مفتاح الأصول - ج ١

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣

أمّا مقام الثّبوت ، فنقول : إنّ غاية ما يمكن أن يقال في تصوّر القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة ، وجوه :

الأوّل : قد حقّق في مبحث الوضع ، أنّه عبارة عن تعيين اللّفظ بإزاء المعنى بلا حصول علاقة تكوينيّة بينهما أصلا ، لا بنحو العلّيّة والمعلوليّة ولا بنحو الملازمة ، وأنّ تفسيره بالتّعهّد والالتزام (تعهّد الواضع والتزامه بأنّه متى أراد إفهام المعنى الفلاني تكلّم بلفظ كذا) أو بنحو ارتباط خاصّ بين اللّفظ والمعنى ، ممنوع ؛ لكونه راجعا إلى التّفسير باللّازم ، كما أنّ القول بكون الوضع حيثيّا لا مطلقا ـ أيضا ـ مردود ؛ لابتنائه على ما اشير إليه من التّفسير.

ومن المقرّر في محلّه : أنّ أفعال ذوي العقول معلّلة بالأغراض والغايات حتّى الأفعال العبثيّة واللّغويّة. (١)

فالعلّة الغائيّة في الأفعال ممّا لا بدّ منها ، وهي من العلل الأربع ، وتكون علّة لفاعليّة الفاعل بوجودها العلميّ ، ومعلولا متأخّرا بوجودها العينيّ ، ولذا قالوا في بيان موقف الغاية : «إنّها أوّل البغية وآخر الدّرك» أو : «أوّل الفكر وآخر العمل» فهي بوجودها العلميّ الذّهني مؤثّرة في تحريك الفاعل وبعثه نحو العمل ، والمعلول لكونه رشحة من رشحات العلّة يكون تابعا لها سعة وضيقا ، إطلاقا وتقييدا ، فيتضيّق بضيقها ويتقيّد بتقيّدها ، وليس هذا تقييدا وتضييقا ، بل تقيّد وتضيّق ذاتيّ يدور مدار استعداد المعلول وظرفيّته ، فلا يمكن له أن يكون أوسع من علّته.

__________________

(١) حيث إنّها معلّلة بأغراض غير عقلائيّة.

١٢١

وعليه : ففعل الواضع وهو الوضع لا بدّ أن يكون معلّلا بغاية وغرض ، وحيث إنّ الغرض في الوضع هو إظهار المقاصد وإبراز المرادات ، فيتضيّق الوضع ويصير للمعنى المراد ، لا للمعنى بما هو هو وإلّا صار لغوا.

وفيه : أنّ غاية الوضع إنّما هو إفادة ذوات المرادات وتفهيم نفس المعاني بما هي هي ، لا بما هي مرادة لا شطرا ولا شرطا ، فالمتكلّم اللّافظ إنّما يريد إفادة نفس المعنى ، وكونه مرادا إنّما يكون ـ كالآليّة أو الاستقلاليّة ـ من شئون الاستعمال وطواريه ، أو من مقدّماته الأجنبيّة عن الوضع ، بل كون المعنى مرادا ، أمر مغفول عنه للمتكلّم والمخاطب.

وعليه : فما هو اللّازم ليس إلّا تعلّق الإرادة بالموضوع له ولو حين الاستعمال ، لا أخذها في المستعمل فيه ، فضلا عن الموضوع له ، فلا تلزم اللّغويّة ، وإنّما تلزم لو لم يترتّب على الوضع أثر أصلا حتى حين الاستعمال.

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ كون غاية الوضع إفادة المرادات ووقوعها في سلسلة العلل الفاعليّة ، يقتضي حصولها عند حصول الوضع وتحقّقها علما وتصوّرا عند تحقّق العلقة الوضعيّة ، وأمّا أخذها في المستعمل فيه فضلا عن الموضوع له ، فلا. (١)

الثّاني : أنّ الإرادة بالحمل الأوّلي (مفهوم الإرادة) مأخوذة في الموضوع له شطرا.

وفيه : منع واضح.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٥ و ٣٦.

١٢٢

الثّالث : أنّ الألفاظ توضع لما يحمل عليه مفهوم الإرادة بالحمل الشّائع وهو المراد بالذّات ، أي : الصّورة العلميّة القائمة بالنّفس صدوريّا أو حلوليّا.

وفيه : أنّه يلزم على هذا ، عدم صحّة الحمل على الخارج ، ولا ينطبق المعنى عليه حتّى مع التّجريد.

على أنّه يلزم أن يكون الموضوع له خاصّا في جميع الأوضاع ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

الرّابع : أنّ الألفاظ موضوعة لما هو المراد بالعرض.

وفيه : أنّه يلزم منه عدم صحّة الحمل إلّا بالتّجريد ، مع أنّه يصحّ بدونه ، مضافا إلى ، ما مرّ آنفا من : أنّه يلزم أن يكون الموضوع له خاصّا في جميع الأوضاع ، وهذا كما ترى.

الخامس : أنّ الموضوع له في الألفاظ هو المعاني المرادة على وجه القضيّة الحينيّة لا المشروطة.

وفيه : أنّ هذا الوجه مبتن على ما عرفت في الوجه الأوّل من : أنّ الوضع لا بدّ أن يكون معلّلا بغاية وغرض ، وقد عرفت هناك ما فيه من الخلل والضّعف.

هذا كلّه في مقام الثّبوت.

