مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

العرض تسمّى كلّها ب «الجوهر» أو «العرض» ونحوها.

وبالجملة : الاختلاف في الرّتبة لا يستلزم الاختلاف في التّسمية ، وربّ يكون للأمرين المختلفين الطّوليين رتبة أو زمانا ، وضع واحد ، وهذا ليس بعزيز.

الجهة السّادسة : في تصوير الجامع.

يقع الكلام هنا في مقامين :

الأوّل : في العبادات.

الثّاني : في المعاملات.

أمّا الأوّل : فلا بدّ فيه من تصوير الجامع الوحداني ـ الّذي يشترك فيه الأفراد ـ على كلا القولين (الصّحيحي والأعمّي) ؛ فإنّ الثّمرة لا تترتّب على المسألة ، إلّا أن يقال : بالجامع ؛ وذلك ، لانّ الثّمرة ـ على ما سيأتي البحث عنها ـ هو إجمال الخطاب وعدم انعقاد الإطلاق له ـ بناء على الصّحيحي ـ وعدم إجماله ، بل انعقاد الإطلاق له ؛ بناء على الأعمّي.

وواضح ، أنّ انعقاد الإطلاق ، أو عدمه مبتن على القول بالجامع ، بل تصوير الجامع أمر لازم حتى على القول الباطل وهو القول : بكون الموضوع له في ألفاظ العبادات خاصّا ؛ ضرورة استحالة تصوّر أفرادها بأسرها تفصيلا ، فلا مناص من تصوّرها بجامعها الّذي هو وجهها وعنوانها.

هذا ، ولكن خالف المحقّق النّائيني قدس‌سره في المسألة وقال : بعدم الحاجة إلى تصوير الجامع وذكر في وجهه ، ما محصّله : إنّ الموضوع له في مثل لفظ : «الصّلاة» على كلا القولين ، ليس إلّا المرتبة العليا وهي الواجدة لجميع الأجزاء والشّرائط ، وأمّا استعماله في سائر المراتب الصّحيحة على الصّحيحيّ أو الأعمّ منها على الأعمّى ، إنّما

١٦١

هو من باب الادّعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة ، أو من باب اكتفاء الشّارع به ، كما في صلاة الغرقى ، حيث لا يمكن فيه الالتزام بالتّنزيل المذكور.

وأمّا القصر والإتمام ، فهما وإن كانتا في عرض واحد بالقياس إلى مرتبة العليا ، إلّا أنّه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط ، وعلى ما ذكرنا ، فتبطل ثمرة النّزاع بين القولين : وهي التّمسّك بالإطلاق على الأعمّي وإجمال الخطاب على الصّحيحي ؛ إذ المفروض ، أنّ الصّلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وإطلاقها على غيرها من باب المسامحة والتّنزيل ، وعليه ، فلا مجال للتّمسّك بالإطلاق ـ على تقدير وجوده في العبادات ـ لعدم العلم بالتّنزيل والادّعاء في مقام الاستدلال ، فيصير اللّفظ مجملا. (١)

هذا ، ولكن يرد عليه ، أوّلا : بأنّه من المعلوم إطلاق مثل لفظ : «الصّلاة» عند المتشرّعة على جميع مراتبها من العليا والوسطى والدّنيا ، بلا تنزيل وعناية ، فيعلم منه أنّ الموضوع له هو الجامع بين جميع المراتب ، لا خصوص المرتبة العليا.

وثانيا : بأنّه لا وجه لاستثناء مرتبة القصر والإتمام ، بل على ما ذكرنا ، لا بدّ من تصوير الجامع في جميع المراتب الكثيرة.

وثالثا : بأنّ الثّمرة تترتّب حتّى على القول بالوضع للمرتبة العليا.

بتقريب : أنّ لفظ : «الصّلاة» مثلا ، موضوع للجامع بين جميع المراتب العليا من الصّحيحة والفاسدة على القول الأعمّى ، ولخصوص الصّحيحة من المراتب العليا على القول الصّحيحي ، وعليه ، فلو كان في البين خطاب مطلق وشكّ في اعتبار شيء في المأمور به ، فعلى الصّحيحي ، لا مجال للتّمسّك بإطلاقه لرفع الشّكّ ؛ إذ الشّكّ في

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٦.

١٦٢

اعتبار شيء فيه شطرا أو شرطا مساوق للشّكّ في صدق المسمّى ، فيكون المورد من قبيل الشّبهة المصداقيّة للمطلق ، وأمّا على الأعمّي فيؤخذ الإطلاق ويرفع الشّكّ به ؛ وذلك ، لصدق المسمّى وجدانا حينئذ ، والشّكّ في اعتبار شيء فيه شرطا أو شطرا ، يرجع إلى الشّكّ في اعتبار شيء زائد ، فيدفع بالإطلاق.

وبالجملة : لا مانع من التّمسّك بالإطلاق بالنّسبة إلى المراتب العليا على الأعمّي ، فتظهر الثّمرة ـ أيضا ـ بناء على مسلك هذا المحقّق ، من كون الموضوع له هي المرتبة العليا.

نعم ، لا تظهر الثّمرة بالنّسبة إلى المراتب الأخر ، بناء على مسلكه قدس‌سره لعدم إحراز الإطلاق ؛ إذ لا علم بالتّنزيل والادّعاء ، مع أنّ المفروض : هو أنّ المسمّى والموضوع له ، خصوص المرتبة العليا ، ولا يعمّ المشكوك فيه ، وعليه ، فإذا شكّ في وجوب الصّلاة على المضطرّ ـ مثلا ـ وأنّه هل اخذ فيها الاختيار شرطا ، لم يجز التّمسّك بإطلاق أدلّة وجوبها.

