آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣
وجود أشدّ وآكد إذا تعقّب بمثل أقوى ، كما في الجماعة ، والفرادى ، فلعلّه معنى اختيار الأحبّ إليه تعالى ؛ إذ ليس بعد وجود العرض القويّ ، وجود للضّعيف كي ينسب الاختيار إليهما معا ، بل الموجود من الأثر الباقي المحبوب عند الله تعالى الظّاهر بصورته المناسبة له في الدّار الآخرة المستتبعة للمثوبات هو هذا الوجود القويّ ؛ وذلك ، لا ينافي حصول الغرض الملزم بالمأتي به أوّلا وسقوط الأمر به ، وكذا الأمر في قوله عليهالسلام يحسب له أفضلهما وأتمهما (برفعهما)». (١)
هذا ، ولكن لا يخفى عليك : أنّ مثل هذا التّفسير خارج عن المتفاهم العرفي ، بل أشبه بالعرفان والفلسفة.
أمّا المورد الثّاني : فلأنّ الرّوايات إنّما وردت في مورد التّقيّة ، والإعادة إنّما هي لأجلها ، لا لداعي الأمر الأوّل ، كما توهّم.
أمّا المورد الثّالث : فلأنّ الأمر بإعادة صلاة الآيات في الصّحيحة المتقدّمة وإن كان ظاهرا في الوجوب ، إلّا أنّه عليهالسلام لم يرد هذا الظّاهر قطعا ، كيف! وأنّ العقل مستقلّ بلغويّة الامتثال الوجوبي بعد تحقّق الغرض من الامتثال الأوّل ، فلا مناص إذا من حمله على الاستحباب والأفضليّة. هذا كلّه في المسألة الاولى.
أمّا المسألة الثّانية (إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري ، هل يجزي عن الأمر الاختياري؟) : فالكلام فيها يقع في موضعين :
الأوّل : في فرض ارتفاع الاضطرار والعذر في الوقت.
الثّاني : في فرض ارتفاعه خارج الوقت.
__________________
(١) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ٢٣٠.
أمّا الأوّل : فقبل الورود في تحقيقه ، لا بدّ من التّنبيه على أمرين :
أحدهما : أنّ النّزاع في الإجزاء وعدمه هنا ، إنّما يتأتّى إذا كان المأتيّ به حال الاضطرار في أوّل الوقت متعلّقا للأمر ، بأن كان الملاك هو مجرّد حدوث العذر والاضطرار ولو لم يكن مستوعبا لجميع الوقت ، وإلّا فلو كان الملاك هو العذر المستوعب ، فلا معنى للنّزاع المذكور ؛ بداهة ، عدم الأمر حينئذ أوّل زمان حدوث العذر كي يمتثل ويقال : هل هو مجز ، أم لا؟ ولذلك لو اعتقد المكلّف في أوّل الوقت استيعاب العذر وصلّى ، ثم انكشف الخلاف وظهر عدم الاستيعاب ، فلا أمر أصلا ، لا واقعا ولا ظاهرا ، بل تخيّل أمر ، وهذا بخلاف ما لو قامت الحجّة على الاستيعاب وصلّى في أوّل الوقت ثمّ انكشف الخلاف ، فإنّ هذا المورد مندرج تحت المسألة الثّالثة وهي إجزاء الإتيان بالمصداق الظّاهري عن الواقعي وعدمه ، كما سيأتي تحقيقها.
ثانيهما : أنّ محلّ الكلام هنا ، هو المأمور به الاضطراري الّذي يكون ناشئا عن الملاك الواقعي ومصلحة الواقع ، وأمّا النّاشي عن مصلحة اخرى أجنبيّة عن الواقع ، فهو خارج عن محلّ الكلام ؛ وذلك مثل الأوامر الصّادرة للتّقية النّاشئة عن مصلحة نفس الاتّقاء من حفظ الأموال والأعراض والدّماء ، فتلك المصلحة ليست بواقعيّة ، فلا مجال للبحث عن الإجزاء فيها من هذه النّاحية ، ولو قيل : بالإجزاء ، لكان من جهة اخرى ، كما إذا دلّ عليه دليل خاصّ.
إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : أنّ البحث في الموضع الأوّل ، تارة يكون في مقام الثّبوت ، واخرى في مقام الإثبات.
أمّا مقام الثّبوت ، فالكلام فيه يقع فى أربع صور :
الاولى : أنّ المأمور به الاضطراري يشتمل على تمام مصلحة الواقع ، ولا ريب ،
أنّه يحكم فيها بالإجزاء وجواز البدار ، كما عن المحقّق الخراساني (١) قدسسره ؛ وذلك ، لعدم الفرق بين فردي الاختياري والاضطراري بالوفاء بالملاك ، حيث إنّ المفروض كون العمل بمجرّد الاضطراري ذا مصلحة ، وافيا بالغرض ، فلا يبقى المجال للتّدارك ، لا إعادة ولا قضاء.
الثّانية : أنّه يشتمل على بعض مصلحة الواقع مع عدم إمكان استيفاء الباقى ، والصّحيح هنا هو الحكم بالإجزاء فقط ، دون جواز البدار.
