مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

تحقيق الحال يقتضي التّكلّم في مقامين :

الأوّل : في معنى الحروف الإخطاريّة الّتي لها واقع قد يطابقه وقد لا يطابقه.

الثّاني : في معنى الحروف الإيجاديّة الّتي توجد معانيها حال التّكلّم بها وبنفس استعمالها بلا واقع لها حتّى تقع المطابقة أو لا ، كحروف النداء والتّنبيه والتّحضيض والتّأكيد والقسم والرّدع.

أمّا المقام الأوّل ، فقبل الورود فيه ينبغي تقديم مقدّمة حتّى تتبيّن حقيقة الحال ويتّضح فساد ما قيل ، أو يمكن أن يقال في هذا المجال : وهي أنّ الموجود ـ مع قطع النّظر عن الوضع والدّلالة ـ إمّا واجب ، له وجود محض بسيط خال عن التّركيب بأنحائه حتّى عن الماهيّة والوجود وهو الله تعالى ، أو ممكن زوج تركيبيّ له ماهيّة ووجود.

والممكن على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أنّه تامّ الماهيّة والوجود ، ـ كالجوهر ـ حيث إنّه باعتبار الماهيّة ، يعقل ويتصوّر بحياله واستقلاله بلا احتياج إلى توسيط شيء ، فله وجود علمي مستقلّ ، وإنّه باعتبار الوجود يحصل ويتحقّق في نشأة الخارج مستقلّا ، بلا احتياج إلى الموضوع ـ وإن احتاج إلى المادّة ، كالصّورة ، أو إلى المتعلّق ، كالنّفس ـ فله وجود عينيّ مستقلّ ، وبعبارة اخرى : هذا القسم من الموجود الإمكانى هو موجود «في نفسه» و «لنفسه» و «بغيره» ومعنى كونه «في نفسه» هو أنّه ذو ماهيّة معقولة مستقلّة ، ومعنى كونه «لنفسه» هو أنّه ذو وجود مستقلّ غير محتاج إلى الموضوع ، ومعنى كونه «بغيره» هو أنّه ممكن محتاج إلى المؤثّر.

الثّاني : أنّه تامّ الماهيّة فقط ـ كالأعراض ـ فيعقل ويتصوّر في نشأة الذّهن و

٨١

حوزة الإدراك بحياله واستقلاله ، بلا احتياج إلى توسيط شيء ؛ ولكن لا يوجد في نشأة الخارج وصفحة العين ، إلّا تبعا وتطفّلا ومندكّا في غيره.

وبعبارة اخرى : هذا القسم من الموجود الإمكانى هو موجود «في نفسه» و «لغيره» و «بغيره».

ومعنى كونه «في نفسه» هو أنّه ذو ماهيّة معقولة مستقلّة ؛ فيشترك العرض والجوهر في هذه الجهة.

ومعنى كونه «لغيره» هو أنّه ذو وجود رابطيّ تبعيّ اندكاكيّ ، لا يشغل العين وصفحة الوجود ، إلّا بتبع الموضوع ؛ وأمّا صفحة الذّهن فيشغلها مستقلّا ويكون في هذا الموقف «ما فيه ينظر» ومعنى اسميّا ؛ ولذا يحكم عليه وبه ويوصف بالكلّيّة والجزئيّة والعموم والخصوص.

ومعنى كونه «بغيره» هو أنّه ممكن محتاج إلى المؤثّر.

الثّالث : أنّه غير تامّ الماهيّة والوجود ـ كالنّسب والإضافات ـ فلا يعقل هذا القسم ولا يتصوّر في الذّهن ، وكذا لا يوجد في الخارج إلّا تبعا ، فلا استقلال له ، لا بحسب المفهوم والماهيّة ، ولا بحسب الوجود والهويّة.

وبعبارة اخرى : هذا القسم من الموجود الإمكاني هو موجود «لا في نفسه» و «لغيره» و «بغيره».

ومعنى كونه «لا في نفسه» هو أنّه ذو ماهيّة له مستقلّا ، كما أنّ معنى كونه «لغيره» هو أنّه لا وجود له مستقلّا ولا حصول له في النشأتين (الذّهن والخارج) إلّا تبعا للطّرفين.

ومعنى كونه «بغيره» هو أنّه قائم بالطّرفين.

٨٢

إذا عرفت تلك المقدّمة ، فاعلم ، أنّا كما نحتاج في موقف الإفادة والاستفادة إلى ألفاظ تدلّ على المعاني الجوهريّة أو العرضيّة ، كذلك نحتاج إلى ألفاظ تدلّ على النّسب والإضافات والوجودات الرّابطة الّتي لا استقلال لها أصلا ، لا في الهويّة ولا في الماهيّة ، وهذه الألفاظ هي الحروف ، فمعنى الحروف الإخطاريّة ربط محض بين الجواهر والأعراض في جميع النّشئات ، وهي نشأة العقل والعين واللّفظ والكتابة.

غاية الأمر : نفس المعنى الحرفيّ ربط عقليّ بين الجواهر والأعراض في القضايا المعقولة ، وخارج معناه ومطابقه الموجود في الخارج ، ربط خارجيّ بينهما في القضايا الخارجيّة ، ولفظ الحرف ربط لفظيّ بينهما في القضايا اللّفظيّة ، ومكتوب الحرف ربط كتبيّ بينهما في القضايا الكتبيّة.

