوس النّاقصة ، فالبطون السّبعة أو السّبعون إشارة إلى اصول المراتب الكماليّة لنفوس البشر الّتي باختلافها يختلف مراتب الاستفادة من الآيات القرآنيّة». (١)

وممّا يشهد على ما ذكره قدس‌سره هو قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها)(٢) حيث فسرّت هذه الآية بوجوه وتفاسير مختلفة ، وكذا قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...)(٣) حتّى قال الحكيم صدر المتألّهين قدس‌سره : بأنّها إشارة إلى مراتب العقل الهيولاني وبالملكة وبالفعل ، والعقل بالمستفاد. (٤)

__________________

(١) نهاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٦.

(٢) سورة الرّعد (١٣) : الآية ١٧.

(٣) سورة النّور (٢٤) : الآية ٣٤.

(٤) راجع ، تفسير آية النّور : ص ١٤٣ ، ١٤٤ و ١٦٠.

١٩٣

(الأمر الثّاني والعشرون : المشتقّ)

لا كلام ولإشكال في أنّ إطلاق المشتقّ على المتلبّس بالمبدإ في الحال حقيقيّ ، كما لا إشكال في أنّ إطلاقه على من يتلبّس به بعد ، مجازيّ.

إنّما الكلام والإشكال في إطلاقه على من انقضى عنه المبدا ، فهل هو مجاز أو حقيقة؟

وقبل الورود في تحقيق ذلك ، ينبغي التّنبيه على امور :

الأوّل : أنّ الظّاهر هو كون هذه المسألة لغويّة ، قرّرت لتعيين ما وضع له المشتقّ ، وأنّه هل هو خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال أو الأعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدا؟ بعد الاتّفاق على المجازيّة فيمن يتلبّس ، فيبحث هنا عن الحقيقة والمجاز الّذين كانا من شئون الاستعمال ، وهذا ممّا أشار إليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره. (١)

وقد ذهب الشّيخ محمد هادي الطّهراني قدس‌سره (٢) إلى أنّ المسألة عقليّة وقال في تقريبها ، ما محصّله : أنّه لا خلاف في مفهوم المشتقّ ومعناه ، وإنّما الخلاف في الحمل ، فالقائل بعدم صحّة إطلاق المشتقّ على المنقضى عنه المبدا يرى وحدة سنخ الحمل في المشتقّات والجوامد ، فكما لا يصحّ إطلاق الماء ـ مثلا ـ على الهواء بعد ما كان ماء وزالت عنه صورته المائيّة ـ بسبب أنّ معنى الانتزاعي تابع لمنشا انتزاعه ويدور مداره حدوثا وبقاء ، والمنشأ لا وجود له بعد الانقضاء ـ كذلك لا يصحّ إطلاق

__________________

(١) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٩٥.

(٢) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٩٥.

١٩٤

المشتقّ على من زال عنه المبدا بعد ما كان متلبّسا به.

والقائل بصحّة الإطلاق يرى التّفاوت بين الحمل في الجوامد وبينه في المشتقّات ، بكونه في الجوامد من قبيل حمل «هو هو» فلا يصحّ أن يقال : للهواء «أنّه ماء» وبكونه في المشتقّات من قبيل حمل «ذي هو» وحمل انتساب واشتقاق ، فيكفي هنا مجرّد الخروج من العدم إلى الوجود ولو في زمان ، بمعنى : أنّه يكفي مجرّد الحدوث ولا يشترط البقاء ، وعليه ، فيصحّ الحمل على المتلبّس وعلى من انقضى عنه المبدا.

وفيه : أنّ الأمر لو كان كما ذكره قدس‌سره لزم اندراج المسألة في المسائل الحقيقيّة العقليّة ، فيلزم حينئذ طرح النّزاع بوجه آخر وهو هل يقع الفاقد للمبدا في الحال مصداقا للواجد بالفعل حسب الواقع وحاقّ العين باعتبار أنّه كان واجدا له سابقا ، أم لا؟

وأنت ترى ، أنّ هذا النّزع ممّا لا مجال له ؛ إذ الصّدق وعدمه بحسب الواقع واقتضاء العقل إنّما يدوران مدار الاتّصاف بالمبدإ والواجديّة له وعدمهما ، فلا صدق حقيقة على الفاقد للمبدا حتّى يختاره القائل بالأعمّ.