وكيف كان ، تصوير الجامع على كلا القولين ممّا لا بدّ منه بعد بطلان القول بالاشتراك اللّفظي في العبادات ، وكذا القول بكونها حقيقة في بعض الأصناف ، ومجازا في البعض الآخر.

وعليه ، فنقول : قد اختلفت أنظار الأعلام في تصوير الجامع على كلا القولين ، ذهب كلّ إلى طريق لا حاجة بنا إلى تعرّض الجميع ، بل نكتفى لتعرّض مقالة المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال ، ما محصّله : أنّه لا بدّ منه استنادا إلى قاعدة : «الواحد لا يصدر إلّا من الواحد» حيث إنّ أصل السّنخيّة بين المعلول والعلّة من الاصول المسلّمة

١٦٣

الفلسفيّة ، فلا سنخيّة بين الأثر الواحد والمعلول الفارد بما هو واحد ، وبين المؤثّرات الكثيرة والعلل العديدة ، بل لا بدّ من القول بكون الجامع بين الكثير هو المؤثّر والعلّة ، وعليه ، ففى مثل «الصّلاة» حيث إنّ الأفراد الصّحيحة منها مشتركة في أثر واحد ، «كالنّهي عن الفحشاء والمنكر» أو «عمود الدّين» أو «معراج المؤمن» فلا بدّ من الالتزام بمؤثر واحد جامع بين جميع تلك الأفراد. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ قاعده : «الواحد» ـ سواء كانت راجعة إلى المعلول والأثر ، أم راجعة إلى العلّة والمؤثّر ـ إنّما تختصّ بالواحد الحقيقيّ البسيط غير المشوب بالتّركيب رأسا ، لا من المادّة والصّورة ، ولا من الجنس والفصل ، ولا من الماهيّة والوجود ، وعليه ، فلا تجري في الواحد الاعتباري ، كالصّلاة ونحوها.

وثانيا : أنّ مصبّ هذه القاعدة هو الأثر الواحد الشّخصي ، لا الواحد النّوعي ؛ لكونه متكثّرا ذا أفراد متعدّدة ، فلا بدّ لمثل هذا الأثر من مؤثّر واحد نوعي.

ومن المعلوم : أنّ «النّهي عن الفحشاء» في مثل «الصّلاة» ليس أثرا واحدا شخصيّا حتّى يكون كاشفا عن جامع واحد شخصي ، بل عنوان «النّاهي عن الفحشاء» عنوان واحد منتزع من الامور المختلفة المتباينة ، فإذا لا تجرى «القاعدة» في مثل «الصّلاة» ونحوها.

وثالثا : أنّ ما يترتّب على الصّلاة ـ مثلا ـ هو الآثار المختلفة «كالنّهي عن الفحشاء والمنكر» و «معراج المؤمن» و «قربان كلّ تقي» و «عمود الدّين» إلى غير ذلك ، فلا بدّ أن تكون فيها حيثيّات وجهات كثيرة ـ باعتبار كثرة الأثر واختلافه فيها ـ بحيث أنّها تؤثّر بكلّ حيثيّة ، أثرا خاصّا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦.

١٦٤

اللهمّ إلّا أن يدّعى : أنّ جميع ما ذكر من الآثار يرجع إلى أثر واحد ، ومعنى فارد ، وهو الكمال الحاصل للمصلّي بسبب صلاته ، وأنّ ذكر تلك الآثار وتسميتها بأسام وعناوين متعدّدة ، إنّما يكون من باب التّنوّع والتّفنّن في العبارة ، ولكن ، هذه دعوى بلا بيّنة.

ولنعم ما قال الإمام الرّاحل قدس‌سره : من إنّ هذه الدّعوى تخرّص على الغيب. (١)

ورابعا : أنّه لو سلّم وجود الجامع في المقام ، فلا مناص من التزام كونه أمرا عرفيّا قابلا للتّفهيم والتّفهّم حسب النّظر العرفي ، وواضح ، أنّ ما ذكره قدس‌سره من الجامع المستكشف بقاعدة : «الواحد» ومن ناحية البرهان الإنّي (وهو استكشاف وحدة المؤثّر الجامع لوحدة الأثر) لا يكون أمرا عرفيّا حتّى يكون مسمّى بلفظ : «الصّلاة» وموردا للأمر والخطاب ، فما لا يشار إليه إلّا بالأثر ولا يعرف إلّا من ناحيته ، كيف يوضع اللّفظ بإزائه! وكيف يصير متعلّقا للأمر والخطاب الشّرعي الملقى على وفق المفاهيم العرفيّة!

وبعبارة اخرى : أنّ حكمة الوضع ليست إلّا التّفهيم والإفادة ، فلا بدّ أن توضع اللّفظ ، بإزاء المعاني الّتي يتلقّاها أهل المحاورة وهي المعاني العرفيّة القابلة للإفادة والاستفادة عندهم ، وأمّا المعاني الدّقّية الفلسفيّة الّتي لا ينالها فهم العرف ، فلا فائدة في وضع الألفاظ بإزائها ، بل كان الوضع حينئذ لغوا.

ولا يخفى : أنّ ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره من الجامع يكون من هذا القبيل ، حيث إنّه لا علم لكثير من أهل العرف بأنّ الصّلاة «ناهية عن الفحشاء والمنكر» وأنّها تؤثّر هذا الأثر كي يتمكّنون من استكشاف جامع ذاتي مقولي بمعونة ما اشير

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥٢ و ٥٣.

١٦٥

إليه من الأثر ، فهل يصحّ أن يقال : أنّ العرف يفهم من قولنا : «زيد صلّى» أو «زيد يصلّي» جامعا ذاتيّا مقوليّا ، مع أنّ أخذ هذا الجامع من مثل «الصّلاة» غير معقول لتركّبها من مقولات ، نظير مقولة «كيف» و «وضع» وغيرهما ، والمقولات أجناس متباينات بتمام الذّات ، على ما قرّر في محلّه.

وبالجملة : حيث إنّ الصّلاة مركّبة من تلك المقولات المتباينة ذاتا ، والمركّب ليس إلّا الأجزاء بالأسر ، فلا جامع ذاتيّا لمرتبة واحدة منها ، فضلا عن مراتبها الكثيرة المختلفة كمّا وكيفا. هذا كلّه في الجامع الذّاتي.

وأمّا الجامع العنواني ، كعنوان «النّاهي» فوضع الصّلاة بإزائه وإن كان ممكنا ثبوتا ، لكن لا دليل عليه إثباتا ، بل الدّليل على خلافه ، لصحّة استعمالها في المعنون بلا تجوّز وعناية مع أنّه غير العنوان ؛ مضافا إلى أنّ القول بوضعها لنفس العنوان سخيف جدّا ، وإلّا لزم التّرادف بين الصّلاة والنّاهي ، وهو كما ترى.

هذا ولكن أشكل المحقّق النّائيني قدس‌سره عليه ـ أيضا ـ حيث قال بعد ذكر مقدّمة ، ما هذا لفظه : «أنّ العبادات كلّها من قبيل العلل المعدّة ، فإنّ المأمور به فيها هي أنفسها ، لا ما يترتّب عليها من الأغراض ، فيعلم أنّ نسبة العبادات إليها نسبة العلل المعدّة إلى معاليلها ، لا نسبة الأسباب التّوليديّة إلى مسبّباتها ، ويحتاج ترتّب الأغراض عليها إلى توسّط امور إلهيّة غير اختياريّة للمكلّف ، وإلّا لكان تعلّق الأمر بنفس الغرض مع عدم كونه أمرا عرفيّا معلوما ـ نظير الطّهارة الخبثيّة ـ أولى من تعلّقه بنفس الأجزاء والشّرائط ، فلا يعقل أن يكون هناك جامع يكون عنوانا للمصاديق في مقام التّسمية وتعلّق الخطاب ، والغرض تصوير الجامع في هذا المقام». (١)

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٩ و ٤٠.

١٦٦

وفيه : أنّ هذا الإشكال مبتن على القول بكون الصّلاة موضوعة لنفس الآثار أو للمقيّد بها أو بالملاكات ، وهذا كلّه خلاف ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بل كلامه صريح في أنّها موضوعة للجامع المؤثّر ، وأنّ الآثار ممّا يشار بها إلى ذلك الجامع ، فالمسمّى هو نفس الجامع من حيث هو المكشوف المحرز من ناحية آثاره وخواصّة ، لا من حيث هو مقيّد بالآثار أو بالملاكات وهو متعلّق بالتّكليف والأمر من دون تقييد بها أو بالملاكات.

على أنّه لا مانع من تعلّق التّكليف بالمقيّد بالآثار أو الملاكات ، ولا يلزم منه التّكليف بغير المقدور ؛ إذ الصّلاة الواجدة للأجزاء والشّرائط تترتّب عليها الملاكات وتتعقّب بالخواصّ والآثار قهرا ، فحينئذ تكون الآثار مقدورة بالواسطة.

هذا ، ولكنّ التّحقيق في تصوير الجامع يقتضي أن يقال : إنّ الجامع في المجعولات الشّرعيّة ، كالصّلاة ـ مثلا ـ هو نظير الجامع في الامورات الاعتباريّة والمركّبات غير الحقيقيّة ، كالخبز ونحوه.

توضيحه : أنّه لا ريب في أنّ التّسمية في الامور الاعتباريّة على اختلافها من كلّ جهة إنّما تكون بنحو التّواطي ابتداء ، ثمّ يعرضها التّشكيك تدريجا ، ألا ترى ، أنّهم وضعوا ابتداء للمطبوخ من دقيق الحنطة اسما وهو «الخبز» ثمّ وجدوا دقيق الشّعير إذا طبخ يفي بعين ما هو المقصود من «الخبز» من دقيق الحنطة وهو سدّ الجوع ، فوسّعوا في الإسم فسمّوه «الخبز» ، أيضا.

وكذلك دقيق الارز والذرّة وغيرهما مع خليط آخر أو بدونه ، ومع تغيير خصوصيّات من الشّكل وغيره وبدونه ، فلم يزالوا يوسّعون في الإسم حتّى حصلت المراتب على اختلافها الشّديدة ، لكن في أوّل المراتب إنّما اعتبروا جامعا متواطئا

١٦٧

بالنّسبة إلى أفراده غير المختلفة ، ثمّ اعتبروا وحدتها النّوعيّة مع ما يليها من المراتب ، ثمّ الثّالثة مع الثّانية ، والرّابعة مع الثّالثة ، وهكذا ، فوجدوا المراتب مختلفة اختلافا شديدا بحيث كلّ ما ازدادت المراتب ، ازداد الجامع إبهاما ، فحكموا بكون المفهوم الجامع مشكّكا في غاية الإبهام وتشبثوا لفهمه بالمعرّفات من الآثار والأغراض.