وأمّا مقام الإثبات ، فالأمر فيه واضح جدّا ؛ حيث إنّه يتبادر نفس المعنى من اللّفظ عند سماعه ولو من جماد أو نبات أو حيوان بلا دخل للإرادة أصلا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا : أنّه لا يمكن أخذ إرادة اللّافظ في معاني الألفاظ لا ثبوتا ولا إثباتا ، بل مقتضاهما هو أنّها موضوعة لذات المعاني من حيث هي هي.

١٢٣

وعليه : فما هو المستفاد من كلام الشّيخ الرّئيس أبو على سينا قدس‌سره (١) وكذا المحقّق الطّوسي قدس‌سره (٢) من أنّ المعنى الموضوع له في الألفاظ ليس إلّا كونه مرادا للّافظ ، محمول على أنّ دلالة الألفاظ على معناها دلالة تصوريّة ، تابعة لإرادة المتكلّم اللّافظ ، كما يعطي ذلك ظاهر كلام الشّيخ قدس‌سره من قوله : «إنّ اللّفظ بنفسه لا يدلّ البتّة ... بل إنّما يدلّ بإرادة اللّافظ» وكذا ظاهر كلام المحقّق الطّوسي قدس‌سره من قوله : «إنّ دلالة اللّفظ لمّا كانت وضعيّة ، كانت متعلّقة بإرادة التّلفّظ الجارية على قانون الوضع» بل هو صريح كلام هذا المحقّق قدس‌سره حيث قال في الجواب عن اشكال العلّامة قدس‌سره ما هذا لفظه :

__________________

(١) راجع ، الشّفاء ، قسم المنطق من الفصل الخامس : ج ١ ، ص ٤٢ و ٤٣ ؛ وإليك نصّ كلامه : «إنّ اللّفظ بنفسه لا يدلّ البتّة ، ولو لا ذلك ، لكان لكلّ لفظ حقّ من المعنى لا يجاوزه ، بل إنّما يدلّ بإرادة اللّافظ ، فكما أنّ اللّافظ يطلقه دالّا على معنى ، كالعين على الدّينار ، فيكون ذلك دلالته ، كذلك إذا خلّاه في إطلاقه عن الدّلالة ، بقي غير دالّ ، وعند كثير من أهل النّظر غير لفظ ، فإنّ الحرف والصّوت فيما أظنّ لا يكون بحسب المتعارف عند كثير من المنطقيّين لفظا أو يشتمل على دلالة ، وإذا كان ذلك كذلك ، فالمتكلّم باللّفظ المفرد لا يريد أن يدلّ بجزئه على جزء من معنى الكلّ ولا ـ أيضا ـ يريد أن يدلّ به عليه ، فقد انعقد الاصطلاح على ذلك ، فلا يكون جزئه البتّة دالّا على شيء حين هو جزئه بالفعل ، اللهمّ إلّا بالقوّة حين نجد الإضافة المشار إليها وهي مقارنة إرادة القائل دلالة بها.

وبالجملة ، فإنّه إن دلّ فإنّما يدلّ لا حين ما يكون جزءا من اللّفظ المفرد ، بل إذا كان لفظا قائما بنفسه ، فأمّا وهو جزء فلا يدلّ على معنى البتّة».

(٢) راجع ، الإشارات والتّنبيهات : ج ١ ، ص ٣٢ ؛ وإليك نصّ كلامه : «لأنّ دلالة اللّفظ لما كانت وضعيّة كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفّظ به ، ويراد به معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى يقال له : إنّه دالّ على ذلك المعنى ، وما سوى ذلك المعنى ممّا لا تتعلّق به إرادة المتلفّظ وإن كان ذلك اللّفظ أو جزء منه بحسب تلك اللّغة أو لغة اخرى ، أو بإرادة اخرى يصلح لأن يدلّ به عليه فلا يقال له : إنّه دالّ عليه».

١٢٤

«إنّ اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد». (١)

وأمّا احتمال أنّ مرادهما قدس‌سرهما هو وضع الألفاظ للمعاني المرادة على نحو القضيّة الحينيّة ، وأنّها وضعت لذوات المعاني حين إرادتها بلا شطريّة وشرطيّة ، فبعيد عن مساق كلامهما قدس‌سرهما وكذا حمل كلامهما على الدّلالة التّصديقيّة وأنّ دلالتها على كون معانيها مرادة تابعة لإرادتها تبعيّة مقام الإثبات للثّبوت ، فأبعد ؛ لصراحة كلامهما في الدّلالة التّصوّريّة.

على أنّ الإحراز المذكور متوقّف على أصل عقلائيّ وهو أصالة تطابق الإرادتين وهما الاستعماليّة والجدّيّة.

(الأمر الثّالث عشر : وضع المركّبات)

لا يخفى : أنّ المراد من «المركّبات» هنا هو مجموع المادّة والهيئة ، كقولنا : زيد

__________________

(١) راجع ، الجوهر النّضيد : ص ٧ و ٨ ؛ وإليك نصّ كلامه : «اللّفظ يدلّ على تمام معناه بالمطابقة ، دلالة الإنسان على الحيوان النّاطق ، وعلى جزئه بالتّضمّن ، دلالته على بعض أجزائه ، وعلى ملزومه خارجا عنه ، بالالتزام دلالة الضّاحك عليه».