نعم ، لو كانت المسألة لغويّة ، كما قلنا : فللنّزاع حينئذ مجال ؛ إذ الواضع كما يكون مختارا في أصل الوضع وتعيين الموضوع له وتعيين اللّفظ الموضوع ، كذلك يكون مختارا في تعيين حدود الموضوع له ، فله أن يضع اللّفظ لخصوص المتلبّس أو الأعمّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ حمل «الماء» على «الهواء» ، أو حمل مثل «العالم» على من زال عنه المبدا ، كلاهما من باب حمل المواطاة وحمل «هو هو» ، وأمّا حمل الاشتقاق وحمل «ذو هو» ، فهو حمل الأعراض ، كالعدل والسّواد والبياض ونحوها على

١٩٥

موضوعاتها ، كما قرّر في محلّه. (١)

الأمر الثّاني : أنّه لا بدّ من تحرير محلّ النّزاع وتبيين المراد من المشتقّ في المقام.

فنقول : إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره قد حرّر محل النّزاع وقال ، ما هذا لفظه : «إنّ المراد بالمشتقّ هاهنا ، ليس مطلق المشتقّات ، بل خصوص ما يجري منها على الذّوات ممّا يكون مفهومه منتزعا من الذّات بملاحظة اتّصافها بالمبدإ واتّحادها معه بنحو من الاتّحاد ، كان بنحو الحلول ، أو الانتزاع ، أو الصّدور ، والإيجاد ...».

ثمّ قال بعد ذلك : «أنّ من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النّزاع ؛ لكونها غير جارية على الذّوات». (٢)

ولكنّ التّحقيق في ذلك ، يقتضي تقديم مقدّمة وهي : أنّ العنوان الجاري على الذّات على قسمين :

أحدهما : ما يكون كذلك بلا وساطة شيء ، وهذا هو المسمّى بالمحمول من صميمه ، ويسمّى بالذّاتي في باب البرهان ، ومعناه : ما ينتزع من نفس ذات الشّيء بلا حاجة إلى ضمّ ضميمة ، سواء كان ذاتيّا إيساغوجيّا أم لا ، بل كان عرضيّا ، وهذا القسم قد ينطبق على الخارج انطباق الكلّي على مصداقه الذّاتي ، كانطباق الأجناس والأنواع والفصول على مصاديقها ، وقد ينطبق عليه انطباق العنوان على المعنون ، لا انطباق الكلّي على مصداقه الذّاتي ، كانطباق الموجود على الوجودات الخارجيّة.

__________________

(١) راجع ، شرح المنظومة : ص ١١٣ ، حيث قال : «وبالمواطاة والاشتقاق فه ـ وذلك الهوهو وذا ذو هو سمه» ؛ وراجع ، الإشارات والتّنبيهات : ج ١ ، ص ٣١.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٥٨ و ٦١.

١٩٦

وبعبارة اخرى : المحمول من صميمه الّذي ينتزع عن حاق الذّات بلا دخل شيء في انتزاعه ، تارة يكون الخارج المنطبق عليه ، مصداقا ذاتيّا له ؛ واخرى يكون كالمصداق الذّاتي له.

ثانيهما : ما لا يكون العنوان الجاري على الذّات منتزعا عن حاقّها ، بل ينتزع منها باعتبار العناوين العارضة وفي الرّتبة المتأخّرة عن حاقّ الذّات ، سواء كانت تلك العناوين ملازمة لمعنوناتها غير مفارقة عنها ، أو كانت مفارقة بأن تكون موجودة في بعض أزمنة وجود المعنونات.

