آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣
فلا زوجيّة في البين حتّى يصدق عنوان «أمّ الزّوجة» على المرضعة ، بل يصدق عليها عنوان «أمّ البنت» لتحقّق عنوان الامومة ـ أيضا ـ حين تحقّق الرّضاع ، و «أمّ البنت» غير محرّمة على أبيها.
الوجه الثّاني : لو سلّم عدم صدق الزّوجيّة في المقام لانقضاء المبدا عنها ، إلّا أنّ العنوان المحرّم الوارد في القرآن إنّما هو من باب الإضافة ، كقوله تعالى (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)(١) فليس من المشتقّات ، كي يلاحظ الانقضاء وعدمه ، وعليه ، فلا مانع من صدق هذا العنوان في المقام ؛ لعدم اعتبار التّلبّس في الإضافة ، بل يكفي أدنى الملابسة فيها.
وفيه : أوّلا : أنّ الإضافة ، كالمشتقّ يشترط فيها التّلبّس الفعلي ، فيعود المحذور.
وثانيا : لو سلّم عدم الاشتراط ، فلا أثر له ؛ إذ النّساء في الآية ليست إلّا بمعنى :
الزّوجات ، وعليه ، فلا يصدق العنوان المذكور ـ أيضا ـ في المقام بعد زوال عنوان الزّوجة عن الصّغيرة.
الوجه الثّالث : أنّ الإضافة وإن سلّم كونها في حكم المشتقّ ، فيعتبر فيها ـ أيضا ـ التّلبّس الفعلي ، إلّا أنّ في الآية قرينة تدلّ على إرادة الأعمّ من المتلبّس وما انقضى عنه المبدا ، وهي ذكرها في سياق قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٢) فكما أنّه لا يشترط في حرمة الرّبيبة كونها من الزّوجة الفعليّة
__________________
(١) سورة النّساء (٤) : الآية ٢٢.
(٢) سورة النّساء (٤) : الآية ٢٢.
المدخول بها ، بل المعتبر كون الزّوجة من المدخول بها ولو بعد زوال زوجيّتها ، فكذلك عنوان «امّهات نساءكم».
ونتيجته ، حرمة الكبيرة المرضعة ؛ لكونها مندرجة تحت هذا العنوان ، كما لا يخفى.
وفيه : أنّ حرمة الرّبيبة الّتي تكون من الزّوجة المدخول بها حتّى بعد زوال زوجيّتها ، إنّما هي تستفاد بدليل خارجيّ لا من نفس الآية ، وعليه ، فلا وحدة سياق في البين تقتضي إرادة الأعمّ بالنّسبة إلى عنوان «امّهات نساءكم».
الوجه الرّابع : ما عن صاحب الجواهر قدسسره من قوله : «أنّ ظاهر النّص والفتوى الاكتفاء في الحرمة بصدق الاميّة المقارنة لفسخ الزّوجيّة بصدق البنتيّة ؛ إذ الزّمان وإن كان متّحدا بالنّسبة إلى الثّلاثة ، أي : البنتيّة والاميّة وانفساخ الزّوجيّة ؛ ضرورة ، كونها معلولات لعلّة واحدة ، لكن آخر زمان الزّوجيّة متّصل بأوّل زمان صدق الأميّة ، فليس هي من مصداق أمّ من كانت زوجته ، بل لعلّ ذلك كاف في اندراج تحت امّهات النّساء». (١)
ولا يخفى ، مرجع كلامه قدسسره : أنّ العرف يرى اتّحاد زمان الزّوجية وزمان صدق الأميّة ، وهذا كاف في صدق عنوان امّهات النّساء على المرضعة الكبيرة فتحرم.
وفيه : أنّ نظر العرف إنّما يتّبع في خصوص تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق ، بل المتّبع هنا هو النّظر الدّقّي الفلسفي ، فإذا لو كان المشتقّ حقيقة في المتلبّس فقط ، لا يصدق عنوان «أمّ الزّوجة» في المقام لانقضاء المبدا عنه حسب الفرض.
__________________
(١) جواهر الكلام : ج ٢٩ ، ص ٣٢٩ و ٣٣٠.
الوجه الخامس : أنّ التّأخّر الرّتبي كاف في صدق عنوان «أمّ الزّوجة» بتقريب : أنّ الرّضاع المحرّم علّة لتحقّق عنوانين : أحدهما : عنوان الامومة للزّوجة الكبيرة المرضعة ؛ ثانيهما : عنوان البنتيّة للزّوجة الصّغيرة المرتضعة ، والثّاني علّة لزوال عنوان الزّوجيّة عن الصّغيرة ، فزوال هذا العنوان عنها متأخّر رتبة عن طروّ البنتيّة لها ، وعليه ، فلا بدّ من تحقّق نفس الزّوجيّة في رتبة تحقّق البنتيّة ، وإلّا لزم ارتفاع النّقيضين (الزّوجيّة وعدمها) وهو مستحيل عقلا ، ففى تلك المرتبة تجتمع عناوين ثلاثة ، وهي الزّوجيّة والبنتيّة وأمّ الزّوجة ، ونتيجة ذلك ، أنّ المرضعة الكبيرة تكون أمّ الزّوجة في رتبة بنتيّة الصّغيرة الملازمة للامومة الكبيرة ؛ حيث إنّهما أمران متضائفان متكافئان ، وهذا المقدار كاف في الاندراج تحت الآية المباركة : (أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) والأدلّة المحرّمة.