قال العلّامة في شرحه : «الرّابع : اعلم أنّ اللّفظ قد يكون مشتركا بين المعنى وجزئه ، أو بينه وبين لازمه ، وحينئذ يكون لذلك اللّفظ دلالة على ذلك الجزء من جهتين ، فباعتبار دلالته عليه من حيث الوضع يكون مطابقة ، وباعتبار دلالته من حيث دخوله في المسمّى يكون تضمّنا ، وكذا في الالتزام ، فكان الواجب عليه أن يقيّد في الدّلالات الثّلاث بقوله : من حيث هو كذلك ، وإلّا اختلّت الرّسوم. ولقد أوردت عليه (قدس روحه) هذا الإشكال ، وأجاب بأنّ اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد ، واللّفظ حين ما يراد منه المعنى المطابقيّ لا يراد منه التّضمّني ، فهو إنّما يدلّ على معنى واحد لا غير ، وفيه نظر».

١٢٥

قائم ، فالمادّة في هذه الجملة هو كلمة : «زيد» وكلمة : «قائم» والهيئة فيها هو الحاصلة من ضمّ إحداهما إلى الاخرى ، والمركّب فيها هو مجموع المادّة والهيئة.

وقد وقع الكلام في أن للمركّبات وضع على حدة ، غير وضع الموادّ شخصيّا وغير وضع الهيئات نوعيّا ، أو لا؟

والتّحقيق ، كما اختاره الأساطين ومنهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) أنّه لا مجال لتوهّم الوضع لها ، مضافا إلى وضع الموادّ والهيئات ؛ وذلك ، لأنّ المعاني ، إمّا تصديقيّة ـ وهذه هي العمدة في مقام الإفادة والاستفادة ـ وإمّا تصوّريّة.

ومن الواضح : أنّ موادّ المركّبات من الموضوعات والمحمولات ، إنّما تدلّ على المعاني التّصوّريّة ، وهيئاتها إنّما تدلّ على المعاني التّصديقيّة ، فلا يبقى للوضع الآخر وهو وضع المركّبات (مجموع هذه الموادّ والهيئات) معنى محصّل معقول ؛ إذ لا حاجة إليه بعد وفاء المركّبات ـ بوضع موادّها وهيئاتها ـ بتمام المقصود ، وإلّا فيلزم منه محذور اللّغويّة ، مضافا إلى أنّه يلزم منه محذور التّكرار في الدّلالة ؛ إذ لو قيل : بإفادة هذا الوضع الآخر عين ما افيد بالهيئة ، فلازمه دلالة المركّبات على معانيها مرّتين : أحدهما : باعتبار وضع نفسها ، ثانيهما : باعتبار وضع مفرداتها وهو الهيئة ، وهذا كما ترى.

اللهم إلّا أن يقال : بالتّكرار والتّرادف لأجل التّأكيد ، فحينئذ يعقل النّزاع في وضع المركّبات مستقلّا.

فتحصّل : أنّ النّزاع في أنّ المركّبات ، هل لها وضع مستقلّ في قبال مفرداتها

__________________

(١) راجع كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤.

١٢٦

من الموادّ والهيئات ، أم لا؟ ليس نزاعا معقولا مقبولا لما فيه من المحذورين المتقدّمين.

نعم ، هنا احتمال آخر لتصوير النّزاع ، قد تفطّن به الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) وهو أنّ المعاني التّصديقيّة ، هل تستفاد من الهيئة وحدها ، أو هي تستفاد من مجموع الجملة المركّبة من الهيئة والمادّة؟ قولان :

ولا يخفى : أنّ الاحتمال المذكور أمر معقول ينبغي أن يجعل مثل هذا محلّ تحرير النّزاع في المقام ، والمختار فيه هو القول الأوّل ، كما ذهب إليه المشهور (٢) ، والقول الثّاني مردود ، لا بما ذكر في النّزاع المتقدّم ، من أنّ الوضع في المركّبات مستلزم لمحذوري اللّغويّة والتّكرار ؛ وذلك ، لعدم ورود شيء منهما ، بناء على هذا النّزاع ، بل بما حكي عن ابن مالك من أنّه لو كان للمركّبات وضع ، لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم نسبق إليه ، إذا المركّب الّذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد ، فكيف وضعه الواضع! (٣)

اللهم إلّا أن يقال : بالوضع للمجموع نوعيّا ، وهذا ـ أيضا ـ ممنوع.

توضيح المنع ، كما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (٤) هو أنّ الوضع النّوعي للهيئات ـ لمكان وحدتها النّوعيّة ـ ممكن مقبول ، وأمّا للمجموع منها ومن الموادّ فلا ؛ وذلك لتنوّع الموادّ وعدم حصرها بلا جامع واحد عامّ لها كما في الهيئات ، فلو كان للمجموع وضع ، لكان شخصيّا ، وهذا كما ترى ؛ إذ تعلّقه بكلّ ما يتكلّم به المتكلّمون ـ طول

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١١٨ ، حيث قال : «وأظن ، أنّ القول المقابل للمشهور هو وضع مجموع الجملة لإفادة المعاني التّصديقيّة بأقسامها وخصوصيّاتها ، فجملة زيد قائم موضوعة لإفادة الهوهويّة التّصديقيّة ، كما أنّ مفرداتها وضعت للمعاني التّصوّريّة».

(٢) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١١٩.

(٣) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٣٧ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ١١٩.

(٤) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١١٩.

١٢٧

الأعصار والقرون ـ من مجموعات كثيرة غير محصورة ، أمر واضح البطلان.

مضافا إلى أنّه يلزم أن لا يكون للجمل ـ الّتي يحدثها المتكلّمون من الموادّ المختلفة الّتي لم تكن موجودة زمن الواضع أو الواضعين ، نظير كثير من الامور المكتشفة في هذه الأعصار المتأخّرة ـ وضع أصلا.