أمّا الإجزاء ، فلأنّه لا يمكن حسب الفرض تدارك الباقي ، وأمّا عدم جواز البدار ، فلما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة ، إلّا إذا فرض أنّ في نفس البدار مصلحة مهمّة زائدة على ما يفوت منها ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدسسره بقوله : «ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصّورة ، إلّا لمصلحة كانت فيه ، لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لو لا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ». (٢)
ولكن هذا الفرض ، خارج عن محلّ الكلام ؛ لما عرفت آنفا : من أنّ الكلام في جواز البدار وعدمه ، إنّما هو بالإضافة إلى وفاء الاضطراري وعدم وفاءه بملاك الواقع ، لا بملاك آخر ، كوجود المصلحة في نفس البدار ، كما هو المفروض هنا ، فإنّه أجنبيّ عن مورد البحث.
الثّالثة : أنّه يشتمل على بعض مصلحة الواقع مع إمكان استيفاء الباقي الّذي يجب تداركه ولو في خارج الوقت ، والحكم فيها عدم الإجزاء ، بل الإجزاء غير
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٢٩.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٢٩.
معقول ؛ إذ مقتضى وجوب تدارك الباقي ولزوم الإتيان به ثانيا حتّى في فرض الإتيان بالاضطراري النّاقص في أوّل الوقت ، هو عدم رفع اليد عن الواقع ، وعليه ، فلا معنى لإيجاب الفرد النّاقص في أوّل الوقت.
وإن شئت ، فقل : إذا كان المكلّف قادرا حسب الفرض على الإتيان بالفرد الاختياري التّام ، كالصّلاة مع الوضوء في الوقت ولو في وسطه ، أو آخره ، لا يصل الدّور إلى الفرد الاضطراري النّاقص ، كالصّلاة مع التّيمّم ، ولا يحكم بإجزائه ، فلا بدّ من إيجاب الإعادة والقضاء.
ومن هنا ظهر أنّه لا يجوز البدار واقعا ؛ إذ جوازه كذلك ، مساوق للإجزاء ، والمفروض عدمه ، كما أنّ عدم الإجزاء مساوق لعدم جواز البدار ، وعليه ، فما عن المحقّق الخراساني قدسسره من القول بجواز البدار وعدم الإجزاء ، ممنوع. (١)
الرّابعة : أنّه يشتمل على بعض مصلحة الواقع مع إمكان الاستيفاء على حدّ الاستحباب.
ولاريب : أنّ الحكم فيها هو الحكم في الصّورة الاولى من الإجزاء وجواز البدار ؛ وذلك ، لعدم وجوب تدارك الباقي حسب الفرض. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.
أمّا مقام الإثبات ، فقال المحقّق الخراساني قدسسره ما هذا لفظه : «فظاهر إطلاق دليله ، مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٢) وقوله عليهالسلام :
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٢٩ و ١٣٠.
(٢) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.
«التّراب أحد الطّهورين ويكفيك عشر سنين» (١) هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء ، ولا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص ، وبالجملة ، فالمتّبع هو الإطلاق لو كان ، وإلّا فالأصل وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة ، لكونه شكّا في أصل التّكليف ، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى». (٢)
محصّل كلامه قدسسره يرجع إلى أمرين :
أحدهما : جواز البدار مع إمكان إتيان المأمور به الاختياري التّام في الوقت.
ثانيهما : عدم وجوب الإعادة بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت ، ويدلّ على ذلك إطلاق أدلّة الاضطرار ، كقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ...) فإنّ مقتضى عدم تقييده بعدم الوجدان إلى آخر الوقت ، أو في جميع الوقت هو كفاية الاضطرار وعدم الوجدان مطلقا ـ ولو لم يكن مستوعبا ـ في تحقّق الامتثال ، كما أنّ مقتضى صدر الآية ، وهو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) أيضا كذلك ؛ إذ مفاده ، أنّ الميزان هو الوجدان ، والفقدان حال إرادة إتيان الصّلاة ، كما أنّ القدرة على الأجزاء والعجز عنها ، أيضا كذلك.
هذا إذا كان الإطلاق ثابتا ، وإلّا فيرجع إلى الأصل ، وهو يقتضي البراءة عن إيجاب الإعادة.
ولا يخفى : أنّ هذا الكلام ، بناء على ما اختاره قدسسره من القول بتعدّد الأمر في المأمور به الاختياري والاضطراري ، تامّ ؛ إذ على هذا ينازع في الإجزاء وعدمه ، فمقتضى الإطلاق هو الإجزاء ، كما عرفت آنفا.
__________________
(١) به وسائل ، ج ٢ ، ص ٩٩٥ مراجعه شود كه نظير اين روايت موجود است.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٣٠.
وهكذا ، بناء على ما اخترناه من القول بوحدة الأمر وكون الاختلاف من ناحية المصاديق والأفراد ـ على ما مرّ تحقيقه ـ فإنّ عدم وجوب الإعادة إذا في غاية الوضوح ؛ إذ المفروض ، أنّ المأمور به حال الاضطرار مصداق للطّبيعة المأمور بها ومشتمل لجميع الخصوصيّات المعتبرة فيها ، فلا معنى لبقائه بعد الإتيان. هذا بناء على إحراز إطلاق أدلّة الاضطرار.
وأمّا بناء على إهمال الأدلّة والرّجوع إلى الأصل العملي ، فيفرق بين القولين ؛ إذ على القول بوحدة الأمر ، كان مقتضى الأصل هو الاشتغال ، حيث إنّه يشكّ حينئذ في سقوط التّكليف المتيقّن ، بإتيان الفرد الاضطراري.