وبالجملة : ففي مثل قولنا : «زيد في الدّار» لا يتحقّق الارتباط بين «زيد» و «الدّار» إلّا بالوجود الرّابط الّذي تدلّ عليه لفظة : «في» وهو المسمّى : «بالحرف» بحيث لو لا هذا الحرف بقيت المعاني منفردة.

وهذا الرّبط ، إمّا عقليّ ، كما إذا كان الارتباط بين كلمتي : «زيد» و «الدّار» ـ مثلا ـ بلحاظ صورتهما المعقولة ، أو خارجيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما الخارجيّ ، أو لفظيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما اللّفظيّ أو كتبيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما الكتبيّ.

إن قلت : كيف توضع الحروف لمعانيها ، مع عدم إمكان استحضار تلك المعاني في الذّهن ؛ لما عرفت ، من عدم تماميّتها ماهيّة وهويّة ، وواضح ، أنّه لا بدّ في الوضع من معرفة المعنى الموضوع له وتصوّره حتّى يوضع اللّفظ بإزائه.

قلت : الأمر كذلك ، إلّا أنّ العقل يحتال هنا بوجه لطيف ، وهو أنّه حيث يرى :

٨٣

أنّ النّسب والرّوابط المحضة لا ماهيّة لها ، وتكون فاقدة للجامع الذّاتي الحاكي عنها ، ينتزع جامعا عنوانيّا لها حاكيا عنها بنحو من الحكاية ، ففي مثل كلمة : «من» و : «إلى» ينتزع العقل عنواني الابتداء والانتهاء الرّابطين الآليّين (١) ، فيتصوّر الواضع معناهما (من وإلى) بمعونة هذين العنوانين إجمالا ويضعهما بإزاء ذلك المعنى.

وبالجملة : استحضار معاني الحروف لا يتأتّى إلّا بمعونة العناوين الاسميّة الانتزاعيّة وهو الجامع العنوانيّ ؛ إذ لا جامع ذاتيّ لها ، لما مرّ ، من أنّها ليست إلّا روابط محضة وإضافات موجودة بوجود الطّرفين.

ولقد أجاد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «وأمّا النّسب والرّوابط الصّرفة ، فوجوداتها أضعف جميع مراتب الوجود ؛ حيث لا يمكن وجودها لا في الخارج ولا في الذّهن من حيث هي هي مع قطع النّظر عن الطّرفين ، فلذا لا تندرج تحت مقولة من المقولات ، لأنّ المقولة لا بدّ من أن تكون طبيعة محمولة.

إذا عرفت ما حقّقناه في حقيقة المعنى الحرفيّ ، تعرف أنّه لا يعقل الوضع لها من حيث هي هي إلّا بتوسّط العناوين الاسميّة ، كالابتداء الآلي ونحوها ... وإن كان الموضوع له غير الملحوظ حال الوضع بأن كان الملحوظ ما هو ابتداء آلي بالحمل الأوّلي ، والموضوع له ما هو ابتداء نسبي بالحمل الشّائع ، فلا محالة يكون نسبة الموضوع له إلى الملحوظ حال الوضع ، نسبة الأخصّ إلى الأعمّ ، وسرّه ، أنّ أنحاء النّسب ليس لها جامع ذاتيّ ، بل جامع عنوانيّ وهذا شأن كلّ أمر تعلّقي في حدّ ذاته». (٢)

__________________

(١) هذا بالنّسبة إلى الحمل الأوّلي ، وأمّا بالنّسبة إلى الحمل الشّائع الصّناعي فهما استقلاليّان.

(٢) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٢٦ ؛ وأفاد الإمام الرّاحل قدس‌سره هذه المقالة ـ أيضا ـ بتقرير آخر لطيف ، وإن شئت ؛ فراجع تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢١.

٨٤

هذا كلّه في المقام الأوّل (معنى الحروف الإخطاريّة).

وأمّا المقام الثّاني (معنى الحروف الإيجاديّة) فربما يتوهّم استعمال تلك الحروف في المعنى الكلّي ك «ياء النّداء» في «يا أيّها النّاس» وأمثاله ، بتقريب ، إنّ «ياء» استعملت في طبيعيّ النّداء الجامع بين كلّ واحد من أفراده ، القائم بالمنادي «بالكسر» والمنادى «بالفتح».

وفيه : أوّلا : أنّ «ياء النّداء» من الحروف الّتي يوجد بها المعنى ، والجامع الكلّي ممّا لا يوجد في الخارج ، فلا مناص إذا من الالتزام بأنّ معناها شخص جزئي.

وثانيا : أنّ النّداء معنى شخصيّ جزئيّ قائم بالمنادي «بالكسر» وهو شخص واحد ، فكيف يكون كلّيّا!