ثمّ إنّه انقدح ممّا ذكرنا : أنّ كلام ابن مالك ناظر إلى هذا النّزاع المعقول ، وأنّ الإشكال متوجّه إلى القول المقابل للمشهور ، وهو أنّ المعاني التّصديقيّة مستفادة من المجموع المركّب من الهيئة والمادّة دون الهيئة فقط.

ومن العجب العجاب أنّ المحقّق الأصفهاني قدس‌سره استظهر من كلام ابن مالك أنّه جعل محل النّزاع أمرا بديهى البطلان ، وهو دعوى الوضع للمركّب بعد الوضع للمركّبات منفردة ومنضمة ، مدعيا بأنّه لا يخفى على مثل ابن مالك ، أنّ الوضع نوعي لا شخصيّ. (١)

وكيف كان ، لا طائل تحت هذا البحث من صدره إلى ذيله ، ومن بدئه إلى ختمه ، بل بحث علمي محض.

(الأمر الرّابع عشر : تقسيم اللّفظ إلى المفرد والمركّب)

قد قسّم اللّفظ إلى مفرد ومركّب :

والمراد من «المركّب» ما يدلّ جزء لفظه على جزء معناه ، مثل «رامي

__________________

(١) راجع ، نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٣٧.

١٢٨

الحجارة» أو «عبد الله» ونحوهما ممّا يشتمل على المضاف والمضاف إليه ، بخلاف المفرد ، سواء كان بلا جزء ، كحرف الاستفهام وكاف التّشبيه و ، كلفظة «ق» و «ف» من «وقى» و «وفى» ، أم كان ذا جزء ، مثل «زيد» وغيره.

هذا ، ولكن أشكل الإمام الرّاحل قدس‌سره على هذا التّقسيم بقوله : «إن كان اللّفظ بمعنى : الرّمي وإطلاقه على ما خرج من الفم ، معتمدا على أحد المخارج باعتبار رميه منه لم يكن تقسيم اللّفظ إلى المفرد والمركّب صحيحا ؛ لأنّ اللّفظ مفردا كان أو مركّبا ، لم يكن شيئا خارجا من الفم ، فإنّ «زيدا» مثلا مركّب من حروف ، وكلّ حرف لفظ وملفوظ والتّركيب منها اعتباريّ ، فلم يكن المجموع لفظا ولا موجودا إلّا في الاعتبار ، فما وضع للمعاني ليس لفظا ، نعم ، ما لا جزء له ، كهمزة الاستفهام وكاف التّشبيه لفظ موضوع ، وإن كان اللّفظ موضوعا للكلمة أو منقولا إليها ، فتقسيمه إليهما ـ أيضا ـ ليس بصحيح ؛ لأنّ المركّب ك «عبد الله» ليس بلفظ ، بل هو لفظان موضوعان لمعنيين والمجموع ليس لفظا». (١)

وفيه : أنّ أمثال هذه المباحث امور عرفيّة عقلائيّة مبتنية على أساس المساهلة والمسامحة ، وليست مباحث دقيّة عقليّة مبتنية على أساس العقل والمداقّة.

ومن المعلوم : أنّ العرف يرى لفظ «زيد» ـ مثلا ـ الخارج من الفم ، لفظا واحدا مرميّا منه وإن كان مركّبا من الحروف الثّلاثة يرمى واحد بعد واحد.

والمراد من «عبد الله» هو «عبد الله» العلميّ وهو لفظ مفرد واحد له معنى واحد ، لا الإضافيّ الّذي هو لفظان.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

١٢٩

(الأمر الخامس عشر : وضع الألفاظ المفردة والمركّبة)

وقد اختلفت كلمات الأعلام في : أنّ الموضوع له للألفاظ المفردة أو المركّبة ، مطلقا ، تامّة كانت أو ناقصة ، إخباريّة كانت أو إنشائيّة ، فعليّة كانت أو اسميّة ، هل هي المعاني النّفس الأمريّة أو الذّهنيّة بما هي هي ، أو بما هي كاشفة عن الواقع ذهب صاحب الفصول قدس‌سره إلى أنّ النّسبة الخبريّة موضوعة بإزاء النّسبة الذّهنيّة من حيث كشفها عن الواقع ، سواء طابقته أو لا ، علم بها أو لا ، وليست موضوعة لنفس النّسبة الواقعيّة واستدلّ قدس‌سره لذلك بالتّبادر وغيره. (١)

ولكن أجاب عنه الإمام الرّاحل بما لا يخلو عن جودة ومتانة ، واختار قدس‌سره : أنّ الموضوع له هي المعاني النّفس الأمريّة ، لا الذّهنيّة بما هي ، ولا بما هي كاشفة عن الواقع. (٢) وهذا هو الحقّ المختار.

(الأمر السّادس عشر : علائم الحقيقة والمجاز)

اعلم ، أنّ المعنى الموضوع له إذا علم ، إمّا لتنصيص أهل اللّغة أو لكون المستعمل من أهلها ، يكون استعمال اللّفظ فيه حقيقة ، وفي غيره مجازا ـ بناء على ما هو المشهور بينهم ـ ولا حاجة إلى إعمال علائم الحقيقة ، كما هو الواضح.

__________________

(١) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ٢٢.

(٢) راجع ، مناهج الوصول في علم الاصول : ج ١ ، ص ١٢٠ و ١٢١ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٨ و ٣٩.