وأمّا على القول بتعدّد الأمر ، فالأصل يقتضي البراءة ، إذا المفروض ، أنّ المكلّف عمل بوظيفته عند فقدان الماء ـ مثلا ـ وهو امتثال الأمر الاضطراري ، وعليه ، فبعد رفع الاضطرار إذا شكّ في بقاء التّكليف على عهدته ، فمرجعه إلى الشّك في حدوث تكليف جديد.
هذا ، ولكن ذهب السّيّد البروجردي قدسسره إلى أنّه لا بدّ في فرض تعدّد الأمر من الاشتغال ، ولذا أورد على المحقّق الخراساني قدسسره بقوله : «فما ذكره قدسسره أخيرا : «من أنّه إذا لم يكن هناك إطلاق يدلّ على أنّ الموضوع للأمر الاضطراري هو مطلق الاضطرار ولو في بعض الوقت ، فالمرجع هو البراءة» فاسد جدّا ؛ إذ المكلّف قد علم باشتغال ذمّته بالأمر الواقعي ، ولكنّه لا يعلم أنّه هل صار موضوعا للأمر الاضطراري حتّى يكون امتثاله مسقطا للأمر الواقعي ـ أيضا ـ أو لم يصر موضوعا له لاحتمال أن يكون الموضوع للأمر الاضطراري هو الاضطرار في جميع الوقت؟ وحينئذ فاشتغال ذمّته
بالأمر الواقعي يقتضي تحصيل البراءة اليقينيّة ، فكيف حكم قدسسره بأصالة البراءة». (١)
وقد أجاب عنه مقرّره بما حاصله : أنّ مراد المحقّق الخراساني قدسسره من الإطلاق ليس هو إطلاق الاضطرار ، بل المراد إطلاق البدليّة. (٢)
توضيحه : أنّ الشّارع جعل التّكليف الاضطراري بدلا للاختياري ، لعدم القدرة عليه ، فلا يكون الواقعي حين الاضطرار فعليّا ، بل الفعلي هو البدل ، فلو كان لنا إطلاق دالّ على البدليّة إلى الأبد نأخذ به فيحكم بالإجزاء ، وإلّا فنشكّ في أنّ البدليّة هل هي إلى الأبد حتّى مع ارتفاع الاضطرار ، أو تكون في زمنه فقط ، فيحكم بالبراءة؟ إذ الواقعي لم يكن فعليّا حين الاضطرار ، فنشكّ في فعليّته بعد ارتفاعه ، والمرجع هي البراءة لكونه شكّا في أصل التّكليف.
وفيه : أنّ سعة البدليّة وضيقها تدور مدار سعة الاضطرار وضيقه ، فإذا كان الموضوع هو الاضطرار المطلق ، فالبدليّة تكون إلى الأبد ، وإذا كان هو الاضطرار المستوعب تكون البدليّة في خصوص زمن الاضطرار ، وعليه ، فالشّك في كون البدليّة هل هي إلى الأبد أو إلى زمن الاضطرار؟ ناش من الشّك في كيفيّة الاضطرار.
وإن شئت فقل : فعليّة التّكليف الاضطراري زمنه ، عند ارتفاع الاضطرار بعده ، في فرض كون الموضوع هو الاضطرار المستوعب زعميّة لا واقعيّة لها ، بل الفعليّة حينئذ كانت للواقعي ، كما أنّ فعليّة التّكليف الاضطراري زمنه ، عند ارتفاعه بعده ، في فرض كون الموضوع هو الاضطرار المطلق واقعيّة ، ونتيجة ذلك كلّه ، أنّه لا مجال للبراءة مطلقا عند الشّك في أنّ البدليّة إلى الأبد أو إلى زمن الاضطرار.
__________________
(١) نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٩.
(٢) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٩.
والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ المكلّف حال الفقدان قاطع بعدم فعليّة الأمر الواقعي وهو إتيان الصّلاة بالطّهارة المائيّة ، ولكن يحتمل أن يكون وظيفته العمل بالأمر الاضطراري ، فيأتيه رجاء ، ولا ريب ، أنّه إذا أصاب الماء فشكّ في بقاء التّكليف الواقعي على عهدته ، كان مرجع هذا الشّك إلى الشّك في أصل التّكليف ، لا في سقوطه بعد العلم بثبوته.
هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل (فرض ارتفاع الاضطرار في الوقت).
وأمّا الموضع الثّاني (فرض ارتفاعه في خارج الوقت) : فبناء على ما اخترناه من وحدة الأمر وكون الاختلاف في المصاديق ، يحكم بالإجزاء وعدم وجوب القضاء عند ارتفاع الاضطرار خارج الوقت ، أيضا ؛ إذ موضوع القضاء هو الفوت ، ومع إتيان المكلّف بوظيفته ، لا فوت حتّى يجب عليه القضاء ، ولا فرق في ذلك ، بين أن يكون الموضوع للأمر الاضطراري هو مطلق الاضطرار أو الاضطرار المستوعب ، لما أشرنا سابقا ، من أنّ قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) يقتضي كفاية عدم وجدان الماء حين إرادة الصّلاة والقيام إليها في وجوب التيمّم وإتيان الفريضة به.
ويؤيّد ذلك إطلاق أدلّة التّقية ، حيث إنّه ظاهر في كفاية مطلق الاضطرار في تشريع العمل على وفق التّقية ، فإن إطلاق الأمر بالصّلاة (١) معهم ، بل كلّ عمل شرّعت فيه التّقية ، يدلّ على تشريعها فيه حين الابتلاء بها وإن علم المكلّف بارتفاعها في باقي الوقت.