نعم ، قد يكون المنادى كثيرا ، وهذا غير استعمال حرف النّداء في الكلّيّ المنطبق على الكثير ، نظير الإشارة باليد أو الحاجب أو نحوهما إلى أشخاص كثيرين ، فإنّ الإشارة أمر واحد شخصيّ ، لكنّ المشار إليه كثير ، وكذا نظير قولنا : «كلّ رجل في الدّار» حيث إنّ لفظة : «في» لم تستعمل في المعنى الكلّي وهو الظّرفيّة ، بل استعملت في فرد منها ينحلّ إلى الأفراد بعدد ما يدخل عليه لفظ : «كلّ» ، وواضح ، أنّ الانحلال إلى الكثير غير الاستعمال في الكلّي المنطبق على الكثير ، ونظير قولنا : «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّ لفظتي : «من» و : «إلى» أيضا ، لم تستعملا في المعنى الكلّي وهو الابتدائيّة والانتهائيّة ، بل استعملتا في فرد منهما ينحلّ إلى الأفراد ، والانحلال إلى الكثير ، غير الاستعمال في الكلّي المنطبق على الكثير.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «والتّحقيق ، أن يقال : إنّ تلك الحروف لمّا كانت تابعة للأسماء في التّحقّق الخارجيّ ، والذّهني وفي

٨٥

أصل الدّلالة على معانيها ، كانت تابعة لها في كيفيّة الدّلالة ، أي : الدّلالة على الواحد والكثير ، فتكون دالّة على واحد عند كون الأطراف كذلك ، وعلى الكثير إذا كانت الأطراف كذلك». (١)

«تتميم»

قد عرفت ممّا ذكرنا ، أنّ الحروف على قسمين :

أحدهما : الحروف الإخطاريّة الحكائيّة.

ثانيهما : الحروف الإيجاديّة الإنشائيّة.

وعرفت ـ أيضا ـ أنّ معاني القسم الأوّل لا تتدرج تحت مقولة من المقولات العشر ، بل تكون وجودات رابطة محضة ، سواء كانت من باب كون : «شيء في شيء» أو : «من شيء» أو : «على شيء» أو : «إلى شيء» أو غير ذلك ، وكذا لا تندرج معاني القسم الثّاني تحت مقولة منها ، كما لا يخفى.

هذا ولكن ذهب المحقّق العراقي قدس‌سره إلى أنّ معاني الحروف كلّها إخطاريّة ، وأنّها هي الأعراض النّسبيّة الّتي تكون وجودات رابطيّة ، قبال الجواهر الّتي تكون وجودات نفسيّة. (٢)

توضيح ذلك : أنّه قدس‌سره تعرّض ـ قبل بيان مختاره ـ ، ما أشرنا إليه من التّفصيل في المعنى الحرفي ، فقال : إنّ منه ما يكون حاكيا عن أمر خارجيّ مثل : «زيد في الدّار»

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٨٥.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٤٦ الى ٤٨.

٨٦

و : «سرت من البصرة» وهذا هو الإخطاريّ ، ومنه ما يوجد معناه بنفس استعماله مثل حروف النّداء والتّشبيه والتّمنّي والتّرجّي والاستفهام والتّنبيه ونحوها ، فالنّداء والتّشبيه ـ مثلا ـ لا حقيقة لهما قبل الإنشاء حتّى يحكيا عنها ، بل توجد حقيقتها بنفس استعمال هذه الأدوات ، وقد يعدّ هذا من الضّروريّات ، لو التفت إليه ، وهذا هو الإيجاديّ.

ثمّ أورد قدس‌سره على المعنى الإيجاديّ بأنّه لو كان المراد بذلك هو أنّ استعمال هذه الأدوات في معانيها يوجب حدوث فرد من أفراد معانيها في الخارج ، فالإيجاديّة بهذا المعنى لا شبهة فيها ، ولكن لا يمكن أن يكون هذا الوجود الخارجيّ الجزئي هو معنى هذه الأدوات لوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ معنى اللّفظ ومدلوله بالأصالة هو ما يحضر في الذّهن عند سماعه ، أو حين تصوّره ؛ ولا ريب : أنّ الموجود الخارجيّ لا يعقل أن يحضر في الذّهن ، فليس هو معنى اللّفظ أوّلا وبالذّات ، نعم ، هو معناه ثانيا وبالعرض ، كما يكون معلوما بالعرض ؛ وذلك ، لحكاية ما في الذّهن عمّا في الخارج وفناءه فيه ، فناء الحاكي في المحكي.

الثّاني : أنّ هذا الوجود الخارجي الّذي يكون نداء أو تشبيها ـ مثلا ـ بالحمل الشّائع ، لا يوجد إلّا بنفس الاستعمال ، فيكون متأخّرا عن الاستعمال بالطّبع ، أو بملاك العلّيّة والمعلوليّة ، ومن المعلوم : أنّ المستعمل فيه يكون متقدّما على الاستعمال بالطّبع ، فلو كان نفس هذا الوجود الجزئيّ الخارجيّ النّاشي من الاستعمال هو المستعمل فيه ، لزم تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه رتبة في آن واحد وزمان فارد ، وهذا خلف.

٨٧

الثّالث : لا شبهة في أنّ هذه الأدوات قد تستعمل في غير ما يكون نداء أو تشبيها أو غيرهما بالحمل الشّائع ، فتستعمل بداعي التّشوق أو السّخريّة أو التّودّد وغيرها من الدّواعي الاخرى ، كما هو مذكور في محلّه ، ولا ريب ، في أنّ الموجود بهذا الاستعمال لا يكون بالحمل الشّائع ، فردا من أفراد معنى من معاني هذه الأدوات ، فلا يكون الاستعمال بداعي التّشوّق مثل قوله : «أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ـ نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها». أو بدواع أخر نداء ، أو غيره بالحمل الشّائع ، بل يكون تشوّقا ، أو توجّدا أو غيرهما بهذا الحمل ، وعليه ، فإمّا يكون استعمال هذه الأدوات في هذه الموارد بنحو من التّجوّز ، وضرب من العناية ، وهذا لا يقول به القائل بالحروف الإيجاديّة ، أو يكون استعمالا في معانيها بنحو الحقيقة وبلا عناية ، غاية الأمر ، بداعي أحد هذه الامور من التّشوّق والتّوجّد وغيرهما ، فيلزم أن تكون معانيها غير ما يوجد بها بمجرّد استعمالها ، وهذا هو المطلوب.