ولا يخفى : أنّ المجعولات الشّرعيّة من العبادات ، كالصّلاة تكون من هذا القبيل ، حيث إنّها شرّعت ابتداء ـ على ما فرضه الله تعالى ـ ركعتين مع ما لها من الأجزاء والشّرائط ، فأخذ معناها الجامع جامعا متواطئا يصدق على أفراده على وتيرة واحدة ، ثمّ اضيف إليها ما فرضه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصرّف فيها بالتّصرّفات المختلفة بالعفو والاعتبار بحسب الحالات الطّارئة والأعذار اللّاحقة من السّفر والحضر والخوف والمرض ونحوها حتّى وصلت النّوبة إلى صلاة الغريق ، وهي مجرّد إيماء قلبي ، فالصّلاة ، كما ترى تبتدئ من جامع متواط في مرتبة واحدة ، ثمّ بين كلّ مرتبة وما يليها ، ثمّ اعتبر جميع هذه الجوامع المتواطئة المختلفة وسبك جامع واحد منها ، فينتج التّشكيك.

فقد تبيّن ، أنّ الجامع في المركّبات الاعتباريّة ومنها العبادات الشّرعيّة ، معنى مبهم تشكيكي يتوصّل إلى اعتباره أوّلا باعتبار جوامع متواطئة يستنتج هو منها ، وإلى فهمه ثانيا بالمعرّفات من الأغراض والآثار ، هذا كلّه ما أشار إليه السّيّد الاستاذ العلّامة الطّباطبائي قدس‌سره (١) وقريب منه ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره. (٢)

__________________

(١) راجع ، حاشية الكفاية : ص ٤٢ و ٤٣.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٥٦ و ٥٧ ؛ ومناهج الاصول : ج ١ ، ص ١٥٥ الى ١٥٧.

١٦٨

الجهة السّادسة : ثمرة النّزاع على القولين

اعلم ، إنّهم ذكروا ثمرات متعدّدة للنّزاع في المسألة ، والعمدة منها اثنتان :

إحداهما : أنّه إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيته للمأمور به ، فيحكم بالاشتغال والاحتياط ؛ بناء على القول بالصّحيح ، ويحكم بالبراءة ؛ بناء على القول بالأعمّ.

ثانيتهما : أنّه يجوز التّمسّك بالإطلاق في الشّكّ المذكور ؛ بناء على القول الأعمّي ، ولا يجوز بناء على قول الصّحيحي.

أمّا الثّمرة الاولى ، فتوضيحها : أنّه على القول بالأعمّ يكون الفاقد للمشكوك فيه من الجزء أو الشّرط ، مصداقا من مصاديق المسمّى بالصّلاة ـ مثلا ـ فيرجع الشّكّ المذكور إلى الشّكّ في جزئيّة شيء أو شرطيته للمسمّى ، وهذا يكون مجرى للبراءة.

وأمّا على القول بالصّحيح ، فالشّكّ المذكور مساوق للشّكّ في صدق المسمّى وعدم صدقه ، وهذا مجرى للاحتياط ، فيؤتى المشكوك حتّى يعلم الإتيان بالمسمّى المأمور به.

وبالجملة : صدق المسمّى المأمور به في الفرض ، معلوم على الأعمّ ، ومشكوك على الصّحيح ، فتظهر الثّمرة بينهما فيما ذكرنا.

هذا ، ولكن التّحقيق : عدم الفرق بين القولين في التّمسّك بأحد الأصلين من البراءة أو الاشتغال ، أمّا على القول بالأعمّ ، فلأنّ المسألة مندرجة تحت كبرى مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطييّن ، فتجري البراءة ؛ بناء على القول بانحلال العلم الإجمالي ـ في تلك المسألة ـ إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدويّ بالنّسبة إلى الأكثر ، ويجب الاشتغال والاحتياط لو قيل : بعدم الانحلال.

١٦٩

وعليه ، فلا ملازمة بين القول بالأعمّ والرّجوع إلى البراءة.

وأمّا على القول بالصّحيح ، فلأنّ الالتزام بالاحتياط والاشتغال فيه ، مبتن على رجوع الشّكّ المذكور إلى الشّكّ في المحصّل بأن يكون متعلّق التّكليف عنوانا بسيطا خارجا عن الأجزاء والشّرائط مسبّبا عنهما ، وانّهما كانتا من الأسباب والأمور المحصّلة له ، نظير القتل المسبّب المحصّل عن مقدّمات وأسباب محصّلة خارجيّة ، ونظير الطّهارة الخبثيّة المسبّبة عن الغسل أو الطّهارة الحدثيّة المسبّبة عن الوضوء والغسل والتّيمّم ، فحينئذ لا بدّ من الاشتغال ؛ إذ المفروض اشتغال الذّمّة بأمر بسيط معلوم ، فلا مناص في مقام الامتثال من إتيان كلّ ما يحتمل دخله في حصوله كي يحصل اليقين بفراغ الذّمّة بعد القطع بشغلها ، ولكن ليس الأمر كذلك في مثل «الصّلاة» ؛ إذ المفروض فيها تعلّق التّكليف بالطّبيعي والجامع بين الأفراد الصّحيحة الّذي نسبته إلى الأجزاء والشّرائط نسبة الطّبيعي إلى أفراده ، والكلّي إلى مصاديقه ، لا نسبة المسبّبات والمحصّلات إلى أسبابها ومحصّلاتها ؛ إذ الجامع الطّبيعي موجود بعين وجود الأفراد ومتحقّق بعين تحقّق الشّرائط والأجزاء ، لا بوجود آخر غير وجودهما ، وهذا بخلاف المسبّبات والأسباب ، فإنّهما موجودان بوجودين كلّ منهما موجود بوجود مستقلّ ، إلّا أنّ أحدهما مسبّب محصّل والآخر سبب محصّل ، فحينئذ لا بدّ من الرّجوع إلى البراءة عند الشّكّ المذكور ، بناء على الانحلال ، كما عرفت في القول بالأعمّ.