__________________
(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة ، ص ٣٨١ و ٣٨٢.
وأمّا بناء على تعدّد الأمر ، ـ وأنّ التّكليف الواقعي الأوّلي تعلّق بالتّام شطرا وشرطا ، وفقدا للمانع الّذي هي وظيفة المختار ، غاية الأمر ، قد يطرأ ما يمنع عن تنجّزه ، كالاضطرار فيجعل حينئذ العمل الاضطراري غير التّام بدلا عن الواقعي الاختياري ـ فيقع البحث في الإجزاء وعدمه ، تارة حسب مقام الثبوت ، واخرى حسب مقام الإثبات.
أمّا مقام الثّبوت فالكلام فيه ما أشرنا إليه في الموضع الأوّل من الاحتمالات الأربعة ، فلا نعيد ، وأمّا مقام الإثبات فيبحث فيه من جهتين :
الاولى : من جهة مقتضي الأدلّة وما يستظهر منها.
الثّانية : من جهة مقتضي الأصل عند الشّكّ.
أمّا الاولى : فتارة تلاحظ الأدلة الأوّليّة الدّالّة على اعتبار الجزئيّة أو الشّرطيّة ؛ واخرى تلاحظ الأدلّة الثّانويّة الواردة في مورد الاضطرار.
أمّا الأدلّة الأوّليّة ، فهي على طائفتين :
إحداهما : ما ورد بغير لسان الأمر والنّهي ، وهو الّذي يعبّر عنه بالأدلّة بلسان الوضع ، نظير قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) وقوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) ونحوهما.
ولاريب : أنّ هذه الطّائفة لها إطلاق بالنّسبة إلى حالات المكلّفين من العلم والجهل والاختيار والاضطرار ، فتثبت بها الجزئيّة أو الشّرطيّة في جميع أحوال
__________________
(١) مستدرك الوسائل : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصّلاة ، الحديث ٥ ، ص ١٥٨.
(٢) تهذيب الأحكام : ج ٢ ، ص ١٤٠ ، الحديث ٣.
المكلّف ، ونتيجته ، سقوط التّكليف بالمرّة عند اضطراره إلى تركهما ، فكأنّه اضطرّ إلى ترك المركّب أو المشروط لانتفاء كلّ منهما بانتفاء كلّ من الجزء أو الشّرط.
ثانيتهما : ما ورد بلسان الأمر والنّهي وهذا يعبّر عنه بالأدلّة بلسان التّكليف ، كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...)(١)(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ...)(٢) ونحوهما من الأدلّة الاخرى الواردة في الأجزاء والشّرائط والموانع وهذه الطّائفة ـ أيضا ـ مطلق بالنّسبة إلى حالات المكلّفين ، فتثبت بها الجزئيّة أو الشّرطيّة أو المانعيّة مطلقا حتّى في حال الاضطرار ، والتّكليف إذا ساقط بالمرّة بعد طروّ الاضطرار إلى ترك كلّ من الجزء أو الشّرط أو إلى فعل المانع.
ولا يخفى : أنّ نتيجة سقوط التّكليف حال الاضطرار حسب مقتضي إطلاق ، هاتين الطّائفتين من الأدلّة ، عدم الإجزاء ووجوب القضاء عند خارج الوقت ؛ والسّبب فيه ، بناء على كون القضاء بالأمر الأوّل ، إمّا هو الإطلاق الشّامل لحالتي الاختيار والاضطرار ، وإمّا هو استكشاف الأوامر الصّادرة على نحو الإطلاق ، عن المصلحة التّامّة الدّاعية إليها في جميع الأحوال وإن سقط الأمر عن الفعليّة حال الاضطرار ، فإذا ارتفع الاضطرار يجب العمل لاستيفاء تلك المصلحة.
وأمّا بناء على كون القضاء بأمر جديد ، فالسّبب في وجوب القضاء تحقّق الموضوع وهو الفوت.
هذا ، في الأدلّة الأوّلية مع قطع النّظر عن أدلّة الاضطرار ، وأمّا الأدلّة الثّانوية
__________________
(١) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.
(٢) سورة الحجّ (٢٢) : الآية ٧٧.
الواردة في الاضطرار فمقتضاها هو الحكم بسقوط الأمر عن الفعليّة حال طريان الاضطرار ، غاية الأمر ، لو كان الحاكم بسقوطه هو العقل ، فهو لا يحكم إلّا بسقوط حجّية الظّهور في فعليّة الإرادة ؛ للغويّة الخطاب بالنّسبة إلى شيء لا يتمكّن المكلّف من الإتيان به ، من دون أنّه يحكم بارتفاع المصلحة ، أو بعدم دخل الجزء في الباقي ، أو الشّرط في المشروط.
وأمّا لو كان الحاكم بذلك هو الشّرع ، فنقول : إنّ الأدلّة الشّرعية الدّالّة على ارتفاع الحكم الاختياري حال الاضطرار على قسمين :
الأوّل : ما يكون ناظرا إلى نفي التّكليف فقط.
الثّاني : ما يكون ناظرا إلى جهتي الوضع والتّكليف كلتيهما.