هذا كلّه لو كان المراد من الإيجاديّة حدوث فرد من أفراد المعاني في الخارج بسبب الاستعمال.

وأمّا لو كان المراد منها هو إيجاد الرّبط بين المفاهيم الاسميّة في صقع نشآتها وحدوثها ، كما هو مراد من يدّعي الإيجاديّة في المعاني الحرفيّة مطلقا ، فهو باطل ، أيضا ؛ لما تقدّم من الدّليل على بطلان دعوى الإيجاديّة مطلقا ، بمعنى : أنّه لا فرق في المعاني الحرفيّة وما يحذو حذوها من الأسماء في كونها معاني إخطاريّة ، بين كونها إخباريّة ، مثل قولنا : «زيد في الدّار» وكونها إنشائيّة مثل قولنا : «كأنّ زيدا أسد». (١)

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ٤٦ و ٤٧.

٨٨

وقد أجاب الإمام الرّاحل قدس‌سره عن هذه الوجوه الثّلاثة بأجوبة :

أمّا عن الأوّل : فحاصل جوابه عنه ، راجع إلى أمور ثلاثة :

أحدها : أنّه منقوض بالأعلام الشّخصيّة على مسلك المشهور ، حيث قالوا : بوضعها لما في الخارج من الأشخاص ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا.

ثانيها : أنّا وإن نسلّم صغرى القياس وهي أنّ معنى اللّفظ هو ما يحضر في الذّهن ، ولكن لا نسلّم الكبرى وهي عدم حضور الخارج في الذّهن ؛ إذ الحضور هو الأعم من الحضور بالذّات وبالعرض ، وما هو في الخارج وإن لم يكن حاضرا في الذّهن بالذّات ، لكنّه يحضر فيه بالعرض ولذا يقال : إنّه معلوم بالعرض.

ثالثها : أنّ الموضوع له في أغلب الأوضاع أو جميعها غير ما يحضر في الذّهن بالذّات ، ألا ترى ، أنّ أسماء الأجناس إنّما وضعت للطّبيعة الصّرفة المجرّدة عن كلّ قيد ، حتّى قيد وجودها في نشأتي الذّهن والخارج ، فإذا أطلقت لم ينتقل السّامع إلّا إلى هذا المعنى النّفس الأمري ، لا إلى الموجود في ذهنه أو ذهن المتكلّم.

وبالجملة : الصّورة الذّهنيّة (المعلومة بالذّات) مرآة للمعني المفهوم الموضوع له ، ولازم تلك (المرآتية) هو كونها مغفولا عنها ، وقس عليها الأعلام ؛ إذ الانتقال منها إلى الخارج الموضوع له إنّما هو بالصّورة الذّهنيّة لا غير. (١)

والإنصاف أنّ هذه الامور الثّلاثة غير واردة على المحقّق العراقي حسب مسلكه قدس‌سره.

أمّا الأوّل : فلأنّ مختاره قدس‌سره في وضع الأعلام ، هو أنّها وضعت للصّورة

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٥ و ١٦.

٨٩

الذّهنيّة الشّخصيّة ، لا للحقائق الخارجيّة ، كما صرّح قدس‌سره بقوله : «وقد يقسّم الوضع بلحاظ تعلّقه بالصّور الذّهنيّة إلى عموم الوضع والموضوع له أو خصوصهما ، أو عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، أو بالعكس ، فمن الأوّل أسماء الأجناس ، ومن الثّاني الأعلام الشّخصيّة». (١)

أمّا الثّاني : فلأنّ مختاره قدس‌سره في وضع ألفاظ الحروف هو أنّها موضوعة للمعلوم بالذّات وهو الصّور الذّهنيّة ، لا للمعلوم بالعرض وهو الحقائق الخارجيّة.

وبعبارة اخرى : أنّه قدس‌سره اختار أنّ الموضوع له والمدلول بالذّات ، في الألفاظ هو عين ما يحضر في الذّهن ونفس المعلوم بالذّات ، لا الخارج المعلوم بالعرض ؛ ولهذا ، قال قدس‌سره بإخطاريّة الحروف كلّها ، بمعنى : أنّها موضوعات للمعاني الحاضرة في الذّهن حاكيات عنها ، والصّور والمعاني الذّهنيّة ـ أيضا ـ حاكيات عن الحقائق الخارجيّة ، والنّتيجة ، هو أنّه لا حكاية للألفاظ عن الخارج أوّلا وبالذّات وبلا واسطة.

أمّا الثّالث : فلأنّ مقصوده قدس‌سره من : «أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الحاضرة في الذّهن» ليس أنّ الحضور في الذّهن قيد وشرط للمعنى أو شطر له ، حتّى يورد عليه بأنّ أسماء الأجناس إنّما وضعت للطّبيعة الصّرفة المجرّدة عن كلّ قيد ، حتّى قيد حضورها في نشأتي الذّهن والخارج.