١٣٠

وأمّا إذا شك ، فحيث إنّه يرجع إلى الشّكّ في الحقيقة والمجاز ، وأنّ المعنى الكذائي حقيقيّ أو مجازيّ ـ بعد العلم بكونه مرادا للمتكلّم ـ فلا بدّ في تمييز المعنى الحقيقيّ عن المجازي من ذكر علائم الحقيقة وهي ـ على ما ذكروا ـ امور :

منها : التّبادر ، والمراد به انسباق المعنى إلى الذّهن من حاقّ اللّفظ ومتنه ، عاريا عن كلّ قرينة حاليّة أو مقاليّة ، متّصلة أو منفصلة ، جليّة أو خفيّة ، لا سرعة حصول المعنى في الذّهن أو سبقه بالنّسبة إلى معنى آخر ؛ والتّبادر بهذا المعنى هو المسمّى بالتّبادر الحاقّى.

ولك أن تعرّف التّبادر : بكون اللّفظ ظاهرا بنفسه في معناه من غير قرينة ، فيكشف منه أنّ ذلك المعنى هو الموضوع له للّفظ دون غيره ، حيث إنّ دلالة اللّفظ على المعنى ، لا بدّ وأن تستند إمّا إلى المناسبة الذّاتيّة كالعلّيّة والمعلوليّة ، وقد عرفت ـ في مبحث الوضع ـ بطلانها ، أو إلى العلقة الوضعيّة أو إلى القرينة بأنحائها ، فمع عدم استنادها إلى القرينة رأسا وبالمرّة ، يعلم أنّها لأجل العلقة الوضعيّة.

هذا ، ولكن أشكل على التّبادر بأنّه مستلزم للدّور.

بتقريب : أنّ تبادر المعنى من اللّفظ ، يتوقّف على العلم بكونه معنى حقيقيّا له والعلم به ـ أيضا ـ يتوقّف على التّبادر ، كما هو المفروض.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم يكن تغاير بين المتوقّف والمتوقّف عليه بوجه ، وأمّا إذا كان بينهما تغاير ولو بنحو الإجمال والتّفصيل ، فالدّور منتف رأسا ، والمقام من هذا القبيل ؛ إذ المتوقّف على التّبادر هو العلم التّفصيلى ، بأنّ هذا اللّفظ وضع بازاء هذا المعنى ، وما يتوقّف عليه التّبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي ـ الحاصل للإنسان الّذي ينشأ وينمو بين أهل اللّغة واللّسان ـ بمعنى اللّفظ الحاصل من علله ومبادئه.

١٣١

هذا ، إذا كان المراد منه ، هو التّبادر عند المستعلم (الجاهل بالوضع) ، فيندفع الدّور بالتّغاير حسب الاعتبار وهو الإجمال والتّفصيل ، وأمّا إذا كان المراد منه هو التّبادر عند غير المستعلم (العالم بالوضع) ، فالتّغاير ذاتيّ ؛ حيث إنّ ما يتوقّف على التّبادر عند أهل اللّسان والعالم بالوضع هو علم المستعلم الّذي هو الجاهل بالوضع ، وما يتوقّف عليه التّبادر عندهم هو علمهم به من أيّة ناحية حصل ، والفرق بين هذين العلمين (علم المستعلم وعلم أهل اللّسان) ذاتيّ ، كما لا يخفى ، هذا هو طريق حلّ شبهة الدّور.

وأمّا الطّريق الّذي سلك إليه المحقّق العراقي قدس‌سره من : «أنّه يكفي في ارتفاع الدّور تغاير الموقوف والموقوف عليه بالشّخص ، لا بالنّوع ولا بالصّنف ، ولا شبهة في مغايرة العلم الشّخصي الحاصل بالتّبادر مع العلم الشّخصي الّذي يتوقّف عليه التّبادر». (١)

ففيه : أنّه إذا كان العلم بالوضع ـ ولو تفصيلا ـ حاصلا قبل التّبادر فما معنى العلم به من ناحية التّبادر؟ وهل هذا إلّا تحصيل الحاصل!

ثمّ إنّ للمحقّق العراقي قدس‌سره تفصيلا في إنكار وجود الثّمرة العمليّة في المقام ، فقال : ما محصّله : أنّ هذا البحث إنّما ينتج بناء على أنّ مدار حجيّة اللّفظ هو «أصالة الحقيقة» أو «أصالة عدم القرينة» تعبّدا وإن لم يكن هناك ظهور أصلا ، فنحتاج على هذا الأساس لإحراز الموضوع له والمعنى الحقيقي ، إلى التّبادر ، وأمّا بناء على ما هو التّحقيق من أنّ مدار الحجيّة ، هو الظّهور ولو بأيّ نحو حصل ، بقرينة أو بدونها ، فلا جدوى لهذا البحث ، كما لا يخفى. (٢)

__________________

(١) كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٩٧.

(٢) راجع ، مقالات الاصول : ص ٣١.

١٣٢

وفيه : أنّ من أسباب انعقاد الظّهور هو العلم بالوضع ومعرفة المعنى الحقيقيّ ، وأنت تعلم ، أنّه لا يحصل إلّا من ناحية التّبادر.

وعليه : فللبحث عنه فائدة وثمرة عمليّة ، حتّى على مبنى مدار الحجيّة هو الظّهور ، فلا وجه للتّفصيل.

لا يقال : كيف تترتّب ثمرة عمليّة على هذا البحث مع أنّ تبادر المعنى من لفظ : «الكتاب» أو «السّنّة» في زماننا هذا ، لا يثبت تبادره منهما في زمن النّزول والصّدور حتّى يحمل عليه؟!