وفيه : أوّلا : أنّ الأحكام الشّرعيّة إنّما تدور مدار الزّمان لا الرّتبة ، ومن الواضح ـ حسب ما يستفاد من الأدلّة ـ أنّ الزّوجيّة لا تجتمع مع البنتيّة زمانا حتّى تجتمع معهما أمّ الزّوجة زمانا.
وثانيا : أنّه ليس بين البنتيّة وزوال الزّوجيّة في الصّغيرة علّيّة ومعلوليّة ، بل مقتضى الأدلّة هو التّمانع وعدم اجتماع الزّوجيّة مع العناوين المحرّمة من البنتيّة والاختيّة والاميّة ونحوها ، وعليه ، فإذا صارت الزّوجة الصّغيرة بنتا بالرّضاع المحرّم لا تكون زوجة حتّى يصدق على الكبيرة المرضعة عنوان أمّ الزّوجة ، فتحرم.
الوجه السّادس : أنّ الحرمة تستفاد من النّص وهو رواية عليّ بن مهزيار عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قيل له : إنّ رجلا تزوّج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثمّ أرضعتها امرأة له اخرى ، فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال
أبو جعفر عليهالسلام أخطأ ابن شبرمة ، تحرم عليه الجارية وامرأته الّتي أرضعتها أوّلا ، فأمّا الأخيرة ، فلم تحرم عليه كأنّها أرضعت ابنته» (١) فإنّ هذه الرّواية وإن كان موردها من كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة ، إلّا أنّها تدلّ على حكم المقام ـ أيضا ـ وهو حرمة المرضعة الاولى.
وفيه : أنّها ضعيفة السّند بصالح بن أبي حمّاد كما عن الشّهيد قدسسره (٢) حيث إنّه أورد ذلك عليها ، أوّلا.
وأمّا الإرسال الّذي أورده قدسسره عليها ثانيا ، بدعوى : أنّ المراد بأبي جعفر عليهالسلام حيث يطلق ، هو إمامنا الباقر عليهالسلام وابن مهزيار لم يدرك الإمام الباقر عليهالسلام ، فيمنع عنه ؛ إذ المراد من أبي جعفر عليهالسلام عند الإطلاق وإن كان هو «الباقر» عليهالسلام ، وعند التّقييد بلفظ «الثّاني» هو «الجواد» عليهالسلام إلّا أنّ ظهورها في أنّ ابن مهزيار رواها عن الإمام عليهالسلام بلا واسطة ، قرينة جليّة ؛ على أنّ المراد من أبي جعفر ، هو «الجواد عليهالسلام» ؛ لأنّه أدرك زمانه وروى عنه روايات كثيرة بلا واسطة ولم يدرك زمان إمامنا «الباقر عليهالسلام».
وهكذا يمنع عن الإرسال الّذي أورده قدسسره عليها ثالثا ، بدعوى : أنّه لو سلّم أنّ المراد من أبي جعفر هو إمامنا «الجواد عليهالسلام» ، إلّا أنّه ليس في الرّواية ما يدلّ على أنّ ابن مهزيار سمع منه ذلك بلا واسطة ، بل قال : «قيل له».
وجه المنع عنه ، هو أنّ مجرّد قوله : «قيل له» وعدم تصريحه باسم السّائل
__________________
(١) وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ١٤ من أبواب ما يحرم بالرّضاع ، الحديث ١ ، ص ٣٠٥.
(٢) راجع ، مسالك الأفهام : ج ١ ، ص ٤٧٥.
لا يكون دليلا على الإرسال ، فلعلّ عدم التّصريح كان لعدم الدّخل في المقصود.
وما في نسخة الكافي (١) والتّهذيب (٢) : من أنّ عليّ بن مهزيار رواه عن أبي جعفر عليهالسلام فليس ظاهرا في الإرسال ، كما لا يخفى ، وعليه ، فلا وجه لما عن بعض الأعاظم (٣) من ظهوره في الإرسال.
فتحصّل : أنّه لا دليل على حرمة المرضعة في فرض المسألة ، لعدم صدق عنوان «أمّ الزّوجة» عليها ، والوجوه السّتّة المذكورة كلّها مردودة ، بل وردت في المقام روايات دالّة على حرمة الصّغيرة المرتضعة من دون تعرّض لحكم الكبيرة رأسا لا إثباتا ولا نفيا ، فهذه الرّوايات مؤيّدات لما ذكرنا من عدم حرمة الكبيرة المرضعة.
منها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته ، فسد النّكاح». (٤)
وجه تأييد هذه الصّحيحة ، هو أنّ الظّاهر من قوله عليهالسلام : «فسد النّكاح» هو فساد نكاح الصّغيرة فقط.
ولا يخفى : أنّ هذه الصّحيحة رويت بطرق ثلاثة كلّها صحيح.
ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : «في رجل تزوّج جارية صغيرة ، فأرضعتها امرأته وأمّ ولده ، قال : تحرم عليه». (٥)
__________________
(١) الفروع من الكافي : ج ٥ ، الحديث ١٣ ، ص ٤٤٦.
(٢) تهذيب الأحكام : ج ٧ ، الحديث ١٢٣٢ ، ص ٢٩٣ ؛ وفيه «... لأنّها أرضعت ابنته».
(٣) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٨.
(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ١٠ من أبواب ما يحرم بالرّضاع ، الحديث ١ ، ص ٣٠٢.
(٥) وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ١٠ من أبواب ما يحرم بالرّضاع ، الحديث ٢ ، ص ٣٠٣.
هذه الصّحيحة ـ أيضا ـ ناظرة إلى حرمة الصّغيرة المرتضعة ، كما هو واضح.
هذا كلّه على تقدير كون الكبيرة المرضعة مدخولا بها.