أمّا الأوّل : فكحديث الرّفع وقاعدتي «لا حرج» و «لا ضرر» وأمثالهما ، حيث إنّه لا يستفاد منها في موضع تطبيقها على الأجزاء والشّرائط ، إلّا رفع خصوص التّكليف بلا نظر إلى رفع الجزئيّة ، أو الشّرطيّة ، فضلا عن النّظر إلى وجوب الإتيان بالباقي أو المشروط ، فالوضوء الضّرري أو الحرجي أو المضطرّ إلى تركه ، إنّما يرفع وجوبه ، لا شرطيته حال العذر ، وكذا الأمر في الجزء.
وعليه ، فحال حكم الشّرع برفع الحكم الاختياري حين طريان العذر ، حال حكم العقل بسقوط فعليّة الأمر والخطاب حين طريانه ، ونتيجة كلّ منهما سقوط التّكليف بالمركّب ، أو المشروط حال العذر فقط.
أمّا الثّاني : فمثل ما ورد في باب التّقيّة من أبي جعفر عليهماالسلام «يقول : التّقيّة في كلّ
شيء يضطرّ إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له». (١)
فإنّ هذه الرّواية ظاهرة في الحلّيّة المطلقة من الوضعيّة والتّكليفيّة ، لكن يختصّ موردها بالاضطرار في التّقية ، خلافا لما حكى المحقّق العراقي قدسسره عن بعض الأعلام ، من أنّ الموجود في بعض النّسخ الصّحيحة هكذا : «التّقيّة في كلّ شيء ، وكلّ شيء اضطرّ إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له» (٢) حيث إنّ مورد هذه الرّواية هو الاضطرار المطلق ؛ لأجل أنّ قوله عليهالسلام : «وكلّ شيء اضطرّ إليه ابن آدم» جملة مستقلّة غير مربوطة بقضيّة الصّدر.
ونظير تلك الرّواية ، بعض الأدلّة الأخر العامّة والخاصّة ممّا يدلّ على أنّ كلّ حكم مترتّب على فعل المكلّف حال الاختيار ، وضعيّا كان أو تكليفيّا ، يكون موضوعا عنه حال الاضطرار إلى مخالفته.
ثمّ : إنّ هذه الأدلّة وردت على نحوين :
أحدهما : ما يكون ذا لسانين ، فيرفع بأحدهما جزئيّة الجزء المضطرّ إلى تركه ويثبت بالآخر لزوم الإتيان بالباقي غير المضطرّ إلى تركه.
وثانيهما : ما يكون ذا لسان واحد ، وهو لسان الرّفع فقط ، لا الإثبات والوضع بالنّسبة إلى لزوم الإتيان بالباقي ، بل هو ساكت من هذه الجهة ، ولا جدوى في البحث عن هذا النحو الثّاني في الإجزاء ، بل اللازم صرف عنان الكلام إلى البحث
__________________
(١) وسائل الشّيعة : ج ١١ ، كتاب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، الباب ٢٥ من أبواب الامر والنّهي ، الحديث ٢ ، ص ٤٦٨.
(٢) راجع ، نهاية الافكار : ج ١ ، ص ٢٣٩ ؛ ووسائل الشّيعة : ج ١١ ، كتاب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنّهي ذيل الحديث ٢ ، ص ٤٦٨ ، عن المحاسن.
عن النحو الأوّل ، وهو الأدلّة المتعرضة لحكم الباقي من الأجزاء الأخر غير المضطرّ إليها ، أو لحكم المشروط من دون الشّرط المضطرّ إلى تركه ، أو البحث عن الأدلّة المثبتة للبدل عمّا اضطرّ إلى تركه ، فنقول : إنّ الكلام هنا يقع :
تارة : في مقتضى الأدلّة العامّة.
واخرى : في مقتضي الأدلّة الخاصّة.
أمّا الأدلّة العامّة : فمثل قاعدة الميسور ، فإنّ مفادها إثبات الحكم للميسور بعد نفيه عن المعسور ، ومثل أدلّة الأجزاء الباقية عند الاضطرار إلى ترك البعض.
ولا يخفى : أنّ المستفاد من تلك الأدلّة العامّة أنّ موضوعها هو العذر المستوعب للوقت ، لا مطلق العذر ؛ إذ الاضطرار إلى الطّبيعة لا يصدق إلّا مع الاضطرار إلى ترك جميع أفرادها من العرضيّة والطّولية ، وهكذا لا يصدق كون الطّبيعة معسورة إلّا مع معسوريّة جميع أفرادها العرضيّة والطّوليّة ، وعليه ، فالموضوع في بحث الإجزاء وعدمه هو القضاء ، فإن تمّ الدّليل على الإجزاء ، فلا يجب القضاء ، وإلّا فيجب.
والإنصاف : أنّ استفادة الإجزاء وسقوط القضاء عن تلك الأدلّة العامّة ، مشكلة جدّا ؛ إذ غاية تقريب الدّلالة على الإجزاء هو أنّ ظاهر قاعدة الميسور هو وجوب خصوص الباقي ، بمعنى : أنّها ظاهرة في أنّ الميسور وهو الفاقد النّاقص بوحدته هو المكلّف به ، كما أنّ ظاهر أدلّة الأجزاء الباقية ـ أيضا ـ كذلك ، بمعنى : أنّها ظاهرة في تعلّق التّكليف بالباقي وحده ، مع أنّ مقتضى عدم الإجزاء والالتزام بوجوب القضاء في خارج الوقت ، هو كون التّكليف في مثل الصّلاة حال العذر متعلّقا
بالصّلاة ، فاقدة لبعض الأجزاء في الوقت ، وبالصّلاة تامّة في خارجه ، وهذا خلاف ظاهر الأدلّة ، كما عرفت.