ويشهد لما قلنا : هو أنّه قدس‌سره صرّح بوضع أسماء الأجناس لنفس الطّبيعة المهملة المجرّدة عن القيود قاطبة حتّى قيد كونها مهملة ، فضلا عن كونها حاضرة في نشأتي الذّهن والخارج. (٢)

__________________

(١) مقالات الاصول : ج ١ ، ص ١٧ ؛ ونظيره ما في كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٣٧.

(٢) راجع ، نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٣٤.

٩٠

فتحصّل : أنّ هذه الامور الثّلاثة لا ترد على الوجه الأوّل الّذي أورده المحقّق العراقي قدس‌سره على إيجاديّة الحروف.

والتّحقيق يقتضي أن يجاب عنه : بأنّ الألفاظ الإيجاديّة لم تكن موضوعة للموجود الخارجيّ حتّى يقال : بعدم معقوليّة حضوره في الذّهن ، بل إنّما هي موضوعة للإنشاء والإيجاد ، فحروف النّداء وضعت لإيجاده ، وكذا حروف القسم وغيرها من سائر الحروف الإيجاديّة.

والفرق بين الاستعمال للإيجاد في الخارج ، وبين الاستعمال في الموجود الخارجيّ واضح جدّا. ألا ترى ، أنّ لفظ : «بعت» مثلا ، من الألفاظ الإنشائيّة يكون آلة لإنشاء البيع وإيجاد العلقة الملكيّة ، لا أنّه مستعمل في الملكيّة الموجودة في عالم الاعتبار ، وكذا لفظ : «أنكحت» حيث إنّها لم توضع للزّوجيّة الموجودة في عالم الاعتبار ، بل وضعت لإيجاد الزّوجيّة وإنشاءها.

وبالجملة : فرق واضح بين الاستعمال للإيجاد والوجود ، وبينه في الإيجاد والوجود ، وفرق بين كون الموجود المنشأ مستعملا فيه ، وبين كونه معلولا للاستعمال ، فالنّسبة بين الاستعمال والموجود الخارجيّ في الحروف الإيجاديّة نسبة العلّة والمعلول ، لا نسبة المستعمل والمستعمل فيه ، وعليه ، فإيراد المحقّق العراقي قدس‌سره منتف رأسا ، فلا حاجة إلى إتعاب النّفس لدفعه.

هذا كلّه فيما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره في الجواب عن الوجه الأوّل (من الوجوه الثّلاثة الّتي أوردها المحقّق العراقي قدس‌سره على إيجاديّة الحروف).

وأمّا جوابه قدس‌سره عن الوجه الثّاني (لزوم تقدّم المستعمل فيه على الاستعمال وتأخّره عنه في زمان واحد) فقال : «والحاصل أنّ الألفاظ قد تكون حاكيات عن

٩١

الواقع المقرّر ، وقد تكون موجدة لمعانيها في الوعاء المناسب لها ، والكلّ يشترك في كونها موجبة لإخطار معانيها في الذّهن ولو بالعرض ، ولا دليل على أزيد من ذلك ، ولزوم تقدّم المستعمل فيه غير ثابت لو لم يثبت خلافه (١)».

هذا ، ولكنّ الصّحيح أنّ هذا الوجه ـ أيضا ـ مندفع رأسا بلا حاجة إلى إتعاب النّفس لدفعه ؛ وذلك ، لما عرفت في الجواب عن الوجه الأوّل ، من أنّ الموجود الخارجيّ النّاشي من الاستعمال لا يكون مستعملا فيه ، بل يكون معلولا للاستعمال مسبّبا منه ، وأنّه فرق واضح بين الاستعمال للإيجاد ، وبينه في الإيجاد.

وأمّا جوابه قدس‌سره عن الوجه الثّالث (استعمال الأدوات الإيجاديّة ، كالنّداء ، في غير ما يكون نداء بالحمل الشّائع ، بداعي التّشوّق ونحوه) فهذا لفظه : «وفيه : أنّ من المحقّق عند العارف بأساليب الكلام ومحاسن الجمل هو أنّ المجاز ليس إلّا استعمال اللّفظ فيما وضع له ، بدواع عقلانيّة من التّمسخر والمبالغة والتّشويق حتّى في مثل إطلاق «الأسد» على «الجبان» ولفظ : «يوسف» على «قبيح المنظر» وإلّا لصار الكلام خاليا عن الحسن ومبتذلا مطروحا ، وعليه ، فالشّاعر المفلق في قوله : «يا كوكبا ما كان أقصر عمره» قد استعمل حرف النّداء في النّداء بالحمل الشّائع وأوجد فردا منه ، لكن بداع آخر من التّضجّر وغيره ، ولكن إرادة الجدّ بخلافه ... ومطلق المجاز يستعمل لفظه في معناه الحقيقيّ بداعي التّجاوز إلى غيره». (٢)

ولا يخفى : أنّ هذا الجواب لا يخلو عن الجودة والمتانة ؛ وذلك ، لما عرفت آنفا ، من أنّ الأدوات الإيجاديّة لا تستعمل في الإيجاد أو الموجود الخارجيّ ، وإنّما تستعمل

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٦.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٧.

٩٢

للإنشاء والإيجاد ، إلّا أنّ الدّواعي لهذا المعنى مختلفة.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قدس‌سره بعد الإيراد على القول بإيجاديّة الحروف ـ على ما تقدّم تفصيله ـ قال في توضيح مختاره (إخطاريّة معانى الحروف) : ما محصّله : إنّ مداليل الحروف تمتاز عن مداليل الهيئات من وجه وتشترك معها من وجه ، أمّا الاشتراك فلكون مدلول كلتيهما معنى نسبيّا قائما بالطّرفين.