وأمّا على تقدير عدم الدّخول بها ، فهل يفسد نكاح الكبيرة والصّغيرة معا ، أم لا؟ قولان :
ذهب المشهور (١) إلى الأوّل ، ولكنّ الحقّ فساد نكاح الكبيرة دون الصّغيرة المرتضعة ، عكس فرض الدّخول بالكبيرة ؛ إذ غاية ما يستدلّ على مقالة المشهور : هو أنّ القول بفساد نكاح إحداهما دون الاخرى ترجيح بلا مرجّح ، وأنت ترى ، أنّ هذا القول ضعيف ؛ ضرورة ، أنّ التّرجيح هنا مع مرجّح ، حيث إنّ الكبيرة المرضعة في الفرض تصدق عليها أمّ الزّوجة ، فيفسد نكاحها بلا شبهة ، فتحرم ، وأمّا الصّغيرة المرتضعة ، فلا تحرم ؛ إذ المفروض ، عدم الدّخول بالكبيرة ، فليست من الرّبائب اللّاتي دخل بامّها ، فحينئذ لا يفسد نكاحها ؛ لعدم صدق عنوان «بنت الزّوجة» عليها بعد بطلان زوجيّة الكبيرة بالرّضاع ؛ إذ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالفعل ، ومجاز في ما انقضى عنه المبدا.
هذا كلّه في الفرع الأوّل.
الفرع الثّاني : من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة مع فرض دخوله بإحداهما ، فلا إشكال هنا في حرمة الصّغيرة المرتضعة وبطلان نكاحها ؛ لما بيّنّا في الفرع الأوّل ، من أنّها حينئذ ، إمّا تكون بنتا له ؛ بناء على أنّ اللّبن له ، أو بنتا لزوجته المدخول بها ، فيصدق عليها عنوان «الرّبيبة» ؛ بناء على أنّ اللّبن لغيره.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٨.
وأمّا حرمة المرضعة الاولى ، فقد قال : بها المشهور ، بل ادّعي عدم الخلاف فيها (١) تمسّكا بالوجوه السّتّة المذكورة في الفرع الأوّل ، ولكنّ الحقّ عدم الدّليل على الحرمة لضعف الوجوه ، على ما عرفت آنفا.
وأمّا حرمة المرضعة الثّانية ، فهي ـ أيضا ـ غير ثابتة بطريق اولى ، كما لا يخفى.
«تنبيه»
هل هيئة اسم الزّمان داخلة في محلّ النّزاع في المشتقّ ، أم لا؟ فيه قولان :
ذهب جمع من الأعلام إلى الأوّل ونتعرّض مقالتهم قريبا ، ولكن خالفهم الإمام الرّاحل قدسسره ، فذهب إلى الثّاني وهو الحقّ.
ولا يخفى : أنّ منشأ الاختلاف هو الإشكال الّذي ورد على هيئة اسم الزّمان وهو عدم بقاء الذّات مع انقضاء المبدا فيها.
توضيحه : قد عرفت : أنّ اندراج شيء في محلّ النّزاع مبتن على أمرين :
الأوّل : كونه منتزعا عن الذّات باعتبار تلبّسها بأمر وجوديّ أو عدمي جاريا عليها لاتّحاده معها بنحو من الاتّحاد ، فتخرج به المصادر والأفعال.
أمّا المصادر ، فلكونها دالّة على نفس المبادي وهي غير جارية على الذّوات لا تحمل عليها ، إلّا بنحو من التّجوّز والعناية ، فلا تكون من المشتقّات الاصوليّة الّذي يبحث عنها ؛ لما عرفت : من أنّ المشتقّ هنا ما ينتزع من الذّات ويجري عليها باعتبار تلبّسها بالمبدإ واتّحادها معه بنحو من الاتّحاد ، حلوليّا كان ، أو انتزاعيّا ، أو صدوريّا وإيجاديّا ، وهذا كلّه مفقود في المصادر.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٩.
وأمّا الأفعال ، فلأنّها تدلّ على نسبة المبادي والموادّ إلى الذّوات بأنحائها من التّحققيّة والتّرقّبيّة وغيرهما ، فلا تكون جارية على الذّوات محمولة عليها أصلا ، فحينئذ ليست من المشتقّات الاصوليّة ، بل خارجة عن دائرتها.
الثّاني : كون الذّات باقية بعد انقضاء المبدا عنها ، فيخرج به ، مثل الإنسان والشّجر والحجر ونحوها من الجوامد ؛ لعدم بقاء الذّات فيها بعد انقضاء المبدا وتلحق بها هيئة اسم الزّمان ، حيث إنّ الذّات فيها لا تبقى بعد انقضاء المبدا عنها ؛ ضرورة ، أنّ الذّات هنا هو الزّمان الّذي يكون أمرا سيّالا متصرّما منقضيا بذاته ، لا بقاء له بعد زوال المبدا أصلا ؛ وأمّا إطلاق «مقتل الحسين عليهالسلام» على العاشر من المحرّم في كلّ عام ، فهو من باب التّجوّز والعناية.
وبعبارة اخرى : لا قرار للزّمان أصلا حتّى يتلبّس بالمبدإ تارة ، وينقضي عنه اخرى ، ولا مصداق له باقيا في الخارج ، فلا مجال لجريان النّزاع فيه.
والقائلون بأنّ هيئة اسم الزّمان داخلة في النّزاع ، قد تصدّوا لحلّ هذا الإشكال ، وذهب كلّ إلى طريق لا يعتمد عليه.