وإن شئت ، فقل : إنّ العناوين الجارية على الذّات ، تنتزع منها باعتبار انضمام شيء إليها وتلبّسها به وجوديّا كان ذلك الشّيء ، أم عدميّا (١) ، والوجودي : حقيقيّا كان أو انتزاعيّا أو اعتباريّا ـ لا وجود له إلّا في عالم الاعتبار وعند العقلاء ـ فهذه كلّها تسمّى بالمحمولات بالضّميمة.

وهذا القسم ، قد يكون مشتقّا (٢) ، كالعالم والعادل ونحوهما ، وقد يكون جامدا (٣) ، كالملكيّة والرّقيّة ونحوهما من الامور الاعتباريّة الاجتماعيّة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل وهو العناوين غير الاشتقاقيّة المنتزعة عن حاقّ الذّات بلا دخل شيء في هذا الانتزاع أصلا ـ سواء كان ذاتيّا في باب إيساغوجي ، أم ذاتيّا في

__________________

(١) كالإمكان ، بمعنى : سلب الضّرورتين التّحصيلي ، لا تساوي الطّرفين ، وكالعمى في الأعمى والاميّة في الاميّ ونحوها.

(٢) والمراد من المشتقّ هنا : ما كان لكلّ واحد من مادّته وهيئته وضع خاصّ مستقلّ.

(٣) والمراد من الجامد هنا : ما كان لمجموع من مادّته وهيئته وضع واحد.

١٩٧

باب البرهان ـ كالإنسان والحجر والماء ونحوها ، فالحقّ أنّها خارجة عن حريم النّزاع.

وهذا ممّا اتّفق عليه الأصحاب ولا كلام فيه (١) ، إنّما الكلام في وجه الخروج ، فقال المحقّق النّائيني قدس‌سره في وجهه ، ما هذا لفظه : «أنّ شيئيّة الشّيء بصورته لا بمادّته ، فإذا فرضنا تبدّل الإنسان بالتّراب ، فما هو ملاك الإنسانيّة هي الصّورة النّوعيّة وقد زالت ، وأمّا المادّة المشتركة الباقية الّتي هي القوّة الصّرفة لإفاضة الصّور ، فهي غير متّصفة بالإنسانيّة في حال من الأحوال ... وهذا بخلاف المشتقّات العرضيّة ، كضارب مثلا ، فإنّه محمول على نفس الذّات وهو المتّصف بالضّرب ، فإذا انتفى عنه الضّرب ، فقد بقي ذات المتّصف حقيقة وإن زال الاتّصاف». (٢)

وفيه : أوّلا : أنّ البحث ـ على ما عرفت آنفا ـ لغويّ لفظيّ ، لا فلسفيّ عقلي ، فإذا لا مانع من أن يضع الواضع لفظ الإنسان ـ مثلا ـ للأعمّ ، مع أنّ زمام الوضع كان بيده.

وثانيا : أنّ زوال المبدا في الفرض لا يوجب زوال الصّورة النّوعيّة مطلقا ، بل تبقى بعد زواله في بعض الموارد ، كمورد تبدّل الخمر خلّا ، فهذان لا يكونان حقيقتين مختلفتين بالفصل ، بل إنّما يتفارقان في الآثار والأعراض ـ كما هو الحال في الماء والجمد ، فإنّهما مختلفان ، لا ذاتا وجوهرا ، بل بالتّخلخل والتّكاثف.

وثالثا : أنّ النّزاع لو كان عقليّا لم يعقل أن يصدق المشتقّ على من انقضى عنه

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٨٩ ؛ وفوائد الاصول : ج ١ ، ص ٨٣ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥٣.

(٢) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥٣.

١٩٨

المبدا ، كما أشرنا إليه سابقا.

فما في كلامه قدس‌سره ليس وجه الخروج ، بل وجهه أنّ ـ مثل ـ الإنسان لا يطلق عرفا إلّا على المتلبّس بالإنسانيّة ، وأمّا المنقضى عنه هذا العنوان فصار ترابا أو ملحا أو غير ذلك ، فلا يطلق عليه الإنسان بلا كلام.