فتحصّل : أنّ القول بالأعمّ لا يلازم جريان البراءة عند الشّكّ المذكور دائما ، وكذلك القول بالصّحيح فهو ـ أيضا ـ لا يلازم جريان الاشتغال ، بل الأساس هو القول بالانحلال وعدمه ، وكون المسألة من صغريات مسألة الأقلّ والأكثر

١٧٠

الارتباطييّن. هذا كلّه في الثّمرة الاولى.

وأمّا الثّمرة الثّانية : (جواز التّمسّك بالإطلاق أو العموم على الأعمّي ، وعدم جوازه على الصّحيحي) فتوضيحها : أنّ التّمسّك بالإطلاق بعد تماميّة مقدّماته ، من كون المتكلّم في مقام البيان وعدم نصب قرينة على التّعين ـ كما سيأتي في محلّه ـ إنّما يجوز بعد الفراغ عن إحراز الصّغرى ، وصدق عنوان المطلق على المورد المبحوث عنه ، وكون الشّكّ في افق الحكم فقط ، وإلّا فلا ؛ لكونه حينئذ تمسّكا بالإطلاق في الشّبهة المصداقيّة ، وكذا الحال في التّمسّك بالعموم ، فلا يتمسّك به إلّا بعد الفراغ عن مرحلة المصداقيّة ومحوض الشّكّ في الحكم.

وبالجملة : حيث إنّ التّمسّك بالإطلاق أو العموم من قبيل التّمسّك بالكبرى ، فلا بدّ فيه من إحراز الصّغرى.

وإن شئت ، فقل : إنّ التّمسّك بهما ، كالتّمسّك بسائر الأحكام ، لا بدّ فيه من إحراز الموضوع.

وعلى هذا ، ففي المقام يجوز التّمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ ، لدفع احتمال دخل شيء في المأمور به شطرا أو شرطا بعد إحراز كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على التّعيين ؛ وذلك ، لأنّ المفروض صدق المسمّى بناء على هذا القول.

نعم ، لو شكّ في كون شيء داخلا في المسمّى لا يجوز التّمسّك به على القول بالأعمّ ـ أيضا ـ ؛ لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّبهة المصداقيّة ، وإليه أشار صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : «في غير ما احتمل دخوله فيه» (١) هذا بناء على القول بالأعمّ.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٤٢.

١٧١

وأمّا بناء على القول بالصّحيح ، فلا يجوز التّمسّك بالإطلاق لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في صدق عنوان المطلق ك «الصّلاة» على الفاقد للمشكوك فيه شطرا أو شرطا ، لاحتمال دخله في المسمّى ، فيكون التّمسّك به على هذا تمسّكا به في الشّبهة المصداقيّة.

وقد اورد على هذه الثّمرة بوجوه :

منها : أنّه لا فرق بين القولين في جواز التّمسّك بالإطلاق وعدمه ؛ إذ الملاك في الجواز أمران : أحدهما : كون المتكلّم في مقام البيان ؛ ثانيهما : عدم نصب قرينة على التّعيين ؛ وأمّا كون الوضع للصّحيح أو للأعمّ ، فلا دخل فيه أصلا.

وعليه ، فللصّحيحي ـ أيضا ـ التّمسّك بالإطلاق فيما إذ احتمل دخل شيء في المأمور به شطرا أو شرطا ، والاكتفاء بما هو المتيقّن ؛ ولذا ترى ، أنّ الفقهاء يتمسّكون بإطلاق صحيحة حمّاد (١) الواردة في مقام بيان الشّرائط والأجزاء للصّلاة ، لنفي وجوب الاستعاذة فيها.

وفيه : ما عرفت آنفا ، من أنّ التّمسّك بالإطلاق ـ لو تمّت المقدّمات ـ إنّما يتأتّى بعد الفراغ عن إحراز الموضوع وصدق عنوان المطلق على المورد المبحوث عنه وأنّه من مصاديقه.

وعليه ، فعلى القول بالصّحيح يرجع الشّكّ المذكور إلى الشّكّ في أصل الصّدق ؛ لاحتمال دخل المشكوك فيه ، في المسمّى ، فلا مجال للأخذ بالإطلاق ، بخلافه على القول بالأعمّ.

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١ من أبواب أفعال الصّلاة ، الحديث ١ ، ص ٦٧٣ و ٦٧٤.

١٧٢

وأمّا إطلاق «صحيحة حمّاد» فالتّمسّك به إنّما هو بالإطلاق المقامي ، لا الإطلاق اللّفظي المبحوث عنه في المقام.

توضيح ذلك : أنّ الإطلاق اللّفظي لا بدّ فيه من وجود لفظ مطلق دالّ على الجامع الطّبيعي الكلّي القابل للانطباق على أفراد ومصاديق ، حتّى على المورد المبحوث عنه المشكوك فيه ، ثمّ بعد ذلك ، لا بدّ من إحراز كون المتكلّم في مقام البيان مع عدم نصب قرينة على التّعيين ؛ ولذا لا مجال للتّمسّك به على الصّحيحي لما اشير إليه من المحذور.