وأمّا الامتياز ، فلأنّ مداليل الحروف قسم من الأعراض النّسبيّة المعبّر عن وجودها ووجود بقيّة الأعراض النّسبيّة ب «الوجود الرّابطيّ».

وأمّا مداليل الهيئات ، فليس إلّا مجرد ربط الأعراض بموضوعاتها المعبّر عنه ب «الوجود الرّابط» ففي الجمل المشتملة على الحروف تتحقّق الدّلالة على الوجود الرّابطيّ ، وعلى الوجود الرّابط بالهيئات الطّارئة على الجملة ، خلافا لما عليه جماعة من الحكماء ومنهم صدر المتألّهين قدس‌سره وتبعه عليه بعض الأصوليّين ، من أنّ مدلول الحرف والهيئة شيء واحد وهو الوجود الرّابط. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه لو كانت المعاني الحرفيّة من الأعراض النّسبيّة ، لكانت مستقلّة تامّة الماهيّة غير تامّة الوجود ، كالأعراض ، فتصلح حينئذ أن تقع محكوما عليها وبها ، مع أنّها ليست كذلك.

وبعبارة اخرى : أنّ القول بكون المعاني الحرفيّة من الأعراض النّسبيّة والوجودات الرّابطيّة ، ليس إلّا نفس القول بكونها مستقلّة في صقع المفهوم ونشأة الذّهن وإن كانت غير مستقلّة في صقع الوجود ونشأة العين.

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٥٠ و ٥١.

٩٣

والنّتيجة : أنّ معاني الحروف ليست من الوجودات الرّابطيّة ، بل هي من الوجودات الرّابطة ؛ وذلك ، نظير قولنا : «زيد في الدّار» فإنّ كلمة : «في» تدلّ على وجود زيد في «الدّار» وهذا المعنى وجود رابط محض ، وليس بوجود رابطيّ حتّى يندرج تحت المقولة ويكون من الأعراض النّسبيّة.

وثانيا : أنّ الأعراض التّسعة ، سبعة منها تختصّ بالأعراض النّسبيّة ، وهي معلومة ، متميّز بعضها عن بعض ، نظير «الأين» و «المتى» و «المضاف» و «الوضع» و «الفعل» و «الانفعال» و «الملك» ، فالمعنى الحرفى من أيّ نوع منها؟

وثالثا : لو سلّم ذلك في الحروف الإخطاريّة كلفظة : «من» و «الى» و «في» ونحوها ، لكان الإشكال باق في الحروف الإيجاديّة ، كحروف النّداء والتّشبيه والعطف ونظائرها ، فأيّ عرض نسبيّ أو غير نسبيّ تدلّ عليه هذه الحروف وتحكي عنه ، مع أنّها ـ حسب الفرض ـ إنّما تكون لإيجاد معانيها لا للدّلالة والحكاية.

وإن شئت فقل : إنّ الاستعمال في العرض النّسبيّ والحكاية عنه ، لا معنى له في مثل حروف النّداء والقسم ونحوهما ، فهل يمكن أن يقال : بحكايتهما عن نداء وقسم خارجيّين أو ذهنيّين ، مع كونهما لإيجاد فرد من النّداء والقسم؟ حاشا وكلّا ، فإذا لا تحكي الحروف الإيجاديّة عن عرض نسبيّ وعن شيء خارجيّ أو ذهنيّ ؛ ومن هنا التجأ هذا المحقّق قدس‌سره إلى الجواب عن هذا الإشكال بقوله : «وأمّا تشخيص كونه من أيّ أنواع الأعراض ، فهو ليس بمهمّ في المقام». (١)

__________________

(١) كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٥٠.

٩٤

وقد تعجّب منه الإمام الرّاحل قدس‌سره وقال : «والعجب أنّه قدس‌سره قال : إنّ الحروف كلّها حاكيات عن الأعراض النّسبيّة ولا يهمّنا تشخيص كونها من أيّ الأعراض». (١)

ومن العجب ـ أيضا ـ أنّ هذا المحقّق قدس‌سره ادّعى : وضع مثل «من» ، «في» ، «على» ، «إلى» و «عن» لأصناف مقولة «الأين» من الأين الابتدائي والأين الظّرفيّ والأين الاستعلائي والأين الانتهائي والأين التّجاوزي (٢) ، فهل ترى لهذه الدّعوى وجها ومعنى محصّلا؟!

هذا كلّه في الأمر الأوّل (بيان حقيقة المعنى الحرفي).

وأمّا الأمر الثّاني : (بيان كيفيّة وضع الحروف) فالكلام فيه ـ أيضا ـ يقع تارة في الحروف الإخطاريّة ؛ واخرى في الحروف الإيجاديّة.

أمّا الحروف الإخطاريّة ، فقد انقدح ممّا ذكرنا في حقيقة المعنى الحرفي ، كيفيّة الوضع فيها ، وأنّ الملحوظ حال وضعها وإن كان عامّا ، إلّا أنّ الموضوع له فيها يكون خاصّا.

ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى أنّ الموضوع له فيها ـ أيضا ـ كالوضع عامّ وكذا المستعمل فيه ، وقال في وجه ذلك ، ما هذا لفظه : «وأنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء ؛ وذلك ، لأنّ الخصوصيّة المتوهّمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصّص بها جزئيّا خارجيّا ، فمن الواضح ، أنّ كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه ، فيها كذلك ، بل كلّيّا ، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٨٠.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٥٠.

٩٥

جزئيّا إضافيّا ، وهو كما ترى ، وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيّا ذهنيّا ... فالمعنى وإن كان لا محالة يصير جزئيّا بهذا اللّحاظ بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا ، كما لوحظ أوّلا ولو كان اللّاحظ واحدا ، إلّا أنّ هذا اللّحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه». (١)

وفيه : أنّ نفي الخصوصيّة على الوجه الّذي ذكره قدس‌سره ، إنّما هو مبتن على ما اختاره في المعنى الحرفي ، من أنّه متّحد مع المعنى الاسمي ذاتا وحقيقة ، ولا ميز بينهما إلّا في موقف الاستعمال ؛ حيث إنّ المتكلّم في هذا الموقف يلاحظ المعنى الموضوع له ، في الأسماء استقلاليّا ، وفي الحروف آليّا ، ولكن عرفت : أنّ بين المعنى الحرفي والاسمي ميزا جوهريّا ، وأنّ المعنى الاسمي ، سواء كان جوهرا أو عرضا ، يكون ملحوظا استقلاليّا وما «فيه ينظر» ، يحكم عليه وبه ، بخلاف المعنى الحرفي ، فإنّه يكون ملحوظا آليّا وما «به ينظر» وعرفت ـ أيضا ـ أنّ المعنى الحرفي ليس عنوان الرّبط والنّسبة ، بل هو مصداق هذا العنوان ، وحقيقته القائمة بالطّرفين والمتحقّقة بتحقّقهما.

وبعبارة اخرى : أنّ المعنى الحرفي هو الرّبط بالحمل الشّائع ، فلا محالة يكون خاصّا جزئيّا حقيقيّا ، فيباين المعنى الاسمي ويمايزه جوهريّا ، لا جامع بينهما.

والنّتيجة : هو أنّ المعنى الحرفي خاصّ ذاتا لم تجئ خصوصيّته من قبل اللّحاظ الاستعمالي ، حتّى يورد عليه بما أورده المحقّق الخراساني قدس‌سره من الوجوه الثّلاثة (٢) ، وكذا لا تكون خصوصيّته موجبة لصيرورته جزئيّا ذهنيّا ، حتّى يشكل عليه بما ذكره قدس‌سره كما مرّت الإشارة إليه آنفا ، بل جزئيّ حقيقيّ وهو حقيقة الرّبط

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣ و ١٤.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٤.

٩٦

ومصداقه المعبّر عنه بالرّبط على نحو الحمل الشائع لا الحمل الأوّلي.

هذا كلّه في الحروف الإخطاريّة.

وأمّا الحروف الإيجاديّة ، فالموضوع له فيها خاصّ وجزئيّ حقيقيّ بلا خلاف ، كما لا يخفى ، ف «ياء النّداء» مثلا ، لا يحكي عن نداء واقع في الخارج أو في الذّهن ، بل آلة لإيجاد فرد من النّداء بمجرّد الاستعمال ، كإنشاء العلقة الزّوجيّة بالصّيغ المخصوصة ، بحيث لا نداء ، لو لا قولنا : «يا زيد» أو قوله : «أيا شجر الخابور ما لك مورقا ...» ولا قسم ، لو لا قوله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)(١) وهكذا سائر الحروف.

(المقام السّادس : معاني المبهمات وكيفيّة وضعها)

يقع الكلام هنا ، تارة في معاني المبهمات (أسماء الإشارات ، والضّمائر ، والموصولات) ؛ واخرى في كيفيّة وضعها.

أمّا معاني المبهمات ، فالكلام فيها يقع في ثلاث جهات :

الأولى : في أسماء الإشارات.

فنقول : المشهور بين علماء الأدب (٢) وعدّة من علماء الاصول (٣) ، أنّها موضوعة للمشار إليه من المفرد المذكّر ، أو المؤنّث أو غيرهما ، فلفظة : «هذا» مثلا

__________________

(١) سورة الأنبياء (٢١) : الآية ٥٧.

(٢) راجع ، شرح الكافية : ج ٢ ، ص ٢٩ ؛ وكتاب المطوّل : ص ٦٢.

(٣) راجع ، هداية المسترشدين : ص ٣١.

٩٧

عندهم موضوعة للمشار إليه المفرد المذكّر بأحد أنحاء الوضع ، فإذا تكون معاني أسماء الإشارات معان اسميّة ومفاهيم مستقلّة.

ولكن الحقّ : ما ذهب إليه السّيّد البروجردي قدس‌سره وكذا الإمام الرّاحل قدس‌سره : من أنّها موضوعة لإيجاد الإشارة ، فتكون آلات لإنشائها ، كحروف النّداء والقسم ونحوهما من الحروف الإيجاديّة.