منهم المحقّق الخراساني قدسسره حيث قال : «ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفرد كما في المقام ، لا يوجب أن يكون وضع اللّفظ بإزاء الفرد دون العامّ ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ : «الجلالة» مع أنّ «الواجب» موضوع للمفهوم العامّ مع انحصاره فيه تبارك وتعالى». (١)
توضيح كلامه قدسسره هو أنّه لا محذور في أن يوضع لفظ بإزاء مفهوم عامّ ومعنى
__________________
(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٠ و ٦١.
جامع ، له فردان : وهما الممكن والممتنع ، أو له أفراد يكون أحدها موجودا والباقي مستحيلا ، بمعنى : أنّ ذلك الجامع الكلّي ينحصر في فرد واحد خارجا ، ألا ترى ، أنّ لفظ : «الجلالة» وقع فيه الخلاف ، بانّه هل هو علم لذاته تعالى ، أو اسم للجامع ، والجنس وهو مفهوم «الواجب» ، مع أنّ لفظ : «الواجب» اسم جنس قطعا ، موضوع للمعنى العامّ الجامع ، وليس له في الخارج إلّا فرد واحد؟
وعليه ، فلا محذور في أن يوضع اسم الزّمان لمفهوم عام مع كونه منحصرا بفرد واحد وهو الزّمان المتلبّس بالمبدإ فعلا باعتبار استحالة تحقّق الزّمان المنقضي عنه المبدا.
وبالجملة : انحصار مفهوم عام بفرد ، غير وضع اللّفظ بإزاء الفرد.
وفيه : أنّ الوضع بهذا النّحو وإن كان ممكنا لا محذور فيه عقلا ، إلّا أنّ المحذور وقوع ذلك في الخارج ، حيث إنّ الوضع ـ على ما عرفت سابقا ـ إنّما يكون لأجل الإفادة والاستفادة ، ولغرض التّفهيم والتّفهّم ، فلا بدّ فيه من الحاجة ، وإلّا لصار لغوا.
ومن الواضح ، عدم الحاجة إلى استعمال اسم الزّمان في الجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدا حتّى يقع الوضع بإزائه ؛ ضرورة ، أنّه لا بقاء للزّمان بما هو الزّمان بعد انقضاء المبدا عنه ، ولا مصداق له كذلك ، لا خارجا ولا عقلا ، فيلزم على هذا ، لغويّة الوضع بإزاء الجامع ، أو بإزاء خصوص المنقضي عنه المبدا ، ومثل ذلك لا يصدر عن الواضع الحكيم تعالى.
ومن هنا ظهر ، أنّ قياس المقام بلفظ : «الجلالة» (الله) باطل ؛ لأنّه أوّلا : علم ، وثانيا : لو سلّم عدم العلميّة وأنّه اسم للذّات الجامع للكمالات ، فلا حاجة إلى استعماله في هذا الجامع ، إلّا في المباحث الكلاميّة الباحثة عن التّوحيد وغيره ، ولفظ :
«الجلالة» بهذا المعنى ، غير آب عن الكلّيّة والانطباق على كثيرين ـ لو خلّي وطبعه ـ وإنّما الوحدة والانحصار في فرد واحد تثبت بالأدلّة العقليّة والبراهين القاطعة الكلاميّة أو الفلسفيّة ، وهذا بخلاف الزّمان ، فإنّه ـ كما عرفت ـ آب عن البقاء ذاتا بعد انقضاء المبدا عنه ، فالقياس لا مجال له.
وأمّا لفظ : «الواجب» فهو بمعنى الثّابت ؛ حيث إنّه متّخذ من لفظ : «الوجوب» بمعنى : الثّبوت ، وهذا معنى كلّي جامع بين الواجب بالذّات والواجب بالغير ، فلا انحصار لمفهومه بفرد واحد.
نعم ، ينحصر الواجب بالذّات ، بفرد واحد ، ولكن هذا من باب تعدّد الدّالّ والمدلول ، فيكون أجنبيّا عن وضع اللّفظ بإزاء جامع منحصر بفرد.
ومنهم : المحقّق النّائيني قدسسره حيث قال : «إنّ المقتل عبارة عن الزّمان الّذي وقع فيه القتل وهو اليوم العاشر من المحرّم ، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الّذي وقع فيه القتل ، بل وضع لمعنى كلّي متكرّر في كلّ سنة ، وكان ذلك اليوم الّذي وقع فيه القتل فردا من أفراد ذلك المعنى العام المتجدّد في كلّ سنة ، فالذّات في اسم الزّمان إنّما هو ذلك المعنى العام وهو باق حسب بقاء الفلكيّة ، وقد انقضى عنه المبدا الّذي هو عبارة عن القتل». (١)
وفيه : أنّ الكلام ليس في المعنى العامّ الكلّي من الزّمان وهو اليوم العاشر من المحرّم الّذي يتجدّد في كلّ سنّة ويبقى حسب بقاء الحركة الفلكيّة ؛ ضرورة ، أنّه لم يقع
__________________
(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٨٩ ؛ وتعرّض العلّامة القوچاني قدسسره هذه المقالة قبل هذا المحقّق قدسسره راجع ، حاشية الكفاية : ج ١ ، ص ٦٠.
فيه القتل ، ولم يكن وعاء هذا الحدث ، بل إنّما الكلام في مفهوم مقتل الحسين عليهالسلام لكونه من أسماء الزّمان ، ومفهومه ليس إلّا الزّمان الّذي وقع فيه حدث القتل وهو زمان خاصّ قد انقضى وانصرم قطعا.