وأمّا الإطلاق المقامي ، فلا يعتبر فيه وجود لفظ مطلق متعلّق للحكم ، وإلّا ، فلا يصل الدّور إليه ، بل إنّما يعتبر فيه سكوت المتكلّم عن بيان المشكوك فيه مع كونه في مقام بيان الأجزاء والشّرائط بأسرها ، مثل ما إذا كان المولى الآمر بشراء أشياء من اللحم والشّحم ونحوهما ، في مقام بيان جميع ما يأمر بشرائه ، فلم يذكر الدّهن والعسل ، فيستكشف منه أنّه لم يردهما ، وإلّا لبيّنهما.

ولاريب : أنّ إطلاق الصّحيحة من هذا القبيل ؛ حيث إنّ الإمام عليه‌السلام كان في مقام بيان الأجزاء والشّرائط ، وحيث لم يبيّن الاستعاذة ، يستكشف عدم دخلها في الصّلاة.

وعليه ، فلا مانع من التّمسّك به ؛ بناء على الصّحيحي ، أيضا.

ومنها : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من أن أدلّة العبادات من الكتاب والسّنة لم ترد في مقام البيان ، بل إنّها ترد في مقام التّشريع والجعل بلا نظر لها إلى خصوصياتها من الكميّة والكيفيّة ، وعليه ، فلا إطلاق في البين كي تمسّك به بلا فرق بين القولين ، واليك نصّ كلامه : «لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التّمسّك بالإطلاقات الواردة في

١٧٣

الكتاب والسّنّة ، من قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٢) إلى غير ذلك ، إلّا بعد معرفة الصّلاة والزّكاة والحجّ والعلم بما هو المصطلح عليه شرعا من هذه الألفاظ ؛ بداهة ، أنّ هذه الماهيّات من المخترعات الشّرعيّة ، وليس في العرف منها عين ولا أثر ، فلو خلّينا وأنفسنا لم نفهم من قوله : «أقيموا الصّلاة» شيئا ، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الإطلاقات واردة في مقام البيان ... فتحصّل ... أنّ التّمسّك بالإطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين». (٣)

وفيه : ما لا يخفى ، من الضّعف والوهن ، فهل ينبغي أن يتفوّه بإنكار الإطلاق في مثل آية الصّيام وهي قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٤) مع أنّها في مقام البيان بلا شبهة ، إذ المراد من كلمة : «الصّيام» عرفا ولغة ، هو الكفّ عن الأكل والشّرب ، وهذا المقدار كان ثابتا في الشّرائع والأديان السّابقة ؛ ولذا قال الله تعالى بعد آيات : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٥) فالمعتبر في حقيقة الصّوم ليس إلّا الكفّ عن الأمرين عند تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، نعم ، يعتبر فيه الكفّ عن بعض امور أخر في شريعة الإسلام ، مثل الكفّ عن الجماع والارتماس وغيرهما ممّا لم يعتبر الكفّ عنه في سائر الأديان.

__________________

(١) سورة البقرة (٢) : الآية ٤٣.

(٢) سورة آل عمران (٣) : الآية ٩٧.

(٣) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٧٧ و ٧٨.

(٤) سورة البقرة (٢) : الآية ١٨٣.

(٥) سورة البقرة (٢) : الآية ١٨٧.

١٧٤

وعليه ، فالإطلاق تامّ منعقد يتمسّك به عند الشّكّ في اعتبار شيء في صحّة الصّوم في الإسلام ، فيثبت عدم اعتباره فيه. هذا بالنّسبة إلى الكتاب.

وأمّا السّنّة ، فيكفي ما ورد فيها كثيرا ، من المطلقات البيانيّة ، مثل ما ورد في التّشهّد من قوله عليه‌السلام : «يتشهّد» (١) حيث إنّ مقتضى الإطلاق ، هو الاكتفاء بالشّهادتين ، فلو شكّ في دخل شيء آخر فيه شطرا أو شرطا يتمسّك بالإطلاق لنفي اعتباره.

ومنها : ما أشار إليه المحقّق العراقي قدس‌سره من أنّ إطلاق أدلّة العبادات أو تقييدها ، لا يلاحظ بالقياس إلى المسمّى حتّى يصحّ التّمسّك للأعمّي دون الصّحيحي ، بل يلاحظ بالقياس إلى المأمور به الّذي لا ريب في كونه عملا صحيحا ، وعليه ، فلا مجال للأخذ بالإطلاق للأعمّي ـ أيضا ـ لأنّ الشّكّ في جزئيّة شيء ، أو شرطيّته يرجع حينئذ إلى الشّكّ في صدق المأمور به الصّحيح على الفاقد ، فالتّمسّك بالإطلاق يكون من قبيل التّمسّك به في الشّبهة المصداقيّة.

وبالجملة : لا فرق على هذا الوجه بين القولين ، في عدم جواز التّمسّك بالإطلاق لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في الصّدق ، إمّا في صدق المسمّى على الصّحيحي ، أو في صدق المأمور به على الأعمّي ، فيكون التّمسّك بالإطلاق على كلا القولين تمسّكا به في الشّبهة المصداقيّة. (٢)

وفيه : أنّ الأمر والبعث إنّما تعلّق بنفس ما في لسان الدّليل من العنوان ،

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٧ من أبواب التّشهّد ، الحديث ٦ ، ص ٩٩٦ ؛ والباب ٨ ، الحديث ١ ، ص ٩٩٧.