حيث قالا في توضيح ذلك ، ما محصّله : أنّ استعمال المتكلّم للّفظ وطلبه لعمله في المعنى ، تارة يكون بنحو الإعلام والإفهام ، بأن يكون للمعنى نفس أمريّة ما في الخارج ، أو الذّهن ، أو في عالم الاعتبار مع قطع النّظر عن الاستعمال ، فيراد من الاستعمال إفهامه للسّامع وإعلامه إيّاه ، حتّى يتصوّره أو يصدّق وقوعه ويذعن به من المعاني الاسميّة المستقلّة أو الحرفيّة الاندكاكيّة الرّبطيّة ؛ واخرى يكون بنحو الإيجاد والإنشاء ، بأن يكون اللّفظ المستعمل ، آلة لإيجاده ، وهذا فيما إذا لم يكن للمعنى نفس أمريّة ما أصلا لو لا الاستعمال ، وهذا القسم ، إمّا لا يكون فانيا مندكّا في غيره ، كالطّلب الموجد بفعل الأمر ، أو النّهي ، وكجميع المعاني العقديّة ، أو الإيقاعيّة الموجدة في عالم الاعتبار بألفاظهما وصيغهما المخصوصة (١) ، وإمّا يكون فانيا مندكّا في غيره ، كالمعنى الحرفي ، وهذا ، نظير الإشارة الّتي توجد وتنشأ بأسمائها (هذا ونحوه) فهذه الأسماء ، إنّما وضعت لأن توجد بها الإشارة الّتي هي أمر اندكاكيّ وفنائيّ ، وامتداد موهوم متوسّط بين المشير والمشار إليه ، بحيث لو لا الاستعمال ، لم يكن من الإشارة عين ولا أثر ، نظير الإشارة بالإصبع ونحوها ، فإنّها توجد وتنشأ من آلاتها تكوينا

__________________

(١) ولقائل أن يقول : كيف لا يكون الطّلب الموجد اندكاكيّا ، كالإشارة ، فتأمّل.

٩٨

وطبعا ، بلا حاجة إلى وضع وجعل وعلاقة ، فالإشارة اللّفظيّة الوضعيّة تشترك مع الإشارة الحسيّة التّكوينيّة من جهة ، كما أنّها تمتاز عنها من جهة اخرى ، أمّا الاشتراك فقد عرفت : أنّ الإشارة في كلتيهما توجد وتنشأ من آلاتها ، وأمّا الامتياز فبوجهين :

أحدهما : أنّ الإشارة اللّفظيّة تدلّ على إفراد المشار إليه أو التّثنية أو الجمع ، وعلى تذكيره أو تأنيثه ، بخلاف الإشارة الحسيّة.

ثانيهما : أنّ الإشارة اللّفظيّة لا توجب تعيّن المشار إليه وتشخّصه ، بخلاف الإشارة الحسيّة ، ولذا تحتاج الإشارة اللّفظيّة إلى الحسيّة في هذه المرحلة.

وكيف كان ، ففي مثل قولنا : «هذا زيد» أربعة امور :

أحدها : المشير.

ثانيهما : المشار إليه.

ثالثها : الإشارة (الامتداد المتوسّط بينهما).

رابعها : آلة الإشارة (هذا ونحوه).

فكلمة : «هذا» ، كالإصبع والعصا ، آلة لإيجاد الإشارة ، لا أنّها توضع للمشار إليه المفرد المذكّر من الأشخاص أو غيرها من الأشياء ، فلا يكون المشار إليه داخلا في معناها بوجه ، لا بنحو المطابقة ولا بنحو التّضمّن.

نعم ، بالإشارة يحضر المشار إليه في ذهن السّامع ، كحضوره في ذهن المشير ؛ ولذا يترتّب على مثل : «هذا» أحكام الأسماء وآثارها فيقال : «هذا عالم» كما يقال : «زيد عالم» انتهى محصّل كلامهما قدس‌سرهما. (١)

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٢١ و ٢٢ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٧ و ٢٨.

٩٩

الجهة الثّانية في الضّمائر ؛ والجهة الثّالثة في الموصولات ؛ وقد اتّضح ممّا ذكرنا : أنّ الضّمائر وضعت لإيجاد الإشارة بها والموصولات ـ أيضا ـ وضعت لأن توجد بها الإشارة إلى مبهم يرتفع إبهامه بالصّلة.

هذا بالنّسبة إلى معاني المبهمات.

وأمّا كيفيّة وضعها ، فنقول : المشهور بين علماء الأدب فيها ، عموم الوضع والموضوع له وخصوص المستعمل فيه ، وهذا ما اختاره التّفتازاني (١) ، وقد خالفهم السّيّد الشّريف الجرجاني (٢) ، فذهب إلى عموم الوضع وخصوص الموضوع له.

وعن عدّة (٣) من علماء الاصول ، منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (٤) : أنّ الوضع فيها عام ، وكذا الموضوع له والمستعمل فيه.

ولكنّ التّحقيق يقتضي أن يقال : حيث إنّ المبهمات بأجمعها تكون لإيجاد الإشارة وإنشاءها ، كحروف النّداء والقسم ونحوهما من الحروف الإيجاديّة ، فالموضوع له فيها يكون ـ أيضا ـ خاصّا.

(المقام السّابع : معاني الهيئات)

والبحث هنا في موردين :

الأوّل : في معنى هيئة القضايا الحمليّة غير المؤوّلة وهي الّتي لا تشتمل على

__________________

(١) كتاب المطوّل : ص ٥٧.

(٢) كتاب المطوّل وبهامشه حاشية السيّد مير شريف : ص ٧٠ ، ٣٧٢ و ٣٧٣.

(٣) راجع ، هداية المسترشدين : ص ٣٠.

(٤) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٦.

١٠٠