أمّا القسم الثّاني وهو العناوين المنتزعة عن الذّات باعتبار تلبّسها بأمر وجوديّ ، سواء كان حقيقيّا ، أو انتزاعيّا أو اعتباريّا ، أو بأمر عدمي ، فهي داخلة في محلّ النّزاع وإن لم تكن من المشتقّات الذّاتيّة ، بل تكون من الجوامد ، كالملكيّة والحرّيّة والرّقيّة والزّوجيّة ونحوها ، فضلا عن أن تكون من المشتقّات ، كالعالم والعادل ونحوهما.

والشّاهد على أنّ تلك العناوين داخلة في محلّ النّزاع حتّى في فرض كونها جامدة ، ما عن فخر المحقّقين قدس‌سره في مسألة : من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة ، حيث قال : «تحرم المرضعة الاولى والصّغيرة مع الدّخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع ، وأمّا المرضعة الأخيرة ، ففي تحريمها خلاف ، واختار والدي المصنّف وابن إدريس تحريمها ؛ لأنّ هذه يصدق عليها أنّها أمّ زوجته ، لأنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء معنى المشتقّ منه ، فكذا هنا». (١)

وما عن الشّهيد الثّاني قدس‌سره ، حيث قال : «لا إشكال في تحريم المرضعة الاولى مطلقا ؛ لأنّها صارت أمّ زوجته وتحريمها غير مشروط بشيء ... وبقى الكلام في تحريم الثّانية من الكبيرتين ، فقد قيل : إنّها لا تحرم ... لخروج الصّغيرة عن الزّوجيّة إلى البنتيّة

__________________

(١) إيضاح الفوائد : ج ٣ ، ص ٥٢.

١٩٩

وأمّ البنت غير محرّمة على أبيها ، خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق الاشتقاق ، كما هو رأي جمع من الاصوليين». (١)

فأنت ترى ، أنّ كلام هذين العلمين صريح في أنّ تحريم المرضعة الثّانية في فرض المسألة مبتن على أنّ عنوان الزّوجيّة مع كونها جامدة داخل في محلّ النّزاع ، فبناء على أنّ المشتقّ موضوع للأعمّ يصدق على المرضعة الثّانية عنوان «أمّ الزّوجة» باعتبار أنّ المرتضعة كانت زوجة ، فتحرم ، وبناء على أنّ المشتقّ موضوع لخصوص المتلبّس بالمبدإ لا يصدق عليها هذا العنوان ، فلا تحرم.

ثمّ ، إنّ التّحقيق في الحكم بحرمة المرتضعة الصّغيرة ، وكذا حرمة المرضعة الاولى والثّانية ، يقتضي التّكلّم في الفرعين :

الأوّل : من كانت له زوجتان : إحداهما كبيرة ، ثانيتهما : صغيرة ، فأرضعت الكبيرة ، الصّغيرة ، فلا شبهة إذا على تقدير الدّخول بالكبيرة ، تحرم الصّغيرة المرتضعة ، إمّا لكونها بنتا له ـ لو كان اللّبن منه ـ أو لكونها بنت الزّوجة المدخول بها ، فيصدق عليها عنوان الرّبيبة ، لو كان اللّبن من غيره.

وأمّا الكبيرة المرضعة ، فالحقّ فيها عدم الحرمة ، ويظهر لك وجهه من تضعيف القول بالحرمة ، حيث إنّه استدلّ عليه بوجوه ستّة ، كلّها مردودة.

الأوّل : صدق أمّ الزّوجة على المرضعة الكبيرة ، وهي من العناوين المحرّمة.

وفيه : أنّ المشتقّ (الزّوجة) لا يصدق حقيقة إلّا على المتلبّس بالمبدإ ، ومن المعلوم ، أنّ زمان تحقّق الرّضاع النّاشر للحرمة هو عين زمان زوال زوجيّة الصّغيرة ،

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ١ ، ص ٣٧٩.

٢٠٠