(٢) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ١٣٠.

١٧٥

كالصّلاة والصّوم ، ولم يتعلّق بعنوان الصّحيح ، أو بالعنوان المقيّد بالصّحيح ، أو بعنوان آخر ملازم للصّحيح ، أو بالعنوان المقيّد بالملازم للصّحيح.

وبعبارة اخرى : إنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس العناوين والموضوعات ، مجرّدة عن عنوان الفساد والصّحّة ، وعليه ، فللأعمّي أن يتمسّك بإطلاق ما هو المأخوذ في لسان الدّليل من العنوان ، لنفي ما شكّ في اعتباره في المأمور به شطرا أو شرطا.

وأمّا الصّحيحي ، فلا مجال له التّمسّك بالإطلاق لرجوع شكّه هذا إلى الشّك في تحقّق أصل المسمّى ، فيكون المورد شبهة مصداقيّة للعنوان المطلق ، بل لا بدّ له من إتيان كلّ ما يحتمل دخله في المأمور به بمقتضى قاعدة الاشتغال.

وإن شئت ، فقل : إنّ المسمّى صادق ومتحقّق على القول الأعمّي ، ولا شكّ فيه ، إنّما الشّكّ في دخل شيء في صحّته وعدمه ، فيدفع بالإطلاق.

وأمّا على قول الصّحيحي ، فصدق أصل المسمّى وتحقّقه غير معلوم ، فلا يجوز التّمسّك بالإطلاق ، لما عرفت آنفا.

فتحصّل أنّ الإشكالات الثّلاث المذكورة غير واردة على الثّمرة الثّانية ، وإنّما يرد الإشكال عليها بأنّ هذه الثّمرة ليست ثمرة إلّا المسألة المطلق والمقيّد ، وأمّا مسألة الصّحيح والأعمّ ، فهي من صغريات تلك المسألة ومباديها ؛ حيث إنّه يبحث فيها عن ثبوت الإطلاق وعدمه.

ومن المعلوم : أنّ مسألة جواز التّمسّك بالإطلاق وعدمه مسألة اصوليّة ، والبحث عن ثبوت الإطلاق وعدمه ، بحث عن الصّغرى والمبادي ، فتأمّل.

وانقدح ممّا ذكرنا ، أنّ مسألة الصّحيح والأعمّ ممّا لا يترتب عليها شيء من الثّمرتين المذكورتين.

١٧٦

نعم ، قد يقال : بظهور الثّمرة في النّذر (١) ، بتقريب : أنّه لو نذر شخص إعطاء درهم لمن صلّى ، فبناء على الأعمّ يحصل له البرء لو أعطاه لمن صلّى ولو علم بفساد صلاته ، وأمّا بناء على الصّحيح ، فلا يحصل له البرء.

وفيه : أوّلا : أنّ وجوب الوفاء بالنّذر أجنبي عن مسألة الصّحيح والأعمّ ، وعن وضع الألفاظ للأوّل ، أو الثّاني ، بل يكون تابعا لقصد النّاذر ، فلا تبرأ ذمّته بالإعطاء لمن صلّى صلاة فاسدة لو كان قصده صلاة صحيحة وإن قلنا : بوضعها للأعمّ ، كما أنّه تبرأ ذمّته بالإعطاء لمن صلّى فاسدة لو كان قصده الصّلاة مطلقا وإن قلنا : بوضعها للصّحيح.

وثانيا : أنّ مسألة الصّحيح والأعم ليست باصوليّة ، لما عرفت من كونها من المسائل اللّغويّة ، ومن المبادي وصغريات مسألة المطلق والمقيّد ، أو مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطييّن ، فلا ثمرة اصوليّة لها.

وثالثا : أنّ الثّمرة الاصوليّة عبارة عمّا يقع في طريق استنباط الحكم الفرعيّ الكلّي ، والمورد ليس من هذا القبيل ، بل من قبيل تطبيق الحكم الكلّي على موارده ومصاديقه. هذا كلّه في المقام الأوّل (العبادات).

وأمّا المقام الثّاني (المعاملات) ، فالكلام فيه يقع في موردين :

الأوّل : فيما ذهب إليه المشهور ، من جواز التّمسّك بالإطلاقات في باب المعاملات (٢) على كلا المسلكين ، لا على خصوص القول بالأعمّ ؛ ولذا قالوا : بأنّ الثّمرة المذكورة في العبادات منتفية هنا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٤٣.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ١٩٤.

١٧٧

الثّاني : فيما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من أنّه لا مجال للنّزاع في المعاملات إذا كانت أساميها موضوعة للمسبّبات ؛ لكون المسبّبات امورا بسيطة غير قابلة للفساد والصّحّة ، بل أمرها دائر بين الوجود ـ عند وجود أسبابها ـ والعدم ، عند عدمها ، وتبعه ـ أيضا ـ جمع من الأعلام (٢).

أمّا المورد الأوّل : فالحقّ فيه ما ذهب إليه المشهور ، فيجوز التّمسّك بالإطلاقات في المعاملات وإن قيل : بوضع ألفاظها للصّحيح.

تقريب ذلك : أنّ المعاملات تفارق العبادات ، فليست من الماهيّات الشّرعيّة والامور المخترعة من قبل الشّريعة المقدّسة شطرا أو شرطا ، بل تكون من الماهيّات العرفيّة والامور المخترعة العقلائيّة قبل الإسلام ، والشّارع جرى على طريقة العقلاء من دون تأسيس وإبداع ، بل مع تصويب وإمضاء.