وفيه : أنّ التّقريب المذكور إنّما يتمّ ، لو كان الإجزاء بملاك وفاء النّاقص بجميع مصلحة الكامل ؛ إذ لا مجال للقضاء بعد فرض حصول الملاك بأسره بإتيان النّاقص الميسور أو بإتيان باقي الأجزاء ، وأنت ترى ، أنّ هذا خلاف ظاهر قاعدة الميسور ؛ حيث إنّ ظاهرها ، هو أنّ الميسور أقلّ ملاكا ومصلحة من المعسور ، وكذلك أدلّة الأجزاء الباقية ، حيث إنّها ظاهرة في أنّ الإتيان بباقي الأجزاء أقلّ ملاكا من التّمام المضطرّ إلى تركه ، كما أنّ ظاهر قاعدة : «ما لا يدرك كلّه ، لا يترك كلّه» أيضا كذلك.
على أنّ ظاهر أدلّة الأجزاء والشّرائط هو دخل كلّ جزء منها في الملاك والمصلحة ، بحيث لو ترك واحد منها لما يتأتّى حصول تلك المصلحة التّامّة ، وعليه ، فلو كان دليل الميسور ظاهرا في وفاء النّاقص الفاقدة بكلّ الملاك ، لكان معارضا لأدلّة الأجزاء.
فتحصّل : أنّه لم يكن النّاقص المأتي به في الوقت مجزيا عن التّام في خارجه بملاك الوفاء ؛ لكونه خلاف ظاهر القاعدة ومقتضى أدلّة الأجزاء والشّرائط ، فيدور الأمر بين عدم الإجزاء ، وبين الإجزاء بملاك المضادّة ، وعدم إمكان الاستيفاء.
ومن المعلوم : أنّ التّكليف بالنّاقص في الوقت لا يستلزم الإجزاء عن التّام في خارجه ، حتّى يكون ذلك التّكليف والأمر بالنّاقص أمرا بتفويت مصلحة التّام ويكون الإجزاء حينئذ بملاك التّفويت وعدم إمكان الاستيفاء ؛ إذ يجوز أن يكون التّكليف بالنّاقص في الوقت ؛ لأجل تحصيل مصلحة الوقت ومقدار من مصلحة العمل التّام بنحو يستلزم حصول ذلك المقدار منها التّرخيص بتفويت الباقي منها ،
كما يجوز أن يكون لأجل تحصيل مصلحة خصوص الوقت ومقدار من مصلحة التّام بنحو لا يستلزم حصول التّرخيص بمصلحة الباقي.
وكيف كان ، فالتّكليف بالنّاقص في الوقت لأجل تحصيل مصلحة الوقت ، أمر متيقّن ، وأمّا كونه لأجل تحصيل مقدار من مصلحة التّام ـ أيضا ـ مع التّرخيص لتفويت الباقي ، فغير معلوم ، وعليه ، فاستفادة الإجزاء من الأدلّة العامّة ، مشكلة جدّا ، فلا بدّ من الرّجوع إلى الأصل ، وقد عرفت حاله في خصوص القضاء.
والّذي يسهّل الخطب ، أنّ أكثر موارد التّكاليف الاضطراريّة الّتي حكم فيها بسقوط التّكاليف الاختياريّة عن ذوي الاعذار يوجد فيها دليل خاصّ معيّن لوظيفة المضطرّ أو المعذور ، إمّا بلزوم الإتيان بالباقي عن الأجزاء والشّرائط ، أو بتشريع البدل عن الجزء أو الشّرط ، فاللّازم هو الرّجوع إلى الأدلّة الخاصّة وملاحظة مقدار دلالتها.
هذا كلّه بالنّسبة إلى (مقتضى الأدلّة العامّة).
وأمّا بالنّسبة إلى (مقتضى الأدلّة الخاصّة) ، فتقتصر في البحث عنه على دليل التّيمّم من الآية والرّواية.
أمّا الآية ، فكقوله تعالى : (... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ...)(١).
ربما يقال : بدلالتها على الإجزاء ، بتقريب : أنّ ظاهرها هو كون التّيمّم وافيا بمصلحة الوضوء بتمامها ؛ حيث إنّ مفادها ولو بمعونة مقدّمات الحكمة ، تنزيل التّيمّم عند فقدان الماء منزلة الوضوء في الآثار كلّها.
__________________
(١) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.
وفيه : أنّ هذا الظّهور الإطلاقي في ناحية الذّيل ، إنّما يتمّ لو لم تكن في البين قرينة على خلافه ، والمفروض وجودها في الآية.
توضيحه : أنّ الآية كلام واحد مشتمل على حكمي الوضوء والتّيمّم صدرا وذيلا ، فظاهر الصّدر وضعا يفيد انحصار الطّهارة الشّرطيّة في الوضوء وقيام مصلحتها بأسرها به ؛ إذ الأمر في قوله تعالى : «اغسلوا» ظاهر بمادّته في الطّهارة المائيّة ، وبهيئته في المولويّة ولو ظهورا انصرافيّا ، ونتيجته ، هو أنّ الوضوء بخصوصه يكون شرطا ، لا هو والتّيمّم ، ولا الجامع بينهما ، ولكن ظاهر الذّيل إطلاقا يفيد كون التّيمّم وافيا بتمام مصلحة الوضوء حال العذر ، ولا ريب ، أنّ ظهور الوضعي لأجل تقدّمه على الظّهور الإطلاقي ، يوجب أن يكون الصّدر قرينة على خلاف إطلاق الذّيل ، ومع هذا ، لا يمكن استفادة الإجزاء بملاك الوفاء من الآية المذكورة ، ولكن يمكن استفادته منها بملاك المضادّة ، وعدم إمكان الاستيفاء.