لأنّه يقال : إنّ هذه العقدة تنحلّ بجريان أصالة عدم النّقل ـ المعبّر عنه بالاستصحاب القهقري ـ المعتضدة بسيرة العقلاء وبناء أهل المحاورة ، حيث إنّهم يتمسّكون بها في فهم معاني ألفاظ الكتب والرّسائل والأسناد القديمة ، بل هذا الأصل ممّا يدور عليه استنباط الأحكام الشّرعيّة من ألفاظ الكتاب والسّنّة.

«تكميل»

قد عرفت : أنّ التّبادر إنّما يكون من علائم الحقيقة إذا كان من حاقّ اللّفظ ، وإلّا فالمعنى المجازي ـ أيضا ـ يتبادر بمعونة القرينة.

وعليه : فهل يمكن إحراز التّبادر الحاقّي ، بأصالة عدم القرينة ، كما ذهب إليه المحقّق الجيلاني القمّي قدس‌سره (١) أو بالظّن ، بأنّ ذلك هو معنى الحقيقيّ للّفظ ، كما عن صاحب الفصول قدس‌سره (٢) أو بالاطّراد وهو انسباق المعنى من اللّفظ في جميع الأحوال

__________________

(١) راجع ، قوانين الاصول : ص ١٤.

(٢) راجع ، الفصول الغرويّة : ص ٢٦.

١٣٣

وعلى جميع التّقادير والفروض ، سواء وقع في نثر أو نظم ، وسواء في محاورات عرفيّة أو علميّة ، خلافا لما إذا كان الانسباق والتّبادر في بعض الأحوال ، فلا يكون حاقّا مستندا إلى نفس اللّفظ ، كما ذهب إليه المحقّق العراقي قدس‌سره (١) ، أقوال.

والحقّ أن يقال : إنّ التّبادر لو احرز من حاقّ اللّفظ ومن غير قرينة ، فهو ، وإلّا فلا طريق لإحرازه ؛ وأمّا الطّرق المذكورات ، فلا يعتمد على شيء منها.

أمّا أصالة عدم القرينة ، فلأنّها من الاصول العقلائيّة الجارية ـ بعد العلم بالمعنى الحقيقيّ والمجازيّ ـ لتشخيص المراد من اللّفظ ، بأنّه هل هو المعنى الحقيقيّ أو المعنى المجازي؟ لا لتشخيص المعنى الحقيقيّ وإحراز أنّ المعنى متبادر من حاقّ اللّفظ.

ومن هنا يعلم حال الظّن ـ أيضا ـ إذ من المحتمل قويّا أنّ مراد صاحب الفصول قدس‌سره منه ، هو أصالة عدم القرينة ، وإلّا فلا معنى محصّلا له.

وأمّا الاطّراد ، فلأنّ مجرّده لا يكون طريقا إلى الوضع وإلى أنّ المعنى متبادر من حاقّ اللّفظ ، إلّا أن يوجب العلم به ، وهذا الفرض لو سلّم ، خروج عن فرض الكلام.

وبعبارة اخرى : أنّ الاطّراد لو كان بلا احتمال قرينة خاصّة أو عامّة ، بأن كان الانسباق من حاقّ اللّفظ ونفسه ، فالتّبادر حاقّي وهو من علائم الوضع والحقيقة ، وإلّا فمجرّد الاطّراد لا يجدي لذلك ، كيف! وأنّ المجاز ـ أيضا ـ ربما يكون مطّردا.

ولعلّ مراد المحقّق العراقي قدس‌سره هو أنّ انسباق المعنى من اللّفظ وتبادره منه بلا

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الافكار : ج ١ ، ص ٩٧ ؛ ومقالات الاصول : ج ١ ، ص ٣٠.

١٣٤

أيّة قرينة في جميع الأحوال والفروض ، دليل على كونه حاقّيّا ، فكأنّه قدس‌سره يفسّر ويوضح التّبادر الحاقّي ، فتأمّل جيّدا.

ومنها (من علائم الحقيقة والمجاز) : صحّة الحمل أو عدم صحّة السّلب ، وصحّة السّلب أو عدم صحّة الحمل.

توضيحه : أنّه لو يصحّ حمل لفظ على معنى ولا يصحّ سلبه عنه ، يعلم منه أنّ ذلك المعنى هو المعنى الحقيقيّ الّذي وضع اللّفظ له ، دون غيره ، وأمّا لو لم يصحّ الحمل ويصحّ سلبه عنه يكشف منه ، أنّ ذلك المعنى هو المعنى المجازي الّذي وضع اللّفظ لغيره ، فلفظ : «الأسد» مثلا ، حيث إنّه يصحّ حمله على الحيوان المفترس ، يعلم أنّ هذا المعنى هو الّذي وضع له لفظ : «الأسد» وأنّه هو المعنى الحقيقي له ، وحيث إنّه لا يصحّ حمله على الرّجل الشّجاع ، يعلم أنّ هذا المعنى هو غير ما وضع له اللّفظ وأنّه هو المعنى المجازي له.

هذا ، ولكنّ الحقّ : أنّ صحّة الحمل ليس علامة للحقيقة ، وكذا عدم صحّته ليس علامة للمجاز ، بلا فرق بين أقسام الحمل من الأوّلي الذّاتي والشّائع الصّناعي بالذّات أو بالعرض.