وبالجملة : أنّ ما يحدث ويتكرّر ويبقى حسب بقاء الحركة الفلكيّة وهو اليوم العاشر ، ليس موردا للكلام ، لعدم وقوع حدث القتل فيه ، وما هو مورد للكلام وهو مقتل الحسين عليهالسلام الّذي وقع فيه هذا الحدث ، لا يبقى ، بل ينقضي وينصرم ، كما لا يخفى.
ومنهم : المحقّق الأصفهاني قدسسره حيث قال : «نعم ، لو قلنا : بأنّ المقتل ونحوه موضوع لوعاء القتل ـ مثلا ـ من دون ملاحظة خصوصيّة الزّمان أو المكان ، فعدم صدقه على ما انقضى عنه في خصوص الزّمان ، لا يوجب لغويّة النّزاع ، بخلاف ما إذا كان موضوعا للزّمان الأعمّ من المتلبّس وما انقضى عنه ، فإنّ البحث عن وضعه للأعمّ مع عدم المطابق إلّا للأخصّ لغو ، فتدبّر». (١)
وتبعه في ذلك السّيّد البروجردى قدسسره (٢) وبعض الأعاظم قدسسره. (٣)
وفيه : أنّ الظّاهر هو وضع كلّ واحد من هيئة اسم الزّمان والمكان لمعنى خاصّ بنحو الاشتراك اللّفظيّ ، لا لمعنى واحد جامع بينهما بنحو الاشتراك المعنوي ، سواء كان جامعا ذاتيّا أم عرضيّا.
أمّا الجامع الذّاتيّ ، فلاستحالته بين الزّمان والمكان ، وكذا بين وعائيّتهما ،
__________________
(١) نهاية الدّراية : ج ١ ، ص ١٠٠.
(٢) راجع ، نهاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٣ و ٦٤.
(٣) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٥.
لكمال المباينة بين وقوع المبدا والحدث في وعاء الزّمان ، وبينه في وعاء المكان.
وأمّا الجامع العرضيّ ، كمفهوم الوعاء ، أو الظّرف أو نحوهما ؛ فلأنّه وإن كان ممكنا ثبوتا ، فلا مانع عقلا من وضع كلّ من اسمي الزّمان والمكان بإزاء هذا الجامع ، إلّا أنّه لا دليل على هذا الوضع إثباتا ، بل الدّليل على خلافه ، وهو أنّه لا يتبادر مثل عنوان الوعاء أو الظّرف وغيرهما عند إطلاق الاسمين ، ولم يوجد في المحاورات مورد استعمل اللّفظ في الجامع بين الزّمان والمكان ، وعليه ، فالعنوان المذكور ليس من معاني الاسمين ولو قيل : بكونه جامعا ذاتيّا بينهما ، أيضا.
هذا ، مضافا إلى أنّ إطلاق الظّرفيّة والوعائيّة في الزّمان ، كان بنحو من التّجوّز والادّعاء ، فكأنّه يدّعى أنّ الزّمان محيط بالزّماني ، كإحاطة المكان بالموجود المكاني ، مع أنّ الواقع ليس كذلك ؛ إذ المبرهن في محلّه أنّ الزّمان عبارة : عن مقدار الحركة والسّيلان ، فهو ممّا تتقدّر به الحركة ، كتقدّر الجسم الطّبيعي بالجسم التّعليمي.
ومنهم : المحقّق العراقي قدسسره فقال ، ما محصّله : أنّ الزّمان وإن كان حسب نظر العقل وجودات متعدّدة متعاقبة متّحدة بالسّنخ ، إلّا أنّ العرف يراه موجودا واحدا مستمرّا ، نظير الخطّ الطّويل من نقطة إلى نقطة كذائيّة ، ومنشأ هذا النّظر العرفيّ عدم تخلّل السّكون وبقاء السّير الزّماني بحاله ، فيمكن تصوّر أمر قارّ وحدانيّ يتصوّر فيه الانقضاء وإن بلغ تلك الأفراد المتعدّدة المتعاقبة ما بلغ إلى انقضاء الدّهر ، فإذا وقع القتل ـ مثلا ـ في حدّ من حدود اليوم ، وفي قطعة من قطعاته أطلق العرف عنوان «المقتل» على اليوم كلّه حتّى بعد انقضاء التّلبّس وانصرام ما كان متلبّسا من اليوم بحدث القتل ؛ وذلك ، لما يرى اليوم من البقاء والهويّة الواحدة الباقية ؛ لأجل عدم
تخلّل سكون في البين. (١)
وفيه : أنّ الزّمان وإن كان له هويّة واحدة وشخصيّة مستمرّة حسب النّظر العرفيّ ، إلّا أنّ له هويّة متصرّمة متقضية ذات حدود وأجزاء ، أيضا.
وعليه ، فإذا وقع حدث القتل ـ مثلا ـ في حدّ من حدوده ، كان ذلك الحدّ فقط هو «المقتل» وهو غير باق قطعا ، كأوّل اليوم أو وسطه ـ مثلا ـ وإنّما الباقي نفس الزّمان كنفس اليوم ، لا حدّه ولا جزء منه ، والمعتبر في المشتقّ هو بقاء زمان الوقوع ، بمعنى : بقاء نفس الحدّ وشخص الجزء الّذي تلبّس بالمبدإ ، لا بقاء سنخ الزّمان وطبيعيّة في ضمن أشخاص أخر ، وبين الأمرين بون بعيد.
وبالجملة : بناء على هذا البيان ، ما هو المتلبّس غير باق قطعا ، وما هو الباقي غير ما تلبّس.