بتقريب : أنّ الأمر بالتّيمّم حال الفقدان ظاهر في المولويّة ، كما أنّ الأمر بالوضوء حال الوجدان كذلك ، ومعنى مولويّة الأمر هو أنّ متعلّقه بخصوصه مشتمل على المصلحة الشّرطيّة ، بخلاف ما إذا كان الأمر فيه إرشاديّا ، فإنّ لازم ذلك هو كون الجامع بين متعلّقي الأمر بالوضوء والتّيمّم مشتملا على المصلحة.
وعليه ، فيستفاد من الاقتصار على الطّهارة التّرابيّة عند الفقدان ، أنّ التّيمّم بنفسه يكون مجزيا بملاك المضادّة ، وإلّا لكان الواجب ضميمة الوضوء إليه ، إمّا بنحو الجمع ـ إذا ارتفع العذر ـ بأن يقال ، إذا لم تجدوا ماء فتيمّموا ، ثمّ إذا وجدتموه فتوضّئوا ، أو بنحو التّخيير بينه وبين الوضوء ، بالانتظار إلى ارتفاع العذر.
وبالجملة : حفظ مولويّة الأمر في الوضوء يكون باعتبار المصلحة العليا
الخاصّة به ، وحفظ مولويّته في التّيمّم يكون باعتبار مرتبة من المصلحة النّاشئة من درك مصلحة أوّل الوقت بالإضافة إلى الإعادة ، أو درك مصلحة تمام الوقت بالنّسبة إلى القضاء ، مضافا إلى بعض مراتب مصلحة المبدل وهو الوضوء ، كما هو واضح.
وأمّا الرّواية ، فكحديث زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام : «إنّ التّيمّم أحد الطّهورين». (١)
غاية ما يقال في تقريب دلالته على إجزاء التّيمّم وجهان :
الأوّل : أنّ الحديث ناظر إلى أنّ الطّهارة الّتي تعتبر في الصّلاة بمقتضى قوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) كما تتحقّق بالطّهارة المائيّة المستفادة من أدلّة الوضوء والغسل ، كذلك تتحقّق بالطّهارة التّرابيّة ، وأنّها ـ أيضا ـ كانت من مصاديق الطّهارة ، إمّا حقيقيّا ، أو جعليّا تنزيليّا.
والوجه فيه : أمّا بالنّسبة إلى كونها مصداقا حقيقيّا للطّهارة ، فواضح. وأمّا بالنّسبة إلى كونها مصداقا تنزيليّا لها ، فلأنّ ظاهر التّنزيل إنّما هو بالإضافة إلى جميع الآثار ، بمعنى : أنّ التّيمّم كان كالوضوء في تمام الآثار المترتّبة عليه ، وأنّه كان واف بجميع مصلحته.
ونتيجه ذلك ، ترتب امور ثلاثة على التّيمّم : أحدها : الإجزاء حسب الإعادة والقضاء. ثانيها : جواز البدار مع العلم بارتفاع الاضطرار. ثالثها : جواز تحصيل الاضطرار بالاختيار.
__________________
(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٣ من أبواب التّيمّم ، الحديث ٥ ، ص ٩٩٥.
(٢) تهذيب الأحكام : ج ٢ ، ص ١٤٠ ، الحديث ٣.
وسرّ ذلك كلّه ، هو الوفاء بمصلحة الوضوء بتمامها حسب ظهور الدّليل.
هذا ، ولكن أورد على الرّواية بمنع دلالتها على ظهور التّيمّم في الوفاء بتمام مصلحة الوضوء بعين التّقريب الّذي مرّ في الآية ، بلا فرق بينهما ، إلّا أنّ المنع في الآية ـ لأجل اشتمالها لحكمي الوضوء والتّيمّم ـ ناش عن كون ظهور الصّدر في الانحصار قرينة على رفع اليد من ظهور الذّيل في الوفاء بتمام المصلحة ، ولكنّ المنع في الرّواية ـ لأجل انفصال دليل الوضوء عن الرّواية ـ ناش عن تعارض ظهور دليل التّيمّم في الوفاء بتمام المصلحة مع ظهور دليل الوضوء في الانحصار ، ومع هذه المعارضة لا يبقى للظّهور المذكور مجال.
وقد اجيب عن المعارضة ، بأنّها ترتفع بالإرشاد والحكومة. (١)
توضيحه : أنّه لا بدّ في رفع التّعارض من التّصرف ، إمّا في دليل الوضوء بحمل الأمر في قوله تعالى : «فاغسلوا» على الإرشاد إلى أحد مصاديق الطّهارة ، بأن يكون المصلحة الشّرطيّة قائمة بالجامع ، وإمّا في دليل التّيمّم ، بكونه ظاهرا في جعل التّيمّم وافيا ببعض مصلحة الوضوء ، لا بتمامها ، وبما أنّ مفاد دليل التّيمّم هو جعل البدل وأنّه ناظر إلى دليل الوضوء وحاكم عليه ، يتعيّن التّصرّف في ناحية دليل الوضوء بحمل الأمر على الإرشاد ، فيتفرّع عليه الامور الثّلاثة المتقدّمة.