أمّا صحّة الحمل الأوّلي الذّاتي ، فوجه عدم كونه علامة للحقيقة هو أنّ صحّة هذا الحمل عند المستعلم ، تتوقّف على علمه وتصديقه باتّحاد اللّفظ بما له من المعنى الارتكازي مع المعنى المشكوك فيه ، وليس هذا إلّا نفس التّصديق والعلم بوضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى ، فلا جهل ولا شكّ حينئذ حتّى يرتفع بصحّة الحمل ، هذا بالنّسبة إلى المستعلم ، وأمّا بالنّسبة إلى أهل اللّسان ، فهو إمّا يعلم اتّحاد المفهومين ولو لم يكن هناك حمل من جانب الغير ، فيعود المحذور ، وإمّا لا يعلم اتّحادهما إلّا من ناحية

١٣٥

تصريح الغير به ، فهذا ليس إلّا تنصيص ذلك الغير ، لا صحّة الحمل ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره. (١)

على أنّ جعل هذا القسم من الحمل علامة للحقيقة ، مستلزم للدّور ، بتقريب : أنّ صحّة الحمل الأوّلي الذّاتي متوقّفة على العلم بالوضع وتصوّر الموضوع والمحمول ، كما هو واضح ، والمفروض ـ أيضا ـ أنّ العلم بالوضع متوقّف على صحّة الحمل الأوليّ الذّاتي ، وهذا هو الدّور الباطل.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره بالتّغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل ، نظير ما أجاب عنه في التّبادر. (٢)

ولكن هذا الجواب لا ينفع في المقام ؛ وذلك ، لأنّ الحمل الأوّلي ليس إلّا الهوهويّة المفهوميّة والاتّحاد في هذه المرتبة ، ومن المعلوم : أنّه لا يتأتّى الحكم بالهوهويّة المفهوميّة إلّا بعد العلم التّفصيلي بوضع اللّفظ المحمول بما له من المعنى ، للمعنى المشكوك فيه الّذي صار موضوعا.

وعليه : فلا تغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل ، بل كلاهما معلومان بالتّفصيل ؛ إذ صحّة الحمل ـ على ما قرّرنا ـ متوقّفة على العلم بالوضع وتصوّر الموضوع والمحمول تفصيلا ، والمفروض : أنّ العلم بالوضع تفصيلا ـ أيضا ـ متوقّف على صحّة الحمل.

ثمّ إنّ هنا كلاما للمحقّق العراقي قدس‌سره حاصله : إنّ الحمل الأوّلي الذّاتي الّذي هو

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٤١.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨.

١٣٦

عبارة عن حمل أحد المفهومين على الآخر ، على قسمين : أحدهما : ما يكون أحد المفهومين مجملا والآخر مفصّلا ، كما في التّعريفات والحدود ، نظير قولنا : «الإنسان حيوان ناطق». ثانيهما : ما يكون كلا المفهومين مجملا ، نظير قولنا : «الغيث هو المطر» وما هو العلامة للحقيقة ، ليس إلّا القسم الثّاني الّذي هو المتداول بين اللّغويين ، وأمّا القسم الأوّل الّذي هو المتداول في الحدود المشتمل على حمل ذاتيّات الشّيء عليه ، فلا يكون علامة للوضع ؛ إذ مفهوم الحدّ (حيوان ناطق) مركّب مفصّل ، وهذا يمتنع أن يكون هو مفهوم المحدود (الإنسان) لكونه مفردا بسيطا مجملا. (١)

وفيه : أنّ صحّة هذا الحمل ، ليس معناها أنّ لفظ : «الإنسان» موضوع للحيوان النّاطق ، بل مقتضاها أنّ هذا اللّفظ موضوع لمعنى بسيط بحيث لو فصّل وانحلّ إلى جنس وفصل ، لصار مركّبا وكان هذا المركّب حدّا له ، هذا كلّه في صحّة الحمل الأوّلي.

وأمّا صحّة الحمل الشّائع بالذّات ، فوجه عدم كونه علامة للوضع عند المستعلم ، هو ما عرفت في الحمل الأوّلي من : أنّ صحّة هذا الحمل والتّصديق به ، يتوقّف على تصوّر الموضوع والمحمول تفصيلا ، وعلى العلم بأنّ «زيدا» مثلا ، مصداق ذاتي وحقيقيّ للإنسان وأنّه متّحد مع الإنسان بما له من المعنى ، فالمعنى الموضوع له لا بدّ وأن يكون معلوما قبل الحمل ، وليس هذا إلّا نفس العلم بالوضع ، فلا جهل حتّى يرفع بصحّة الحمل.

مضافا إلى لزوم الدّور في هذا الحمل ـ أيضا ـ وعدم ارتفاعه بالتّغاير بين

__________________

(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٩٨ ؛ ونهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٦٨.

١٣٧

الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل ؛ إذ ليس معنى هذا الحمل إلّا الهوهويّة الوجوديّة والاتّحاد في هذه المرحلة ، وواضح ، أنّ الحكم بالهوهويّة الوجوديّة لا يتأتّى إلّا بعد العلم التّفصيلي بوضع اللّفظ ، فلا تغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتّفصيل ، بل كلاهما معلومان بالتّفصيل.

وكذلك وجه عدم كونه علامة للوضع عند غير المستعلم (أهل اللّسان) فيعرف ممّا تقدّم في الحمل الأوّلي.

وأمّا صحّة الحمل الشّائع بالعرض الّذي لا يكون الموضوع فيه مصداقا ذاتيّا للمحمول ، نظير قولنا : «زيد أبيض» فالوجه في عدم كونها علامة ، واضح ؛ ضرورة ، أنّه ليس في هذا الحمل إلّا الاتّحاد في الوجود ، كما في الشّائع بالذّات ، فإذا ، كيف يمكن جعل مثل هذا علامة للوضع!