فتحصّل : من جميع ما ذكرنا : أنّ العناوين الجارية على الذّات ، إن كانت من قبيل ما ينتزع عنها بتوسيط شيء ، سواء كانت مشتقّة أو جامدة ، فهي داخلة في حريم النّزاع ؛ وإن كانت من قبيل ما ينتزع عن حاقّ الذّات بلا وساطة شيء ، فهي خارجة عن حريم النّزاع ، كالمصادر والأفعال ، كما أنّ أسماء الزّمان ونحوه ممّا لم تبق فيه الذّات ـ أيضا ـ خارجة عن حريم النّزاع ، وقد تقدّم توضيح ذلك.
الأمر الثّالث : في كيفية وضع الأفعال وبيان مداليلها.
إنّ المشهور بين الادباء هو دلالة الأفعال على الزّمان (٢) ، فقالوا : بدلالة الفعل
__________________
(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ١٢٩ ؛ وكتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٦٢ الى ١٦٤.
(٢) شرح الكافية : ج ٢ ، ص ٢٢٣ ؛ وشروح التّلخيص : ج ٢ ، ص ٢٥ و ٢٦ ؛ والمطوّل : ص ١٤٩ و ١٥٠ ، مكتبة الدّاوري.
الماضي على تحقّق المبدا في الزّمن الماضي ، ودلالة المضارع على تحقّقه في الزّمن المستقبل أو الحال ، وبدلالة صيغة الأمر على الطّلب في الحال وهكذا.
ولكنّ الحقّ عدم الدّلالة ، وعدم كون الزّمان جزءا من معنى الأفعال ؛ لأنّ الفعل مركّب من المادّة والهيئة ؛ والمادّة لا تدلّ إلّا على صرف الجنس ومحض الطّبيعة المهملة المجرّدة من أيّة خصوصيّة ، فضلا عن مثل الزّمان ، وهذا واضح عند من له أدنى مسكة.
والهيئة ، لا يكون مفادها إلّا نسبة المادّة إلى الذّات على أنحاءها تحقّقيّة كانت أو تعقبيّة أو غيرهما ، وعليه ، فلا دلالة لها على مثل الزّمان أصلا.
وبعبارة اخرى ، مادّة الفعل تدلّ على مجرّد الطّبيعة ونفس الحدث اللّابشرط ، وهيئته تدلّ على نسبة الحدث إلى الذّات وتلبّس الذّات به بأنحائه ، فأين الأمر الثّالث حتّى يدلّ على الزّمان ، ألا ترى ، إسناد الفعل إلى نفس الزّمان الّذي لا زمان له ، وإلى المجرّدات عن الموادّ والعاريات عن القوّة والاستعداد الّتي لا زمان لها قطعا ، مع أنّ هذا الإسناد حقيقيّ وإسناد إلى ما هو له ، وواضح ، أنّه لو كان الزّمان جزءا من معنى الأفعال ، لزم القول بالمجاز والتّجريد في هذين الإسنادين ، ولم يقل به أحد.
وهكذا حال إسناد الأفعال إلى خالق المكان والزّمان والمادّيات والمجرّدات الّذي أيّن الأين ، فلا أين له ، وزمّن الزّمن فلا زمن له ، وكيّف الكيف ، فلا كيف له ، وكمّم الكمّ ، فلا كمّ له وهكذا.
ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ الزّمان لم يؤخذ في معنى الأفعال ولا دخل له فيه أصلا ، لا شطرا ولا شرطا.
نعم ، إسناد الفعل إلى الموجود الزّماني دليل على وقوع المادّة المنتسبة إليه في زمن من الأزمنة ، إلّا أنّ هذه دلالة عقليّة من باب لا بدّيّة الزّمان للزّمانيّات ، نظير لا بدّيّة المكان للمكانيّات.
ففي مثل «نصر زيد» تدلّ كلمة : «زيد» على الذّات ، ومادّة : «النّصر» على حدثه ، وهيئة «نصر» على صدور هذا الحدث من ذلك الذّات ، وهنا زمان قطعا ولا مناص منه ، إلّا أنّه لا دالّ آخر يدلّ عليه.
لا يقال : لو كان مدلول الفعل مجرّدا عن الزّمان وكان الزّمان أجنبيّا عن مدلوله ، لجاز استعمال الماضي في موضع المستقبل وبالعكس ، مع أنّ هذا من أوضح الأغلاط ؛ وعليه ، فلا مناص من القول بكون الزّمان مأخوذا في معنى الأفعال.
لأنّه يقال : قد عرفت : أنّ الفعل إنّما يدلّ بمادّته على نفس الحدث ، وبهيئته على نسبة ذلك الحدث إلى الذّات ، ولا ثالث فيه عداهما حتّى يدلّ على الزّمان ، وأنّ تلك النّسبة وقعت في زمن ماض أو تقع في زمن مستقبل.
نعم ، في كلّ من الفعلين خصوصيّة موجبة للميز وعدم صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر ، فالفعل الماضي يحكي عن وقوع نسبة الحدث إلى الذّات قبل زمن التكلّم والإخبار ، ولازمه المضيّ ووقوعها في الزّمن السّابق ، والفعل المضارع إنّما يحكي عن وقوع نسبة الحدث إلى الذّات زمن التّكلّم أو بعده ، ولازمه هو الوقوع في الحال أو الاستقبال.
بعبارة اخرى : أنّ الماضي يدلّ على التّحقّق الملازم للمضيّ ، والمضارع يدلّ على التّرقّب الملازم للاستقبال ، ولأجل هاتين الخصوصيّتين يمتاز أحد الفعلين عن الآخر ، وهذان الفعلان يستعملان في جميع الموارد ، بلا تجوّز وعناية ، سواء اسندا إلى
الزّمان أو إلى المجرّدات ، أم إلى الزّمانيّات ، والأمر كذلك في سائر الأفعال.