وفيه : أوّلا : أنّ ثبوت الحكومة لدليل التّيمّم لا يستلزم كون التّيمّم وافيا بتمام مصلحة الوضوء ، بل غاية ما يستفاد منه هو أنّه واف بمقدار من المصلحة.
وثانيا : أنّ ثبوتها محلّ منع ؛ إذ ليس لسان دليل التّيمّم لسان جعل البدل و
__________________
(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٨٤.
الطّوليّة ، بل لسانه لسان الفرديّة والعرضيّة ، إمّا حقيقة أو تنزيلا ، وإنّما تستفاد البدليّة والطّوليّة من دليل آخر ، وهذا لا يوجب كون دليل التّيمّم ناظرا إلى دليل الوضوء وحاكما عليه ، فإذا لا يتمّ ما ذكر في الجواب عن المعارضة من رفعها بالتّقديم على وجه الحكومة ، بل يعكس الأمر ويقدّم دليل الوضوء لأمرين :
الأوّل : ما اشير إليه في تقريب منع ظهور دليل التّيمّم في وفاءه بتمام المصلحة ؛ محصّله : أنّ دلالة الأمر (فاغسلوا) في دليل الوضوء بمادّته وهيئته على قيام المصلحة الشّرطيّة بجميع مراتبها بالوضوء وانحصارها فيه ، دلالة وضعيّة ولو من باب الانصراف ، وأمّا دلالة دليل التّيمّم على كونه واجدا لتمام تلك المصلحة ووافيا بها ، فإنّما هي بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وأنت تعلم : أنّ الظّهور الوضعي مقدّم على الظّهور الإطلاقي ، ولازم ذلك تقديم دليل الوضوء والحكم بعدم الإجزاء بالتّيمّم.
هذا بالنّظر إلى ملاحظة هذا الوجه ، وأمّا بالنّظر إلى ملاحظة دليل التّيمّم ، فبما أنّه كان ناصّا في دلالته على تشريع التّيمّم ، واشتماله على بعض مراتب مصلحة الوضوء ، لزم تقديمه في هذا المقدار من الدّلالة على دليل الوضوء في دلالته على الانحصار ، تقديم النّص على الظّاهر.
وبالجملة : أنّه بالنّظر إلى كون ظهور دليل التّيمّم في وفاءه لجميع مراتب المصلحة الشّرطيّة المترتّبة على الوضوء إطلاقيّا ، وظهور دليل الوضوء وضعيّا ، يسقط دليل التّيمّم ؛ قضاء لتقديم الظّهور الوضعي على الظّهور الإطلاقي.
وأمّا بالنّظر إلى كون دليل التّيمّم نصّا على اشتماله لبعض مراتب المصلحة ، ودليل الوضوء ظاهرا في الانحصار في جميع مراتب المصلحة يسقط دليل الوضوء ؛ قضاء لتقديم النّص على الظّاهر ، فلا مناص إذا من الالتزام بدلالة دليل الوضوء على
الانحصار في بعض المراتب ، لا في كلّها ؛ وذلك ، لسقوط حجيّة الظّهور بمقدار المعارضة وهو فرض الانحصار في جميع المراتب.
وينقدح بذلك ، أنّ المقام يكون من باب تعدّد المطلوب ؛ إذ كلّ واحد من الوضوء والتّيمّم مطلوب برأسه ، فيؤتى أوّلا بالأهمّ منهما وهو الوضوء عند وجدان الماء ، وثانيا بالمهمّ وهو التّيمّم عند فقدان الماء ، وبهذا الوجه يجمع بين الدّليلين ، ونتيجته ، عدم جواز تحصيل الاضطرار ؛ لاستلزامه تفويت مقدار من المصلحة إلّا إذا علم المكلّف بارتفاع الاضطرار في الباقي من الوقت وعزم على عدم الإتيان إلّا بعد الارتفاع.
الأمر الثّاني : أنّ دليل الوضوء ناظر إلى دليل التّيمّم ، وحاكم عليه ، بحيث يدلّ على إلزام المكلّف برفع موضوع التّيمّم ؛ وذلك ، لأنّ قوله تعالى : «فاغسلوا» دالّ بإطلاقه على وجوب تحصيل كلّ ما يتوقّف عليه الغسل وإزالة كلّ ما يمنع عنه ، فيمنع المكلّف عن تحصيل الاضطرار الّذي هو موضوع التّيمّم ، بل يلزمه برفعه لو كان حاصلا.
وهذا بخلاف دليل التّيمّم ، فإنّه وإن اقتضى بإطلاقه كونه في عرض الوضوء ملاكا ، لكن لا يدلّ على ذلك مطلقا ولو بجعل المكلّف نفسه مضطرّا بالاختيار ، بل المتيقّن من دلالته هو كون التّيمّم وافيا بمصلحة الوضوء على تقدير حصول الاضطرار بطبعه ، وعلى فرض الإغماض عمّا ذكر ، والقول بأنّ التّيمّم واف بتمام المصلحة ، فليس هذا ـ أيضا ـ موجبا لتقديم دليل التّيمّم ؛ وذلك ، لانّ القول المذكور وإن كان لازمه عدم وجوب خصوص الطّهارة المائيّة ، وعدم حرمة تفويت الاختيار بتحصيل الاضطرار ، وعدم وجوب حفظ الماء ، فتقع المعارضة حينئذ بين دليلي الوضوء