ثمّ إنّ للحمل الشّائع قسما آخر وهو ما إذا كان المحمول والموضوع مفهومين كلّيين ، سواء كانا متساويين ، نظير «الإنسان ضاحك» أو أحدهما أعم ، والآخر أخصّ ، نظير «الحيوان ماش أو حسّاس» وقد ظهر حال هذا القسم ممّا تقدّم ، فلا نعيد.

هذا كلّه في صحّة الحمل أو عدم صحّة السّلب ، وأمّا صحّة السّلب أو عدم صحّة الحمل ، فوجه عدم كونها علامة للمجاز ، ما تقدّم في صحّة الحمل ، فتدبّر جيّدا.

منها (من علائم الحقيقة والمجاز) : الاطّراد وعدمه.

قد ذكر في تقريب كون الاطّراد علامة للحقيقة وجوه لا يصلح شيء منها لإثبات ذلك :

أحدها : ما عن المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، فقال : ما هذا لفظه : «ليس الغرض تكرّر استعمال لفظ في معنى وعدمه ، بل مورد هاتين العلامتين ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى

١٣٨

كلّي على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفرديّة من المعاني الحقيقيّة ، لكنّه يشكّ أنّ ذلك الكلّي كذلك أم لا ، فإذا وجد صحّة الإطلاق مطّردا باعتبار ذلك الكلّي كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة». (١)

وفيه : أنّ إطلاق الكلّي على الفرد لو اريد به التّأويل والادّعاء ، فهو ـ لو صحّ ـ مجاز ، وإلّا فغلط ، فأين استكشاف معنى الحقيقة منه؟!

ولو اريد به تطبيق الكلّي على الفرد ، فهو يرجع إلى حمله عليه حملا شائعا صناعيّا ، فقد عرفت آنفا : حال هذا الحمل بقسميه (بالذّات وبالعرض).

ثانيها : ما عن المحقّق العراقي قدس‌سره وقد تقدّم نقله في مبحث التّبادر (٢) والجواب عنه.

ثالثها : ما عن السّيّد البروجردي قدس‌سره فقال : ما حاصله : أنّ المجاز وإن كان مشتركا مع الحقيقة من جهة أنّ اللّفظ فيهما لا يستعمل إلّا فيما وضع له ، إلّا أنّ المجاز يمتاز من الحقيقة من جهة أنّ في الاستعمالات الحقيقيّة يكون المراد الجدّي عين الموضوع له حقيقة ، وأمّا في الاستعمالات المجازيّة يكون عينه ادّعاء وتنزيلا ، فظهر من هذا البيان أنّه لا بدّ في المجاز سوى الاستعمال من أمرين آخرين :

أحدهما : حسن هذا الادّعاء ذاتا وهو المسمّى بمصحّح الادّعاء.

ثانيهما : كون هذا المقام ، مقام هذا الادّعاء.

وحيث إنّ هذين الأمرين ليسا بمطّردين ، فجعل عدم اطّراد الاستعمال علامة للمجاز ، بخلاف الحقيقة ، فإنّه لا يعتبر فيها إلّا خصوص صحّة الاستعمال المتوقّفة على

__________________

(١) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٤٣.

(٢) وهذا ممّا أفاده العلّامة الحائري قدس‌سره ، أيضا ، راجع ، درر الفوائد : ج ١ ، ص ٤٤.

١٣٩

الوضع ، وحيث إنّ استعمال اللّفظ في معناه الحقيقيّ صحيح ومطّرد ، فجعل الاطّراد علامة للحقيقة. (١)

وفيه : أنّ هذا مستلزم للدّور الواضح ؛ إذ العلم بصحّة الاستعمال واطّراده يتوقّف على العلم بالوضع والمعنى الموضوع له ، والمفروض ـ أيضا ـ أنّ العلم بالوضع متوقّف على الاطّراد ، فهذا دور باطل.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الاطّراد من آثار الوضع ، فيدلّ عليه دلالة الأثر على المؤثّر ، على ما أشرنا إليه في التّبادر ، من أنّ انسباق المعنى من اللّفظ في جميع الأحوال والفروض بلا ضمّ أيّة قرينة ، دليل على الوضع ، وأنّ الانسباق والتّبادر يكون حاقّيّا ، ولكن هذا كما ترى ، راجع إلى التّبادر ، فالعلامة حقيقة ليست إلّا التّبادر الحاقّي ، والاطّراد علامة على هذه العلامة ، فتأمّل.

ومنها (من علائم الحقيقة والمجاز) : تنصيص اهل اللّغة وعدمه.

بتقريب : أنّهم كانوا مرجعا في تعيين الأوضاع ويقبل قولهم فيما قالوا ، إمّا من جهة كونهم من أهل الخبرة ، أو من جهة الشّهادة ، أو الانسداد.

وفيه : أنّ اللّغويين ليس من شأنهم بيان الأوضاع وإحصاء المعاني الحقيقيّة ، وبيان المعاني المجازيّة وتعيينها ، بل شأنهم بيان موارد استعمالات اللّغات والألفاظ فقط ، ولذلك ترى ، أنّهم قد يذكرون للفظ واحد معان كثيرة ، مع أنّه ليس بمشترك لفظيّ موضوع لها بأوضاع متعدّدة مستقلّة ، نظير لفظ : «الوحي» حيث إنّهم ذكروا له معاني متعدّدة وهي الإشارة والإلهام القلبي والصّوت الخفيّ وغيرها (٢) مع أنّ معناه

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦ و ٣٧.

(٢) مجمع البحرين : ص ٨٦ و ٨٧ ؛ والمصباح المنير : ج ٢ ، ص ٨٩٧.

١٤٠