نعم ، قد تصرّف في بعض الموارد منها تصرّفا إصلاحيّا ، نظير ما نهى عن بيع المنابذة أو الملامسة أو المعاملة الرّبويّة ، ونظير ما اعتبر في النّكاح من الصّيغة ، وفي الطّلاق من اللّفظ المخصوص.

وعليه ، فالأدلّة الواردة في المعاملات من ناحية الكتاب والسّنّة لا شأن لها إلّا إمضاء المعاملات القوليّة والفعليّة ، فإن ورد دليل شرعيّ على اعتبار شيء شطرا أو شرطا ، يؤخذ به ، وأمّا مع الشّكّ ، فيؤخذ بإطلاق تلك الأدلّة الإمضائيّة ، سواء

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٤٩.

(٢) راجع ، درر الفوائد : ج ١ ، ص ٥٤ ؛ ونهاية الدّراية في شرح الكفاية : ج ١ ، ص ٧٦ و ٧٧ ؛ مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٦٩.

١٧٨

كانت من قبيل أدلّة الصّحة والنّفوذ ، كقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢) ونحوهما ، أو من قبيل أدلّة الحتميّة واللّزوم ، كقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٣).

وبالجملة : يجوز التّمسّك بإطلاق هذه الأدلّة إذا شكّ في اعتبار شيء في المعاملة زائدا على ما كان معتبرا فيها حسب أنظار العرف والعقلاء ، فيقال : إنّ الشّارع المقدّس لمّا كان في مقام البيان ولم يبيّن مورد الشّكّ ، فيعلم عدم اعتباره ، والأمر كذلك حتّى على القول : بكون ألفاظ المعاملات موضوعة للصّحيحة منها ؛ لعدم رجوع الشّكّ إلى المسمّى ، كما في العبادات.

نعم ، لو شكّ في اعتبار شيء في المعاملات عرفا ، كالماليّة أو نحوها في مثل البيع ، فلا مجال للأخذ بالإطلاق بناء على الصّحيح ؛ لعدم إحراز الصّغرى ، وعدم صدق عنوان «البيع» على مبادلة ما لا ماليّة له.

وأمّا بناء على الأعمّ ، فيؤخذ بالإطلاق إلّا إذا شكّ في دخل شيء في نفس المسمّى ، فحينئذ لا مجال للأخذ بالإطلاق على هذا القول ، أيضا.

وقد انقدح ممّا ذكرنا (من الفرق بين العبادات والمعاملات) عدم تماميّة ما اورد على الشّهيد قدس‌سره بأنّه قدس‌سره يقول : إنّ ألفاظ الماهيّات الجعليّة ، كالصّلاة والصّوم والبيع والصّلح ونحوهما من سائر العقود ، حقيقة في الصّحيح ، ومجاز في الفاسد ، إلّا الحجّ ؛ لوجوب المضيّ فيه ، مع أنّه قدس‌سره يتمسّك بإطلاقات المعاملات ، وأنت قد عرفت :

__________________

(١) سورة البقرة (٢) : الآية ٢٧٥.

(٢) سورة النّساء (٤) : الآية ٢٩.

(٣) سورة المائدة (٥) : الآية ١.

١٧٩

أنّ الصّحيحي لا يجوز له التّمسّك بها لإجمال الخطاب ورجوع الشّبهة إلى المصداقيّة. (١)

وجه عدم تماميّة ذلك ، ما عرفت آنفا ، من الفرق بين باب المعاملات وباب العبادات ؛ حيث إنّ الصّحّة في المعاملات هي الصّحّة العرفيّة العقلائيّة الّتي هي أعمّ منها عند الشّارع ، وأمّا الصّحّة في العبادات فهي الشّرعيّة وبحسب نظر الشّارع ، فلا مانع من التّمسّك بالإطلاقات في باب المعاملات على قول الصّحيحي ، ولهذا كان الشّهيد قدس‌سره وأتباعه يتمسّكون بإطلاق أدلّة المعاملات ، مع قولهم بوضع ألفاظها للصّحيحة منها.

فتحصّل : أنّ أدلّة المعاملات لا تقضي إلّا الإمضاء والتّصويب للمعاملات بمالها من المعاني العرفيّة الارتكازيّة المعلومة في أذهانهم ، فليس لألفاظها المستعملة في الشّريعة المقدّسة مفاهيم حديثة ومعان جديدة ، وعليه ، فأدلّة الرّدع في بعض الموارد ، لا تكون راجعة إلى التّخصص والخروج الموضوعي ، بل تكون راجعة إلى التّخصيص والخروج الحكميّ ، فالبيع الرّبوي ، أو الغرري أو نحوهما يكون بيعا ، لكنّه ليس بحلال نافذ.

وقد تمسّك المحقّق العراقي قدس‌سره بالإطلاق المقامي ، هنا فقال : «والّذي يسهّل الخطب هو أنّه يمكن التّمسّك بالإطلاق المقامي لرفع الشّكّ على هذين النّحوين ، وتقريبه : أنّه لا ريب في أنّ الشّارع المقدّس قد حكم بلزوم الوفاء بالعقود ، والمفروض أنّه يريد بالعقود ، المعاملات الّتي يراها في الواقع نافذة ، وجامعة للخصوصيّات تقوم

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ١٩٥.

١٨٠