الأمر الرّابع : في اختلاف مبادئ المشتقّات.
قد تبيّن ممّا سبق ، أنّ مورد النّزاع في المشتقّ هو هيئته ، بأنّها ، هل وضعت لخصوص المتلبّس بالمبدإ ، أو للجامع بينه وبين ما انقضى عنه المبدا بلا ملاحظة ما في المبادي وموادّ المشتقّات من الخصوصيّة ؛ لعدم دخلها في البحث أصلا؟
نعم ، يختلف التّلبّس والانقضاء بحسب اختلاف الموادّ ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدسسره (١).
توضيح ذلك ، أنّ مادّة المشتقّ على أقسام :
الأوّل : أن تكون من قبيل الأفعال الخارجيّة ، كالقيام والقعود والرّكوع والسّجود ونحوها ، ففي مثل تلك الأفعال يصدق التّلبّس ما دام الاشتغال موجودا ، وبمجرّد رفع اليد عنها ولو آناً ما يصدق الانقضاء.
الثّاني : أن تكون من قبيل القوّة والملكة ، كالاجتهاد والطّبابة ونحوهما ، وفي مثل هذا المورد يصدق التّلبّس ما دامت الملكة موجودة ، فإذا زالت القوّة وانعدمت الملكة يصدق الانقضاء.
ويلحق بها لو كانت الهيئة من باب الاستعداد والشّأنيّة ، كما في المفتاح والمكنس ونحوهما ، حيث إنّ مادّة الفتح أو الكنس لا ظهور لها إلّا في الفعليّة لا القابليّة والاستعداد ، فيصدق التّلبّس ما دام استعداد الفتح والكنس باقيا ، فإذا زال الاستعداد وانعدمت الشّأنيّة يصدق الانقضاء.
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٥.
الثّالث : أن تكون من قبيل الصنعة والحرفة ، كالنّجارة والخياطة والتّجارة ، ونحوها ، والتّلبّس فيه يدور مدار أخذ هذه المبادي واتّخاذها صنعة وحرفة ، والانقضاء يتحقّق بتركها والإعراض عنها ، ولا فرق في ذلك بين كون انتساب المبدا إلى الذّات حقيقيّا ، كالخيّاط والنّجار ونحوهما ، أو كان تبعيّا ، كاللّابن والتّامر ، حيث إنّ اللّبن أو التّمر منتسب إلى بائع اللّبن أو التّمر بتبع انتساب بيعه إليه.
فتحصّل : أنّ اختلاف المبادي لا يوجب اختلافا في دلالة المشتقّ بحسب الهيئة ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها.
غاية الأمر ، أنّ التّلبّس يختلف باختلاف المبادي في المضيّ أو الحال ، فيكون التّلبّس به فعلا لو أخذ حرفة أو ملكة ولو لم يتلبّس به إلى الحال ، أو انقضى عنه ، ويكون ممّا مضى أو يأتي لو اخذ فعليّا ، فلا يتفاوت فيها أنواع التّلبّسات وأنواع التّعلّقات.
الأمر الخامس : في مادّة المشتقّات.
قد اختلفت أقوال النّحاة في مادّة المشتقّات بعد اتّفاقهم على أصل وجودها.
ذهب الكوفيّون إلى أنّ مادّتها هي المصدر (١) ، واختاره ابن مالك. (٢)
وذهب البصريّون إلى أنّها هي الفعل (٣) ، وقيل : هي اسم المصدر.
__________________
(١) شرح الكافية : ج ٢ ، ص ١٩١ و ١٩٢.
(٢) البهجة المرضيّة : ج ١ ، ص ٢٢١ و ٢٢٢ ، حيث قال :
«المصدر اسم ما سوى الزّمان من |
|
مدلولى الفعل كأمن من امن |
بمثله
أو فعل أو وصف نصب |
|
وكونه أصلا لهذين انتخب» |
(٣) شرح الكافية : ج ٢ ، ص ١٩١ و ١٩٢.
ولكنّ التّحقيق ، أنّه لا مجال لهذه الأقوال ؛ لأنّ كلّ واحد من الفعل أو المصدر أو اسم المصدر ذو هيئة وصورة ، فلا يقبل صورة اخرى ، والمادّة ، لا بدّ أن تكون عارية عن جميع الصّور والهيئات ، ولا بشرطا من جميع الجهات ، حتّى تصلح لقبول أيّة صورة وفعليّة.
وبعبارة اخرى : أنّ وزان المادّة في الألفاظ والمشتقّات ، وزان الهيولى في التّكوينيّات ، فكما أنّ الهيولى فيها محض القوّة وصرف القابليّة وعارية عن كلّ صورة وفعليّة ، ولذا تقبل أيّة صورة ترد عليها ، كذلك المادّة في المشتقّات.
وعليه ، فكلّ واحد من المصدر أو اسمه أو الفعل خارج عن كونها مادّة في المشتقّات ؛ إذ المفروض : أنّ لكل واحد منها صورة وفعليّة ، ومن المعلوم ، عدم قبول صورة وفعليّة لصورة وفعليّة اخرى.
فتحصّل : أنّ مادّة المشتقّات في مثل «ضارب» هو «ض ، ر ، ب» وفي «ناصر» ، «ن ، ص ، ر» بلا صورة وهيئة خاصّة ، وهذه المادّة موجودة في المشتقّات وأنحاء الفروع قاطبة ، كما أنّ معناها وهو هيولى المعاني المختلفة موجود في معاني المشتقّات قاطبة ، فليس المبدا والأصل هو «الفعل» أو «المصدر» أو «اسمه».
الأمر السّادس : في بيان المراد من الحال.
قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ المراد من «الحال» في عنوان محلّ النّزاع ، هل هو حال (١) تلبّس الذّات بالمبدإ وفعليّة قيامه بالذّات ، أو زمان التّلبّس هو المقابل
__________________
(١) والمراد منه ، حال ملاحظة مفهوم المشتقّ ك «الضّارب» بما هو هذا المفهوم ، فيرى من ذلك ذات لها نسبة إلى المبدا مع قطع النّظر عن مرحلة جريه وتطبيقه على المصداق الخارجي ، أو ورود حكم عليه.
للماضي والمستقبل ، أو حال النّطق أو حال الجري والتّطبيق (١) ، أو حال النّسبة الحكميّة؟ (٢)
والتّحقيق : أنّ المراد منه «حال التّلبّس» كما هو مذهب جماعة (٣) ، بلا فرق بين أنحاء التّلبّس ، صدوريّا كان ، أو حلوليّا ، أو انتزاعيّا ، فإذا ليس النّزاع في المسألة مصداقيّا ؛ إذ المشتقّ من أسماء الأجناس ، فلم يوضع للأفراد أو الفرد الخارجيّ من المتلبّس ، أو الأعمّ منه وما انقضى عنه المبدا ، بل مرجع النّزاع إلى مفهوم المشتقّ ، سعة وضيقا ، بمعنى : هل المشتقّ وضع للمفهوم المنطبق على خصوص الذّات حال التّلبّس ، أو منطبق على الأعمّ منه وما انقضى عنه المبدا؟
فعلى الأوّل ، لم ينطبق مفهوم المشتقّ إلّا على فرد واحد ، بخلافه على الثّاني ، فإنّ له مفهوما قابلا للانطباق على فردين.
والوجه في أنّ المراد هو حال التّلبّس ، لا زمانه ، ولا حال النّطق ، ولا غيرهما هو ما ذكره المحقّق الخراساني قدسسره من قوله : «ضرورة ، أنّ مثل : «كان زيد ضاربا أمس» أو «سيكون غدا ضاربا» حقيقة إذا كان متلبّسا بالضّرب في الأمس في المثال الأوّل ، ومتلبّسا به في الغد في الثّاني ، فجري المشتقّ حيث كان بلحاظ حال التّلبّس وإن مضى زمانه في أحدهما ولم يأت بعد في الآخر كان حقيقة بلا خلاف». (٤)
__________________
(١) والمراد منه ، هو حال مقام جري المشتقّ وتطبيقه على المصداق الخارجي ، كقولنا «زيد الضّارب» فإنّ فيه نسبة انطباق تلك المتلبّس والمتّصف بالمبدإ على المصداق الخارجي.
(٢) والمراد منه ، هو حال ورود الحكم على المصداق الخارجي ، كقولنا : «أكرم زيدا الضّارب». فإنّ فيه نسبة الإكرام إلى زيد المنطبق عليه الذّات المتلبّسة بالمبدإ.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٦ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥٧ ؛ وتنقيح الاصول : ج ١ ، ص ١٦٨.
(٤) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٦٦.
وكذا ما ذكره المحقّق العراقي قدسسره من : «أنّ أخذ التّقيّد بحال النّسبة والجري في المفهوم ، يستلزم أخذ ما هو متأخّر عن المفهوم برتبتين ، فيه ؛ ضرورة تأخّر رتبة الجري والنّسبة عن المفهوم». (١)
مضافا إلى أنّه أوّلا : ليس للزّمان دخل في معنى المشتقّات الوصفيّة أصلا ، لا على وجه الشّطريّة ولا الشّرطيّة ، كما لا دخل له في معنى الجوامد وأسماء الأجناس ؛ ولذا لا تجوّز في قولنا : «كان زيد ضاربا أمس» ، أو «سيكون غدا ضاربا» مع أنّه لا تلبّس زمان النّطق ، بل يكون التّلبّس في الماضي ، أو المستقبل.
ولقد أجاد المحقّق العراقيّ قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «والتّحقيق : أنّ الزّمان خارج عن مفهوم المشتقّ ؛ لأنّ المشتقّ كسائر الألفاظ موضوع للمعنى من حيث هو بلا تقييد بالوجود ، أو بالعدم فضلا عن زمانهما». (٢)
وثانيا : أنّ الأوصاف المشتقّة قد تستند إلى الزّمان ، أو إلى المجرّدات ، مع أنّه ليس لهما زمان ، فلو كانت دالّة على الزّمان لكان الإسناد إليهما ونظائرهما محتاجا إلى تجريد وعناية.
نعم ، لو اسند المشتقّ إلى زمانيّ ، فلا محالة يكون التّلبّس في أحد الأزمنة ، ولكن ليس هذا من ناحية الدّلالة ، بل إنّما هو من ناحية أنّ زمانيّة الفاعل يقتضي
__________________
(١) كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٦٥ ؛ وتبعه في ذلك الإمام الرّاحل قدسسره حيث قال : «إنّ المراد بالحال في العنوان ليس زمان الجري والإطلاق ، ولا زمان النّطق ولا النّسبة الحكميّة ؛ لأنّ كلّ ذلك متأخّر عن محلّ البحث ، ودخالتها في الوضع غير ممكن» ؛ مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢١٠ و ٢١١.
(٢) كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ١٦٥ ؛ وتبعه الإمام الرّاحل قدسسره ، راجع مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢١١.